قيمة المعرفة : استطلاعات في الموقف الكانطي
مازن المطوري
تسلّط هذه المقالة الضوء على واحدة من أهم خصائص المنظومة المعرفية الكانطية، عنينا بها تلك المتعلقة بالمعرفة ومنزلتها في تلك المنظومة.
يسعى الباحث العراقي مازن المطوري إلى تأصيل قيمة المعرفة انطلاقاً من قراءاته لموقف إيمانويل كانط في هذا الصدد، حيث يبني الأخير نظريته في المعرفة على خلاف ما ذهب إليه سلفه رينيه ديكارت في اعتبار الشك أساساً منهجياً بلوغ المعرفة.
المحرر
لعلّي لا أكون مجانباً للصواب إذا قلت إننا لا نحتاج إلى التعريف بأهمية بحث قيمة المعرفة. ذلك أن أهمية هذا البحث قد تأكّدت للكثيرين بفعل التطورات الكبيرة والمتسارعة التي حدثت في مجالات مختلفة، ومن ثمَّ صار البحث عن إمكان وعدم إمكان أن نتواصل عبر العلوم والأفكار والمدركات المختلفة إلى واقع خلف الذهن، وعن إمكان الوثوق بمعارفنا وقيمة كشفها عن الخارج. وهو أمرٌ لا تخفى أهميته على عامة الباحثين في الميتافيزيقيا والابستمولوجيا وعلوم وميادين أخرى.
بناءً على ذلك، فالحري بنا الدخول إلى صلب البحث دون الوقوف للحديث عن قيمة المعرفة والتعريف بطبيعة البحث وأهميته. أعني التوفّر على جوهر الموقف الكانطي والإحاطة بسياقاته ومعالجاته، مع تسجيل النقد والملاحظات عليه إن وجدت.
ومن نافلة القول إننا لا نتمكن من فهم رؤية عمانوئيل كانط (1724 – 1804) في قيمة المعرفة والإحاطة بجوانبها المختلفة دون الوقوف على السياق الذي صدر فيه كانط وورد من خلاله ميدان البحث، ذلك أن كانط لم يأت ليطرح مجموعة من الأفكار والمقولات عن المعرفة البشرية وقيمتها مجردة عن التطورات التي طالت دنيا الأفكار والعلوم في القارة الأوربية، وإنما نظر كانط في الأساس وكما قرر هو ذاته إلى تلكم التطورات العلمية التي حدثت بشكل لافت في جغرافيا الغرب.
وفي الواقع إن الحديث عن ملاحقة السياق لا يقتصر على الفيلسوف الألماني كانط وإنما غالب التحولات الفكرية، وفي مجالات شتى في الحاضرة المعرفية الغربية، مدينة للنهضة والثورة العلمية التي قادها الفيلسوف والرياضي الفلكي نيكولاس كوبرنيكوس (1473 – 1543) واستمر فيها عالم الفيزياء إسحاق نيوتن (1643 – 1727)، فالكثير من أفكار فلاسفة الغرب ومنهم كانط تعبّر عن استجابة للثورة العلمية التي قادها واستمر فيها كل من كوبرنيكوس ونيوتن، فقد أقام كانط مشروعه الفلسفي على أساس ذلك التحول الكبير الذي شهدته أوربا بعد إطلالة نظريات كوبرنيكوس الكونية.
وعلى أساس ذلك فحتى نتمكن من فهم الموقف المعرفي الكانطي في قيمة المعرفة نحتاج إلى إطلالة على الثورة الكوبرنيكوسية في مجال الكونيات، ذلك أن كانط ابتغى النجاح للميتافيزيقيا واستمرارها كما نجحت واستمرت العلوم الطبيعية بفضل جهود كوبرنيكوس، نعم فلقد أراد كانط للميتافيزيقيا أن تكون علماً على غرار العلم الطبيعي الميدان الذي مارس فيه كوبرنيكوس أبحاثه، فأحدث انقلاباً نوعياً تمخّضت عنه تداعيات مختلفة ونتائج متنوعة.
ثورة كوبرنيكوس
مثّل التخلّي عن نظرية بطليموس (367 – 283 ق.م) في كتاب المجسطي الخطوة الأولى والمهمّة في تطور وتحول العلوم الطبيعية في أوربا بعد العصور الوسطى. ولكن ما هو مفاد نظرية بطليموس وما هو مدلول نظرية كوبرنيكوس؟
لا نحتاج إلى كثير تخصّص في إيضاح ذلك بعد صيرورتهما ثقافة عامة يعرفها غالب المتعلّمين. كان بطليموس يرى مركزية الأرض بالنسبة إلى حركة الكواكب، فكان يفترض ثبات الأرض كمركز لحركة جميع الكواكب السيّارة حولها، فجوهر النظام البطليمي يقوم على أن شهادة الحواس تؤكد لنا ثبات الأرض ودوران الأجرام السماوية حولها.
ولكن برغم شهادة الحواس هذه بنظرة أولية فإن كوبرنيكوس رفض نظرية بطليموس، وقدم افتراضاً جديداً ينص على أن حركة الكواكب إذا فُسّرت على أساس مركزية الأرض فسوف تبدو لنا تلك الحركة معقدة، وينتج عن ذلك أن الرصد كلما ازداد دقة ازدادت حركة الكواكب تعقيداً. ومثل هذا التعقيد لا ينسجم مع البساطة التي تقوم عليها روح القوانين، فانطلق كوبرنيكوس من مبدأ البساطة هذا ليؤكد أن اعتبار أكبر الأجرام السماوية (الشمس) مركزاً لحركة الأفلاك يزيل جميع التعقيدات التي أورثتها نظرية بطليموس، بشكل يمكننا في ضوء هذا الافتراض تفسير ظواهر كونية مختلفة من قبيل حدوث الليل والنهار والفصول الأربعة وسائر الظواهر الفلكية والكونية الأخرى.
بناءً على ذلك وعلى الرغم من شهادة الحواس بدوران الكواكب حول الأرض، إلا أن التعقيدات التي تثيرها نظرية بطليموس تجعلنا نطوي صفحتها لنفترض أن الأرض وسائر الأجرام تدور حول الشمس أكبر الأجرام السماوية، ومثل هذا الافتراض يسمح لنا بتفسير الكثير من الظواهر العصية على التفسير في ضوء النظرية السابقة، وبعد هذه الخطوة تحقق كوبرنيكوس من الافتراض الجديد رياضياً فتأكدت صحته.
وفي نص لافت لكانط يتحدث فيه عن هذه الخطوة سجّل قائلاً: (ويشبه الوضع هنا ما انتهى إليه الأمر مع أفكار كوبرنيكوس الأولى الذي بعد أن وجد أن العلوم لم تكن تسير سيراً حسناً بالنسبة إلى تفسير التحركات السماوية حينما اعتقد أن جمهرة الكواكب هي التي تدور حول المشاهد، فجرّب أن يرى إن لم يكن لينجح نجاحاً أكبر لو أنه يجعل المشاهد يدور ويَدَع الكواكب وشأنها)[1].
وقد قادت نظرية كوبرنيكوس في مركزية الشمس بالنسبة إلى حركة الكواكب إلى حدوث ثورة عملية في طرائق التفكير، كما وأحدثت جدلاً واسعاً بشأنها منذ انبثاقها لأكثر من قرن من الزمان، حتى جاء التقدم العلمي على يد كلّ من غاليلو (1564 – 1642) وكبلر (1571 – 1630) ونيوتن ليمحي نظرية بطليموس نهائياً ويعزّز فرضية كوبرنيكوس، وقد جاء كلُّ ذلك مُعَزَّزاً بالاستدلال الرياضي.
لقد أراد كانط أن يجري المعادلة الكوبرنيكوسية في مجال الميتافيزيقيا والمعرفة، ذلك أن الافتراض السائد ومنذ سالف الزمان وحتى عصر كانط وكما يقرر هو نفسه، والذي ينص على أن المعرفة البشرية يجب أن تتطابق مع الموضوعات الخارجية لم يحظ بالقبول بسبب أن جميع المحاولات التي بذلت في سبيل تأكيد معرفة عن الخارج متطابقة معه قد باءت بالفشل كما يرى كانط، وعلى أساس ذلك أراد كانط أن يتقمّص الدور الكوبرنيكوسي من خلال افتراض أو تجريب أن الموضوعات الخارجية هي التي يجب أن تتطابق مع معرفتنا عنها، بشكل يمكننا التوصل إلى معرفة قبلية غير تجريبية بتلك الموضوعات وتحديدها قبل أن تُعطى لنا!
وبهذا الافتراض أراد كانط أن يطبّق طريقة كوبرنيكوس ويسير بسيرته التي أجراها الأخير في مجال الطبيعيات وحركة الكواكب، فيما أراد كانط أن يجريها في الميتافيزيقيا والابستمولوجيا، ومثل هذه الطريقة بإمكانها كما يعتقد كانط وضع أقدامنا على الطريق الصحيح للعلم، إذ يؤدي بنا إلى تفسير إمكان قيام المعرفة القبلية، ويساعد على إقامة البراهين على القوانين التي تسير في هديها الطبيعة بوصفها – أي الطبيعة- مجموع موضوعات التجربة. سجَّل كانط قائلاً:
“يمكننا أن نقوم في الميتافيزيقيا فيما يخص عيان الموضوعات بمحاولة بطريقة مشابهة، فإذا تحتم على العيان أن يتبع طبيعة الموضوعات، عندئذ لست أرى كيف يمكن أن يعرف عنها شيء ما قبلياً، بالمقابل إذا تبع الموضوع بوصفه موضوعاً للحواس طبيعة قدرتنا على العيان، فعندئذ يكون باستطاعتي أن أتصور هذه الإمكانية بكل سهولة، ولكن لما لم يكن بإمكاني التوقف عند هذه العيانات، بل عليَّ إذا أريد لها أن تكون معارف أن أربطها بوصفها تمثّلات في علاقة بأي شيء يكون موضوعاً لها، واُعيّن هذا الموضوع من طريق تلك التمثّلات أو العيان، فإنني أستطيع عندئذ إما أن أقر بأن المفاهيم التي أقوم بواسطتها بهذا التعين تتبع هي أيضاً الموضوع، وفي هذه الحالة سأجد نفسي من جديد في المأزق عينه، بالنظر إلى الطريقة التي يمكنني أن أعرف عنه أيَّ شيء قبلياً؛ أو أن أُقر بأن الموضوعات أو – الأمر سواء- أن التجربة التي لا تُعرف هذه الموضوعات بوصفها معطاة إلا فيها، هي التي تتبع هذه المفاهيم، عندئذ سيتبين لي على الفور مخرج أكثر سهولة، لأن التجربة هي نفسها نوع من المعرفة يتطلب الفهم، الذي عليَّ أن أفترض قاعدته فيَّ حتى قبل أن تعطى لي الموضوعات، وبالتالي قبلياً: قاعدة يعبّر عنها قبلياً بمفاهيم لا معها. أما في ما يتعلق بالموضوعات من حيث يمكن للعقل فقط أن يفكّر فيها، وذلك بطريقة ضرورية، ولكن من دون أن تكون معطاة في التجربة بأي شكل من الأشكال (على الأقل مثلما يفكر العقل فيها)، فإن محاولات التفكير فيها (إذ لا بدَّ مع ذلك أن يكون بالإمكان التفكير فيها) ستشكل في ما بعد محكّاً رائعاً لما نقبل به على أنه الطريقة المتغيّرة في نوعية التفكير، ألا وهي أننا لا نعرف قبلياً عن الأشياء إلا ما نضعه فيها نحن بأنفسنا[2].
ولكن كيف يمكننا ذلك؟ وما هي طبيعة وملامح المقاربة الكانطية؟ هذا ما سنتعرف عليه من خلال الحديث القادم.
قيمة المعرفة ونقد العقل
يبتني المنطقُ الكانطي على رفض الطريقة الديكارتية القاضية بالانطلاق من الشك كنقطة أوليّة في النقد المعرفي، ذلك أن ديكارت (1596 – 1650) كان قد قرَّر قبلاً لأجل بناء معرفي جديد وصحيح ضرورةَ تخليص العقل من كل المعارف التي احتضنها بين جنبيه في مرحلة سابقة على النقد، لغاية العمل على امتحانها وإعادة النظر فيها، ورأى ديكارت أن مثل ذلك يتحقق من خلال الابتداء بالشك المطلق في كلّ حقائق الوجود إلا حقيقة (الأنا) المفكّرة. أما كانط فرأى أن لا معنى للابتداء بالشك المطلق كأساس في إقامة كيان المعرفة البشرية.
على أساس ذلك يمكننا اعتبار فلسفة كانط وكثير من فلاسفة ألمانيا ردّة فعل فكرية عميقة ضد الأفكار التشكيكية ونزعات أمثال هيوم (1711 – 1776) اللاأدرية، وقد حاول كانط تنمية نوع جديد من الفلسفة يتوخّى فيها صيانة المعرفة والفضيلة معاً من المذاهب المخرّبة في أخريات القرن الثامن عشر[3].
رأى كانط أن التجربة هي نقطة البدء في كل ما لدينا من معارف، وذلك لأن الذي يقوم بعملية تنبيه للملكة العارفة الكامنة في نفوس البشر إنما هو الموضوعات الخارجية التي تؤثر على حواس الإنسان، فتبعث في قواه العاقلة النشاط، ومن المستحسن إثبات نصّه في هذا المجال حيث قرّر قائلاً:
«تبدأ كلُّ معرفتنا مع التجربة، ولا ريب في ذلك البتّة، لأن قدرتنا المعرفية لن تستيقظ إلى العمل إن لم يتم ذلك من خلال موضوعات تصدم حواسنا، فتسبّب من جهة حدوث التصورات تلقائياً، وتحرك من جهة أخرى نشاط الفهم عندنا إلى مقارنتها وربطها أو فصلها، وبالتالي إلى تحويل خام الانطباعات الحسية إلى معرفة بالموضوعات تسمى تجربة، إذن لا تتقدّم أي معرفة عندنا زمنياً على التجربة، بل معها تبدأ جميعاً»[4].
ولكن هذا لا يعني عند كانط أن كل معارف الإنسان مستخلصة بالضرورة من التجربة، بل توجد عند الإنسان معارف سابقة على التجربة وغير مرتبطة بالحس، تتمثّل في المعرفة الخالصة الأولية والتي لم يحصل عليها الإنسان من أية تجربة، فهي معارف ضرورية أولية ليس فيها مجال للظن والاحتمال، كما أنها فوق التحديد والتخصيص والاستثناء، فهي قضايا كلية، وهذه المعرفة متمثلة بصفة خاصة وفق اعتقاد كانط في الرياضيات.
ولا يرى كانط في ذات الوقت في هذه القضايا الأولية ما يؤدي إلى العلم أو المعرفة على الاطلاق، وإنما الأولي لا يقدم لنا معرفة إلا من حيث تجيء المعطيات الحسية، فتكون بمثابة مادة يركب منها التجربة، ويقدم لنا عن طريقها ما نسميه بالعلم. ومن ثمّ فإنها تعتبر شروطاً للمعرفة الحقيقية.
بذلك نكون قد أعطينا ملخّصاً للموقف الكانطي من المعرفة وقيمتها، وهو ما سوف نتبيّنه من خلال كتابه (نقد العقل المحض)، باعتماد ترجمتيه الحديثتين الموضوعتين من قبل الدكتور موسى وهبة وغانم هنا، على أن ننبه على أمرٍ:
إنَّ عامّة الباحثين والدارسين لنظرية كانط في المعرفة البشرية قد جروا على الإطلالة على تقسيم كانط للأحكام العقلية إلى تحليلية وتركيبية، والتركيبية إلى قبلية وبعدية، ثم الخوض في وجهة نظر كانط من خلال مفاصل ثلاثة: الميتافيزيقيا والرياضيات والطبيعيات كل على حدة[5]، إلا أننا نطوي صفحاً عن هذه الطريقة ونعمد إلى عرض نظرية كانط في المعرفة بصورة عامة من دون مسايرة التقسيم المعهود، ثم نستخلص نتائج كانط في هذه الأبواب المعرفية الثلاثة.
نقد العقل المحض
اعتبر كانط السؤال عن طبيعة المعرفة البشرية وقمتها وحدودها وعلاقتها بالوجود، أمراً ضرورياً لكل من يريد استخدام العقل في اكتساب أية معرفة من المعارف، فإنه قبل الوثوق بأداة المعرفة والاعتماد عليها، لا بد لنا من امتحانها، ومن هنا كانت الفلسفة النقدية عند كانط تعبر في جوهرها عن طبيعة المعرفة البشرية، وهذا هو ما حاول فعله في كتابه (نقد العقل المحض).
وقد هدف كانط في هذا الكتاب إلى أن يبرهن على أنه برغم من أن لا شيء من معرفتنا يمكن أن يتعالى على التجربة، فإنها رغم هذا أولية في جزء منها، وليست مستدلة استدلالاً استقرائياً من التجربة. ومعنى نقد العقل: هو الفحص عن قدرة العقل بوجه عام، فيما يتعلق بكل المعارف التي يطمح إلى تحصيلها مستقلاً عن كل تجربة، والعقل المحض هو العقل وهو يفكر غير مستعين بالتجربة، فنقد العقل هو الفحص عن نظام الأسس القبلية ومقتضيات العلم السابقة، التي بفضلها تتم المعرفة العلمية.. لقد كان نقد العقل المحض، بحثاً في الميتافيزيقيا، لأنه بحث في نظرية المعرفة، وفيه يحاول بيان فساد كلا التيارين: النزعة العقلية والنزعة التجريبية[6].
رأى كانط أن الرأي الذي يقول إن المعرفة يجب أن تتطابق مع الواقع (موضوعها) يستلزم استمداد كلّ معرفة لدى الإنسان من تجربة الأشياء، أي لكان يجب أن تكون كل المعرفة لاحقة على التجربة (بعدية)، ولو كان الأمر بهذا الشاكلة فكيف نفسر إذن المعرفة القبلية السابقة على التجربة والتي نجدها في الرياضيات كما تقدم؟ بل لماذا لا نقلب الوضع وذلك بأن نقول إن الموضوعات هي التي يجب أن تتطابق مع طبيعة عقولنا؟ فإننا لو فعلنا ذلك أي لو قلنا بأن إدراك الموضوعات يجب أن يتم وفقاً لعقولنا، لأمكننا أن نفسر المبادئ العامة لمعرفتنا العلمية بِالكون، فإن هذه المبادئ ليست غير الشكول الذاتية لعقولنا، كما تحدد التجربة مقدماً، وبوصفها شكولاً ذاتية فإن من الممكن أن نعرفها بصرف النظر عن مضمون التجربة.
ويضيف كانط إن الموضوعات كما تعرفها التجربة هي فقط كما تظهر لنا، إنها ظواهر تتجلى لعقلنا، لكن لا يقصد من ذلك أنها مجرد أوهام، ولكن يقصد أنها المظاهر التي تتجلى لنا عليها الأشياء، فهناك إذن وراء الظاهرة أي الشيء كما يتجلى لنا، يوجد الشيء في ذاته الذي ليست الظاهرة غير كيفية تجلية في عقولنا، وإلا لانتهينا إلى هذه القضية المشوشة وهي أن ثمّ تجلياً دون أن يكون لشيء يتجلى، وإننا لا نعرف الأشياء في ذاتها ولكن فقط كما تظهر لنا:
“إن ما أردنا قوله إذاً هو أن كل عيانٍ لدينا ليس سوى تمثّل الظاهرة؛ أن الأشياء التي نعاينها ليست في ذاتها كما نعاينها، أن علاقاتها أيضاً ليست مكوَّنة في ذاتها كما تظهر لنا، وأننا إذا ما أزلنا بالفكر ذاتيتنا أو حتى فقط البُنية الذاتية للحواس بعامة فإن كل تكوينة الأشياء وكل علاقاتها في المكان والزمان سوف تزول، لا بل إن الزمان والمكان نفسهما سوف يزولان، ولا يمكنهما بوصفهما ظواهر أن يوجدا في ذاتهما، بل فينا فقط. أما ما قد يعتبر الشأن للموضوعات في ذاتها وبمعزل عن قابلية حساسيتنا للتأثّر، فيبقى مجهولاً تماماً من قبلنا، إننا لا نعرف سوى كيفية إدراكنا الحسي بها التي تخصّنا والتي يمكن ألا تكون بالضرورة لدى كل كائن، مع أنها يجب أن تكون لدى كل إنسان، وهي دون سواها ما يجب علينا أن ننظر فيه، المكان والزمان هما الصورتان المحضتان لها والإحساس بعامة هو مادتها، ولا يمكننا معرفتهما [أي المكان والزمان] إلا قبلياً، أي قبل أي إدراك حسي واقعي، ولهذا السبب يسمّيان عيانات محضة؛ وبالمقابل الإحساس هو في معرفتنا ما يجعلها تسمى معرفة بعدية، أي عياناً تجريبياً. تلك الصورتان مرتبطتان بحساسيتنا ارتباطاً ضرورياً بشكل مطلق، أياً كان النوع الذي يمكن أن تكون عليه إحساساتنا، وهذه يمكن أن تكون مختلفة جداً. وحتى لو كان بإمكاننا أن نصل بعياننا إلى أقصى درجة من الوضوح إلا أننا لن نقترب لهذا السبب أكثر من طبيعة الموضوعات في ذاتها، ذلك أننا لن نعرف في كافة الأحوال معرفة تامة سوى كيفية عياننا، أي حساسيتنا، ولن نعرف هذه إلا خاضعة دائماً لشرطي المكان والزمان المرتبطين أصلاً بالذات، أما ما يمكن أن تكون الموضوعات في ذاتها فمهما يكن الأمر لن نعرف ذلك أبداً بالمعرفة البالغة أكبر وضوح حول ظاهرتها هي نفسها [أي الموضوعات] وهي الوحيدة المعطاة لنا”[7].
لقد خلص كانط إلى أننا لا نستطيع بالحواس أن نعرف الأشياء كما هي في ذاتها، ولكن ليس في هذا إنكار للواقع الذي هو موضوع التجربة، فالواقع الخارجي موجود، ولكننا لا نعرف عنه غير الظواهر التي تتبدى منها وتظهر لنا وفق شكل عقلنا، وبالتالي فقد ميّز بين الظاهرة وبين المظهر، فأراد كانط من تحليله للمعرفة أن يحول كل معرفة إلى ظاهرة لا إلى مظهر. قرر قائلاً:
“ومن هنا يكون اعتبار أن كل حساسيتنا ليست سوى التمثّل المبهم للأشياء الذي لا يحتوي إلا ما يخصها في ذاتها فقط، ولكن متستّراً بتراكم من خصائص وتمثّلات جزئية نحن لا نميّزها عن بعضها البعض بوعي تام، تزويراً لمفهوم الحساسية ولمفهوم الظاهرة يجعل كل النظرية حولها من دون منفعة وفارغة. إن الفرق بين تمثّل مبهم وتمثّل واضح هو مجرد فرق منطقي لا يعنى بالمضمون. ومما لا شك فيه أن مفهوم الحق الذي يستعمله الحس السليم إنما يحتوي على ما يمكن أن يستخرجه منه التأمل الأكثر حذقاً، فيما عدا أننا في الاستعمال العام والعملي لسنا على وعي بمختلف التمثّلات الموضوعية في هذه الفكرة، ولذلك لا يمكننا أن نقول إن المفهوم بعامة هو حسي ويحتوي مجرد ظاهرة، لأن الحق لا يمكن أبداً أن يظهر [كظاهرة]، بل إن مفهومه يقع في الفهم ويمثّل بنية (البنية الأخلاقية) للأفعال التي تنتمي إليها في ذاتها. بالمقابل لا يحتوي تمثّل جسم في العيان شيئاً على الاطلاق يمكن أن ينتمي إلى موضوع في ذاته، بل يحتوي فقط ظاهرة شيء وكيفية تأثرنا بها، وهذه القابلية التي لقدرتنا على المعرفة تسمّى حساسية، وتبقى على الرغم من أننا قد نصل إلى سبر تلك (الظاهرة) حتى عمقها، تبقى مع ذلك منفصلةً بهوّة بعيدة بعد السماء عن معرفة الموضوع في ذاته”[8].
وهكذا خلص كانط إلى تمييزه في المعرفة بين عنصرين: أحدهما يأتي من الأشياء وهو مادة المعرفة، والآخر يأتي من العقل وهو سابق على التجربة ويمثل صورة المعرفة، أما النزعة التجريبية التي تنكر كل شكل صوري وترى في العقل أنه قابل محض، فيزدري بها كانط ويرى أن العقل هو الذي يفرض قوانينه على الأشياء، “أصبح لدينا الآن نوعان من المفاهيم يختلفان تماماً الواحد عن الآخر، لكنهما مع ذلك يتفقان فيما بينهما في أنهما على صلةٍ بالموضوعات قبلياً بشكل كامل، أي هما مفهوم المكان والزمان بصفتهما صورتي الحساسية، والمقولات بوصفها مفاهيم الفهم. وما محاولة استنباط تجريبي لها سوى جهد غير مجدٍ تماماً، لأن ما يشكل بالضبط العلامة الفارقة لطبيعتها يقوم في أنها على صلةٍ بموضوعاتها من دون أن تستعير شيئاً من التجربة لكي تتمثّلها، وبالتالي إذا كان لابد من استنباط هذه المفاهيم فإنه يجب أن يكون دائماً ترانسندنتالياً”[9].
أما قوانين العقل فهي عبارة عن:
1 الشكول القبلية للحساسية، وهي الزمان والمكان[10].
2 المقولات الاثنا عشر للذهن، والتي تترتب تحت المقولات الأربع: الكم، والكيف، والإضافة، والجهة[11].
وتبعاً لذلك فإن المعرفة لا محالة ستكون نسبية، إذ لا يستطيع الإنسان أن يعرف الأشياء في ذاتها، وإنما يعرف فقط الظواهر أي الأشياء كما تظهر لعقلنا من خلال هذه الشكول وعلاقاتها.
ثم أن هذه القوانين الكانطية (الصور والمقولات) لما كانَت قبلية، فإنها لا محالة تكون كلية، وحينئذ ستكون شروطاً لكل معرفة ممكنة[12].
وعندما نقول إن مواضيع العلوم صادقة فلا يعني ذلك تطابق الشيء في ذاته كما قال الجزميون من الأرسطيين وغيرهم في مقياسهم المتداول منذ القدم، إذ الشيء في ذاته لا يمكن بلوغه، وإنما يعني أن العلم يتفق مع تلك القوانين الكلية للذهن البشري، والحقيقة عندما تكون محدودة فإن ذلك لا يرجع إلى مادتها ومضمونها، وإنما يرجع إلى شكلها وصورتها، أي طابع الكلية الذي يميزها. لنستمع لكانط وهو يقرر بهذا الصدد:
“إن السؤال القديم والشهير الذي كان يعتقد أنه بالإمكان إحراج المناطقة به وكان يحاول الوصول بهم إما إلى حتمية الوقوع في دائرة مفرغة بائسة، أو أن يكون لزاماً عليهم الاعتراف بجهلهم، وبالتالي أباطيل فنِّهم بكامله، [هذا السؤال] هو: ما هي الحقيقة؟ فالتعريف الاسمي للحقيقة وهو أنها حقاً: مطابقة المعرفة لموضوعها، يعتبر هنا حقاً رخيصاً ومفترضاً، أما المطلوب معرفته فهو: ما هو المعيار العام والأكيد لأي معرفة كانت.. إذا كان قوام الحقيقة تطابق معرفة مع موضوعها، فلابد حينئذٍ من أن يتم بالفعل نفسه تمييز هذا الموضع عن غيره، لأن المعرفة تكون خاطئة إذا لم تتطابق مع الموضوع التي هي على علاقة به، وحتى لو احتوت شيئاً قد يكون صحيحاً بالنسبة إلى موضوعات أخرى. والحال أن معياراً عاماً للحقيقة لن يكون ذاك الذي يصدق تطبيقه على كل المعارف دون تمييز بين موضوعاتها. ولكن من الواضح أنه بما أننا نصرف النظر في حال هذا المعيار عن كل محتوى المعرفة (عن علاقتها بموضوعها)، وبما أن الحقيقة هي على علاقة بهذا المحتوى بالذات، فإنه من المحال وغير المعقول أن يطلب معيار لحقيقة محتوى المعرفة هذا، وإنه بالتالي من المحال أن يكون بالإمكان إعطاء علامة مميّزة للحقيقة تكون كافية ومع ذلك عامة في ذات الحين، ولمّا كنا قد أسمينا أعلاه محتوى معرفة مادتها يتوجب علينا القول: لا يمكن أن يطلب من حقيقة المعرفة من حيث مادتها أي علامة مميزة عامة لأن هذا يناقض نفسه بنفسه. أما في ما [كذا] يخص المعرفة من حيث مجرد صورتها (مع تنحية كل محتوى جانباً) فمن الواضح أيضاً أن منطقاً من حيث يعرض القواعد العامة والضرورية للفهم، يكون واجباً عليه أن يقدّم في مثل هذه القواعد معايير الحقيقة، ذاك أن ما يناقض هذه القواعد يكون خطأ، لأن الفهم يدخل هنا في تناقض مع قواعده العامة للتفكير وبالتالي يناقض نفسه. غير أن هذه المعايير لا تتعلق إلا بصورة الحقيقة، أي بالتفكير بعامة، وهي بهذا القدر صحيحة كل الصحة لكنها غير كافية، لأن معرفة حتى وإن أرادت أن تكون على تطابق تامّ مع الصورة المنطقية، أي أن لا تناقض نفسها، إلا أنها تستطيع مع ذلك دائماً أن تناقض الموضوع، إذاً فالمعيار المنطقي للحقيقة وحده، أي تطابق معرفة مع قوانين الفهم والعقل العامة والصورية، هو من دون شك الشرط الذي لابد منه، بالتالي الشرط السلبي لكل حقيقة؛ إلا أن المنطق لا يمكنه أن يذهب إلى أبعد من ذلك، وليس بإمكان المنطق أن يكتشف الخطأ الذي لا يتعلق بالصورة، بل بالمحتوى، بأي محك كان”[13].
من هذا يتحصّل لنا أن الأشياء في ذاتها لما كانت غير قابلة للإدراك والمعرفة، فإن الميتافيزيقيا الكلاسيكية ستكون وهماً لا طائل من ورائه، وذلك لأنها تجنح إلى إدراك ذات الأشياء وماهياتها بحسب الواقع، أما العلم المقابل لهذه الأوهام الميتافيزيقية والذي يتعرف على الظواهر فقط، فقد أفلح كل الفلاح لأنه جاء ومقتضى الواقع الذي يقول إنه لا يمكن بلوغ وإدراك الشيء في ذاته، فلا بد من الاقتصار على الظواهر، وإذا كنا لا نستطيع معاينة ذات الشيء وذاتياته، فالحري بنا أن نبقى في دائرة ما نعاينه وهو الحواس، وعدم إتعاب أنفسنا بالبحث عن الأوهام، لأنه من المستحيل تجاوز ميدان المعطى التجريبي.
وهكذا تتضح الثورة التي أراد كانط القيام بها في المعرفة البشرية؛ إذ جعل الأشياء تدور حول الفكر وتتبلور طبقاً لإطاراته الخاصة، بدلاً عما كان يعتقده الناس من أن الفكر يدور حول الأشياء ويتكيّف تبعاً لها، “في تلك المحاولة لتغيير طريقة الميتافيزيقا المتبعة حتى الآن، وبها نُحدث فيها ثورةً شاملة على مثال علماء الهندسة وعلماء الطبيعة، تكمن إذاً مهمة هذا النقد للعقل المحض التأملي، إنها مقالٌ في المنهج وليست منظومة للعلم نفسه، ولكنها مع ذلك ترسم في الوقت نفسه إطاره الكلّي، سواء بالنظر إلى حدوده، أو بالنظر إلى بنائه الداخلي أيضاً”[14].
وفي هذا الضوء وضع كانط حداً فاصلاً بين (الشيء في ذاته) و(الشيء لذاتنا)، فالشيء في ذاته هو الواقع الخارجي دون أي إضافة من ذاتنا إليه، وهذا الواقع المجرد عن الإضافة الذاتية لا يقبل المعرفة لأن المعرفة ذاتية وعقلية في صورتها، والشيء لذاتنا هو المزيج المركب من الموضوع التجريبي، والصورة الفطرية القبلية التي تتحد معه في الذهن، ولهذا تكون النسبية مفروضة على كل حقيقة تمثل في ادراكاتها للأشياء الخارجية، بمعنى أن إدراكنا يدلّنا على حقيقة الشيء لذاتنا لا على حقيقة الشيء في ذاته.
من نتائج التحوّل المعرفـي
على أساس التحليل المتقدّم لنظرية عمانوئيل كانط في المعرفة يمكننا الخروج بنتائج:
1 إن الميتافيزيقيا لا تقع أساساً موضوعاً للعلم، وكل ما طرح فيها فهو ليس من العلم، بل ألفاظ وأخيلة، فقيمة المعرفة الفلسفية الميتافيزيقية لدى كانت تساوي صفراً، وبالتالي فكل محاولة لإقامة معرفة ميتافيزيقية على أساس فلسفي هي محاولة فاشلة ليست لها قيمة، وذلك لأنه لا يصح في القضايا الميتافيزيقية شيء من الأحكام التركيبية الأولية والأحكام التركيبية الثانوية[15].
2 ذهب كانط إلى أن الرياضيات يقينية، والسر في ذلك أن موضوعات الرياضيات من صنع الذهن البشري، فالذهن على سبيل المثال يفترض أموراً كالمثلث والمربع والدائرة، ثم يحدد لها خواصاً، وحيث أن هذه الموضوعات صناعة عقلية بحتة، فمن المحتم أن يصدق كل حكم بشأنها صدقاً يقينياً[16].
3 وبشأن الطبيعيات الميدان الذي تمارس فيه التجربة فهنا يبدأ كانط باستبعاد المادة عن هذا النطاق، لأن الذهن لا يدرك من الطبيعة إلا ظواهرها. فهو يتفق مع جورج باركلي (1685 – 1753) على أن المادة ليست موضوعاً للإدراك والتجربة، وإن كان لا يعتبر ذلك دليلاً على عدم وجود المادة ومبرّراً لنفيها فلسفياً كما زعم باركلي[17].
“أخيراً، في ما [كذا] يتعلق بالمصادرة الثالثة، فمن الواضح أنه يعود إلى الضرورة المادية في الوجود وليس إلى تلك الضرورة الشكلية والمنطقية فحسب في ربط المفاهيم، والحال أنه بما أن وجود موضوعات الحواس لا يمكن أبداً أن يُعرف قبلياً إنما يمكن مع ذلك أن يكون معروفاً نوعاً ما قبلياً، أي بالنسبة إلى موجود ما آخر معطى من قبل، وبما أنه حتى في هذه الحالة لا يمكن الوصول إلا إلى الوجود الذي يجب أن يكون متضمناً في مكان ما في ترابط التجربة التي يشكّل الإدراك الحسي جزءاً منها، ينتج من ذلك أن ضرورة الوجود لن تكون على الاطلاق قابلة لأن تعرف بمفاهيم، بل دائماً فقط بربطها مع ما يدرك حسياً وفق قوانين عامة للتجربة، والحال أنه ليس ثمة من وجود على الاطلاق يمكن أن يعرف على أنه ضروري بشرط ظاهرات معطاة أخرى، ما لم يكن وجود التأثيرات الناتجة عن أسباب معطاة وفق قانون السببية، إذاً ليس وجود الأشياء (الجواهر) بل حالاتها هو وحده الذي نستطيع أن نعرض الضرورة منه، وذلك انطلاقاً من حالات أخرى معطاة في الإدراك الحسي وفق القوانين التجريبية للسببية، من هنا ينتج أن معيار الضرورة يقع حصراً في قانون التجربة الممكنة، وهو أن كل ما يحدث إنما هو معيّن بعلته في الظاهرة قبلياً، ومن هنا نحن لا نعرف إلا ضرورة المعلولات الحادثة في الطبيعة والتي تكون عللها معطاة لنا، وأن معيار الضرورة في الوجود لا يمتد إلى أبعد من حقل التجربة الممكنة، دون أن يصلح – حتى داخل هذا الحقل- لوجود الأشياء بصفتها جواهر، لأن هذه لا يمكن أبداً أن يُنظر إليها على أنها معلولات تجريبية أو على أنها شيء ما يحدث وينشأ”[18].
4 وإذا أسقطت المادة من الحساب فلا يبقى للعلوم الطبيعية إلا الظواهر التي تدخل في حدود التجربة، فالظواهر هي موضوع العلوم ولذلك كانت الأحكام فيها تركيبية ثانوية، لأنها: ترتكز على درس الظواهر الموضوعية للطبيعة، وهذه الظواهر إنما تدرك بالتجربة. وإذا أردنا أن نحلل هذه الأحكام التركيبية الثانوية من قبل العقل، وجدناها مركبة في الحقيقة من عنصرين: أحدهما تجريبي، والآخر عقلي. أما الجانب التجريبي من تلك الأحكام العقلية فهو الإحساسات المستوردة بالتجربة من الخارج، بعد صب الحس الصوري لها في قالَبي الزمان والمكان.
وأما الجانب العقلي فهو الرابطة الفطرية التي يسبغها العقل على المدركات الحسية، ليتكون من ذلك علم ومعرفة عقلية. فالمعرفة إذن مزيج من الذاتية والموضوعية، فهي ذاتية في صورتها وموضوعية في مادتها، لأنها نتيجة الاتحاد بين المادة التجريبية المستوردة من الخارج، وإحدى الصور العقلية الجاهزة فطرياً في العقل. فالعقل في ذلك يشبه شخصاً يريد أن يضع كمية من الماء في إناء ضيّق لا يستوعبها، فيعمد إلى الماء فيقلل من كمّيته ليمكن وضعه فيه بدلاً عن توسيع الإناء ليستوعب الماءَ كُلَّه!
5 وفق التصنيف المعرفي للبحث عن مصدر المعرفة في التصورات والتصديقات، فإن كانط على مستوى مصدر التصورات يحسب على المدرسة العقلية التي آمنت بوجود مجموعة من المفاهيم والتصورات المغروسة في الواعية البشرية مسبقاً في أصل خلقته، والتي لم يحصل عليها، ولا يمكن ذلك، عبر الحواس، وإنما هي تصورات أولية سابقة على التجربة سبقاً مطلقاً. وأما على مستوى المعرفة التصديقية فالرجل تجريبي كما ينصّ على ذلك صراحة[19].
استعارة الفرز الكانطي في فلسفة الدين
لا يسوغ لنا ونحن نتحدث عن الفرز الكانطي بين الشيء في ذاته والشيء كما يبدو لنا أن نغفل استعارةَ باحثي فلسفة الدين لهذه المقولة وتوظيفها في مقاربة بعض الإشكاليات. ومن أبرز أولئك الباحثين القسُّ الإنجليكاني جون هيك (1922 – 2012) في كتابه فلسفة الدين، والباحث الإيراني المعاصر عبد الكريم سروش في كتابيه صراطهاى مستقيم (الصراطات المستقيمة) وقبض وبسط تئوريك شريعت (القبض والبسط في الشريعة).
من جملة الإشكاليات التي وعاها جون هيك ومتابعوه – والتي وجدوا فيها التعارض مع فكرة التعددية الدينية المعرفيّة (الصراطات المستقيمة) – إشكالية عدم وجود جامع مشترك بين الأديان في الحقيقة الإلهية العُليا، ذلك أن لكل دين معنى ومفهوماً وتسمية مختلفة عن الله تعالى، وهذا الاختلاف يهدد نقطة الارتكاز الجامعة بين الأديان، فكيف السبيل للقول إن الأديان المختلفة تعبّر عن استجابات متعددة لحقيقة إلهية واحدة، بل إن ذلك الاختلاف يعطينا أن لكل دين حقيقة يرتكز عليها لا توجد في الأديان الاخرى، وإنما للأديان الأخرى حقائق تختص بها.
أمام هذه الإشكالية حاول جون هيك وعبد الكريم سروش وغيرهما تلمّس الحل من خلال الاستعانة بمقولة كانط سالفة الذكر والقائمة على الفرز والتمييز بين الشيء في ذاته والشيء كما يبدو لنا، أي ظهور الشيء للعارف، وذلك لأجل الفرز بين الحقيقة الإلهية المستقرة الثابتة المتعالية بغض النظر عن أي تجربة روحية ومعرفة، وبين الحقيقة الإلهية القابلة للتجارب الروحية الواقعة ضمن مجال الإدراك والتوصيف البشري.
لقد استعان هيك بهذا التمييز لدفع إشكالية التضاد بين مقولات الأديان وعدم وجود جامع مشترك في الحقيقة الإلهية، إذ أن هذا التضاد وفق تمييز كانط يكون مرجعه إلى كيفية ظهور الحقائق لذوي الأديان، ذلك الظهور الخاضع لقوالبهم الذهنية والمتأثر بالعوامل المتعددة وليس راجعاً إلى نفس ذات الحقيقة. قرّر هيك قائلاً:
“الله بالنسبة لكانط كان افتراضاً وليس اختباراً، إلا أننا نرى أن فكرة الحق في ذاته ليست نابعة من حياتنا الأخلاقية، بل من خبرتنا وحياتنا الدينيتين، فالآلهة المعروفة كبرهمان وسونياتا هي تجليات ظاهراتية للحق داخل عالم التجارب الدينية. كما أن الحق يختبر من قبل البشر بنحو يماثل الطريقة التي اقترحها كانط في اختبار العالم، وذلك عن طريق تلقي المعطيات التي تردنا من الكائن الخارجي ثم تصنيف وتفسير تلك المعطيات وفق مقولات ونظام الاحكام الصورية المتموضعة في أجهزتنا الإدراكية”[20]. ثم يقول:
“التمييز بين الحق في ذاته (Real An Sich) الذي في عمقه اللامحدود ليس شخصاً ولا شيئاً، وهو وراء أي اختبار أو تجربة أو استيعاب إنساني ولكنه الحقيقة المتعالية التي ندركها ونختبرها بذهنيات بشرية مختلفة وبطرق تشخيصية (personae) وغير تشخيصية (Impersonae)… يمكننا التمييز بين الإلهي الواحد النومينون ذي الحياة الأزلية، الإله الشخصي للأديان التوحيدية (theistic) الله وأب المسيح، وكالحقيقة الالهية الازلية والمجردة واللاشخصية في الأديان غير التوحيدية (Non – Theistic) كبرهمن في الهندوسية والنرفانا في البوذية. وكل هذه الالهة هي استجابات بشرية للحقيقة الالهية المتعالية، ويتم ادراكها بشريا بنحو يتكامل وينسجم مع النظم والمعتقد الدينيين في كل ثقافة وبيئة وحضارة خاصة”[21].
من كل ذلك خلص هيك إلى أن التفسير الأفضل للتعددية الدينية الحاصلة في العالم هو القول: بأن جميع الأديان تتمحور حول حقيقة إلهية واحدة هي الحق (Real) في ذاته المحتجب عن أي إدراك والمتجاوز لأي وصف أو تسمية، وأن لكل من هذه الأديان تاريخ استجابة متميّز لله وأرثاً روحياً خاصاً وتقليداً دينياً فريداً، يعبّر الإنسان من خلالها عن وعيه بحقيقة الله وإدراكه لكماله وتجربة الاتصال به.
وهكذا ارتكز على تمييز كانط، ومن ثمَّ فلا يمكن أن نصل إلى الحقائق التي لم تقع بأيدينا، وإنّما نعي ما ندركه وفق قوالب ذهنية سابقة على كل تجربة، ولذا لا يمكن للإنسان بلوغ الحقيقة كما هي.
وهذه النتيجة لا تختص بالإنسان الاعتيادي، بل هي شرعة سواء حتى للأنبياء (ع) لأنهم يتأثرون خلال بيانهم لما يتلقّونه من شهود الوجود المطلق بمجموعة من العوامل، من ثم سيكون فهم أحدهم وإدراكه للحقيقة مغايراً لفهم الآخر وإدراكه لها، ومن هنا تتعدّد الأديان وظهورات الإله الواحد ويبدو التضاد في معتقداتها، ونتيجة ذلك أنه لا يمكن إلباس أحدهم لباس الحق أو الباطل، لأن كل واحد منهم يطرح ما يفهمه وفق تجربته الدينية، “فهناك فرق بين الذات المقدسة كما هي في الأصل وبين الذات المقدسة كما تظهر لنا، ومن ذلك ندرك أن ظهور الحق في مظاهر مختلفة وتجلّيات متنوعة هو السر في اختلاف الأديان، وهو الدليل على حقانيتها بأجمعها”[22]. وهكذا يكون “أول شخص غرس بذور التعدديّة [الصراطات المستقيمة] في العالم هو الله تعالى الذي أرسل رسلاً وأنبياء مختلفين، وتجلّى لكلّ واحد منهم بمظهر خاص، وبعث كل واحد منهم إلى مجتمع خاص، ورسم تفسيراً للحقيقة المطلقة في ذهن كلّ واحد منهم يختلف عن الآخر، وبذلك تمّ تفعيل ظاهرة البلورالية. ورغم أن الأنبياء كانوا في قمة التجربة والتفسير إلا أنهم كانوا يعيشون في مراتب مختلفة”[23].
سوف يأتي منّا التعليق على الفرز الكانطي بين الشيء في ذاته والشيء كما يبدو لنا فلا نستعجل في ذلك، ولكن استفادة أصحاب فلسفة الدين لهذه المقولة يستحق التعليق هنا:
أولاً: يبدو من البيان السابق أن هيك وأضرابه يعتقدون أن الوحي الإلهي عبارة عن علوم حصولية يتوفّر عليها الرسول بواسطة الارتباط بحواسه الظاهرة والباطنة. وهذه العقيدة بعيدة عن حقيقة الوحي الإلهي، فهو ليس من قبيل العلوم الحصولية على تفصيل يحتاج لدراسة مستقلّة.
ثانياً: لو سلّمنا بما ذكره كانط واستعاره هيك من التمييز بين الشيء في ذاته والشيء كما يبدو لنا، فإن ذلك لا ينفعنا في علاج التناقض أو التضاد في الحقيقة الإلهية بين الأديان، ذلك أن الفضاء النموذجي الذي جاءت فيه معالجة كانط هو البحث الفيزيقي التجريبي، أي العالم الفيزيائي الخاضع للتجربة الحسية، بينما يقيم كانط البحث الميتافيزيقي كوجود الله والحقيقة الإلهية على أساس القانون الأخلاقي ويتخذه كمصادرة لفعالية وتصوير فكرة الواجب الأخلاقي، وأما الفضاء الذي يريد هيك البحث فيه فهو التجربة الدينية التي هي معرفة الله واختباره، ومن ثمّ فإن سحب الموقف الكانطي في معالجة القضايا الفيزيقيّة إلى معالجة المسائل الميتافيزيقيّة غير صحيح من الناحية المنطقية والمعرفية لوضوح اختلاف موضوع كلا البحثين وفضائهما.
كان هيك مدركاً لذلك التباين وغير غافل عمّا يريد التأسيس له وما أراد كانط تأسيسه، ولذا حاول تجاوز هذه المعضلة بافتراض أن الله ليس ضرورة عقلية لفعالية القانون الأخلاقي كما اعتقد كانط، بل هو حقيقة وجودية قابلة للاختبار والإدراك، بمعنى أن هيك بهذا الافتراض حاول توسيع دائرة البحث التجريبي ودائرة التجربة من كونها خاصة بالطبيعة (البحث الفيزيقي) لتشمل التجارب الروحية الإلهية (الميتافيزيقيا).
ولكن هذه المحاولة لا تصمد أمام النقد المنطقي والمعرفي، لأن موضوع التجربة هو الحقائق الوجوديّة التي يمكن اختبارها حسياً، ومجرد اعتبار سعة موضوع التجربة ليشمل التجارب الروحية لا يغير من واقع موضوع التجربة شيئاً، إننا نريد التأكّد من مطابقة علومنا لموضوعاتها الخارجية المحسوسة فجاء كانط بذلك التمييز. على أن السؤال الأساس عن النتيجة التي تصل إليها المعرفة الوجودية التي تخضع للاعتبار الذوقي؟!
ملاحظات ختامية
نريد في هذه الفقرة الختامية أن نسجّل بعض الملاحظات العامة حول الأفكار الرئيسية في رؤية عمانوئيل كانط في المعرفة وقيمتها دون الوقوف التفصيلي عند سائر المقولات التي جاءت فيها ضمناً، لأن مثل ذلك يتطلّب دراسة تفصيلية تخصّصية، وهو أمر لا يناسب هذه المقالة:
ملاحظة 1: ميّز كانط بين الشيء في ذاته والشيء كما يبدو لنا، واعتبر أن الشيء في ذاته بعيد المنال والتناوش، ولكنّ هذا التمييز لا يعدو أن يكون انكاراً للحقائق الخارجية أو تجاوزها على أقل تقدير، وهو شكٌ بيروني بامتياز. ذلك أن كانط يقول إن الشيء في الخارج هو غير الشيء في إدراكنا، أي لا توجد مطابقة بين ما هو في الذهن (ما يظهر لنا) وبين ما هو في الخارج (الشيء في ذاته). وهذا إن لم يكن سفسطة فهو يقطع الطريق على معرفة وإدراك الواقع، ممّا يعني أن البشرية تسبح في الجهل المركب!
إن كانط في هذه الفكرة لم يتجاوز هيوم الذي أخرجه من سباته الدوغمائي كما اعترف هو نفسه، ذلك أن هذه التفرقة لم تخلع على الحقيقة مضموناً موضوعياً خارجياً، ولذا عجزت عن تجاوز ظاهرية هيوم. ومرجع ذلك إلى أن كانط رأى الخارجَ في حقيقته وماهيته لا يقع بالضرورة تحت طائلة الإدراك البشري، وحينئذ ستكون كل أحكامنا على الوجود ذهنية محضة، وبالتالي تغدو فكرة الحقيقة فكرة وهمية إذا كنا نفترض أن الحقيقة هي تطابق ما في الأذهان مع الأعيان، بينما وفق افتراض كانط لا يوجد لدينا سوى تطابق للذهن لما في الذهن، أي تطابق الذهن مع نفسه وقوانينه ومقولاته، فالظواهر وإن كانت محكومة لقوانين العلية وسائر المباديء والمقولات الأخرى الذهنية [صورة الإدراك]، ولكن هذه المحكومية ناشئة – وفق كانط – من فرض الذهن نفسه لتلك القوانين والمقولات ولا علاقة للواقع من قريب أو بعيد بها، ولذا كانت الحقيقة أن تركب الظواهر على نحو ما تبدو لنا، بمعنى أن تكون الحقيقة مجرد توافق مع قواعد الفكر، وليست توافقاً وإخباراً عن الأشياء والواقع كما هو.
إن الذي أوصل كانط إلى هذا المأزق هو اعتباره القوانين والقوالب المغروسة في الذهن قوانين وشروطاً للفكر، وليست انعكاسات علمية للقوانين الموضوعية التي تتحكم في العالم الخارجي وتسيطر عليه بصورة عامة، وهو نفسه الذي ساقه إلى المصير بتعذر دراسة الميتافيزيقيا دراسة عقلية، ذلك لاعتباره القوانين العقلية روابط لتنظيم المدركات الحسية فقط، والميتافيزيقيا ليس فيها إدراكات خارجية حتى تنتظم من خلال تلك الروابط!
ملاحظة 2: من حقنا أن نسأل كانط: لقد فرّقت بين الشيء في ذاته والشيء كما يظهر لنا، ومن ثم لا يمكن للأشياء الخارجية أن ترد احساسنا دون تغيّر، والسؤال: هل هذا القانون يشمل نفسه أو لا؟ وذلك أننا في هذه النظرية نريد أن نقرّر حقيقة الواقع الخارجي وكونه لا يدرك كما هو في ذاته، وهذا معناه أن نظرية كانط محكومة لنفس قانون (الشيء في ذاته) و(الشيء كما يبدو لنا)، وعند ذلك لن يكون لنظريته أية واقعية، وهذا معناه الوقوع في النسبية. فإذا كانت نظرية كانط نسبية فأنّى لها القول إن سائر ادراكات الإنسان نسبية؟ إذ لو كانت هذه النظرية مطلقة لاستطعنا أن نحكم بنسبية الكل، ولكنها نظرية وفكر نسبي فحينئذ لا تؤثر على النظريات والأفكار الأخرى.
والانطلاق من قاعدة نسبية الحقيقة مطلقاً ونسبية المعرفة عامة كما تقرر رؤية كانط يفضي بنا إلى (بارادوكس) وتناقض ومفارقة واضحة، ويرجع حينئذ إلى نقائض المعرفة وإشكالية الجذر الأصم لتشمل المعرفة الإنسانية عامة. فنسبية الحقيقة حقيقة أيضاً فإذا شملتها القاعدة فسوف نقع في تناقض (بارادوكس)، لأننا إذا سلمنا بنسبيتها سمحنا لنقيضها بالحياة وهو وجود معرفة مطلقة، وإذا استثنينا القاعدة من شمول نفسها قضينا على القاعدة وألغينا عموميتها[24].
إن عُقْدة العُقَد في مذهب كانط فكرةُ الشيء في ذاته المغاير للشيء كما يظهر لنا، لأنها تتضمن بالضرورة أن المعرفة نسبية، إذ تجعل المعرفة خارج نطاق قدرة الإنسان، ولا تقرّ له إلا بإدراك الظاهرة. ولهذا هاجم هذه الفكرة كثير من الفلاسفة الذين جاؤوا في إثره من أمثال شارل رنوفييه (1815 – 1903) الذي رأى أنها معتمة للعقل[25]. وبسبب كون فكرة الشيء في ذاته عنصراً مربكاً في فلسفة كانط تخلّى عنه أخلافه المباشرون كما يؤكد لنا ذلك برتراند راسل (1872 – 1970) واتجهوا صوب نزعات أخرى كالتجريبية أو الاتجاه المطلق الذي مضت فيه الفلسفة الألمانية بعد كانط [26].
نستنتج من ذلك: أن هذا التمييز يحتوي على تناقض منطقي يكمن في أن علمنا بوجود شيء ما يعني أننا نعلم بانطباق تصور الوجود عليه والعلية، فنكون في هذه الحالة قد عرفناه وعلمنا به، ومن ثم ينتفي الجهل الكامل أو عدم العلم به، لأن الجهل التام بشيء ما يعني عدم معرفتنا به من جميع الجهات وينتج عدم معرفتنا بجهلنا أيضاً وهو كما ترى. أي أن معرفتنا بجهلنا بشيء ما لا تكون ممكنة إلا إذا عرفنا جانباً من ذلك الشيء ثم أدركنا أن هذه المعرفة ضئيلة للغاية، أما الجهل المطلق من جميع الجهات فيعني عجزنا عن معرفة جهلنا، وهذا يفضي إلى تناقض منطقي بيّن.
يتضح لنا مما سبق أنه لا وجود لشيء يستحيل منطقياً على العقل البشري معرفته سواء كان المطلق اللامتناهي أو الشيء في ذاته كما يعبر كانط، نعم يمكن أن يُجهل، والجهل به يعود لسبب واقعي أو موضوعي وليس لسبب منطقي وعقلي كما افترض كانط في محاولته.
ملاحظة 3: إن كانط قد اعتبر العلوم الرياضية منشئة للحقائق الرياضية ومبادئها، ولذا فهي لا يقع فيها الخطأ أو التناقض لأنها مخلوقة للنفس ومستنبطة منها، وليست مستوردة من الخارج ليشك في صحتها أو تناقضها.
والحال أن العلم ليس خلاقاً ومنشأ للحقيقة، وإنما هو كاشف عن الحقيقة الخارجة عن إطاره الذهني الخاص، ولولا وجود هذه الخاصية في العلم، أي كونه كاشفاً عن الخارج وليس منشئاً له، لما أمكن مناهضة أصحاب النزعة المثالية، فعندما نعلم بأن (2 + 2= 4) فهو علم بحقيقة رياضية معينة موجودة في الخارج بغض النظر عن وجود الإنسان، وليس معنى علمنا أننا نقوم بإنشائها ونخلقها في أنفسنا كما ركن المثاليون إلى هذا وفسروا العلم على هذه الكيفية، وإنما العلم كالمرآة فكما أن المرآة تدلل على وجود واقع موضوعي في الخارج للصورة المنعكسة فيها، كذلك العلم يكشف ويدلل على وجود واقع موضوعي خارج إطاره الخاص[27].
ولأجل هذه المآزق التي ولدتها نقدية كانط، تعرضت فلسفته للعديد من الحملات، فتصدى كلٌّ من نيتشة (1844 – 1900)، وشيلنج (1775 – 1854)، وهيجل (1770 – 1831)، وشوبنهاور (1788 – 1860)، وغيرهم، لنقدها، وراح كلُّ واحد منهم يُبرز جوانب ضعف وإخفاق هذه الفلسفة، خصوصاً فيما يتعلق منها في تفرقته بين الظواهر والشيء في ذاته، وحملته على الميتافيزيقيا التقليدية، وقوله باستحالة تخطّي حدود التجربة.
ملاحظة 4: لقد استند كانط في قوله بوجود (الشيء في ذاته) خلف (الشيء كما يبدو لنا) إلى قانون العلية، حتى قرّر لنا: “إذاً ليس وجود الأشياء (الجواهر) بل حالاتها هو وحده الذي نستطيع أن نعرف الضرورة منه، وذلك انطلاقاً من حالات أخرى معطاة في الإدراك الحسي وفق القوانين التجريبية للسببية، ومن هنا ينتج أن معيار الضرورة يقع حصراً في قانون التجربة الممكنة، وهو أن كل ما يحدث إنما هو معيَّنٌ بعلّته في الظاهرة قبلياً، ومن هنا نحن لا نعرف إلا ضرورة المعلولات الحادثة في الطبيعة والتي تكون عللها معطاة لنا، وأن معيار الضرورة في الوجود لا يمتد إلى أبعد من حقل التجربة الممكنة، دون ان يصلح حتى داخل هذا الحقل لوجود الأشياء بصفتها جواهر، لأن هذه لا يمكن أبداً أن ينظر إليها على أنها معلولات تجريبية، أو على أنها شيء ما يحدث وينشأ. الضرورة إذاً لا تُعنى إلا بالعلاقات بين الظاهرات بموجب قانون السببية الدينامي، وبأن الإمكانية المؤسَّسة على هذا القانون أن يستدل قبلياً انطلاقاً من وجود ما معطى (انطلاقاً من سبب)، على وجود آخر (المسبب)..”[28].
ويبدو أن كانط هنا قد غفل عن مبانيه في قانون العليّة والسببية! ذلك أن قانون السببية كغيره من قوانين وشروط الفهم عند كانط لا يصدق إلا في نطاق التجربة ذاتها، فقيمته ذاتية ولا يصدق إلا بالنسبة إلى نظام الظواهر لما يمثّله من مبدأ تنظيم في معرفة الأشياء، فكيف ساغ لكانط أن يتخذ منه دليلاً للقول بوجود (الشيء في ذاته) خارج ذواتنا، وكونه، أي الشيء في ذاته، علةً لإحساسنا؟ وحتى ينسجم كانط مع فكرته كان عليه أن ينكر كل وجود خارج تصورات الإنسان الذاتية وأن يتجه إلى المثالية الصرفة، برغم أنه شنّع على المثاليين وعلى ديكارت وباركلي، بدلاً من هذه المثالية المضطربة والواقعية الناقصة.
حقاً أن من يرى أن قانون العلية والسببية صناعة ذهنية ولا يعتقد بوجود ترتب المعلول على علته لا يسوغ له بعد ذلك الإيمان بوجود عالم موضوعي خارجي خلف الذهن، يكون منشأ للتأثيرات والتمثّلات الحسية.
ملاحظة 5: من المهم أن نلاحظ هنا أن كانط انطلق في معالجته للمعرفة من مذهب خاص في التصورات أو المعاني الكلية هو المذهب الاسمي الذي تبنّاه جماعة من الفلاسفة المدرسيين في العصور الوسطى الأوربية منهم أوكام (1285 – 1347). ويبني هذا المذهب على أن للمفاهيم الكلية وجوداً ذاتياً باعتبارها أسماء أو مجرد مفاهيم قائمة في الذهن فقط، وليس لها وجود حقيقي أو موضوعي خارج الذهن، ولا حظّ لها من الواقع. وكانط في توكيده على أن للتصورات أولية مطلقاً وقبلية وغير مستمدة من الإحساس اتجه في ذلك إلى هذا المذهب، فالعقل وفق كانط مهما قام بعملية تجريد في النطاق المحسوس فهو لا يستطيع أن يوصلنا إلى تصورات كلية تجاوز المعرفة الحسية.
وواضح جداً أن هذه المقدمة تمثّل مصادرة على المطلوب وهي محل نزاع، لأنه يقرّر لنا من جهة عدم إمكان قيام أي تجريد عقلي وميتافيزيقي، فيما يؤكد من جهة ثانية أن أي تجريد نقوم به لا يوصلنا إلا إلى المحسوس ولن يتجاوز المعرفة الحسية! والحال أننا نتنازع مع كانط في السبب الذي لأجله لا تستطيع الحواس أن تمدنا بتعميمات وصور حسية، والذي على أساسه ميّز بين أحكام تحليلية وأخرى توليفية تركيبية؟
ملاحظة 6: أما فيما يخص القول بوجود تصورات عقلية أولية سابقة على التجارب والحس، فنحن لا يسعنا القبول بنظرية الأفكار الفطرية والعقلية لمجموعة أمور:
أولاً: نسأل ما هو المراد من الأفكار الفطرية؟ فهل يراد أن الأفكار الفطرية موجودة بالقوة دون الفعل، بمعنى إنها فعلاً غير موجودة وإنما بالقوة والقابلية وتكتسب صورة الفعلية بتطور الحركة وتكاملها. فإن كان هذا مرادهم فلا خلاف فيه. ولكن من الواضح أن كانط لا يقصد ذلك.
أما إن كان المراد أنها موجودة بالفعل، فهذا غير مقبول، وذلك لأن النفس بسيطة بالذات والبسيط بالذات لا يمكنه أن يولد وينتج ذلك العدد الضخم من الأفكار والتصورات الفطرية.
على أن الوجدان خير شاهد على رفض هذه الفكرة، لأننا بالوجدان نجد أن الإنسان لحظة ولادته وحتى يكبر إلى عمر معيّن لا توجد لديه أية فكرة وصورة في ذهنه من هذه الصور التي ذكرها وكانط من زمان ومكان وعليّة، فوجدان كل إنسان يكذب هذا المعنى، سواء كانت التصورات متعلقة بالمادية أم بالمجردات.
ثانياً: إذا دققنا في المبرر للقول بوجود التصورات الأولية العقلية فسوف نجد أن بعض التصورات ليس باستطاعة الحس التوفّر عليها من الخارج لعدم تحققها المادي، لذلك افترض كانط أنها موجودة في الفطرة ومنبثقة منها.
والحال أننا لو قدمنا تحليلاً للتصورات بشكل يرجعها كلّها إلى الحس ويجعلنا نفهم كيفية حصول التصورات كافة سواء الأولية منها أو الثانية، فعند ذلك ينتفي المبرر للقول بالأفكار الفطرية أو التصورات العقلية، وهذا معناه أن العجز عن تفسير التصورات وكيفية نشوئها من الحس لا يلزم منه فطريتها أو كونها عقلية أولية. وبعبارة ثانية: إن مجرد عدم إدراك كيفية رجوع تلك التصورات للحس لا يلازمه أنها موجودة في النفس ومنبثقة منها.
ثالثاً: إن هذه الأفكار والتصورات لا يمكن أن يكون مصدرها النفس بما هي نفس. وذلك لأن النفس بسيطة، وإذا كانت بسيطة فلا يمكنها أن تكون سبباً بصورة فطرية لمجموعة من التصورات والأفكار، وإنما لابد من وجود مصدر آخر لها، خارج إطار النفس.
وبعبارة أخرى: إن هذه التصورات الكثيرة المتعددة لا يخلو سببها عن أحد أربعة أمور: 1) إما كثرة الفاعل، 2) وإما كثرة القابل، 3) وإما بسبب الترتّب المنطقي بين الأثر وذي الأثر، 4) وإما كثرة الشرائط والعوامل الخارجية.
والأولان باطلان، لأن الفاعل والقابل حسب الفرض هو النفس، وهي بسيطة والتصورات كثيرة، فلا توجد سنخية بينهما.
وأما الثالث فكذلك باطل لنفس السبب، لأن النفس بسيطة والأفكار والتصورات كثيرة، فلا ترتّب منطقي.
فلا يبقى إلا الاحتمال الرابع وهو أن تستند التصورات الكثيرة إلى شرائط خارجية وهي الآلات والحواس المختلفة المتنوعة. فالنتيجة إن القول بأن النفس بما هي نفس مصدر لكثير من التصورات ليس تاماً.
ملاحظة 7: هناك فرق كبير بين نظرية كوبرنيكوس في علم الفلك وبين نظرية عمانوئيل كانط في المعرفة وقيمتها، وبالتالي لا يمكن إجراء المعادلة الكوبرنيكوسية في مجال المعرفة والميتافيزيقيا، وفي ضوء نظرية كوبرنيكوس ارتفعت المشاكل التي سببتها نظرية بطليموس في المجسطي، أما في ضوء نظرية كانط فإضافة لمشكلاتها الخاصة والتي سجّلنا طرفاً منها، فهي في ذات الوقت شدّدت المشاكل التي حاول جميع الفلاسفة تجنبها قبلاً بما فيهم كانط نفسه، فهي تفضي إلى الشك والريبية في الحدّ الأدنى مهما ادعى كانط من الواقعية ورفض الريبية والمثالية التي اعتبرها أشد خطورة من المادية والقدرية والإلحاد والكفر والزندقة والتطيّر والاعتقاد بالخرافات، كما نصّ على ذلك صراحة[29]!
إن نجاح كوبرنيكوس في تجاوز المشكلات التي تثيرها نظرية بطليموس وذلك بواسطة عكس الافتراض في عالم الطبيعيات، لا يسوغ لنا أن نقوم بنفس المعادلة في ميدان المعرفة والميتافيزيقيا، فنعكس الافتراض لنقرر أن الأشياء تتطابق مع ما يقتضيه إدراك الذهن وفق ما جهّز به، ونهرع إلى تغيير مقياس الحقيقة، لأن مثل ذلك لا يختلف عما قرّره بروتاغوراس (481 – 411 ق.م) قبلاً: أن الإنسان مقياس جميع الأشياء!
_______________________________
* عن مجلة الاستغراب-العدد التاسع- السنة الثالثة- 1439هـ- خريف 2017.
[1]– نقد العقل المحض، إيمانويل كنت: 37، ترجمة: غانم هنا، مراجعة: فتحي المسكيني، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت 2013.
[2]– نقد العقل المحض: 37 – 38.
[3]– تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند رسل 3: 271، ترجمة: د. محمد فتحي الشنيطي، الهيئة العامّة المصريّة للكتاب، 2011.
[4]-نقد العقل المحض: 45، ترجمة: د. موسى وهبة ؛ نقد العقل المحض، ترجمة غانم هنا: 57.
[5]– انظر في ذلك: قصة الفلسفة الحديثة، زكي نجيب محمود: 271 – 272 ؛ كانْت أو الفلسفة النقدية، زكريا إبراهيم: 46، 59، 83 ؛ فلسفتنا، محمد باقر الصدر: 162 – 164 ؛ أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، تعليق مطهري 1: 238.
[6]– نقد العقل المحض: 20 – 21، ترجمة غانم هنا.
[7]– نقد العقل المحض: 111 – 112، ترجمة: غانم هنا.
[8]– نقد العقل المحض: 112 – 113. وكذلك انظر الصفحة: 39، 117.
[9]– نقد العقل المحض: 164 – 165، ترجمة غانم هنا. والترانسندنتالي: الاستنباط القبلي للمفاهيم المرتبطة بموضوع ما والذي يسبق التجربة.
[10]– نقد العقل المحض: 91 الفصل الأول في المكان، والفصل الثاني في الزمان: 101.
[11]– نقد العقل المحض: 145 فما بعدها، الفصل الثاني، من الخيط الهادي إلى اكتشاف كل مفاهيم الفهم المحضة.
[12]– نقد العقل المحض: 59 – 60.
[13]– نقد العقل المحض: 130 – 132، ترجمة: غانم هنا.
[14]– نقد العقل المحض: 41، ترجمة: غانم هنا.
[15]-رأى كانط أن الأحكام العقلية تنقسم إلى قسمين: أحكام تحليلية وأحكام تركيبية. والحكم التحليلي: هو الذي يستعمله العقل لأجل التوضيح فحسب، كقولنا: الجسم ممتد، والمثلث ذو إضلاع ثلاثة، فإن مرد الحكم هنا إلى تحليل مفهوم الجسم والمثلث، واستخراج العناصر المتضمنة فيه، كالامتداد المتضمن في مفهوم الجسم، والأضلاع الثلاثة المتضمنة في مفهوم المثلث، وردها إلى الموضوع. وهذه الأحكام لا تزودنا بمعرفة جديدة وإنما تتلخص وظيفتها في التوضيح والتفسير. أما الحكم التركيبي: فهو الذي يزيد محموله شيئاً جديدا على الموضوع، كما في قولنا: الجسم ثقيل، والحرارة تتمدد بالفلزات، و(2+ 2= 4)، فإن الصفة التي نسبغها على الموضوع في هذه القضايا ليست مستخرجة منه بالتحليل، وإنما تضاف فتنشأ بسبب ذلك معرفة جديدة لم تكن قبل ذلك. ثم أن الحكم التركيبي؛ تارة يكون حكماً قبلياً، وهو الثابت في العقل قبل التجربة، وأخرى حكماً ثانوياً، وهو التي تأتي العقل بعد التجربة، ومثال الأولى هي الأحكام الرياضية، والثانية نظير: كل جسم له وزن. نقد العقل المحض: 65.
[16]– نقد العقل المحض: 69.
[17]-نقد العقل المحض: 317 فما بعدها.
[18]-نقد العقل المحض: 317 – 318، ترجمة: غانم هنا.
[19]– نقد العقل المحض: 57.
[20]-التعدديّة الدينيّة في فلسفة جون هيك، المرتكزات المعرفية واللاهوتية، د. وجيه قانصو: 94، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2007. ولاحظ كذلك: فلسفة الدين، جون هيك: 177، إطار فلسفي للتعددية الدينية، ترجمة: طارق عسيلي، دار المعارف الحكمية، الطبعة الأولى 2010.
[21]– التعددية الدينية: 94 – 95.
[22]– الصراطات المستقيمة، عبد الكريم سروش: 31، منشورات الجمل، بيروت- بغداد، الطبعة الأولى 2009م.
[23]– الصراطات المستقيمة: 27.
[24]-مقالات عراقية، مقالات وبحوث في الفكر والدين والفلسفة، السيد عمار أبو رغيف: 58، دار الفقه للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1435هـ.
[25]-مدخل جديد الى الفلسفة، دراسة لآخر الآراء حول حدود الفلسفة وغايتها ومنهجها وعرض لأهم مشاكلها، د. عبد الرحمن بدوي: 126، انتشارات مدين- الطبعة الأولى 1428هـ.
[26]-تاريخ الفلسفة الغربية 3: 288.
[27]– فلسفتنا، محمد باقر الصّدر: 169.
[28]– نقد العقل المحض: 318، ترجمة: غانم هنا.
[29]– نقد العقل المحض: 49.