الفرادة الإنسانيَّة والتصوُّف في الفلسفة الوجوديَّة
ب. فاتن أحمد السكافي
الجامعة اللبنانية /المعهد العالي للدكتوراه، بيروت، لبنان
ملخّص :
هدف البحث الحالي إلى شرح جوهر الفلسفة الوجودية سواء المؤمنة أو المُلحدة عند ثلاثة من كبار الفلاسفة الوجوديين الفذّين : “سورين كيركجورد”، “مارتن هيدغر”و”جان بول سارتر”، من خلال أهم المفاهيم التي تناولها هؤلاء الفلاسفة في علاقتها بالفرادة الإنسانية والتصوّف تلاها خلاصة نقدية.
الكلمات المفتاحية: الفلسفة الوجودية، مفاهيم، الفرادة الإنسانية، التصوّف.
Abstract:
The present research aims to explain the essence of Existential Philosophy Whether thebeliever or the atheist by three of leading Existential Philosophers: Soren Kierkegaard, Heidegger and Sartre, with reference to the most important concepts that this philosophy has addressed, in its relation with Human Uniqueness and Mysticism, followed by a critical summary.
Key words:Existential Philosophy,concepts,Human Uniqueness, Mysticism.
مقدّمة
إن مذاهب الفلسفة الوجودية تحتوي في طياتها العديد من المفاهيم التي توصلنا لمعاني متعدّدة في الحياة، مثل الله والكون والإنسان والحرية والقيم والاختيار والإرادة وغيرها، وكل فيلسوف يفسّر تلك المفاهيم تبعاً لقناعاته حول هذه المواضيع الهامة أو بمعنى آخر تبعاً لتجربته الخاصة. فالوجودي الملحد والوجودي المؤمن، لدى كل منهما تاريخ شخصي لكي يتبنّى الإلحاد أو الإيمان ولديه قناعاته الخاصة مهما حاول أن يكون موضوعياً. وتعتبر الوجودية المذهب الفلسفي الوحيد بعد سقراط وأفلاطون ، الذي نظّم المعاني الوجودية بدءاًمن “كيركجورد” الذي جعل الإنسان مسؤولاً عن ذاته وأفعاله واختياراته بالرغم من كونه شقياً أو سعيداً أو واعياً أو غير واعٍ، وجلّ ما أراده هو تعريف الإنسان على نفسه، بنفسه ولكن من منطلقات دينية؛ ثم بعد ذلك تطوّرت الوجودية من خلال “سارتر” و”هيدغر” ، كثورة إنسانية وجودية على الظلم والحروب والاستعباد، وقتل الإنسانية في الإنسان، ومعاملته كسلعة وجعله وسيلة لا غاية في حد ذاته، فالوجودية جعلت من الإنسان غاية الوجود الحيّة التي يجب أن يسّخر كل شيء لخدمتها وليس العكس.
ترجع بذور الفلسفة الوجودية أولاً إلى الكاتب الدانماركي” سورين كيركجورد”و كان أكثر ما ميّز مذهبههو إبراز قيمة الفرد الإنساني؛ ثم تتابع الفلاسفة الوجوديون الذين تعمّقوا في هذه الفلسفة، حتى أنهم اعتبروها كعلاج للعديد من الأمراض التي سموها الأمراض الوجودية كالفراغ الوجودي والجرح الوجوي… الوجوديون انقسموا بين ملحدين ومتديّنين ، ولكنهم اجتمعوا على مبادىء وجودية أساسية تشعر الفرد بقيمة وجوده خاصة من خلال “الفرادة الإنسانية، التي تدعو الفرد للتخلّص من الماضي والتحرّر من كل القيود؛ دينية كانت أم اجتماعية. أثبتت الوجودية قدرتها على إخراج الإنسان من الميكانيكية إلى المعرفة الإنسانية التي يجب أن تحترم “الفرادة” فرادة الإنسان وفرادة الشيء. فما يمرّ به العالم من صراعات وتسلّط ومعارك وثورات يُشعر الإنسان بالعجز والكآبة والقلق، ما يزيد الحمل عليه في هذا العصر المليء بالكوارث البشرية، وقدّمت الوجودية الحلّ بالعودة لل”فرادة”الإنسانية.
الفلسفة الوجودية اتفقت على المبادىء ولكنها اختلفت في التفاصيل، هي فلسفة ذاتية ، الإنسان فيها له وجوده الخاص به ومعاناته الخاصة وهو ويرتبط بالزمان والمكان والظروف الحالية، فالإنسان صاحب تجربته الحيّة.كما أنّالوجودية انتقدت العلم واتجاهاتها لاعقلية وصوفية إلى حدّ ما وانعزلت عن العالم والتاريخ مما لا يصفها بصفة الفلسفة المنظّمة الإيجابية، فهي في خليط متناقض خاصة في مواقفها من العالم الطبيعي ومن الإنسان بكونه كائناً اجتماعياً،وقد انبثقت الوجودية من زمن كان الإنسان فيه يشعر باليأس والقلق وفي حاجة لتبرير هذه المشاعر وتجاوزها بطريقة ما.[1]
نتناول في البحث الحالي أهم المبادىء والمفاهيم التي تناولتها الفلسفة الوجودية سواء المؤمنة أو الملحدة من خلال عرض مختصر لآراء ثلاثة من الفلاسفة الوجوديين الكبار هم : “كيرجورد”، “هيدغر” و”سارتر”، وكذلك علاقة هذه المفاهيم الفلسفة الوجودية بمفهوم الفرادة الإنسانية والتصوّف ، يتبعها خلاصة نقدية.
الفرادة الإنسانية والتصوّف في الفلسفة الوجودية
جعل “سورين كيركجورد” –أبو الوجودية- من الإيمان والمخاطرة التي يتطلبها الإيمان – نموذجاً للتمسّك الصادق والالتزام الحقيقي. والإيمان في نظره هو الحقيقة في أعلى صورها، لا لأنها حقيقة الله وليست حقيقة الإنسان، ولكن أيضاً لأنها تقتضي أعلى درجات الذاتية. فاليقين إذاً يبلغ ذروته في العجز عن الإثبات، بل إن ما يوجّه الإرادة هو اتفاق الحقيقة مع أعمق مطالب الشخص، مع هذه الحقيقة الأخلاقية التي هي بالنسبة للفرد ، الفرد الذي يكونه والذي يريد أن يكونه. إن اليقين لا يمكن أن يُستمد إلا من معاناة الحياة والعمل، لأن الذي يصدّق بالحقيقة ويقبلها ليس هو العقل الخالص بل الإنسان الموجود نفسه حيث هو موجود. فخاصيّة الوجود هي الاختيار، إن الوجود هو أن يختار الإنسان ذاته، إذ أن الواقع هو أن الإنسان لا يختار إلا نفسه، فكل اختيار “خارجي” إنما يكون مرتبطاً باختيار داخلي، بنسبة شيء أتبعه فأحقّق ذاتي. إن ما هو مُعطى لي، ليس ب”أنا” جاهزة قط، هي ليست ماهيّة أخرجها من حيّز الإمكان، إلى حيّز الفعل، وإنما مجرّد إمكانية. الوجود يسبق الماهية، فأنا-على نحو ما- الصانع لماهيتي الخاصة، وأنا إنما أكون موجوداً بالقدر الذي أحقق فيه هذه الماهية. وهذا يتم في المخاطرة عن طريق الاختيار، وهذا الاختيار هو مرّ وقسري في الوقت نفسه. فالاختيار عند “كيركجورد” معناه أن”الأنا” لا بد لها أن تختار بصورة مطلقة، وأن تختار ذاتها طبعاً لما فيها من اللاتناهي والخلود، أي أنه ليس هناك من وجود حقيقي إلا أمام الله.[2]
يقول “هيدغر” في كتابه الوجود والزمان (1972) أن الوجود- في العالم، هو التحدي الأساسي للأنية وهو التحديد الذي يخطر ببالنا في المحلّ الأول حين نوجه انتباهنا صوب كينونة الوجود كما تتمثّل لنا في هذه الحالة أو تلك من حالاتها، وبالتالي في استواء أمرها بالنسبة إلى هذه الحالات. ومن الممكن أن ننظر في ظاهرة الوجود- في العالم، متناوليها من كلياتها العينية، من ثلاثة جوانب: العالم، “وجود” الموجود، “والوجود –فيّ”.[3]
حين يتحدث”كيركجورد “عن الإنسان الفرد والذات؛ فهو لايعتبرهما محض فكرة مجردة،بل فعلاً وجودياً في الحياة. فالإنسان؛ وببساطة لايمكن أن يكون ذاتاً بنفسه. إذ أنّ هذه الذات تضم في طياتها عناصر متناقضة، ولهذا فأن الإنسان ليس حالة منفردة، أو يتجلّى في سلوك واحد، بل إنّه وحدة متناقضات بين النهائي واللانهائي، بين الزمني المؤقت والخالد، بين الضرورة والحريّة. وهنا كعنصر شدّ داخلي بين هذه العناصر،أي أن الإنسان لايمكنه أن يختار بنفسه هذا العنصر ثم يتخلى عن الآخر، رغم أنه يسعى إلى ذلك،أي أنه في الواقع يسعى لكي يتجنّب أحد طرفي المعادلة، إلاّ أن العنصر أوالطرف الآخر في المعادلة سيظهر منتقمًا لنفسه؛ إذ سيكشف عن نفسه بصورة أو بأخرى في سياق حياةالإنسان . ولهذا فإن هذه المعادلة،التي تشكل الذات بعناصرها المتناقضة، ستواصل وجودها. ولو تصورنا أن الإنسان يتغافل عن الخالد والأبدي، وينشغل بماهو زمني ومؤقت فقط، فأن الخالد والأبدي سيفرض مع ذلك نفسه عليه، وذلك لأن الإنسان مضطر لأن يكون له موقف من الأبدي وباختصار فأنه في حالة شد وتوتر دائمة بين الخير والشر، بين الحب والكراهية ،بين الإيمان والكفر.[4]
اعتبر ” هيدغر” أن الوجود الإنساني هو وحده المسؤول الأول والأخير عن جعل وجوده أصيلاً أو غير أصيل ، ورفض كل محاولة لتأصيل الوجود الإنساني تأتي من الخارج، فإنه أي الإنسان يتعرّف على العالم وسائر الموجودات عبر استخدامه واستعماله لها، وجعلها موضوعاً لاهتمامه، لا بوصفه ذاتاً تتعرّف على الموضوع، كما أوضح مسؤوؤلية الإنسان عن ضياع وجوده الأصيل بانغماسه في أنماط الحياة، الاستهلاكية، وأوضح أيضاً أن الوجود الإنساني يتمتّع بالأولوية المطلقة على الوجود.[5]
يرى “كيركجورد” أن الشيء الذي يمكنه أن يحرّر الفرد، وأن يشكل دعامة وقاعدة لحياته هو التأمل في حقيقة الله. إذ يقول: “إن الذي يفتقر إلى وجودالله في هذا العالم، سرعان ما يستولي عليه السأم من ذاته ونفسه، وقد أفاد هذا المعنى من خلال التعبير القائل السأم من جميع أبعاد الحياة.” وأما في الرؤية الدينية فمن خلال التدبّر في الموت تفقد جميع المشاكل الدنيوية والمادّية أهميتها، وبذلك يشعر المرء بأنه في حضرة الله، وبذلك فإن الفرد الذي يجد نفسه تابعًا لإرادة الله، سوف تكتسب حياته بسبب حضور الله أهمية غير محدودة إن مثل هذا التأمل يجعل لحياته مضمونًا، وإن هذا المضمون بالالتفات إلى أنه ناظر إلى هدف متعال وهو الله يتمتع بوحدة أيضاً .[6]
تتلاقى الصوفية والمذاهب الوجودية، خاصة عند “كيركجورد” و “هيدغر” حيث يلاحظ بينهما صلات عميقة في المبدأ والمنهج والغاية. ففي المبدأ كلاهما يبدآن من الوجود الذاتي، ويقيمان من أحواله مقولات عامة للوجود، وهما بالتالي يجعلان الوجود سابقاً عن الماهية، ضد كل فلسفة تصورية.فالأحوال عند الصوفي هي بمثابة الصفات والكيفيات عند الفيلسوف الطبيعي، لأنه يعترف بوجود حقيقي غير الوجود الذاتي، أو هو على الأقل يضع ترتيباً تصاعدياً فيجعل الوجود الذاتي فوق الوجود الفيزيائي. فمفهوم النزعة الصوفية ليس مجرّد تحليلات نفسية شخصية لأحوال فردية تؤخذ على هذا الأساس النفسي الفردي، بل هي في جوهرها تحليلاً للوجود الذاتي بوصفه الوجود الحقيقي؛ كما تقول النزعة الوجودية تماماً. فالنزعة الصوفية تقوم على مبدأ الذاتية، بمعنى أنها لا تعترف بوجود حقيقي إلا للذات: “الذات المفردة”. ولهذا لم يكن للوجود الخارجي عندها إلا مرتبة ثانوية: أي أنه لا يوجد إلا بوجود “الذات العارفة”. ولهذا كانت مراتب السالكين في طريق الصوفية تسير جنباً إلى جنب مع مراتب الوجود، وسيرها هذا إنما يقصد به إحلال الوجود الذاتي شيئاً فشيئاً مكان الوجود الفيزيائي أو الخارجي. أي من خلال تجريد الذات من عالم الكون والفساد، وتستمر هذه العملية حتى يزول السُّوى كلّه، فلا يبقى غير الذات وحدها مع مسؤوليتها الهائلة. وهذا هو المقصود بفكرة “الإنسان الكامل” ، أي أن الوجود الأكمل هو الوجود الإنساني، لأننا ما دمنا في هذا نقول بوحدة الوجود. وهذه الفكرة تناظر الإنسان الكامل في الوجودية فكرة “الأوحد”، خصوصاً عند “كيركجورد”: “أمام الله لن تكون إلا أمام نفسك…وحيداً مع ذاتك أمام الله”. وهذه الفكرة كذلك أي الإنسان الكامل تجمع بين الصوفية والوجودية من حيث النزعة الإنسانية، لأن فيها تأليه الإنسان. والوجودية تضع الإنساني مكان الوجود المطلق حيث يقول “سارتر”: “ليس ثمة كون غير الكون الإنساني، كون الذاتية الإنسانية”.[7]
كما يقول “هيدغر” أنه لا وجود مطلقاً لذات بلا عالم، لا توجد ذات منعزلة . يمكن أن تدرك دون”الأنا” الأخرى. من صميم الأنا إذن أن تكون وجوداً-مع، وهذا الوجود في علاقة ب”آنيات” أخرى، هي التي تؤلف “عالمي” المحيط بي، من حيث أنها مندمجة في هذا العالم، ومقتربة مني نتيجة لاهتمامي بها ، والتي أحملها معي، إن صحّ التعبير، كما تحمل الأرض الغلاف الجوي المحيط بها في المكان . إنني أقتسم العالم مع الآخرين، لا بمعنى أن الآخرين هم بقية الناس الذين يوجدون خارجي أنا، ولكن بمعنى أن الواحد يتميّز عن الآخرين الذين يوجد بينهم أيضاً. وهكذا يكون الوجود-في العالم بمثابة عالم مشترك. ويكون الوجود بالنسبة لي هو أن أوجد وجوداً مشتركاً.أي التمييز بين حالتين رئيسيتين وهي الانتباه إلى العالم المحيط بنا، وأن الآخرين هم بقية الناس الذين يوجدون خارجي أنا ، بمعنى أن الواحد يتميّز عن الآخرين ولكن يوجد بينهم أيضاً. ويضيف “هيدغر” أنه لا ينبغي أن نفهم الناس، على أنهم شيء شبيه بذات جمعية، تبسط جناحها على جمهرة الناس، والواقع أن مفهوم الناس تركيب وجودي ينتسب على أساس ظاهرة أصيلة، إلى المفهوم الإيجابي للأنية. إنهم كائن حقيقي هو “الأنا –الناس”، كائن غارق في الوجود بالاشتراك، مع احتفاظ الأنا بواقعها التام الذي يتألف من هذا الأعواز لعنصر الشخصية في ال” في “: “أنني موجود، ولكنني لم أعد ذاتي بمعنى ذاتي، وإنما الآخرون على صورة الناس”.[8]
أمّا “سارتر” في كتابه الوجود والعدم، فيشير إلى أنّ الوجود لذاته يفقد نفسه في الخارج، نحو الوجود- في- ذاته، حين يسعى عبثاً للتطابق معه، إن الوجود في ذاته هو بمقتضى تركيبه متخارج أي أنه يجب أن يبحث عن وجوده في شيء آخر، سواء في العاكس إن كان انعكاساً، أو نفس الشيء الذي يعكسه، إذا كان هو عاكساً. وهنا يبدو التأمل من وجهة النظر هذه محاولة ثانية من الوجود لذاته لكي يسترد وجوده، أو لكي يدخل في باطن ذاته، ويؤسس نفسه بأن يكون بالنسبة إلى نفسه ما هو عليه: ذلك أن الوجود لذاته يحاول تحقيق هذا الشيء المستحيل وهو أن يجعل من الوجود الذي يفلت من بين أصابعه، والذي هو وجوده، نوعاً من “المعطى” الذي “يجب أن يكون ما هو عليه”، في نهاية الأمر، أي أن يكون كلاً مسترداً من التشتت الخارج عن الحالة الإستاتيكية: هذا هو أساس التفكير في الذات: هو يتألف من محاولة مزدوجة عنصراها معاً وفي وقت واحد وهما جعل الشعور موضوعاً والدخول في باطن الذات. والفشل هنا أمر لا مفر منه، وهو هذا التفكير في الذات، لأن محاولة الوجود لذاته لاسترداد نفسه بالعودة إلى ذاته لا تؤدي إلا إلى ظهور الوجود لذاته. فالتفكير في الذات يبين لنا على هذا النحو أن”الوجود لذاته يريد أن يؤسس نفسه في الوجود، ليس هو نفسه غير أساس لعدمه الخاص”. وهو في الوقت نفسه وجود شكلين للزمانية “الأصلية” وهي التي تبين تركيب الوجود لذاته من حيث هو تزمّن أو تاريخية- والزمانية “النفسية” التي هي سلسلة واقعية من الوحدات أو الوقائع النفسية التي تتعاقب كما تتعاقب الأشياء. يريد “سارتر” هنا أن يميز بين التأملية الخالصة “الأ”نطولوجية” –إن صح التعبير- والتأمل المشوب الذي يكوّن “النفس” أي سلسلة الوقائع النفسية المترابطة: “الأنا” وحالاتها، وأفعالها، وفي الوقت نفسه مجموعة من الموضوعات الزمنية.[9] ف”سارتر” يشير إلى الحياة اليومية في التأمل المشوب، يشمل التأمل في ذاته، ذلك التأمل الخالص، وأن التأمل “النفسي، يشتمل على الحاضر والماضي، ويحدّد المستقبل. ويعتبر أن الطبيعة الإنسانية توجد عند جميع البشر و بأن الإنسان يوجد أولاً، ثم يكوِّن ماهيته بعد ذلك ويبني مشروعه الحرّ الذي يكوِّن وجوده؛ وبذلك فهو الذي يختار ماهيته. “سارتر” يؤكد أن الإنسان حرّ وحريّته من نفسه ليست من خارجه، فالإنسان يخلق أفعاله، فالأحداث الكونية أنت تخلقها أو تختارها، فالحريّة مطلقة.[10]
والفكرة الرئيسية التي تقوم عليها الوجودية، أي أن الوجود أسبق من الماهية، وأكبر منها حقيقة، نجد لها تعبيراً عند الصوفية، خصوصاً تلك التي عنيت ببيان الوجود المطلق والوجود العقلي للصورة في معارضتها للنزعة المشائية. فالموجودات الخارجية عند التحقيق شيء واحد هو مطلق الوجود، والماهيات تعيّنات له، يختلف بها (أي الوجود المطلق) عند العقل وحوداث خاصة هي العيان الخارجة. فالوجود يسبق الماهية والوجود حقيقي، بينما الماهية مجرّد اعتبار عقلي. والوجود الماهوي-وإن كان الإشراقيون أو بعضهم يميلون للقول أنه الله؛ فإن من المهم هنا أن نقرّر بأن استخدام لفظ “الأنية” المستخدم من قبل الوجوديين إنما هو يرجع للصوفية وحدهم، وهو عند الفلاسفة بمعنى الوجود دون تحديد، كما هو الأصل في معناه اليوناني. ولهذا دلالته الخاصة على تنّبه الصوفية إلى إيجاد هذه التفرقة بين الأنية والوجود المطلق، ثم بين الأنية وبين “الرتبة الذاتية” أي الوجود الماهوي عند “هيدغر”. وإن للصوفية أيضاً تعبيراً آخر عن هذا الوجود الماهوي هو: “العيان الثابتة” ، فهم يعرفونها بأنها “هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى”. ومن الواضح أن تسميتها “بالأعيان إنما قصد بها توكيد إضافة الوجود الحقيقي إليها، فهي ليست مجرّد معقولات في عقل الله بل لها كيانها ووجودها الثابت. ونحن إن جرّدنا هذا التعريف من مضمونه الديني- ويحق لنا ذلك لأن من الممكن دائماً في التصوّف تحليل الاعتبارات الدينية إلى اعتبارات إنسانية خالصة- وصلنا إلى تعريف للوجود الماهوي عند “هيدغر” في صورة أولية ولكنها مع ذلك واضحة جداً. كما يلاحظ من خلال كلمة “أنية” بالمعنى الصوفي، يقترب منها اصطلاح صوفي آخر هو “مرآة الوجود” . ولما كان الانتقال من الوجود الماهوي إلى الأنية في المذهب الوجودي عند “هيدغر” خصوصاً وعند الصوفية ، إنما يتم بنفوذ العدم في الوجود الماهوي، لقد كان من الطبيعي أن تحتل فكرة العدم مكان الصدارة في كل بحث عن طبيعة الوجود عند الوجوديين. وهذا الموضوع يثير أسباباً للجدال من حيث الصلة بين الوجود المطلق والعدم لن ندخل فيه.[11]
والوجود تبعاً ل”كيرجورد” معناه أن نعاني اليأس والقلق حتماً، وكل هذا وذاك الأمر مرتبط بالواقع وبإمكان الخطأ. على أنه بحكم أن الفرد يجد أنه مضطر إلى أن يختار وأنه لكي يختار لا بد له أن يخاطر، ولمّا كان الأمر كذلك فلا بدّ للفرد أن يعاني من اليأس. ومن المُحال أن نفلت من اليأس وهكذا ينتزع اليأس من الإنسان من نفسه باعتباره متناهياً، ويعيده إلى ذاته حيث ما هو أبدى في تلك الذات. أما القلق فهو يسبق الخطيئة ويقترن بها بالإمكان والحرّية، وهو يعطي الوجود ما يميّزه، بل هو يكشف للموجود عن وجوده، والقلق يضع الإنسان أمام نفسه وجهاً لوجه باعتباره لم يوجد بعد، وإنما سيوجد بواسطة الجرّية، وهو الروح بمعنى ما، ما دام هو الحرّية. إنه يُنبىء بالكمال كما يُنبىء اليأس بالتحرّر. هو اشتهاء لما نخافه وخوف مّما نشتهيه.[12]
ويربط “كيركجورد” القلق بتكوين الإنسان الخاص بوصفه : جسداً ونفسًا وتجمعهما الروح. فطريقة تكوين الإنسان ذاتها تجعله معرضاً للتوتر وهذا التوتر هو القلق ومهمة الإنسان هي إنجاز مركب الجسد والنفس . وهي مهمة مشحونة بالقلق منذ بدايتها وإذن فالقلق خاصيّة تتسم بها الظاهرة البشرية فالحيوان لا يعرف شيئًا عن القلق لأن حياته جسدية خالصة! كذلك لا يعرف الملاك شيئاً عن القلق لأن حياته عقلية خالصة. أما الإنسان الذي يجمع بين الحس والعقل بين الجسد والنفس فهو يعيش في ظل القلق.[13]
أما مفهوم ” القلق” Anxiety -وهي الكلمة التي استخدمت في الترجمة الإنجليزية لكتاب”هيدغر” والتي ينبغي علينا أن نعترف أنها لم تكن ترجمة مقنعة-، فهي توحي بألوان القلق في الحياة اليومية وهي تعبّر عن ذلك الانفعال النادر والدقيق الذي أراد الوجوديون أن يشيروا إليه بهذه الكلمة. وعلى الرغم من استخدام كلمة واحدة هي القلق لتشير إلى ظاهرة يناقشها فلاسفة وجوديون مختلفون، فينبغي أن يكون واضحاً أن الكلمة لاتعني بدقة معنى واحداً عند كل كاتب يستخدمها . فكل من “كيركجورد”، و”هيدغر”، و”سارتر”، يفهم القلق على نحومختلف بعض الشيء. ومع ذلك فهناك تقارب وثيق بينهم وقد اعترف الأخيران صراحة بأن الفكرة مستمدة من”كيركجورد”؛ حيث يقول”هيدغر”: ” إن من سار إلى أبعد مدى في تحليل مفهوم القلق هو”سورين كيركجورد” . ويقابل “سارتر” بأوصاف القلق عند “كيركجورد” و”هيدغر”، ثم يقول: “أنها لا تبدو لنا متناقضة بل على العكس فكل وصف منها يتضمن الآخر… يتفق هؤلاء الفلاسفة جميعاً على أن القلق يكشف بطريقة خاصة عن الوضع الإنساني فهو عند”هيدغر”، الطريقة الأساسية التي يجد بها الفرد نفسه، ولاشك أن النظر إلى القلق على أنه مفتاح أساسي لفهم الوجود البشري ينطوي ضمنًاعلى تلك الرؤية الوجودية والفينومينولوجية للوجدان. [14]
وفي أغلب الأحيان تبعاً ل”هيدغر ” يكون كل ما فينا مرتباً بحيث يخفي عن أنفسنا ما نحن عليه أساساً، ولا يظهر الشعور الأصلي في صورة الانتباه إلى أننا قُذف بنا هناك، بل في صورة النفور من الوجود أو الانجذاب إليه. يتابع “هيدغر” في كتابه الوجود والزمان[15] بأن “الشعور الأساسي بأن الإنسان مرمي- هناك، أو الشعور بالقطيعة، أو بالنبذ. وهذا الشعور يرجع إلى تركيب الوجود نفسه، ولا ينشأ عن مجرّد أمر عارض في طريقة الوصول للعالم بل ينشأ عن الوجود نفسه في عالمه الأنطولوجي(الوجودي العام)”. فأنا- في الواقع- قد رُمي بي في هذا العالم دون اختيار من جانبي، بحيث أن الشعور بالقطيعة والعُزلة تلتصق بوجودي بوصفة أعمق تعبير عن طبيعته، كما أنه يصاحبه دائماً. وبهذا أشعر بأن الوجود لا يمكن أن يكون بالنسبة لي إلا ثمرة انتصار في معركة لا تنتهي. والواقع أن الأنية تظهر دائماً على أنها قدرة-على الوجود- وهي لا تكون أبداً شيئاً مغلقاً أو محصوراً في حدود. فهي عبارة عما تستطيع أن تكونه ، وهي توجد وفقاً لكيفية إمكانياتها.[16]
ولنعد إلى فكرة العدم في المذهب الوجودي عند “هيدغر فيقول: “إ”ن الذي يكشف عن العدم في مذهبه هو الحالة العاطفية المعروفة بالقلق، إذ في هذه الحال نشعر بأننا معلّقون، يحملنا القلق ، مشعراً إيّانا بفرار الموجود بأسره وانزلاقه، الموجود الذي نحن من بينه، ولا وجود في هذا الانزلاق الشامل إلا للذات المحققة لحضورها في القلق، وإن كان حضوراً معلّقاً في الهواء، وإذا بنا فريسة للعدم، فيرتج علينا القول لأن كل قول يؤذن بوجود، والموجود قد انزلق في هذا البحران”.
وقد وُجدت تعاريف “للقلق” عند الصوفية تشبه تعاريف “هيدغر” ، وهي كانت نقطة البدء لاكتشاف أوجه التلاقي بين الصوفية والمذهب الوجودي ،سنذكر أحدها وهو للشيخ “أحمد ضياء الدين الكمشخانلي النقشبندي”: “القلق: وهو هنا تحريك الشوق صاحبه، بإسقاط صبره، وصورته في البدايات: تحريك النفس إلى طلب الموعود، والسآمة عمّا سواه في الوجود، وفي الأبواب: قلق يضيق الخلق فيبغّض إلى صاحبه الحياة، ويحبب إليه الموت. وفي المعاملات: توحّش عمّا سوى الحق، أُنس بالوحدة والتخلّي عن الخلق، وفي الأخلاق: الانخلاع عن الصبر والطاقة، لما يجد من التوقان للحق ولقائه…” ف”هيدغر” قد ربط بين الزمان والمكان عبر فكرة القلق، وينظر إلى الزمان على أنه نسيج الوجود. وأن الوجود بطبعه متزمّن بالزمان في كل أحواله، والحق أن الزمان عند الصوفية يغلب عليه أن يكون الزمان الوجودي وحده، لأنه تعبير عن حالات وجودية يكون هو لحمة لها. إن لفكر “كيركجورد” تأثير روحي ولكنه مستوحى من داخل العالم المسيحي الأوروبي ، والمهم هنا أن “كيركجورد” يبدأ من نفس الأسس التي يبدأ منها المتصوفة خاصة المسلمين، أي التاريخ الديني، ونقل حواصله إلى تجارب وجودية، بحيث تلعب القصص الدينية في تكوين المذهب الوجودي نفس الدور الذي تلعبه الأساطير الأفلاطونية في تكوين فلسفة أفلاطون.[17] …
“سارتر وهيدغر” أخضعا الوجودية إلى منهج فلسفي هو المنهج الفينومينولوجي أو الظاهراتية التي ابتكرها الفيلسوف الألماني “أدموند هوسرل”[18]إضافة إلى استفادتهم –أي الوجوديون- من نتائج وقوانين مدرسة علم نفس الشكل “الغشتلطية”[19]. وهذه المنهجية عموماً ترتكز على ثلاث مراحل أساسية، الأولى: هي تعليق الحكمأو القصر أو الإرجاع الفينونمينولوجيأي إضعاف المسلمات وإيقاف حكم العقل وعزل التأثيرات الخارجية بما ذلك الله والعقل والمحيط ووضعها موضع شك أي بين قوسين بتعبير “هوسرل” (bracketin) وهي المرحلة التي تلائم كثيرًا النتائج الوجودية من حيث التأسيس لنفي الماهية المسبقة ومن ثم ظهور الحريّة المطلقة التي تفرض على الإنسان خلق ماهيته ومعانيه الخاصة…فالمرحلة الأولى إذن هي مرحلة تحررّية إعدادية للمرحلة الثانية، مرحلة شعور الذات بما وضع بين قوسين أي الشعور بجميع الأحكام الممكنة والمختلفة دون أن ترتبط الذات بتلك الموضوعات وهي مرحلة إعدداية أيضاً ولكن للمرحلة الأخطر مرحلة إرتباط الذات بحكم من تلك الأحكام المختلفة عن طريق الحدس الغشتلطي. وميزة هذا الحدس أنه لا يتعرض للخطأ من حيث أن الذات قد تحرّرت من سبب الخطأ حين تحرّرت من الإرتباطات والأحكام ووضعتها بين قوسين. وهو حدس يقترب نوعاً ما من الكشف الصوفي حيث يقوم الحدس بتحليل الظواهر تحليلاً وصفياً فطرياً ومن ثم الارتباط بموضوع من موضوعات تلك الظواهر أو حكم من الأحكام ، وهو اختيار حتماً صائب أي بعكس التحليل العلمي أو الإستدلال العقلي! فكل شيء ظاهر أمام هذا الحدس ولا وجود لما هو باطني أو مخفي، فالغضب، الحقد، الخجل، المحبة، ليست هي حوادث نفسية مختبئة في وعي الآخر إنما على وجهه في حركاته وليست وراءها..وأحكام مثل نافع، ضار، سيء،،ً رديء يجب وصفها بالحدس وصفًا أميناً ساذجاً، كما يبدو للوعي أي يدرك بالقوى الوجدانية لا بالقوى المعرفية تمامًا كما ندرك لون الزهرة أو رائحتها. لهذا فإن مفردات مثل تيار الوعي ، حقل الوعي، هي مفردات مرفوضة في الفينومينولوجيا لأن جميعها تفترض وجود شيء خفي حاوٍ للموجودات كما يعني أيضاً وجود الفكر المحض والذي هو بدوره مرفوض بحكم أن الفكر هو دائمًا فكر بشيء ما، وإدراك هذا الفكر يكون بحدس عفوي وساذج. فهي باختصار سيكولوجيا وصفية حدسية ليست تحليلية ولا تفسيرية.[20][21]
خلاصة نقدية :
ظهرت الوجودية كرد فعل على التيارات التي تعترف بأسبقية الخطيئة على وجود الإنسان ، فأكّدت بأن قيمة الإنسان من حيث هو فرد تعود إلى “حريته”. وبدأت سلطة العقل تسقط، تزامنا مع ظهور المدرسة الظاهراتية في علم النفس وبدأ الإحساس باللامعقول والعبث وانتفاء المعنى وظهر الفكر الأكثر سوداوية وتشاؤمية في تاريخ الفلسفة برمتها، والذي يُعتبر بحقّ انعكاس للواقع المُعاش حينها لتزامنها مع الحروب وتفاقم الخوف والقلق والإحباط. فالوجود هو كالغرفة المظلمة بتعبير “بول تيليتش”، فالعالم المظلم بويلاته وحروبه وظلمه خاصة للفردية الخاصة بكل فرد، وللكرامة الإنسانية ، وسيطرة الدين والتاريخ والمجتمع والحضارات والقيم المجتمعية المتوارثة، تلك الذات التي انتُهكت قد آن الآوان لكي يكون لها فلسفة خاصّة بها وحدها هي “فلسفة الذات”، التي ترفض الماضي وترفض التقليد، وترفض المجتمع، وهذا يُلاحظ أكثر عند “سارتر”، أمّا في خلفية “هيدغر” يقبع الطابع الصوفي الذي لا يهتم له “سارتر”.
إنّ جدليّات الفلسفة الوجودية خاصة عند “هيدغر” و”سارتر “، ربما تبتعد عن العقلانية والتنظّيم والموضوعية، فمعرفة الذات في معناها الخاص تفترض المعرفة الواضحة الجليّة وفي نفس الوقت الواقعية، وهو ما يجعل الفرد أحياناً يتيه مع فلسفتهم ويشعر بأنّه يعود بالزمن إلى ذلك الوقت الذي كان مشتعلاً بالحروب والمآسي والسوداوية والتشاؤم واليأس والقتل والدماء والتعذيب والمعتقلات والاستعباد، حيث كان الفرد يعيش في ذلك الجو المشحون بالقلق والخوف والمعاناة والآلام. لكن هل يكفي أن نعيش فرديتنا الذاتية؟ أم يتطلب ذلك أن نعكس ذلك الداخل على كل ما حولنا ومن حولنا! فالفردية التي يجدر بنا الوصول إليها ، يجب أنّ تكون بمثابة الطريق الذي ينير لنا سُبل التعامل القويم مع الآخرين من حولنا. فالآخر مثلي هو الحقيقة الوجودية الأخرى، فهل أتعامل معه كما تعاملت مع نفسي ، بفردانية خاصة به؛ كيف يكون ذلك؟ هل يكون بالنظر إليه كذات أخرى حرّة فردية، لها تجربتها الذاتية التي أتقبّلها ولا أتجاوزها ، بمعنى أن لا تتعارض حريّتي مع حريّة هذا الآخر.
نجد في الوجودية مبالغات مُسرفة في بعض المفاهيم، فالدعوة الوجودية إلى المشاركة الوجدانية والعاطفية للألم قد تؤدي في بعض الأحيان للقنوط والإحباط، فهم يضعون الانفعال والحماسة فوق العقل أحياناً مما يُشعر الفرد بالخوف والفوضى والقلق.تؤكّد الوجودية بشكل خاص على مفهوم القلق ،فالكل عانى ويعاني من القلق وهو الدافع الحقيقي للبحث عن كل ما يجعل الفرد يتجنّب هذا القلق، أو يسيطر عليه رغم كل المصاعب التي تواجهه، فالإنسان تبعاً للوجوديين قد أُلقي في هذا العالم في ظلّ كل المخاطر التي قد تؤدي به إلى الفناء ، وهو يعاني من القلق والألم واليأس بسبب كل ذلك وما عليه القيام به هو الاختيار.وهم يعتبرون أنّ الإيمان المطلق هو للوجود الإنساني والحريّة للإنسان في أن يفعل مايريده؛ فالوجودية تؤمن بالإنسان قبل كل شيء وهذه هي الفردية المطلقة.
إن صرخة الوجودية هي صرخة كل إنسان يبحث عن ذاته، كل إنسان يرغب بالتحرّر من القيود، قيود الأسرة، المجتمع، الدين، الطبقة، السياسة، قيود الحياة كلّها… الفرد من المنطلق الوجودي هو أكبر من المجتمع، ومن الدولة، ومن كل تلك القيود التي قّيد فيها، ذلك لأنه هو سرّ الوجود ، هو الوجود بحد ذاته. فالوجود موجود فينا ونحن أسمى ما في هذا الوجود خاصة إن اعترفنا بوجودنا الذاتي المحرّر من التبعات الغيرية،وللوصول إلى الفرادة الإنسانية على الفرد نزع كل ما هو خارج عنه من ذاته، والاكتفاء بذاته.
لكن كيف يكون هذا النبذ للغيرية؟ وهل يتوافق مع القيم الأخلاقية في المجتمع؟ كيف سأعيش فردانيتي الذاتية بما يتوافق مع المسؤولية الأخلاقية؟ أي بضمير حي. إنّ الوجودية ضمن هذا الإطار لم تضع معايير محدّدة للأخلاق ، تحدّد فيها الحريّة المطلقة التي تحدّثت عنها، أنا حرّ ولكن الحريّة يجب أن تحدّد عندما تتصّل بالعلاقة مع الآخر ومع المجتمع؛ إن رفضي لتلاعب الآخرين بحقيقتي الداخلية ورفض تدخلاتهم الماضية لا ينفي أن للآخرين حقوقاً أخلاقية يجدر بي مراعاتها وعدم تجاوزها. فما غفلت عنه الوجودية أن يكون ، مع كل تلك المعاني الرائعة التي أطلقتها ، قانون أخلاقي وجودي، يحدّد العلاقات البشرية ، لأن الفرد هو فرد مع أفراد آخرين، وإن أراد الكل أن يكون حراًّ بالمطلق ، فمن سيتحكّم حينها بتلك الحريّة المطلقة عند الجميع؟
المؤمنون من الوجوديين يعتبرون أن الدِّين محلّه الضمير، أمَّا الحياة بما فيها فمقودة لإرادة الشخص المطلَقة، اليأس والقلق والإحباط باعتقادهم هي بسبب عدم الشعور بإيمان داخلي وقائي يجعل الفرد يتماسك في ظل الظروف القاسية، ويعتقد “كيركجورد” -الذي كان من كبار الوجوديين المتدينين- ، بأهمية الدين لملأ الفراغ الوجودي لدى البشر، وقد تم انتقاده من قبل الوجوديين المُلحدين،لأن الإنسان بنظرهم هو من يختار القيود التي يريدها وتلك التي يرفضها، والإنسان المتديّن الذي لا يرى غير دينه هو إنسان غير حرّ، فالحريّة هي في تقبّل الآخر، وفي تقبّل الذات؛ أي في تقبّل الاختلاف.
لا نستطيع إلغاء العوامل الفردية لدى الفلاسفة بشكل عام، فالتجربة الفردية لكل فيلسوف ميّزت فلسفته عن غيره من الفلاسفة، فهو لا يستطيع التحدّث عن فردية دون أن يشمل فرديته الخاصة ضمنها. إن الصورة المشوّهة التي طبعت ذاتنا بالآخر، هي ما يرفضه الوجوديون، ولكن مع النزعة نحو فرديّة مطلقة ، وليس فردية معتدلة، بمعنى أنالفرد المستقل حرّ بكل ما يخصّه داخلياً، لديّه عالمه الداخلي الخاص به، ولكن دون أن ينسى وجود الآخر، واحترام هذا الوجود الغيري. الوجودية تذكر هذا الوجود للآخر بشكل أكيد وتؤكد عليه ولكنها لم تضع مبادىء واضحة ومحدّدة لذلك الوجود “الآخر”.
من الوجوديين من تجمعهم نزعات صوفية تؤكد على وحدة الجوهر ، فمهما تباعدت الأزمنة واختلفت الثقافات إلا أنهم في النهاية في رحلة بحث عن الحقيقة. إن النشأة في رحلة البحث دائماً تتشابه، بين البشر، ففي هذه الرحلة نجد المتصوفة، والفلاسفة، ؛ بدأوا رحلتهم كردّة فعل على واقع يرفضونه، واقع يؤلمهم، واقع يريدون تغييره، واقع مادي يهدّد كيانهم الإنساني، واقع جعل الإنسان مجرّد أداة رخيصة في المجتمعات الحديثة! هنا تبدأ رحلة الهروب نحو عالم مُغاير، هو عالم الذات الباطنية التي تتصارع الآن ولكنها قابلة للعيش بتناغم وانسجام عندما تقترب من ذاتها. فالإنسان الأخلاقي المتصّل بالله عند “كيركجورد” يشبه المريد الذي عرف، فوصل ، فاتصل، عند الصوفية. والعيون عند “سارتر” التي يعتبرها الجحيم هي ذوات الآخرين التي يبتعد عنها المتصوّفة في خلوتهم ليكونوا مع الله بعيداً عن البشر.
لقد انتُقدت الفلسفة الوجودية المُلحدة بشكل خاص لأنها باعتبار منتقديها قد أدّت للفوضى والتفلّت واللاأخلاقية في المجتمعات.ولكنرغم كل الانتقادات للفلسفة الوجودية بشكل عام فهي تقدّم حقائق وجودية تغني الحياة بمعانٍ فلسفية عميقة والتي تُعتبر مدخلاً حقيقياً لمعنى حقيقي وثابت في الحياة.فإلإيمان بحقيقة الوجود الفردي بل بمعنى الوجود هو البديل عن الفراغ واليأس والمعاناة والقلق. كل فرد يتميّز بال”فرادة” التي تجعله قادراً على الاختيار والعيش بحريّة وإرادة.وبالطبع فإن الوجودييين قد توحدوا في المبادىء ولكن انقسموا في التوجّهات، فمنهم من أنكر وجود الإله الكامل المطلق ومنهم من عاد لهذا الإله المطلق المكمّل للوجود.وهم جميعاً لم يبدأوا من فراغ فما تركه من هم قبلهم من علماء وفلاسفة كان المنطلق الأساسي لديهم لإكمال المسيرة ولو من خلال توجهّات مختلفة؛ ولا يمكننا إنكار تأثّر بعضهم ببعض، وبتجاربهم الشخصية! خلال رحلتهم الوجودية للبحث في أعماق ذواتهم، تكتشف من خلال نظرياتهم رحلاتهم الذاتية الفردية مع عالمهم الذاتي والخارجي، ولكن بطريقتهم الفلسفية الممنهجة، وهم في نفس الوقت أبناء هذا العالم الذي طبعهم بوجوده الخاص من خلال تجارب وأحداث حياتهم الخاصة.
قائمة المراجع :
العربية:
- بدوي، عبد الرحمن(1982).الإنسانية والوجودية في الفكر العربي. الكويت: وكالة المطبوعات.
- تيتلتش، بول(1981).الشجاعة من أجل الوجود . ترجمة : كامل يوسف حسين. (ط1). بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
- ريجيس، جوليفيه(1988). المذاهب الوجودية. ترجمة: فؤاد كامل. بيروت : دار الآداب.
- زيناتي، جورج(1993). رحلات داخل الفلسفة الغربية. لبنان: دار المنتخب العربي.
- سارتر، جان بول (1956) . الوجودية فلسفة إنسانية من كتاب “الوجودية من ديستويفسكي حتى سارتر” . قام بنشره فالتر كاوفمان.
- شامبوردون، بورديو، باسرون (1933) .حرفة عالم الاجتماع. ترجمة: نظير جاهل. بيروت: دار الحقيقة للطباعة والنشر.
- ماكوري، جون(1982). الوجودية.ترجمة : إمام عبد الفتاح إمام. عالم المعرفة.–
- هيدغر، مارتن(2009) . الوجود والموجود. ترجمة: جمال محمد أحمد سليمان. بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع.
الأجنبية:
- Kierkegaard, Soren (1993).Three Discourses on Imagined Occasions, ed&trans. Howard V. Hong and Edna H. Hong, USA: Princeton University Press.
- Olsen, Jakob V.(2008): Kierkegaard, kærlighedogkristendom,Credo.
[1]تيتلتش، بول(1981). الشجاعة من أجل الوجود . ترجمة : كامل يوسف حسين. (ط1). بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.53
[2]ريجيس، جوليفيه(1988). المذاهب الوجودية. ترجمة: فؤاد كامل. بيروت : دار الآداب. ،40- 38.
[3]ريجيس،مرجع سابق: 68.
[4]Olsen, Jakob V.(2008): Kierkegaard, kærlighedogkristendom,Credo, p.91-92.
[5]هيدغر، مارتن(2009) . الوجود والموجود. ترجمة: جمال محمد أحمد سليمان. بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع،189.
[6]Kierkegaard, Soren (1993). Three Discourses on Imagined Occasions, ed&trans. Howard V. Hong and Edna H. Hong, USA: Princeton University Press,82-85.
[7]بدوي، عبد الرحمن(1982). الإنسانية والوجودية في الفكر العربي. الكويت: وكالة المطبوعات ، 71-81.
[8]ريجيس، مرجع سابق :75.
[9]سارتر، جان بول (1956) . الوجودية فلسفة إنسانية من كتاب “الوجودية من ديستويفسكي حتى سارتر” . قام بنشره فالتر كاوفمان(Cleveland,1956, 153.
[10]تيتلتش، مرجع سابق، 53.
[11]بدوي،مرجع سابق،71-81
[12]ريجيس،مرجع سابق، 44.
[13]ماكوري، جون(1982). الوجودية. ترجمة : إمام عبد الفتاح إمام. عالم المعرفة،185-182-183.
[14]ماكوري، مرجع سابق:185-182-183.
[15]هيدغر في كتابه الوجود والزمان ،134-135.
[16]“هيدغر” ،نفس المرجع،76-77.
[17]بدوي،مرجع سابق ،88-105.
[18]الظاهراتية تعبر عن : “نضال هوسرل ضد التيّارات الوضعية والمدارس الطبيعية التي تسلّلت مناهجها إلى علم النفس في أوروبا وأمريكا الشمالية ومحاولته عدم الوقوع في الميتافيزيقا التقليدية، متخذاً بمنهجيته تلك موقفًا وسطاً بين المذاهب الذاتية والمذاهب الموضوعية…
[19]الغشطلتية مدرسة فينومينولوجية بدورها وسليلة الهوسرلية التي استقى منها الوجوديون ومن ورائهم البنيويون مفهوهم للوعي القصدي ومنهجيتهم في الإدراك وخصوصا آلية الحدس الغشتلطي.
[20]زيناتي، جورج(1993). رحلات داخل الفلسفة الغربية. لبنان: دار المنتخب العربي،100-101.
[21]شامبوردون، بورديو، باسرون (1933) . حرفة عالم الاجتماع. ترجمة: نظير جاهل. بيروت: دار الحقيقة للطباعة والنشر،176.
_____________________________
*نقلًا عن “مركز جيل البحث العلمي”.