التوازن الفقهي والعرفاني عند الإمام الخميني (قده)
الشيخ مصطفى الأنصاري
من السمات البارزة للتفكير المنطقي هي البدء ببيان المبادئ التصورية للبحث لتفيدنا بصيرة في الشروع، وفي بحثنا هذا تواجهنا مجموعة من الاصطلاحات التي لا بدّ من بيانها كمبادئ تصورية للبحث، وهي مصطلح التوازن والفقه والعرفان. وبما أن مصطلح الفقه والعرفان من المصطلحات الواضحة بنحو ما، سنحاول توضيحها في سياق الكلام عن هذين العلمين في فكر الإمام الخميني (قده)، وسنبدأ بالكلام عن مصطلح التوازن؛ لأنه مرتكز البحث ومحوره.
مصطلح التوازن من المصطلحات شائعة الاستعمال في مجال الطب؛ ويقصد به في هذا المجال بالمحافظة على مركز الثقل في الجسم لكي لا يميل إلى جهة معينة. وأستعير هذا المصطلح كغيره من المصطلحات الطبية في كثير من المجالات العلمية التجريبية؛ مثل التوازن الحراري والتوازن الكيميائي، وفي المجالات الفكرية؛ مثل التوازن الفكري والشخصية المتوازنة، وتوازن القوى، وتوازن الرعب كما في علم السياسة، وهذه الاستعمالات تأتي بسبب وجود مناسبة بين هذا المصطلح والفكرة المطروحة في المجال العلمي المعين. وهذه الاستعارة الاصطلاحية من الأمور الشائعة في العلوم.
ما نقصده بمصطلح التوازن في هذ البحث هو الاعتدال وعدم الميل إلى جهة، وقلنا: إن سبب التوازن هو المحافظة على مركز الثقل في كيان ما سواء كان هذا الكيان فكريًّا أو غير فكري. ومن هنا إذا أردنا تحقيق التوازن في مجال من المجالات، فلا بدّ أن نبدأ بتحديد مركز الثقل في هذا المجال المعين، فما لم يحدّد مركز الثقل وتتم المحافظة عليه، فلن يكون هناك توازن. فيمكن أن نعبّر عن التوازن الفقهي والعرفاني عند الإمام الخميني بأنه: هو مقدار القرب من مركز الثقل الديني، ومقدار الانسجام بين علم الفقه وعلم العرفان في المنظومة المعرفية للإمام الخميني، وكيف استطاع من خلالهما أن يحافظ على مركز الثقل في الفكر الديني ويحقق الأهداف العليا للشريعة. فمن هنا نحن بحاجة إلى تحديد مركز الثقل في الفكر الديني لكي نحدّد من خلال هذا المركز مدى التوازن الموجود في المنظومة الفكرية التي نريد البحث عنها، ولنحدّد في بحثنا هذا مدى التوازن الذي حققه الإمام الخميني في منظومته المعرفية الدينية بشكل عام، والفقهية والعرفانية بشكل خاص.
مركز الثقل في الفكر الديني:
يجد المتتبّع للنصوص الدينية أن مركز الثقل في الفكر الديني هو الله عزّ وجل، وهو محور الفكر الديني، بخلاف الفكر الإنساني السائد خارج المجالات الوحيانية، والذي يدعى محورية الإنسان، فمركز الثقل والمحور في المعرفة الدينية في مجالها وبعدها النظري هو معرفة الله عزّ وجل كما قال أمير المؤمنين (ع) أول الدين معرفته. وهنا يمكن القول: إن أول هنا بمعنى الأولية والأولوية. وكذلك في المجال والبعد العملي يجد المتتبّع للنصوص الدينية أن مركز الثقل والمحورية لحاكمية الله عزّ وجل في أرضه. ومن خلال هذين المفهومين مفهوم معرفة الله عز وجل وحاكميته تعالى يمكننا تحديد معنى التوازن في الفكر الديني، فبمقدار المحافظة والقرب من هذين المفهومين في مجال المعرفة النظرية، والسلوك العملي للمنظومة المعرفية لأي شخص يمكن تحديد مستوى التوازن الذي حققه هذا الشخص في هذه المنظومة المعرفية.
ومن خلال تحديد موقع هذين المفهومين مفهوم المعرفة والحاكمية الإلهية في الفكر الديني نتمكّن أيضًا من تحديد الدور الذي يجب أن تلعبه أي منظومة معرفية دينية، والهدف الذي يجب أن تسعى لتحقيقه على أرض الواقع من خلال مجالاتها المعرفية، والتي من أهمها مجال المعرفة الفقهية والمعرفة العرفانية. فالعرفان يضطلع بدور تحقيق المعرفة الإلهية؛ فهو يدور في مباحثه على معرفة الله عزّ وجل، ويسعى إلى تحقيق أعلى مراتب المعرفة به تعالى. والفقه يدور في مباحثه على تحقيق الحاكمية الإلهية على أرض الواقع في جميع المجالات السلوكية الأنفسية والآفاقية.
عندما نطالع المنظومة المعرفية لأي عالم من العلماء ــ ويجب أن نذكّر بمسألة مهمة، وهي أنه ليس كل العلماء يمتلكون منظومة معرفية متكاملة، فبعض العلماء له مجموعة كتب ومجموعة دروس لا ترقى إلى مستوى تسميتها بالمنظومة المعرفية ــ يمكننا تحديد مستوى التوازن الذي حققته هذه المنظومة من خلال قربها وبعدها من معرفة الله عز وجل، في بعدها النظري. ومن خلال معرفة مدى سعيها للتأسيس لحاكميته تعالى في بعدها العملي. ولا بدّ من توضيح أن معرفة الله عز وجل تتحقّق بتوحيده والإخلاص له تعالى، والتوحيد يتحقّق بنفي ألوهية ما سواه سواء كانت هذه الألوهية أنفسية كما في ألوهية الهوى والشرك الخفي، أو ألوهية آفاقية كما في الأصنام والشرك الجلي. وحاكميته تعالى تتحقّق برفض الجبت والطاغوت رفضًا قاطعًا من خلال عدم التحاكم إليها وإسقاطها. وتحقيق الحاكمية على أرض الواقع من خلال المراحل الثلاثة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه بقوله: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنونَ حَتّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمّا قَضَيتَ وَيُسَلِّموا تَسليمًا﴾[1]. وبتحقيق هذه المراحل تتحقق الحاكمية الإلهية بأجلى صورها.
منهج الإمام الخميني في تحقيق التوازن:
استطاع الإمام الخميني (قده) ومن خلال إجراء مجموعة من الخطوات أن يحقّق التوازن المطلوب في منظومته المعرفية، فعندما نراجع هذه المنظومة نجدها تتمحور حول هذين المفهومين؛ مفهوم معرفة الله عزّ وجل في بعدها المعرفي النظري، ومفهوم حاكمية الله عزّ وجل في بعدها السلوكي العملي. وكان يسعى وبشكل جدّي للتأسيس لهذين المفهومين، فلا تكاد تجد له خطابًا إلّا وتشهد الحضور القوي والواضح لمعرفة الله عزّ وجل وحاكميته، فلم يغفل في مرحلة من مراحل سيره العلمي والسلوكي عن هذين المفهومين، فمنذ أول كتاب ولآخر كتاب تجد المعرفة والحاكمية حاكمة على بيانه، فكان همه الأكبر الذي يعيشه كما قال تلميذه الشيخ جوادي آملي في كتابه “الإمام الخميني ثورة العشق الإلهي”: “إن أكثر ما كان يؤذي الإمام الخميني رؤيته أحكام الله عز وجل لا تطبق في الأرض”. فهذا النص من تلميذ مقرّب من تلامذة الإمام الخميني يوضح لنا مدى محورية الحاكمية الإلهية في منظومته المعرفية. وسنحاول في هذه الورقة أن نقف على بعض الخطوات التي تميزت بها هذه المنظومة المعرفية عن غيرها من المنظومات المعرفية.
الفقه من أداة بيد الحاكم إلى أداة يضرب بها الحاكم:
عندما نراجع مسيرة الفقه التاريخية كأحكام شرعية منذ زمن النبي (ص)، وما تلاه من أزمنة وإلى زماننا الحاضر، نجد أن الفقه مرّ بمجموعة من الأدوار التوظيفية والتي تختلف من دور إلى دور، ومن زمان إلى زمان، وهذه الأدوار منشؤها الطريقة التي وظّف بها الفقه والأهداف التي تمّ تحقيقها من خلال هذا التوظيف. وهذا التوظيف ينشأ من المكانة التي يتمتع بها الفقه في الفكر الديني والتي أعطته القدرة على المحركية، فللفقه القدرة على تحريك المجتمع المؤمن وتوجيهه نحو وجهة معينة يحدّدها من يقوم بتوظيف هذا الفقه، فقد يوظف الفقه في تحريك المجتمع نحو الأهداف التي حددتها الشريعة، وقد يوظف توظيفًا عكسيًّا فيحرّك المجتمع نحو أهداف مضادة للأهداف التي حددتها الشريعة، وهذه القدرة جعلت من الفقه سلاح ذو حدّين، كما سيتضح معنا من خلال بيان بعض الأدوار التاريخية التي مر بها التوظيف الفقهي.
لا شكّ أن أول أدوار الفقه الإسلامي هو الدور النبوي في زمن رسول الله (ص)، وفي هذه الفترة كانت محركية الفقه تستثمر في تحقيق الأهداف العليا للشريعة الإسلامية، وهي ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿لَقَد أَرسَلنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ لِيَقومَ النّاسُ بِالقِسطِ﴾[2]. وبقوله تعالى: ﴿وَنُريدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ استُضعِفوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارِثينَ﴾[3]. فقيام الناس بالقسط، والمن على المستضعفين وجعلهم أئمة، وهذا ما يمكن أن نعبّر بتغيير المعادلة الاجتماعية، هي من الأهداف العليا للشرائع السماوية عامة، وقيام الناس يعني تحريكهم نحو هذه الأهداف، ولا بدّ هنا من محرك يحرّكهم ويدفعهم لتحقيقها، وهذا ما يقوم به الحكم الشرعي الذي له قدرة التحريك وقدرة التسكين في نفس الوقت؛ ففي الفترة المكّية سكن المسلمون بسبب الأحكام الشرعية في تلك الفترة، وفي الفترة المدنية تحرك المسلمون وجاهدوا وعملوا وحقّقوا ما حققوه من إنجازات أيضًا بسبب الأحكام الشرعية. ولكن الحكم الشرعي في زمن الرسول (ص)، كان يقوم بدوره الذي رسمته له السماء على أكمل وجه. فعندما قال تعالى: ﴿وَما لَكُم لا تُقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّهِ وَالمُستَضعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالوِلدانِ الَّذينَ يَقولونَ رَبَّنا أَخرِجنا مِن هذِهِ القَريَةِ الظّالِمِ أَهلُها وَاجعَل لَنا مِن لَدُنكَ وَلِيًّا وَاجعَل لَنا مِن لَدُنكَ نَصيرًا﴾[4]، انطلق المسلمون نحو تحقيق هذا الهدف وتأدية هذا التكليف بنصرة المستضعفين، حتى أن القرآن الكريم يحدّثنا في تلك الفترة عن مستوى تفاعل المسلمين مع التكاليف الإلهية آنذاك بقوله تعالى: ﴿وَلا عَلَى الَّذينَ إِذا ما أَتَوكَ لِتَحمِلَهُم قُلتَ لا أَجِدُ ما أَحمِلُكُم عَلَيهِ﴾[5]. وهذا تعذير شرعي من قبل النبي (ص)، ﴿تَوَلَّوا وَأَعيُنُهُم تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدوا ما يُنفِقونَ﴾[6]. وهذا يبين لنا ما وصل إليه المسلمون في هذه الفترة من تأثّر بالحكم الشرعي، وبلغ التفاعل بهم مستوى صار عندهم التنجيز أحب بمراتب من التعذير، واستطاع المسلمون بهذه الهمة العالية أن يحقّقوا الكثير من أهداف الشريعة ببركة توجيه النبي (ص) لهذه المحرّكية الوجهة الصحيحة.
بعد انتهاء المرحلة النبوية والدور النبوي، بدأ دور جديد من أدوار التوظيف الفقهي وهو دور الخلفاء الذين أبقوا على هذا التفاعل، وهذه المحركية للحكم الشرعي في نفوس المسلمين، ولكنهم استطاعوا أن يغيروا وجهة هذه المحركية بما ينسجم مع المشروع الجديد، فبعد أن كان الحكم الشرعي يحرّك المجتمع الإسلامي نحو تحقيق أهداف الشريعة، صار الحكم الشرعي يحرّك المجتمع الإسلامي نحو تحقيق أهداف الخليفة، وبدأت هذه المرحلة مع حادثة مالك بن نويرة وبدايات الحروب التي سميت بحروب الردة، والتي اختلف حولها نفس الخلفاء، فعارضها عمر بن الخطاب ولم يكن متحمّسًا لها، كما تذكر كتب التاريخ، مما جعل أبو بكر المتحمّس لهذه الحروب يستغرب من هذا الموقف ويقول لعمر: جبار في الجاهلية خوار في الإسلام. فلم يرَ أبو بكر في عمر الحماسة التي كانت عنده تجاه هذه الحروب. واستمرت عملية التوظيف الفقهي في تحقيق أهداف الخليفة، وأخذت تزداد وتتعقّد شيئًا فشيئًا حتى وصل الأمر إلى إشعال الحروب الداخلية في العالم الإسلامي كحرب الجمل وصفين التي شنّت بذريعة المطالبة بتطبيق الحكم الشرعي بمن قتل عثمان بن عفان. واستمر الحال وتعقّد أكثر حتى وصل الأمر إلى القول المعروف والمشهور: الحسين قتل بسيف جده وهو الحكم الشرعي. وبقيت هذه الظاهرة ممتدة لمئات السنين مع الدولة الأموية والدولة العباسية.
فبعد أن كان الحكم الشرعي أداة لتحقيق القسط والعدل ومحاربة الطاغوت، أصبح أداة لتبرير الظلم والفساد والطغيان وتحقيق أهداف الطاغوت، وهذا ما يشهده المتتبع للتاريخ الإسلامي على مدى قرون، فالحكّام استطاعوا ومن خلال علماء البلاط ووعّاظ السلاطين من جعل الحكم الشرعي أداة بيد الحاكم بها يقوم بتصفية خصومه ومعارضيه، وإسكات الناس عن ظلمه وطغيانه وجبروته، فصار الخروج على الحاكم الظالم بدعة، وخروج على من أمر الله بطاعته، وهو حرام كحرمة الميتة والدم ولحم الخنزير، والصبر على ظلمه واجب كوجوب الصلاة والصيام.
هذا المشهد المعقّد والمشوّه هو مشهد الحكم الشرعي في الوسط السني، وأما في الوسط الشيعي فلم يصل المشهد إلى هذا المستوى من التعقيد والتشويه، وذلك بسبب الجهود التي بذلها أئمة أهل البيت (ع) للإبقاء على وعي الأمة، والمنع دون وصوله إلى المستويات المتردّية من الوعي التي وصفها رسول الله (ص) في الحديث الوارد عنه: كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟….. كيف بكم إذا نهيتم عن المعروف وأمرتم بالمنكر؟….. كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا؟ فهذا الحديث يصف مستويات التردّي التي سيصل لها وعي الأمة على المستوى المعرفي النظري والسلوكي العملي. فأتباع أهل البيت على مدى القرون بقي وعيهم بالظلم والطغيان، ولم ينساقوا مع المشاريع التي أدّت إلى أن تصل الأمة إلى هذه المستويات من التردّي في الوعي، فبقوا رافضين لكل أشكال الظلم والفساد والاستبداد عند الحاكم، وقدّموا تضحيات كثيرة وكبيرة من أجل محاربة هذا الظلم والطغيان.
ولكن بعدما انقطع الاتصال المباشر بين الشيعة وأئمة أهل البيت (ع) في زمن الغيبة الكبرى، بدأ الوضع في الوسط الشيعي، وبسبب الضغوطات الاجتماعية والسياسية التي واجهها أتباع أئمة أهل البيت، يتراجع شيئًا فشيئًا، ولكنه لم يصل إلى مستوى التبرير للحاكم والطاغية بواسطة الحكم الشرعي. بل أخذ بنحو آخر من الانحدار؛ وهو إخراج المجتمع الشيعي من ساحة المواجهة الميدانية المباشرة مع الطغيان. فصار الفقه والحكم الشرعي أداة لإبعاد الناس عن المواجهة والمعارضة المباشرة، والضغط على الحاكم تحت شعار التقية المكثفة، فصار الشيعي يعي الظلم والفساد، ويرفض الظلم والفساد، ولكنه رفض أنفسي لا رفض آفاقي، فصار الرفض حالة نفسية يعيشها الإنسان لكن لا تجد لها آثارًا ميدانية عملية بمستوى المواجهة المطلوبة إلا في بعض الحالات والظروف ومع بعض العلماء، فقد شهد تاريخ التشيّع خصوصًا في الفترة المعاصرة بعض الحركات مع الأخوند الخرساني، والمجدّد الشيرازي، والميرزا النائيني مثل حركة المشروطة والمستبدة وثورة التنباك وغيرها، ولكن هذا التحرّك لم يكن يرقى إلى مستوى المواجهة وتغيير المشهد الفقهي العام،كما شهدناه مع الإمام الخميني.
مع الإمام الخميني نجد أن الوضع يتغير، فقد استطاع أن يصنع مشهده الفقهي الخاص، والذي طغى على المشهد الفقهي العام في الوسط الشيعي، فقد استطاع من خلال منظومته المعرفية أن يعيد للفقه توازنه، وبعد أن ابتعد الفقه عن حاكمية الله تعالى وهي مركز الثقل في الفقه الإسلامي، وتقلصت بسبب هذا الابتعاد فكرة الحاكمية الإلهية عبر التاريخ حتى انزوت عن المشهد الفقهي، واختل بهذا الانزواء توازن المنظومة المعرفية الدينية التي أسّسها النبي (ص). أعاد الإمام الخميني فكرة الحاكمية الإلهية لتكون لها المركزية في هذه المنظومة الفقهية، وعاد مع عودة هذه الفكرة الفقه الشرعي ليكون الأداة التي بها يحارب الظلم والفساد والاستكبار، وبها يطرد الحاكم المستبد، وبها يدافع عن المستضعف ليأخذ له الحق. وعاد الفقه ينادي بندائه الأصيل إن الحكم إلا لله ليقضّ بهذا النداء مضاجع الطواغيت. واستطاعت هذا المنظومة الفقهية أن تحقّق حلم الأنبياء، وتعيد للمستضعفين الأمل، وتحيي في داخلهم جذوة الحماسة التي أشعلها القرآن الكريم، وعاد النداء القرآني مدويًّا ويتردّد صداه في جميع أنحاء العالم الإسلامي عمومًا والشيعي خصوصًا ﴿وَما لَكُم لا تُقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّهِ وَالمُستَضعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالوِلدانِ الَّذينَ يَقولونَ رَبَّنا أَخرِجنا مِن هذِهِ القَريَةِ الظّالِمِ أَهلُها وَاجعَل لَنا مِن لَدُنكَ وَلِيًّا وَاجعَل لَنا مِن لَدُنكَ نَصيرًا﴾[7]. فأوجد هذا النداء صحوة إسلامية جديدة كالصحوة التي أوجدها رسول الله (ص)، وتكسرت على أعتابها مشاريع الكفر والأحزاب. وصرنا نشهد ثمرات الاستجابة لهذا النداء من قبل أبناء الأمة، وصرنا نشهد مشاريع الاستكبار العالمي تتكسر واحدًا تلو الآخر على دكّة هذه الصحوة الإسلامية العظيمة.
الفقه من التنظير إلى التطبيق:
من الأمور التي تتميز بها المنظومة الفقهية للإمام الخميني عن الفكر الفقهي السائد، أن الفقه في هذه المنظومة عملي تطبيقي أكثر منه نظري، لم يقتصر الإمام الخميني في منظومته المعرفية على البحث والتأصيل النظري فقط، بل عمل وبشكل أكيد وجدّي على تطبيق ما يؤصّل له نظريًّا وتنزيله إلى أرض الواقع، ويتحول البحث الفقهي من فكرة في بطون الكتب إلى واقع يعيشه الناس، وهذا خلاف ما هو مألوف في الفقه السائد، فما يطرحه العلماء في مباحثهم الفقهية ويثبتونه بالأدلة الشرعية من المسائل الفقهية لا تجد في قبال هذا الطرح سعي فعليّ من قبل العلماء لتطبيق ما أثبتوه في بحوثهم النظرية. فمثلًا من الأبحاث المعروفة في الفقه بحث القضاء، ويثبت في هذا البحث أن القضاء داخل ضمن دائرة الولاية الخاصة للفقيه؛ فللفقيه ولاية القضاء حتى مع عدم ثبوت الولاية العامة للفقيه تثبت له ولاية القضاء، وهذا مما يتفق عليه أكثر الفقهاء، لكن لا ترى على أرض الواقع الفقيه يمارس هذه الولاية، ولا حتى يسعى سعي جدّي لتفعيل دور الفقيه في هذا المجال الحيوي والمهم على أرض الواقع. فتراهم يعقدون البحوث، ويسوّدون مئات بل آلاف الصفحات، ويناقشون عشرات الأدلة لإثبات هذه المسألة، وإثبات أنها من صلاحيات الفقيه الجامع للشرائط، ويثبتون حرمة قضاء غير المجتهد إلا بإذن المجتهد، وفي قبال كل هذا الجهد النظري المبذول لا تجد جهد عمل يذكر، فلا تجد برنامجًا عمليًّا على أرض الواقع يسعى وبشكل جدّي لتطبيق هذه القضية على أرض الواقع، فترك المجال واسعًا قديمًا لحكّام الظلم والجور ليسيروا حركة القضاء بما ينسجم مع توجّهاتهم وآرائهم الفاسدة، وحديثًا فالأمر أدهى وأمرّ، فقد ترك المجال واسعًا للقانون الوضعي وللمحاكم الوضعية لملء هذا الفراغ في حياة الناس، ويكون القانون الوضعي هو الحاكم في هذا المجال الحيوي والحسّاس والخطير، ومع ما يشاهد من ضياع الكثير من الحقوق بسبب هذا القانون وهذه المحاكم، ومن أبرز الحقوق التي ضيعت حق الله الأكبر كما يقول الإمام السجاد (ع)، فلم نشهد حركة فعلية من قبل الفقهاء لمعارضة هذه المنظومة القضائية الوضعية. فنحن نؤمن نظريًّا بأن منظومة القضاء الوضعي لا تنسجم مع الشريعة، وأن التحاكم لها من مصاديق التحاكم للطاغوت، وأن الحق المأخوذ بحكمها هو سحت وإن كان الأخذ هو صاحب الحق، ولكن عمليًّا يلجأ الناس إليها لعدم وجود البديل الشرعي.
وكذا ما يقال عن نظرية ولاية الفقيه المطلقة، وأنها طرحت من قبل الشيخ أحمد النراقي صاحب كتاب “مستند الشيعة”، وتبنّاها من بعده مجموعة من الفقهاء من أبرزهم الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب “جواهر الكلام”، والذي قال في كتابه المذكور كلمته المشهورة: من لم يقل بولاية الفقيه المطلقة لم يذق طعم الفقه. ولكن المفارقة هي أننا لم نجد من العلماء من سعى وبشكل جدّي لتطبيق هذه النظرية على أرض الواقع. فبقيت كغيرها من النظريات الفقهية تعيش في مطاوي الكتب لا يعرفها إلا المتخصّصون، ولا ينعم في ظلّها أحد من الناس. لكن من المنظومة الفقهية للإمام الخميني نجد أن السعي العملي لتطبيق النظرية الفقهية لا يقلّ أهمية عن البحث النظري التأصيلي الإثباتي لها. فكان فقهه فقه تطبيقي عملاني، ولم يقتصر على التأسيس النظري كما هو الوضع السائد في الوسط الفقهي الشيعي. وهذا يعتبر من أهم معالم التوازن الفقهي في هذه المنظومة المعرفية؛ لأن الشريعة أنزلت بهدف تحقيق الحاكمية الإلهية على أرض الواقع، ولكي ينعم الناس بهذه الحاكمية لا لإثباتها نظريًّا بالدليل فقط. فكلّما ابتعد الفقه عن التطبيق ابتعد عن المركز، وهنا يختل التوازن فيه، وهنا يختل التوازن في المنظومة الفقهية السائدة. فقد استطاع الإمام الخميني أن يعيد للفقه التوازن من خلال تفعيل الجانب التطبيقي فيه، ليشهد الناس تجلّيات النظريات الفقهية على أرض الواقع المعاش، وهنا يكون الفقه قد حقّق الهدف الأصلي له.
كانت هذه من الخطوات التي حقّقها الإمام الخميني في مجال الفقه، ليقدّم من خلالها منظومة معرفية فقهية متوازنة ومنسجمة مع روح الشريعة، أما في مجال المعرفة العرفانية فكانت له خطواته التي تميزت بها منظومته العرفانية، والتي لا تقل أهمية عن هذه الخطوات التي حققها في مجال المعرفة الفقهية، وسنحاول التوقّف عند بعضها.
العرفان من العزلة إلى الميدان:
العرفان كغيره من العلوم الوافدة التي وفدت إلى العالم الإسلامي، وأخذت موقعها في داخل منظومة الفكر الديني من خلال عملية التبيئة والتأصيل الفكري، فصار علم العرفان في شقّيه العملي والنظري جزء من هذه المنظومة، وهذا أيضًا ما شهده الفكر الفلسفي عندما وفد إلى العالم الإسلامي فقد خضع لنفس العملية، حتى صار جزءًا أصيلًا في هذه المنظومة، وانصبغ كل من العلمين بصبغة هذه المنظومة حتى صار عندنا فلسفة إسلامية لها هويتها التي تتميز بها عن سائر المذاهب والمدارس الفلسفية، وكذلك صار عندنا عرفان إسلامي، وقد يخصّص البعض المسألة مع العرفان فيعطيه خصوصية إضافية من خلال التعبير بالعرفان الشيعي، وإن كانت هذه العبارة قابلة للتأمّل، وهذا بخلاف الفكر الفلسفي، فلم يُعطَ هذه النحو من الخصوصية الزائدة على الخصوصية الإسلامية للفلسفة على الرغم من ما قدمه علماء الشيعة من إضافات للفلسفة، وتطوير للفكر الفلسفي خصوصًا مع مدرسة الحكمة المتعالية، فلم نسمع على حد علمي بمصطلح الفلسفة الشيعية.
عندما ندخل إلى المجال العرفاني نجد فيه مجموعة من الخصوصيات التي تميزه عن العلوم التي قد تشترك معه في بعض المواضيع كعلمي الفلسفة والكلام والأخلاق، وتعطيه هويته العلمية، ومن بين هذه الخصوصيات خصوصية بارزة وهي الميل إلى الوحدة والابتعاد عن الكثرات سواء في المجال النظري أو العملي، ومن هنا تجد العارف يميل إلى الوحدة والعزلة في منهجه السلوكي، وهذا نابع من فكرة أصيلة في هذا العلم، وهي أن الكثرة حجاب يحجب العارف عن شهود الوحدة إلا في المقامات العالية من السلوك، مثل مقام الصحو بعد المحو الذي يشهد في العارف الكثرة في عين الوحدة وغير حاجبة له عنها، فقبل أن يصل العارف إلى هذه المقامات يتجنّب الكثرة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وبناء على هذه الفكرة اختط علماء العرفان لأنفسهم طريقًا يبتعد بهم عن الكثرات، فيندر أن تجد عارفًا يميل إلى الانشغال بالكثرات والتي من أبرزها عالم المادة والخلق، والانشغال بالميدان الاجتماعي وخصوصًا المجال السياسي، فأكثر ما يقتصر عليه العرفاء هو تربية المريدين من خلال الدرس والتدريس والكتابة، وحتى في كتابتهم يميلون إلى المنهج الإشاري لتجنب الذين هم ليسو من أهل هذا المسلك.
مع الإمام الخميني (قده) نرى مسلكًا جديدًا يغاير المسلك السائد في علم العرفان، ترى العارف لا يفارق ميدان العمل الاجتماعي والسياسي، يحمل هم الكثرة كما يحمل هم الوحدة، يعيش الكثرة بدون أن يحتجب عن الوحدة، وهذا هو عرفان الأنبياء الذين تكلم عنهم القرآن الكريم، والذين لم يفارقوا ميدان العمل الاجتماعي والسياسي حتى فارقوا الدنيا مع أنهم كانوا يعشقون الوحدة كما ورد عن رسول الله (ص) قوله: لولا أمر الله لصرفت وجهي إلى السماء ولا أرده حتى يأذن الله بذلك. وكذلك قول أمير المؤمنين (ع): لولا العهد الذي أخذ على العلماء لألقيت حبلها على غاربها ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز. كان الأنبياء وهم سادة العرفاء يواجهون الطواغيت ويدعون الناس إلى مواجهتهم ويعيشون هم الدفاع عن المستضعفين، وقد بينوا أن محاربة الطواغيت والدفاع عن المستضعفين محور أصيل من محاور الدين الإلهي الحق، ولا يقل أهمية عن العبادة كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَد بَعَثنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسولًا أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ وَاجتَنِبُوا الطّاغوتَ فَمِنهُم مَن هَدَى اللَّهُ وَمِنهُم مَن حَقَّت عَلَيهِ الضَّلالَةُ فَسيروا فِي الأَرضِ فَانظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبينَ﴾[8]. فمحاربة الطاغوت هي من التعاليم الرئيسية لجميع الأنبياء، وربطت الآية الهداية الحقيقية بتطبيق هذه التعاليم الإلهية عبادة الله ومحاربة الطاغوت، ومن غفل عن هذا التكليف فهذه الغفلة شعبة من شعب الضلال، وهناك آيات كثيرة في نفس السياق تتكلم عن موقعية ومركزية محاربة الطاغوت في المنظومة الدينية في جانبها المعرفي وجانبها السلوكي؛ لأنها المقدمة الأساسية لإقامة القسط الذي هو الهدف الأعلى لبعثة الأنبياء.
من هنا، يتضح أن العرفان الذي يتبع الرؤية التي تنأى به عن الكثرة والتوجه للكثرة والعمل الاجتماعي والسياسي، ويغرق الإنسان في حالة من العزلة الواقعية أو العزلة الأنفسية ليرى من خلال هذا المسلك أن الانشغال بالعمل الاجتماعي والسياسي هو انشغال يبعده عن الهدف الأصلي الذي خلق من أجله الإنسان، هذا المسلك بعيد عن روح العرفان النبوي الأصيل، وبعيد عن مركز الثقل في هذه الشريعة. وهنا يكمن الخلل في التوازن في هذه الدائرة المعرفية، والذي سعى الإمام الخميني لتجاوزه وإعادة التوازن لهذا المجال المعرفي المهم، ليكون منسجمًا مع روح الشريعة ومع مجالاتها المعرفية الأخرى التي تتحرك جميعًا وبنحو واحد لتحقيق الأهداف العليا للشريعة؛ معرفة الله وعبادته وتحقيق حاكميته على الأرض.
من هنا نعرف أن العرفان الذي أصّل له الإمام الخميني (قده) هو العرفان النبوي الأصيل الذي يسعى إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور من خلال رفع الموانع الكبرى التي تعيق حركة الخلق السلوكية نحو الحق المتعالي، ومن أكبر هذه الموانع هم الطواغيت وأولياء الشيطان، فقد أعاد من خلال مسلكه العرفاني التوازن لعلم العرفان من خلال العمل على إحياء التوحيد العملي وتحويله إلى ظاهرة اجتماعية عامة يؤمن معها المجتمع بحاكمية الله تعالى، ويعمل على إحياء هذه الحاكمية حتى ولو كلّفه هذا العمل التضحيات الجسام، فعرفان الإمام الخميني هو عرفان ميدان لا عرفان عزلة.
تسخير المفاهيم العرفانية في توليد محركية فقهية:
استطاع الإمام الخميني (قده) ومن خلال منهجه الذي يربط فيه بين العلوم جميعًا، ويسخرها في خدمة الهدف الأعلى وهو إحياء التوحيد العملي، ومن أبرز مظاهره إحياء الحاكمية الإلهية كما قال في مقدّمة كتابه “جنود العقل والجهل” أن العلوم تقسم في عرف العلماء إلى علوم ذاتية وعلوم آلية، والذاتية هي العلوم التي تقصد لنفسها، وآلية التي تقصد لغيرها. وهنا قال هو مبينًا رأيه في المسألة، وأما في نظري القاصر فلا توجد علوم ذاتية تقصد لذاتها بل جميع العلوم هي آلية يقصد بها الوصول إلى الله تعالى فهو فقط الذي يقصد لذاته. استطاع أن يسخر المفاهيم العرفانية والسلوكية العالية لتوليد محركية عالية يستطيع من خلالها تحريك الجماهير نحو تحقيق الهدف الأعلى وإقامة الدولة الإسلامية، وهذا يعرب عن قدرته على دمج المفاهيم من شتى العلوم وتسخيرها لخدمة الهدف، والذي يعتبر هو مركز التوازن في الشرائع السماوية. فعندما نتأمّل في الفكرة الأم للإمام الخميني (قده) وهي فكرة الحكومة الإسلامية، نجد أن هذه الفكرة وإن كانت في أصل تكوينها المعرفي فكرة فقهية تنتمي إلى مجال الفقه السياسي الذي أعاد له الإمام الخميني (قده) الحياة والحضور في أوساط العالم الإسلامي وبقوة، لكنها في المنظومة الفكرية للإمام الخميني (قده) ارتبطت بالتوحيد ارتباطًا وثيقًا من جهة أنها من شعب التوحيد التشريعي والذي هو من مباحث التوحيد الأفعالي، ومن جهة أخرى ارتبطت بالإمامة بنفس النحو من الارتباط بما أنها امتداد لولاية الأئمة عليهم السلام التي هي من مظاهر الولاية الإلهية. ولذلك قرن القرآن الكريم في آياته وبشكل أكيد بين الإيمان بالله والإيمان بالشرائع، وبين إقامة الدولة الإلهية العادلة واجتناب الطاغوت وجعل التحاكم للطاغوت دليل على عدم الإيمان بالله والشرائع السماوية ﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذينَ يَزعُمونَ أَنَّهُم آمَنوا بِما أُنزِلَ إِلَيكَ وَما أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُريدونَ أَن يَتَحاكَموا إِلَى الطّاغوتِ وَقَد أُمِروا أَن يَكفُروا بِهِ وَيُريدُ الشَّيطانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلالًا بَعيدًا﴾[9]. وفي نفس السياق قال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنونَ حَتّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمّا قَضَيتَ وَيُسَلِّموا تَسليمًا﴾[10]. وجعل الحكم بغير ما أنزل الله تعالى من مصاديق الكفر والظلم والفسق الجلي ﴿وَمَن لَم يَحكُم بِما أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرونَ﴾[11]. ﴿وَمَن لَم يَحكُم بِما أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ﴾[12]. ﴿وَمَن لَم يَحكُم بِما أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾[13]. فهذه الآيات وآيات أخرى تشير إلى أن الإيمان الحقيقي لا يتحقّق إلا بإقامة الحاكمية الإلهية والكفر بالجبت والطاغوت وهي حاكمية غير الله تعالى، ولا شكّ أن الإيمان الحقيقي هو أول مراتب العرفان والسلوك إلى الله تعالى، فكيف لصاحب المسلك العرفاني أن يغفل هذه الحقيقة، ويعيش حالة العزلة مع ما يشهده العالم من ظلم وفساد على يد الطواغيت والمستكبرين.
فالإمام الخميني (قده) أصل لمنهج عرفاني من أولوياته العمل على إقامة الحاكمية الإلهية في الأرض، فمن يتتبع الخطابات السياسية له يجدها مشحونة بالمفاهيم العرفانية التوحيدية، وقد استطاع ومن خلال هذا المسلك أن يجذب الشباب المؤمن ويشعل فيهم الجذوة الروحانية، ويعيد بهذا الإحياء ما صنعه رسول الله (ص) في الناس في زمانه من إشعال جذوة الروح وتحريك الناس من خلال هذه الطاقة الروحانية نحو تحقيق الأهداف العليا حتى صار الموت من أجل الهدف أقصى ما يسعى إليه المؤمن فكما في عهد رسول الله (ص) صار الناس يعشقون الهدف ويفضّلون المنجزية على المعذرية، فعندما عذّرهم النبي (ص) عن الجهاد عادوا وأعينهم تفيض من الدمع، كذلك مع الإمام الخميني (قده) شهدنا هذا المستوى من العشق للهدف والمحركية مع أتباعه ومريديه، فقد كانت ميادين المواجهة والاستشهاد تضج بعشقهم وروحانيتهم واستعدادهم للتضحية من أجل الأهداف العليا للشريعة الإلهية، وبهذا حقق التوازن في منظومته المعرفية بين الفكر الفقهي والفكر العرفاني من خلال إعادة تقريب هذه العلوم لمركز الثقل في الإسلام، وهو معرفة الله عز وجل وتحقيق حاكميته في أرضه، وكذلك حقق التوازن بين الفقه والعرفان من خلال الدمج بين المفاهيم الفقهية والعرفانية وتحويلها إلى مسلك إسلامي أصيل يسعى إلى إقامة الدين وإحياء دوره في الحياة الاجتماعية، وقد استطاع أن يحقق ما كان يسعى إلى تحقيقه بحكمة وحنكة.
الهوامش:
[1] سورة النساء، الآية 65.
[2] سورة الحديد، الآية 25.
[3] سورة القصص، الآية 5.
[4] سورة النساء، الآية 75.
[5] سورة التوبة، الآية 92.
[6] سورة التوبة، الآية 92.
[7] سورة النساء، الآية 75.
[8] سورة النحل، الآية 36.
[9] سورة النساء، الآية 60.
[10] سورة النساء، الاية 65.
[11] سورة المائدة، الآية 44.
[12] سورة المائدة، الآية 45.
[13] سورة المائدة، الآية 47.
____________________________
*نقلًا عن “المعارف الحكمية – معهد الدراسات الدينية والفلسفية”.