هيغل وأفريقيا في نقد ضحالة الوعي الاستعماري
مونيس بخضرة
بناء على أهمية إفريقيا الفلسفية والثقافية بشكل عام، يسعى الباحث الجزائري مونيس بخضرة في هذا البحث إلى مقاربة في هذه الدراسة عرض فيها موضوعاً لطالما طرح كثيراً من الأسئلة في الفلسفة، وبالتحديد علاقة هيغل بإفريقيا ودعمه للنزعات الاستعمارية الأوربية وعرض دراسة نقدية لها، ومواقفه الشهيرة من الفكر الإفريقي والتي غالبا لم تخدم صورة إفريقيا الطبيعية ولم تستوف حق منتجها الثقافي العام، هي انتقادات تداولتها بعض الدراسات حول رؤية هيغل لإفريقيا.
المحرر
سبق للفيلسوف المعاصر «كارل بوبر» وأن ربط حمى صدام الحضارات والثقافات بالمشاكل العميقة للحضارة الأوربية، وما انجر عنها من مآسٍ وأزمات مست البشرية في جوهرها، ظهرت في الاستعباد وحركات الرق والحملات الاستعمارية على الشعوب غير الأوربية. وفي هذا الشأن يقول كارل بوبر: يرتبط اهتمامي بصدام الحضارات باهتمامي بمشكلة كبرى، مشكلة خصائص حضاراتنا الأوربية ومنشئها. في رأيي أن ثمة إجابة جزئية عن هذا السؤال تكمن على ما يبدو في حقيقة أن حضارتنا الغربية مشتقة من الحضارة الإغريقية، ولقد نشأت الحضارة الإغريقية –تلك الظاهرة الفذة- في صدام الثقافات، صدام ثقافات شرق المتوسط. كان هذا أول صدام رئيسي بين الحضارات الغربية والشرقية. ولقد كانت له آثار بالغة الوضوح. ولقد أحاله هوميروس إلى فكرة مهينة في الأدب الإغريقي وفي أدب العالم الغربي[1].
يتساءل المفكر«كافيين رايلي» في كتابه «الغرب والعالم» عمّا إذا كانت عنصرية المجتمع الغربي الحديث ظاهرة جديدة وفريدة أم أنها كانت موجودة دائما؟ وهل استئصالها أمر ممكن؟ خاصة وأنها مرتكزة على دعائم ثقافية وفلسفية عميقة الجذور كما يقول[2].
فرغم أن العنصرية وغريزة استعباد الآخرين متأصلة في الجنس البشري وهي قديمة بقدمه، إلا أن العنصرية الغربية الحديثة فاقت كل الحدود المتخيلة وتحوّلت إلى مشروع له ضوابط وأهداف محددة، وصارت واجهة المجتمع الغربي الحديث عنيفة وعنصرية أكثر من أي وقت مضى مقارنة بواجهات المجتمعات الأخرى، مع غرقه الشديد في لعبة التمييز العرقي والديني واللوني والثقافة وإنهاك حريات الشعوب، ما أنتج تصنيفات للمجتمعات بعيدة عن المساواة وأصول التقارب والتجاور.
ولتمكين رؤيته العنصرية هذه، وظف الغرب كل الوسائل المادية والمعنوية والثقافية من فلسفات وفنون وآداب وعلوم الإنسان بصفة عامة على غرار الأنثروبولوجيا التي تساعد على فهم العادات والطباع وأمزجة الأفراد للوقوف على مكامن الضعف والنقص.
فقد سبق للأنثروبولوجي الفرنسي «كلود ليفي شتراوس» وأن اعتبر ظاهرة العنصرية والاستعباد قديمة قدم الإنسان ذاته، وأشار إلى وجود شيء من المفارقة عندما تصف الشعوب المتحضرة الحديثة غيرها من الأجناس بأنها (أجناس همجية). فهو يرى أن هذا الموقف العقلي الذي يخرج الهمج أو أي شعب يقرر الإنسان أن يعده همجيا من عداد الجنس البشري، هو بعينه أخص خصائص هؤلاء الهمج أنفسهم.
وعندما كانت الأجناس البشرية المختلفة تلتقي، فإن أعضاءها عادة ما كانوا يتساءلون عما إذا كان الآخرون بشرا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بعد سنوات قليلة من اكتشاف كولومبوس لأميركا بعث الإسبان لجاناً للتحقيق في ما إذا كان للهنود (الشعوب الأصلية) نفوس أم لا، حتى يمكن اعتبارهم من البشر أم لا[3].
ويذكرنا ليفي شتراوس أن ثقافة العنصرية والاستعمار هي اختراع قديم، وفي المقابل تم تسويق ثقافة المساواة والأخوة الإنسانية في العصر الحديث كذبا. فالقارئ للفلسفة اليونانية، سيجد مدى تمجيد بعض فلاسفتها للعنصرية واختزال الشعوب غير اليونانية في مصاف العبيد والرق، لا يحق لهم مقاسمة الإثنيين الحقوق نفسها، وهنا نتذكر تقسيمات أفلاطون وأرسطو وممارستهما للإقصاء حتى لبعض مكونات المجتمع الواحد مثل ذوي العاهات الجسمية والعقلية والأيتام، وهذا الذي أسس النزعات القومية المتطرفة في الثقافة اليونانية والرومانية معا.
أما الأنثروبولوجي( ميشيل ليريس) فله وجهة نظر مختلفة، فهو يرى أن أول نقطة تظهر لنا بعد دراسة للمعلومات والظواهر الاجتماعية التي يزودنا بها علم (الأثنوغرافيا) والتاريخ أن التحيز العنصري والاستعمار ليس أمرا عاما، وإنما هو حديث ظهر مع التحولات الكبرى التي عرفتها أوروبا بداية من القرن الخامس عشر.
لقد آمن اليونانيون القدماء أن الآسيويين والأفارقة جبناء وغير مثقفين، ولكن حكمهم هذا لم يكن وليد اللون وإنما وليد الثقافة الممارسة، فهيبوقراط على سبيل المثال أرجع عدم كفاءة الصينيين عسكريا إلى نظامهم الذي لم يكن يمنح الجنود المكافأة المناسبة لشجاعتهم، فكانت ثمرات النصر من نصيب السادة لا الجنود.
و(ليريس) يعيد ويذكرنا أن موجة العنصرية الحديثة التي صحبت نمو الرق كانت أوسع نطاقا ممَّا شهده التاريخ. وممّا له دلالته أن الأوربيين الغربيين كانوا هم الذين نظموا، بشكل منسق، قوى كبيرة من الأجناس الأخرى (الأفارقة والهنود الأمريكيين) في العمل في المزارع والمناجم، وهو العمل الذي ينطوي على أقصى درجات الاستغلال، لقد كان هؤلاء الأوربيون هم الذين نقلوا جماعات سكانية بأسرها إلى عالم آخر وحطموا عائلاتهم ومحوا شخصياتهم وتراثهم وعاملوهم معاملة الحيوانات، وهم الذين طوّروا نظريات ومشاعر المتعلقة التفوق العرقي والعنصري، التي تجاوزت نظيراتها في تاريخ الظاهرة[4].
تميزت العنصرية الغربية بتفردها وشموليتها، فهي لم تكتف بتسميم الثقافة الأوربية بل نشرت أفكارها في أنحاء العالم كله، إلا أن جميع النزعات الاستعمارية في أمريكا، ازدهرت بفعل ممارسة الإبادة في حق السكان الأصليين، وتكريس العمل العبودي في إفريقيا، وحتى الأراضي الإفريقية أصبحت خلفية لمؤسسات العنصرية الأوربية، وتسويق العبيد أو ما يعرف بظاهر الرق الزنجي. وفي القرن التاسع عشر نشرت النزعة الأوربية على رؤى تضع الصينيين واليابانيين في مستوى دون الإنسانية. وقد تحولت العنصرية في المجتمع الغربي الحديث فأصبحت أسلوبا للحياة لدى القارة التي يسكنها الأوربيون ثم في القارات التي فتحوها.
طورت النزعات العنصرية الأوربية موجات الرق، وخاصة ذلك النوع العنصري من الرق الذي طورته أوروبا في تعاملها مع إفريقيا، فقد بنت فيها مجتمعات عبودية حقيقية، فقد وصلت العنصرية الأوربية إلى أبعاد قاسية ومتطرفة في استرقاق الإفريقيين بالاعتماد على التطور العسكري والتكنولوجي، ولقد استخدموا هذه التكنولوجيا في غزو المجتمعات الإفريقية من شمالها إلى جنوبها، انطلاقاً من تشجيع الثقافة الأوربية ذاتها لهذا الاسترقاق والغزو بما فيها بعض الفلسفات التي كانت تمجد النزعة القومية الأوربية وتفوقها العرقي على غرار ما ذهبت إليه الفلسفة الهيغلية.
ظلت دراسة الحقائق الإفريقية ولوقت طويل، ينظر إليها من خلال شروط القبائل والنزعات، التي صارت الوجه الأساسي لها، سواء للباحثين أو للإعلام والرأي العام. فما حدث في كينيا وأوغندا ومالاوي والصومال واليوم الكونغو ونيجيريا، هذا كله تفسير مبتذل للحقائق الإفريقية بعيداً عن الصواب، وهو تفسير شجعه الوعي الغربي ودوائره الإعلامية، والذي يريد أن يزيغ الناس عن رؤية أن الاستعمار ما يزال السبب للعديد من معضلات إفريقيا. وقد وقع، لسوء الحظ، عدد من المثقفين الأفارقة ضحايا لهذه الخطة، وإلى حد لم يعد فيه بعضهم قادرا على الشفاء، ولا على معرفة الأصول الاستعمارية ذات قاعدة (فرق تسد) في تفسير الاختلافات الثقافية والصدامات السياسية تفسيرا يستند إلى الأصول الإثنية للمختلفين.
يقول مثلا في هذا الشأن الكاتب «نيغوجي واثينغو»: إن مقاربتي ستكون مختلفة، سأنظر إلى الحقائق الإفريقية، كما هي، متأثرة بالصراع الكبير بين قوتين متضادتين في إفريقيا اليوم: تراث استعماري من ناحية وتراث مقاوم من الناحية الأخرى[5].
التراث الاستعماري في إفريقيا اليوم تحافظ عليه البرجوازية العالمية مستخدمة الشركات متعددة الجنسيات، وبالطبع، الطبقات الحاكمة الملوحة بالعلم الوطني، وتنعكس التبعية الاقتصادية والسياسية لهذه البرجوازية الإفريقية – كولونيالية.
إن الاستعمار لدى هؤلاء المدافعين الوطنيين عن الثقافات المناضلة للشعب الإفريقي، ليس شعاراً، إنه حقيقي وملموس، محتوى وشكلا، وفي وسائله وتأثيراته.
إن حرية رأس المال الغربي والاحتكارات فوق القومية التي تحت مظلته، في الاستمرار بسرقة بلدان وشعوب أميركا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا وبولينيزيا، هي حرية محمية، اليوم، بالأسلحة التقليدية والنووية. فالاستعمار الذي تقوده الولايات المتحدة يتقدم إلى شعوب الأرض المناضلة وكل الداعين إلى السلام والديمقراطية والاشتراكية بإنذار نهائي: قبول السرقة أو الموت.
هيغل وضحالة الوعي الإفريقي:
لم يذكر هيغل إفريقيا بالاسم في فينومينولوجيا الروح، وإنما حلّل بنية الوعي المشابهة لبنية الوعي الإفريقي، خاصة وأنه سماه في كتابه بالحالة الأنثروبولوجية، وهي الحالة نفسها التي تناولها في نصه «فينومينولوجيا الروح» باسم «أنثروبولوجيا الوعي»، والإفريقي هنا هو تجسيد للآخر المطلق.
ولفهم مضمون هذه المقاربة وجب شرح البنية النمطية التي حللها هيغل بخصوص بدائية الفكر وتعانقه مع الطبيعة، خاصة ما ورد في القسم الأول من كتاب «فينومينولوجيا الروح» (1807) إذ، سبق لهيغل وأن اعتبر الفكرة الخالصة هي الجنس المجرد، فإن الطبيعة عنده هي الفصل بلغة المنطق، في حين أن العقل الذي تعيّن بالفصل قد أصبح الآن نوعا (هو الإنسان). فقد تحوّلت الفكرة الخالصة في الطبيعة إلى ضدها، وأصبحت غريبة عن نفسها (أصبحت لا عقل ولا فكر)، لكنها في فينومينولوجيا الروح تعود إلى نفسها غنية من ضدها[6].
الفكرة في الطبيعة هي في لا عقل، ولكنها مع الروح تحرر نفسها من تلك العبودية، وتصبح موجودة بوصفها روحاً حرةً وهذه هي غايتها، إذ تعرض علينا فلسفة الطبيعة الهيغلية الخطوات التدريجية للعملية التطورية التي خلصت الفكرة نفسها عن طريقها من اللامعقولية المطلقة. وهذا التطور من المادة اللاعضوية إلى الكائن الحيواني هو العود التدريجي من ضدها المطلق، وهو المادة المصلّبة إلى نفسها، أي إلى المعقولية واكتمال هذا المسار هو الروح، ومع ذلك فهناك حسب هيغل مراتب في مملكة الروح، مثلما كانت هناك مراتب في مملكة الطبيعة. فإذا كان المطلق يتجلى في الإنسان، فإن ذلك لا يتم إلا بواسطة تطور ديالكتيكي للمعرفة، فهو مسار تطور طويل وشاق. فالروح لا يضع نفسه في الحال على أنه روح مطلق، ولكنه يبدأ من مرحلة دنيا من مراحل نموه كما هو ظاهر في الوعي الأفريقي حسب هيغل بما أنه لم يتطور كثيرا، لم يبلغ تحققه الذاتي الكامل بعد، ومهمة فينومينولوجيا الروح هي أن تتعقب هذا التطور التدريجي وتكشف آليات عمله خطوة خطوة في التاريخ.
والأداة التي يستخدمها هيغل في هذه المهمة، هي الأداة نفسها التي استخدمها في جميع أجزاء نسق فلسفته ألا وهي المنهج الديالكتيكي.
وفي سياق وضع الوعي الإفريقي، يؤكد فانون في قراءته لهيغل أن الإفريقي شخص مصلوب، لا ثقافة له ولا حضارة، وهو من غير ماض ولا تاريخ يعرف به، وبهذا العراء يكون وجود الزنجي وكينونته عقدة نقص له لا تفارقه، وتنشأ هذه العقدة لدى كل شعب يمر بتجربة موت أصالة الثقافة المحلية[7]. أما الذين يتحدثون منهم باللغات الأوربية فهو بمثابة نفاق ثقافي، ذلك أن دور اللهجة المحلية في نظر فانون لا يقتصر على تعيين مكان المرء جغرافيا واجتماعيا، بل إنها طريقة للتفكير والتأمل، إذ تمثلت هذه المشكلة بقوة لدى الفرد المغاربي في شمال إفريقيا، فكثير منهم وخاصة الذين نشأوا على اللسان الفرنسي اعتقدوا أنهم فرنسيون ثقافيا، فكيف يمكن للفرد المغاربي أن يكون فرنسيا؟ فهم تمثلوا الثقافة الفرنسية بكل الطرق، إلا أن الأصالة تتجسد في الثورة، لا في قبول المرء أن يحوله الآخرون موضوعا لهم، وعلى هذا الأساس اعتبر فانون تحت تأثير الفلسفة الهيغلية والوجودية المعاصرة، أن الذات اليهودية والمغاربية والأفريقية بصفة عامة في صراع مستمر وهي تحاول أن تفر من كينونتها الأصلية وأن تفرّ من الآخر، فهم مغتربون عن أجسادهم، وحياتهم انقسمت إلى شطرين: شطر يسعى وراء حلم مستحيل مضمونه الأخوة العالمية في عالم يقابله بالرفض والاختزال، وشطر يمثل عقدة النقص التي يحللها فانون في كتابه «البشرة السوّداء والأقنعة البيضاء»، وبسببها بقت شعوبا تتجاذب مشكلات زائفة في الأساس بما أنها تعيش حياة زائفة[8].
يرى فانون أن توصيف هيغل في كتابه (العقل في التاريخ) هو نموذج أصلي متميز للمشروع الكولونيالي في رؤيته للإفريقي بوصفه الآخر المطلق. إذ يجري وصف إفريقيا في الفكر الغربي بأنها مكان للطاقة والأحاسيس المتدفقة، وبانعدام الحركة وبأنها عالقة في الزمن. ويستوجب وصف أفريقيا رحلة من العقل إلى الإحساس، لا من الإحساس إلى العقل. وفي هذا الشأن يقول هيغل: إن الزنجي مثال على الرجل الحيوان بكل همجيته وخروجه عن القانون، وإذا أردنا أن نفهمه أصلا، يجب علينا أن نتجرد من كل توقير وأخلاقيات، ومن كل ما نسميه عواطف. سنجد في شخصيته كل ما هو غريب على رجل في وجوده المباشر، ولا شيء مما هو منسجم مع الإنسانية. ولهذا السبب، يمكننا أن نشعر بأنفسنا على نحو مناسب في طبيعته، لا أكثر من شعورنا في طبيعة كلب.
الأساس الجغرافي للفكر العالمي
ويقول هيغل في كتاب «العقل في التاريخ»: إن العلاقة مع الطبيعة التي تساعد على إنتاج روح شعب ما، إذا ما قارنا بينها وبين شمول الكل الأخلاقي، وبين وحدة تلك الفردية التي هي مبدأها الفعال تبدو عنصرا خارجيا. لكن بمقدار ما ينبغي أن ننظر إليها على أنها الأرض التي تتحرك عليها الروح وتؤدي دورها، فإنها تكون أساسا جوهريا وضروريا، ولقد بدأنا بالقول: إنه في تاريخ العالم تظهر فكرة الروح في تجسدها الفعلي على أنها سلسلة من الصور الخارجية، تتكشف كل منها بوصفها شعباً موجوداً بالفعل[9].
هذا الوجود حسب هيغل يندرج تحت مقولة الزمان والمكان على طريقة وجود الأشياء الطبيعية، والمبدأ الذي يجسده كل شعب من شعوب التاريخ يكون بمثابة خاصة طبيعية له، وحين تتخذ الروح هذه الصورة من صور الطبيعة تدفع أوجهها الجزئية إلى اتخاذ طابع الوجود المنفصل، لأن الاستعباد المتبادل هو نوع الوجود المميز للطبيعة الخالصة، وهذه الفروق الطبيعية يلزم أن نعدها في بادئ الأمر إمكانات خاصة تتولد منها روح الشعب، ومن هذه الإمكانات يحدد هيغل إمكانات الأساس الجغرافي التي تمثلها أمة من الأمم باعتبارها موقعا محليا خارجيا. فمجال اهتمامنا حسب هيغل هو معرفة النمط الطبيعي للموقع المحلي من حيث صلته الوثيقة بنمط الشعب وشخصيته التي هي ثمرة لمثل هذه التربية، هذه الشخصية ليست أكثر ولا أقل من الحالة والصورة التي تظهر بها الأمم في التاريخ وتأخذ مكانها ومركزها فيها[10].
فمن المؤكد حسب هيغل أن جو «أيونيا» المعتدل مثلا قد أسهم بشكل كبير في إضفاء الصفاء والرقة على أشعار هوميروس، ولكن هذا الجو لا يخلق لنا شعراء من طراز هوميروس، كما أنه لا يظل يأتي بمثلهم. ففي العهد التركي لم يظهر شعراء، وعلينا هنا أن نأخذ في اعتبارنا أولا تلك الظروف الطبيعية التي ينبغي أن تستعاد مرة واحدة وإلى الأبد من دراما تاريخ العالم.
ففي المنطقة المتجمدة والمنطقة الحارة مثلا، لا يوجد الموقع المحلي المناسب لظهور شعوب التاريخ العالمي حسب هيغل. ذلك لأن الوعي المستيقظ يظهر محفوفا بالمؤثرات الطبيعية وحدها، وكل تقدم له انعكاس الروح على نفسها في مقابل الطبيعة المباشرة، والطبيعة هي وجهة النظر الأولى التي يستطيع منها الإنسان أن يظفر بحريته داخل ذاته، وينبغي ألا تقف العقبات الطبيعية حائلا في وجه هذا التحرر.
إن الطبيعة في مقابل الروح هي كتلة كمية، ويلزم ألا يكون لها من القوة ما يجعلها قادرة على كل شيء، ففي المناطق المتطرفة لا يستطيع المرء أن يكون حرا في حركته. فالبرد والحر في تلك المناطق من القوة بحيث لا يسمحان للروح أن تقيم عالما لذاتها، لكن هذا الإلحاح والضغط الشديد في المناطق المتطرفة لا تخف وطأته، ولا يمكن تجنبه، ويضطر الإنسان إلى أن يوجه اهتماما مباشرا مستمرا إلى الطبيعة، إلى أشعة الشمس، أو إلى الجليد المتجمد. وعلى ذلك فإن مسرح التاريخ الحقيقي هو المنطقة المعتدلة أو بالأحرى النصف الشمالي منها، لأن الأرض فيه تمثل شكلا قاريًّا ولها صدر واسع كما قال اليونانيون قديما[11].
تمثل فينومينولوجيا الروح عند هيغل وفق هذا الطرح، مذهبا يصف تطوّر الوعي من الحالة الحسية إلى الحالة العقلية. فهي بمثابة قصة للوعي البشري( L’histoire de la conscience humaine)، وارتفاعه نحو المعرفة المطلقة، وهي قصة تصف تجارب الوعي وصفا دقيقا. والنقطة الأساسية هنا هي عرض تجربة الوعي وهو يتكون ويصير روحا، وتحليل الأشكال المتتالية التي يتخذها في أثناء صعوده [12].
إذا، فنحن إزاء جدل صاعد يقودنا إلى المعرفة المطلقة عبر محطات مختلفة من أنماط الوعي التي تظهر في الأشكال التي ينتجها هذا الوعي بما فيها أنظمة الأخلاق والمؤسسات والأدوات، وهذا الجدل يعكس حقيقة التواءات الحياة والكرامة المهددتين باستمرار، والمأساة ناشئة عن الصراع بين الفعاليات والمذاهب والمواقف. ولعل من أهم ما تضطلع به فينومينولوجيا الروح في شرح أنماط الوعي هو خلع نظام عليها يتيح للعقل التأمل فيها واستخلاص ما فيها من دلالات مختلفة. ولا تخلو الفينومينولوجيا من طابع تربوي(pédagogique)، فهي تتناول الوعي في مباشرته، أو في سذاجته وفي حالته الفطرية كما هو الحال في إفريقيا، إنها ذلك السبيل الذي يسمح بالمضي من اللامعرفة إلى المعرفة، فهي المدخل الوحيد الممكن للفلسفة حسب هيغل، حينما ظلت تعرض مستويات تحول الوعي نحو الروح [13].
كثير من المتتبعين للفلسفة الهيغلية من اعتبر أن تحليل الذاتية وتطورها المعرفي، هو الإنجاز الأكثر أهمية الذي عمل هيغل لتحقيقه في فينومينولوجيا الروح وتحليل طرق الانتقال ممَّا هو ساذج إلى ما هو منطقي، فيها وصف هيغل خصوصيات بناء الذاتية الفردية في تطورها التاريخي وهي الذاتية الأوروبية، لأنها في الوقت نفسه وصف لبناء الشعور الأوروبي وتطوره كما فعل هوسرل في أزمة العلوم الأوروبية واعتبر هذا الوصف مرادفا للمعرفة العلمية، على ألا تعني المعرفة العلمية هنا معرفة موضوعية مجردة، بل معرفة تطور الروح وتحقق المفهوم والفكرة في الروح.
والحق أن هيغل لم يقتصر فقط على القول بأن الذات منخرطة في الوجود الواقعي فحسب، بل هو قد ذهب أيضا إلى أنها مصبوغة دائما بالصبغة الاجتماعية، فهي تحمل كل تراث الثقافة والتاريخ، وكأنها هي نفسها مجرد ثمرة لنوعها وعملها ولشتى منجزاتها [14].
ما هي إفريقيا؟ إنها قارة مقطوعة عن التاريخ، على الأقل في المنطقة الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الكبرى-وهي الصحراء التي تقطع القارة (بصورة طبيعية) إلى جزءَيْن: وإفريقيا مقطوعة عن العالم ومحددة بجغرافيتها وحيواناتها ونباتاتها غير الإنسانية، الغابات الكثيفة التي لا نهاية لها، الزواحف المتسلقة، والنباتات الخانقة السريعة النمو. إن حكايات الرحالة عن الوحوش الضارية والزواحف والأفاعي والبعوض خصوصا عن قرود الغوريلا، ذلك الحيوان الهجين بامتياز، لا تصور العمود الفقري لإفريقيا فحسب بل جوهرها ومعناه أيضا [15].
إن تنكر الغرب بالاعتراف بالإفريقي كانسان مستقل زاد من حصار معناه. فالرجل الأبيض الذي أخضع الشعوب الإفريقية واستعبدها واستعمرها يحول السيطرة إلى فانتازيا جنسية، فهو يرغب في الأسود الذي ينظر إليه على أنه مصدر للرجولة والفحولة المفرطة، وصاحب الدوافع الشهوانية الجامحة في حضارة البيض، فالأسود هو الآخر جنسي منحرف ومفرط في ممارسة الجنس وشهواني. صورة الإفريقي في نظر الغرب، هو عبارة عن جسد يتكون من مجموعة من الأعضاء الخارجية ذو شعر شبيه بالصوف، وأنف أفطس، وشفتين غليظتين، وخصوصا اندفاعات جنسية خارجة عن السيطرة، يعيش في عفوية وشهوانية متدفقة، لا يمكن التحكم بهما وهو خارج نطاق الأخلاقية. والذكر الأسود مرادف للقوة الجنسية، يمكن مقارنته بالفينوس الهونتية (نسبة إلى شعب جنوب إفريقي ذي بشرة داكنة ضاربة إلى الصفرة)، وبامرأة جزائرية منقبة ذات جاذبية غير مرئية حسب تعبير فرانس فانون.
تقع فينومينولوجيا الروح في ثلاث محطات كبرى رئيسية نوضحها على النحو التالي:
المحطة الأولى: وهي المحطة التي تمثل تطورها الذاتي، ويسميها هيغل بالروح الذاتي ومضمون هذه المحطة، هو الكشف عن العقل البشري من وجهة ذاتية محضة، بما هو عقل الذات الفردية، وتفرعاته تشكّل الوعي الفردي المشكل من: الحس والشهوة والفهم والعقل الخيال، الذاكرة…إلخ. مرحلة تظهر فيها الروح الذاتية مضمرة ومطمورة وهو ما يمكن إسقاطه على الحالة الإفريقية[16].
المحطة الثانية: محطة تبدأ فيها الروح في الخروج من ذاتها إلى الآخر، وهو ما يسميه هيغل بالروح الموضوعي، خلالها تصير الفكرة في الخارج وهي بذلك تخلق عالما موضوعيًّا خارجاً، لكن هذا العالم ليس هو المادة الجامدة، وإنما هو العالم الروحي، إنه عالم التنظيمات والمؤسسات الروحية (institutions spirituelles)، كالقانون والأخلاق والدولة. فهي موضوعات خارجية تماما مثلها مثل الحجر والنجم، ولكنها متحدة في هوية واحدة مع الذات، والأنا خارجة عنها لأنها ليست إلا تموضعا للأنا. صحيح أنها ليست تموضعا لذاتي الفردية، لي أنا شخصيا بوصفي فردا جزءًا خاصاً، لأنها لا تتحد مع أهوائي وميولاتي الشخصية، ولكنها تموضع لذاتي الكلية، للعقلي، للعنصر المشترك الذي أشترك فيه مع البشرية كلها، أي تموضع للروح الكلية للإنسان. فقوانين الدولة تجسد الحياة العقلية الكلية للمجتمع، فهذه التنظيمات والمؤسسات بقدر ما هي موضوعية وخارجية من ناحية، ولكنها تبقى روحية بما أنها عبارة عن تجلي العقل والوعي، ولهذا السبب فإنها تقع تحت اسم الفلسفة[17].
المحطة الثالثة: وهي محطة الروح المطلق، محطة يتمثل فيها الروح البشري على نحو ما يتجلى في الفن والدين والفلسفة، وتقسيم يمثل الجمال والدين والفلسفة (فلسفة على الفلسفة/ Philosophie sur la philosophie)، والروح المطلق هو اتحاد الروح الذاتي والروح الموضوعي، هنا يكمل الروح تحققه النهائي، يصير حرا حرية مطلقة، كما يصبح لا متناهياً وعينيًّا تماماً، والمطلق يتخذ الفلسفة آخر مراحله على أنها الحقيقة الواقعية كلها، ذلك أن المطلق الفلسفي يرى العالم على أنه تجلٍّ للفكر، أي تجلٍّ لنفسه. فالعالم ليس إلا ذاته فحسب، موضوعه متحد مع ذاته في هوية واحدة، وبذلك فإن الفلسفة هي الوحدة النهائية للذاتية والموضوعية، ولهذا السبب فالمطلق هو مركب الروح الذاتي والروح الموضوعي، وفي الفلسفة تكتمل عودة الفكرة إلى نفسها، لأن الإنسان صاحب الفلسفة هو أعلى تجلٍّ للعقل أو للفكرة في العالم[18].
الفكرة تعمل على العودة إلى نفسها، هذا العمل هو موضوع دراستنا. فهذا العمل هو سر حركة العالم (le mouvement du monde)، حركته الباطنية وحركته الظاهرية، لأن الفلسفة الحقة ينبغي عليها أن تبرر وجود قيم عليا وقيم دنيا، فيسير الروح من الفكر إلى الطبيعة إلى الفلسفة.
إن مرحلة الوعي الذاتي والتي نربطها نحن في مقاربتنا هذه بالوعي الإفريقي وباقي أنماط الوعي المشابهة، وهي مرحلة ينظر إليها العلم المعاصر على أنها تدرس مواضيع علم النفس، تشمل مراتب ووظائف عقل الفرد وملكاته في صورها الدنيا (الغريزة، الوجدان، الإحساس، الشهوة)، إلى صورها كما تبدو في العقل والفهم والنشاط العملي، ومن هنا فهي تهتم بدراسة عقل الفرد كفرد في جميع مراتبه الظاهرية.
يقسم هيغل الروح الذاتي إلى ثلاث مراحل وفقا للعمل الديالكتيكي على النحو التالي:
1 – علم أنثروبولوجيا النفس
2 – علم الظاهريات
3 – علم النفس( الروح)
وهذه الأقسام، لا يظهر معناها إلا من خلال سيرها الديالكتيكي، ولكن يمكن أن نعتبر أن النفس عند هيغل هي أدنى مرحلة في الروح، فهي مرحلة أولى لم تصل مهما بعد حتى إلى مرحلة الإدراك الحسي، ولكنها لا تزال نصف وعي غامض ومعتم لا يحقق شيئا، ولا تزال في رقبة الطبيعة أسيرة داخل الجسد، وهي المرحلة التي تعلو الحيوانية مباشرة. فكلمة الأنثروبولوجيا عند هيغل تعني دراسة النفس بهذا المعنى، النفس، الوعي، الفهم، العقل[19].
1 – الأساس الطبيعي للوعي الإفريقي[20]*
يقسم هيغل إفريقيا جغرافيا إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول يقع جنوبي الصحراء الكبرى، وهي المناطق الجبلية التي تكاد تكون مجهولة لنا تماما. والقسم الثاني يقع شمالي الصحراء وهو أفريقيا الأوربية وهو عبارة عن أرض ساحلية. أما القسم الثالث فهو منطقة نهر النيل وهي أرض الوادي الوحيدة وهي تتصل بآسيا.
ظلت إفريقيا في نظر هيغل على أصالتها مغلقة أمام جميع أنواع الاتصال مع بقية أنحاء العالم-إنها أرض الذهب المضغط داخل ذاته- أرض الطفولة بتعبير هيغل، مختفية وراء نهار التاريخ الواعي لذاته، يلفها الليل الأسود، ولم تنشأ شخصيتها عن طبيعتها الاستوائية فحسب، وإنما من تكوينها الجغرافي الأساسي، وعبارة عن حزام من أراضي المستنقعات مع الخصوبة الهائلة من النباتات وهذا الموطن الأثير لدى الوحوش الضارية والثعابين من جميع الأنواع وهي أرض تخوم يعتبر جوها مسموما للأوربيين، وتشكل هذه التخوم أساسا سلسلة دائرية من الجبال العالية.
ونحن لا نعرف ما إذا كانت قد حدثت حركة في الداخل أم لا، وإذا كانت قد حدثت في نوعها، وكل ما نعرفه عن قبائل البدو هذه هو التضاد بين سلوكهم في حروبهم وغزواتهم ذاتها، التي يتجلى فيها أعظم قدر من اللاإنسانية الوحشية والهمجية البغيضة، وبين سلوكهم عندما يزول غضبهم وأعني في أوقات السلام، التي يظهرون فيها أناسا طيبين يبدون الود نحو الأوربيين، ويصدق ذلك على قبائل (الفولاني) وقبائل(ماندونجو) في السنغال وغامبيا[21].
أما القسم الثاني من إفريقيا فهو الذي يشمل منطقة وادي النيل، ويعني به مصر التي كانت مهيأة لأن تصبح مركزا قويا للحضارة المستقلة حسب هيغل، ولذلك فهي تبدو معزولة ومنفردة في إفريقيا مثلما تبدو إفريقيا نفسها في علاقتها بالأجزاء الأخرى من العالم والجزء الشمالي من إفريقيا، الذي يمكن أن يطلق عليه بصفة خاصة أرض الساحل. وفي هذا الشأن يقول هيغل: إن مصر كثيرا ما كانت ترتد إلى نفسها بواسطة البحر المتوسط، يقع على البحر المتوسط وعلى المحيط الأطلنطي وهو إقليم رائع كانت توجد فيه قرطاجة في ما مضى، وتوجد به الآن مراكش الحديثة والجزائر وطرابلس، ولقد كان من الواجب ربط هذا الجزء من إفريقيا بأوروبا ولا بد بالفعل أن يرتبط بها، ولقد بذل الفرنسيون أخيرا جهودا ناجحة في هذا الاتجاه (يقصد هيغل بهذا التعبير حركة الاستعمار الفرنسي على بعض الدول الإفريقية والذي دعمها وأظهر إعجابه بها)[22].
في مقاربته للتأثير الطبيعي على الوعي، يرى هيغل في البداية أن الروح تضع نفسها على أنها نفس طبيعية، ويمكن استنباط خصائصها من أنها البداية المطلقة للروح، فهي مباشرة، يقول هيغل: «إن المعرفة التي نبحث عنها في هذه المرحلة تتسم بالمباشرة»[23]. فالعلاقة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة هي علاقة مباشرة، وتتمثل المباشرة هنا في أن الوعي لا يستنتج وجود الموضوع، بل إن الموضوع يمثل أمام الوعي. إن علينا أن نستقبل هذه المعرفة كما تعطى لنا[24]، موضوعها إذاً مستقل عن الوعي، ويمكن أن نطلق عليه الاتصال المباشر بموضوع ما ندركه دون أن نحاول فهمه أو وصفه[25]، وبما أنها كانت مباشرة، فإن خاصيتها الوحيدة هي مجرد الوجود فليس في استطاعتنا أن نقول عنها سوى أنها موجودة فحسب، لأن انعدام كل توسط فيها يعني:
1- أنها لا تتوسط نفسها أو هذا يعني أنها لا تحتوي على أيّ تميزات (نفس فارغة).
2- يعني أنها لا يتوسطها شيء خارج كالعالم الموضوعي، فقدانها للذي يواجهها، وبالتالي فهي لا تتميز بأي علاقة مع أي شيء آخر؟ ومن هنا، لا تنطبق عليها مقولات الماهية التي هي دائرة العلاقة والتي تربط الأشياء في ما بينها، وإنما تنطبق عليها مقولات الوجود فحسب. وكما أن أولى مقولات المنطق هي مقولة الوجود، كانت عبارة عن فراغ متجانس للفكر، فإننا نجدها كذلك أنها أول مرحلة من مراحل الروح، وهي إن صح التعبير مجرد فراغ متجانس في دائرة الروح[26].
ونحن مع موضوع النفس في بداية الروح الواعية، فإننا على قمة السلم المعرفي في عالم الطبيعة (بداية تكوّن المعرفة في تاريخها) وكل حركة واعية تستمد تصوراتها من الطبيعة وهذا ما يفسر غرق الوعي الإفريقي في ما هو طبيعي وفي نسج الأساطير وبناء الأحكام انطلاقا من الطبيعة. وقد نسأل هنا أنفسنا إلى أي حد ترتفع النفس الطبيعية عن الطبيعة ذاتها؟ والجواب هنا هو بما أن النفس، بعدما كانت نفساً طبيعيةً، ومجرد فراغ للوجود، تفتقر تماما إلى أيّ خصائص روحية محددة لها، فإننا نستطيع أن نقول أن مقدار التقدم الذي أحرزته النفس الطبيعية في عالم الطبيعة ليس كثيرا، إذ لا تزال مرتبطة بالطبيعة ارتباطا تاما وخاضعة لها في جملتها، وهي لهذا السبب تسمى بالنفس الطبيعية[27].
في هذا الشأن يقول هيغل: «على هذا الطريق سوف يتبيّن أن الوعي الطبيعي، إنما هو تصور للمعرفة أو معرفة غير متحققة، ولكن هذا الوعي إذا كان يرى نفسه مباشرة على أنه المعرفة المتحققة، فهذا الطريق سوف يعدل في نظرته ضياعه، لأنه يفقد على هذا الدرب حقيقته، وفي هذا الطريق كأنه طريق الشك أو بعبارة أصوب كأنه طريق اليأس» (désespoir)[28].
فحالة النفس هذه هي المرحلة التي لا تزال هي نفسها حياة الطبيعة، متماهية مع بيئتها، وهذه البيئة من العالم المحيط، الذي يتألف من الموضوعات الطبيعية. ولكن رغم أننا نعرف ذلك إلا أن تلك النفس لا تعرف التنوع، فهذا التنوع الطبيعي موجود لأجلنا (La diversité naturelle existe pour nous) وليس موجودا من أجل ذاته. أما النفس الأولية خلال هذه المرحلة لا تعني هذه العلاقة( علاقتها بمواضيع الطبيعة)، ومادام لا يوجد شيء خارجها، فإنها بذاتها تؤلف مجموع الوجود الفعلي الكلي كله- فكل ما هو موجود لا بد أن يوجد فيها- ومن ثم فإن الحالات المختلفة التي تشكل فيها بواسطة البيئة (environnement)، تبقى عبارة عن خصائص أو كيفيات خاصة بها دون تأثر، وما دامت حياتها كلها هي مجرد مشاركة في حياة الطبيعة العامة، فإن تلك الخصائص أو الكيفيات لا تكون سوى خصائص طبيعية أو فيزيائية، وتلك الخصائص أو الكيفيات تعتبر جانبا من الجسد الحيواني بمقدار ما تعتبر جانبا من النفس[29].
ينكر هيغل عينية النفس الطبيعية، ويعلن أنها غير محسوسة، لا تعدو أن تكون كتلة من العناصر الخاصة ذات الأوجه العديدة، فضلا عن كونها من ناحية أخرى سلسلة من التجريدات المأخوذة من تلك الأكوام الطبيعية عن طريق الإدراك، فالعالم الحسي عالم تنقصه الوحدة وهو مكون من أجزاء تم إلصاق بعضها البعض، وهذا كله هو المجرد في نظر هيغل، والمجرد هو إدراك أي شيء من جانب واحد، منفصلا عن كل ارتباطاته الأخرى، وعلى ذلك كله[30] يرتب هيغل هذه الخصائص الفيزيائية على النحو التالي:
النفس تشارك في الحياة العامة للكون، وتشعر بتغيرات الجو، وتقلبات الفصول وساعات النهار…إلخ. ولا تتجلى حياة الطبيعة هذه بوضوح، أي لا تظهر لنا نحن العقلاء، إلا في حالة الإعياء الكامل أو اضطراب النشاط العقلي، وقول هيغل (إن نقاط التعاطف هذه تتدرج في حالة الإنسان المتمدن، بل تكاد تختفي تماما تحت الاستجابة لتغيرات الفصول وساعات النهار، سوى تأثيرات طفيفة على المزاج ولا تظهر بوضوح إلا في الحالات المرضية)[31].
لا يبدأ تاريخ العالم الإنساني بالصراع بين الفرد والطبيعة، ما دام الفرد في واقع الأمر نتاجا متأخرا في التاريخ البشري، بل إن الشمول أو الاشتراك بين الإنسان والطبيعة ( Entre l’homme et la nature)، يأتي أولا وإن كان يأتي في صورة جاهزة ( مباشرة)، وهذا الاشتراك لم يصبح بعد اشتراكاً عاقلا[32]. ولا تكون الحرية صفة من صفاته، ومن ثم فإنه سرعان ما ينقسم إلى أضداد متعددة، ويسمي هيغل هذه الوحدة الأصلية في العالم التاريخي باسم الوعي (conscience)، وبذلك يؤكد من جديد أننا دخلنا عالما يتسم كل شيء فيه بطابع الذات.
إن أول شكل يتخذه الوعي في التاريخ، ليس شكلَ وعيٍ بل وعياً كليّاً، ربما كان خير ما يمثله هو وعي جماعة بدائية (groupe primitif)، تندمج فيها كل فردية داخل المجتمع المشترك، فالمشاعر والإحساسات والمفاهيم لا تنتمي في واقع الأمر إلى الفرد، فإن كلا من طرفي التضاد، وهما الوعي أو موضوعاته، له صورة الذاتية كما هي الحال في كل أنواع التضاد الأخرى في عالم الذهن[33].
فهذا اللون من التعاطف نجده أحيانا يتجلى وسط القبائل البدائية (Les tribus primitives) بما فيها بعض المجتمعات في إفريقيا التي لا زالت حبيسة هذه المرحلة، وهيغل في هذه المرحلة يميز جيدا بين النفس وهي موضوع الأنثروبولوجيا وبين الشعور أو الوعي وهو موضوع الفينومينولوجيا، والروح وهي موضوع علم النفس. فالروح في هذه المرحلة تحاول بكد أن تخرج من حالة الطبيعة إلى مرحلة تحاول فيها أن تحدد ذاتها بذاتها[34].
فالنفس الطبيعية هي تجريد أكثر رقة من الإحساس العادي، وهي لا توجد على أي صورة من الصور في الإنسان، فهيغل هنا ينظر إلى الإحساس في حالة مجردة عن العقل وكذلك تمارس الفلسفة هنا هذا الحق نفسه. فإن معظم مراحل الروح التي يبحثها هيغل في الأنثروبولوجيا مجردة، وأولوية لدرجة أننا نصادف بعض الصعوبة في إدراكها داخل أنفسنا، فلقد ظلت فترة طويلة حتى اندرجت تحت عتبة الوعي، ورغم ذلك فهي تظهر في التغيرات الطفيفة للمزاج وفي الحالات المرضية كما أشار هيغل نفسه، حيث يقول: «وليس فقط وعيه لهذا الفراغ، بل حتى النهائية التي هي فحواه، ولكي تحقق مكسب الجوهر الذاتي يجب على الفلسفة أن تحل غلق الجوهر فترتفع به إلى الوعي- بالذات»[35].
إن التحولات الفيزيائية (Les transformations physiques) والكيفيات التي طرأت على النفس الآن، هي كتلك التغيرات التي يمر بها الإنسان ( طفولة، شباب، رجولة)[36]. يقول هيغل: «إذا أخذنا النفس على أنها فرد، فإننا نجد تنوعاتها، أي كيفياتها الفيزيائية، قد أصبحت تحولات بداخل الذات الواحدة الدائمة وكمراحل في مجرى تطورها»[37]. وهذه الكيفيات الفيزيائية المتنوعة تحتوي على الاختلاف والتحول بعضها إلى بعضها الآخر، ولكن على الرغم من أن التغير يتضمن يقينا التنوع والاختلاف، وقد حصرها هيغل في النقاط التالية:
1 -الطفولة، الشباب، الرجولة والشيخوخة.
2 – العلاقات الجنسية: التحول الموجود في الفرد الذي يبحث في نفسه ويجدها في شخص آخر.
3 – تغيرات النوم واليقظة: ولقد قدم لنا هيغل استنباطا للمظاهر الأساسية لهذه المرحلة، وفي حين أن النفس الطبيعية كانت من أولى مظاهرها فراغٌ وتجانسٌ كاملين، وكانت خالية من كل تمييز داخلي، فإنه يوجد فيها الآن التميز الضمني بين ذاتها، أي الفراغ المتجانس ( vide homogène) الذي بدأ منه وبين تأثيرات بيئتها التي ظهرت فيها، على أنها كيفيات وتحولات فيزيائية من ناحية أخرى.
وإذا كان هيغل قد أطلق على الأولى (اسم الوجود المباشر)، فيمكن أن نسمي الثانية، اسم مضمون هذا الوجود، وعندما تميز الفردية الآن في داخلها بين مضمونها وبين وجودها المباشر المحض، يكون لدينا حالة يقظة. أما النوم من ناحية أخرى، فهو يمثل انزلاقها إلى حالة وجودها المباشر، فالنوم هو إن صح التعبير، فقدان المضمون( Perte de contenu)[38]، والعودة إلى حالة الشمول والتجانس( Le cas de l’inclusion et la cohésion)، التي تعود فيها النفس إلى مرحلتها الأولى، أي مرحلة الوجود المحض ويمكن أن ينظر إليها على أنها الشعور الخالي من كل مضمون، أي الشعور بالعدم أو اللاشعور[39].
إن التميز الداخلي الضمني بين الوجود المباشر للنفس، وبين مضمونها يؤدي إلى ظهور الإحساس أو الحساسية، لأن النفس ميزت الآن بين مضمونها أو تأثيراتها وبين ذاتها، وعلى ذلك، فبدلا من أن تكون هذه الخصائص كيفيات لها تصبح الآن إحساساتها. فلما كانت هذه الخصائص والكيفيات شيئا متميزا عن ذاتها، فإنها بالتالي شيءٌ موجودٌ، شيءٌ يبدو أن له وجودا ضمنيّاً قائما بذاته مستقلًّا عن النفس ذاتها، ومن ثم فهي ليست جزءا من النفس، على نحو ما كانت الكيفيات، ولكنها تأثيرات موجودة بداخلها على أنها شيء آخر غير ذاتها، أي أنها إحساسات، وحيازة هذه الإحساسات هو ما يسمى بالحساسية (sensibilité) [40].
يقول هيغل: «وليس فقط وعيه لهذا الفراغ، بل من النهائية التي هي فحواه، ولكي تحقق مكسب الجوهر الذاتي يجب على الفلسفة أن تحل غلق الجوهر، فترتفع به إلى الوعي-بالذات، حتى تقيم الشعور بالماهية وألا تتعهد بالفهم بقدر تعهدها بالتشييد، [عن طريق الرغبات والميولات]، إنما الجميل والمقدس والأزلي والدين والحب طُعمٌ واجبٌ حتى تتأجج الرغبة في الروح الذاتي فليس المفهوم المحكم بل بالفتنة التي تثري الجوهر، التي تناظر انغراس البشر في الحسي والمشترك والفردي، وتصويب أبصارهم قبل النجوم، بدلا من التنعم مثلهم مثل ديدان الأرض بالغبار والماء»[41].
ولكن رغم ما لهذه الإحساسات من استقلال، إلا أنها لا تزال موجودة داخل النفس ذاتها، ولا تزال النفس بالنسبة لنفسها تمثل الوجود، فلا شيء خارجها، فليس هناك موضوع خارجي يقع في مقابل الذات، والإحساس ليس شيئا آخر غير النفس ذاتها. إنها مرحلة فحسب من مراحل تميز نفسها بما هي كذلك عن النفس، وتمثل الإحساسات التي لا تنسبها إلى أي مصدر خارجي، لكنها تكمن داخل أنفسنا كالجوع والتعب والألم الداخلي ما يقصده هيغل بهذه الفكرة[42]. فأنا أميز بين نفسي وبين هذه الإحساسات، فأنا لست الجوع، رغم أنه موجود بداخلي، فهو ليس بإحساس بموضوع كما هي الحال في الإحساس الخاص بالرؤية حين أرى شجرة أو منزلا[43][44].ولكنه إحساس ذاتي خالص، فليس ثمة شيء خارجي أمام نفسي.
2 – حسية الذات الإفريقية
إن السمة البارزة للحياة الزنجية هي أن الوعي لم يبلغ بعد مرحلة التحقيق الفعلي لأي وجود موضوعي جوهري مثل: الله أو القانون اللذين ترتبط بهما مصلحة الإنسان وفيها يحقق وجوده الخاص، والإفريقي في وجوده العيني الموحد، الذي يتسم بالتجانس والتخلف، لم يبلغ بعد تلك المرحلة التي يميز فيها بين ذاته بوصفه فردا وبين كلية وجوده الجوهري، بحيث إنه يفتقر تماما إلى معرفة أن هناك وجودا مطلقا آخر أعلى من ذاته الفردية. فالرجل الزنجي كما لاحظنا من قبل، يمثل الإنسان الطبيعي في حالته الهمجية غير المروضة تماما ولا بد لنا يقول هيغل، إن أردنا أن نفهمه فهما حقيقيا سليما، أن نضع جانبا كل فكرة عن التبجيل والأخلاق، وكل ما نسميه شعورا أو وجدانا، فلا شيء مما يتفق مع الإنسانية يمكن أن نجده في هذا النمط من الشخصية، والروايات الغزيرة والمفصلة التي يرويها المبشرون تؤكد ذلك تماما.
وحسب هيغل كان للعقيدة الإسلامية دورا مهما في إدخال الزنوج في نطاق الحضارة، ولقد فهم المسلمون أفضل من الأوروبيين كيفية النفوذ إلى داخل هذه الجغرافيا، ويمكن أن نقدر على نحو أفضل درجة الحضارة التي يمثلها الزنوج إذا ما تأملنا المرحلة التي يمثلها الدين عندهم [45].
إن ما يشكل أساس التصورات هو الوعي من جانب الإنسان بقوة عالية-حتى على الرغم من أن الإنسان قد يتصور هذه القوة على أنها قوة طبيعية فحسب-يشعر أمامها بأنه موجود ضعيف متواضع، فالدين يبدأ من الوعي بأن هناك شيئا أعلى من الإنسان.
ينعت هيرودوت الزنوج بالسحرة، على أن الإنسان في حالة السحر لا يكون لديه فكرة الله ولا فكرة الأيمان الأخلاقي، ذلك أن السحر ينظر إلى الإنسان على أنه القوة العليا، وعلى أنه يشغل هو وحده مركز الأمر المسيطر على قوى الطبيعة، ومن ثم فلسنا أمام شيء من العبادة الروحية لله أو ملكوت الحق. فالإله يرعد لكننا لا نتعرف عليه بأنه الله، وعلى هذا الأساس إذن الله لا بد أن يكون أمام الروح البشري أكثر منه صانعاً للرعد.
لكن الأمر يختلف عن ذلك عند الزنوج[46]. فعلى الرغم من أنهم على وعي تماما باعتمادهم على الطبيعة لأنهم يحتاجون إلى الآثار المفيدة للعواصف والمطر وتوقف فترة الأمطار، فإن ذلك لا يؤدي بهم إلى الوعي بقوة أعلى، إنهم هم الذين يسيطرون على عناصر الطبيعة، وهذا ما يطلقون عليه اسم السحر. وللملوك في إفريقيا طبقة كهنة يتحكمون من خلالهم في التغيرات التي تحدث في عناصر الطبيعة، وكل موقع له سحرته الذين يقومون بتأدية طقوس خاصة، وبجميع أنواع الحركات الجسمية والإيماءات وألوان الرقص والصخب، ووسط هذا الخليط المضطرب يبدأون في ممارسة تعاويذهم وسحرهم.
أما العنصر الثاني في ديانتهم، فيبرز في إعطاء شكل خارجي لهذه القوة التي تعلو على الطبيعة مسقطين قوتهم الخفية على عالم الظواهر بواسطة مجموعة من التصورات، ولذلك ما يتصورونه قوة ليس شيئا موضوعيا حقيقيا له وجود جوهري قائم بذاته ومختلف عنه، وإنما هو أول شيء يصادفونه، وهذا الذي يصادفونه يأخذونه بغير تمحيص ويرفعونه إلى مرتبة: الجني أو الروح الحارس، وقد يكون حيوانا أو شجرة أو حجرا أو صورة خشبية وهي تلك تميمتهم (fetish) وهي كلمة كان البرتغاليون أول من تداولها، وهي مشتقة من كلمة (feitizo) البرتغالية التي تعني: السحر، والتميمة تمثل لوناً من الاستقلال الموضوعي في مقابل الخيال العشوائي عند الفرد. لكن لما كانت الموضوعية لا تعدو أن تكون خيال الفرج وقد أسقطه في المكان، فإن الفردية البشرية تظل مسيطرة على الصورة التي اتخذتها[47]. وباختصار ليست هناك علاقة تبعية في الدين، غير أن هناك مظهرا واحدا يشير إلى شيء في ما وراء الواقع وهو عبادة الموتى، التي ينظرون فيها إلى أسلافهم وأجدادهم الموتى على أنهم قوة مؤثرة على الأحياء، وفكرتهم أن هؤلاء الموتى يمارسون الانتقام والأذى على الإنسان، ومع ذلك فهم لا يعتبرون قوة الموتى أعلى من قوة الأحياء، لأن الزنوج يتحكمون في الموتى ويضعون لهم سحرا ورقيا. وعلى هذا النحو تظل هذه القوة على الدوام، وبطريقة جوهرية، خاضعة لسيطرة الذات الحية. ولم ينظر الزنوج إلى الموت على أنه قانون طبيعي كلي، بل اعتقدوا أنه يأتي من سحرة الأشرار. وتتضمن عقيدتهم هذه بالتأكيد الاعتقاد بأن الإنسان يعلو على الطبيعة إلى حد أن الإنسان ينظر إلى هذه الأشياء الطبيعية على أنها أداة ووسيلة ولا يعطيها شرف معاملتها على أنها تتحد بذاتها بل يتحكم فيها هو.
لكن القول بأن الإنسان ينظر إليه على أنه الأعلى، يترتب عليه أنه لا يعطي لنفسه احتراما، ذلك أنه لا يصل إلى وجهة نظر تلهمه احتراما حقيقيا إلا عن طريق الوعي بوجود أعلى، إذ لو كان الاختيار العشوائي هو المطلق، أي لو كان هو الموضوعية الجوهرية الوحيدة التي تتحقق لما استطاعت الروح أن تكون على وعي بأيِّ كلية، ومن هنا أطلق الزنوج لأنفسهم العنان في الاحتقار الكامل للبشرية[48]، الذي هو السمة الأساسية لجنسهم من حيث صلته بالعدالة والأخلاق. كذلك لا يوجد لديهم أي فكرة عن خلود الروح رغم اعتقادهم بأشباح الموتى.
لقد رأينا أن الإحساسات موجودة في النفس حسب هيغل، والإحساسات من ناحية هي متميزة عن النفس ذاتها، وهي من ناحية أخرى موجودة بداخلها وبالتالي فهي جزء منها، وبما أنها متميزة عن النفس، فإن النفس قد أدركت فعلا أن هذه الإحساسات موجودة. فوفق هذه الوجهة من النظر، نجد أن هذه الإحساسات هي التي تؤثر في النفس، أي أنها إيجابية نشطة (Active) في حين أن النفس سلبية[49]* متقلبة. ولكن هذه الإحساسات من ناحية أخرى، موجودة بداخل النفس وهي جزء منها، فإنه ينتج من ذلك أن ما هو إيجابي، وما يؤثر في النفس ليس سوى النفس ذاتها، ومن هنا كانت النفس إيجابية، وإحساساتها هي فعلها الخاص. إن النفس تحس وتشعر، وما كانت كذلك فهي النفس الحاسة، وهي الحالة التي لا تزال تسود الذات الإفريقية، بما أن الإحساسات بقيت موردا لحركة الوعي للأنا الإفريقية.
يقول هيغل «فكل يقين حسي متحقق بالفعل، لا ينحصر في كونه هاته المباشرة الخالصة، بل هو أيضا مثل من أمثلتها، ومنه تخرج إلى الضوء فروق لا حصر لها، تشترك جميعها في احتوائها على هذا الفرق المبدئي، وأعني به أن الوجود المحض ينشق في كل خبرة حسية إلى شقين، هما سميناهما بالهاذين: هذا الأنا وهذا الموضوع»[50][51].
الذات الحسية هنا، تريد الشيء المحسوس، لا من حيث هو شأن مباشر، كما ادعى سلفه وإنما من حيث هو شأن كلي. فموضوعه إذاً هو الشيء (الحامل لخاصيات متعددة)، وهي خاصيات غير مباشرة لأنها تتحدد على ضوء علاقتها بغيرها، ولكنها تنتمي في الوقت نفسه إلى شيء واحد، إنّ الإدراك يشتمل في ماهيته على الشيئية [52].
فالإحساس السابق ذكره (في النفس الطبيعية)، وبين الحس أو الشعور الذي نحلل الآن، هو أن الإحساس يؤكد سلبية النفس في تأثيراتها، في حين أن الشعور يؤكد إيجابياتها، فالنفس في ذاتها تشعر أو هي حاسة.
رغم أن النفس الحاسة (الشاعرة) بما هي كذلك إيجابية، فإن نشاطها وإيجابياتها لا تتحقق في أول مرحلة مباشرة لها، يعني أصبحت ذاتا، فهو يتضمن الإحساس بالذات أو الأنا أو الشعور بأن الذي يعمل هو أنا، ويتضمن ذلك بدوره التفرقة بين الأنا الذي يعمل وبين الشيء أو الموضوع، الذي أجعله ميدانا أمارس فيه فعلي.[53] وأهم الأمثلة التي ساقها هيغل حول هذا الموضوع، هي حالات النفس عند الطفل الذي لا يزال في رحم أمه، وحالة النفس في التنويم المغناطيسي (hypnose)، فمشاعر الطفل وهو في رحم أمه، ليست في الحقيقة مشاعره الخاصة، لكنها مشاعر أمه، إنها نفس الأم التي تحكم وتسيطر على نفس الجنين. يقول هيغل: «ومع ذلك فإنه ليس عسيرا أن يدرك المرء أن زماننا هو زمان ميلاد ومرورٍ إلى طور جديد، فالروح قد قطع مع ما دام إلى الآن من عالم كيانه وتصوره، ويضع في المفهوم أن يغط كل ذلك في المكان وفي العمل على تكرير إخراج تشكله. والأكيد أن الروح لا يُحصَّل قط في سكون، بل في حركة رابية أبدا… وهو كحال الطفل قد ولد، كذلك الروح المتكون يشتد عوده ببطء وبصمت قِبَل الشكل الجديد… لكن هذا الجديد لا حقيق تامًّا له، إلا بالقدر اليسير الذي للطفل المولود للتو وهذا أمر مهم لا يجب غض النظر فيه»[54].
أما الشعور بالنفس أو الإحساس بالذات فإنّه موجود ضمنا في الحالات السابقة، والنفس الآن تميز بصراحة بين إحساساتها ومشاعرها وبين ذاتها، فالآن أصبحت النفس تعرف بأن إحساساتها ومشاعرها جوانب جزئية من ذاتها، ويرى هيغل أن الإخفاق في إخضاع الجوانب الجزئية (الإحساسات والمشاعر) للنفس على نحو مناسب، والميل إلى ترك جانب جزئي واحد يخضع جميع الجوانب الأخرى لإمرته، وبالتالي يسيطر على الحياة بأسرها، هو الجنون[55].
أما العادة (habitude)، فهي تميز النفس الآن ما بداخلها بين وجودها المباشر الذي هو الشمول المتجانس غير المتميز من ناحية، وبين مضمونها الذي يتكون من الإحساسات والمشاعر وهي كثرة متنوعة من الجزئيات من ناحية أخرى. هذان هما النصفان اللذان تنشطر إليهما النفس. والنصف الأول هو بذاته صورة فارغة تماما للكلية والشمول[56]، والثاني هو بذاته، خليط أعمى، ومن هنا فكلاهما جوهري سواء بسواء، ولا يمكن لهما أن يوجدا في حالة انفصال ومن ثم فإن الكلية الفارغة لكي توجد لا بد لها من أن توجد نفسها في الجزئيات، وأن توجد فيها بواسطتها، وهي حين تفعل ذلك فإنها تضع بطابعها الكلي الإحساسات والانطباعات الجزئية وغيرها، وهذه الكلية التي تظهر الآن في الجزئيات هي في ما يقول هيغل كلية منعكسة فحسب، أي أنها مجرد كلية عددية توجد في الشيء مكررة في سلسلة نفسها، على هذا النحو فإنها تؤلف ما يسمى بالعادة. في هذا الشأن يقول هيغل: «فمبتدأ الروح الجديد، إنما هو نتاج تبدل متصل لصور من الثقافة متنوعة… وهذا المبتدأ إنما هو الكل الذي يؤوب إلى نفسه من بعد التعاقب كما من سروحه. إنه المفهوم البسيط والمتصيّر الذي لعين الكل، لكن حقيق هذا الكل البسيط، قوامه أن هذه التشكلات التي استحالت لحظات، إنما تتنامى من جديد وتتشكل، لكن في أسطقسها الجديد وفي المعنى الذي قد استحال»[57].
الذات الفردية تبرز عند هيغل، حينما يكون الفرد مضطرا إلى أن يتحكم في جسمه العضوي ومتطلباته، استجابة تعرضها قواعد ونماذج مقبولة من المجتمع، وفي هذه الشروط يكون الفرد مسوقا إلى التمييز بين ذاته وبين جسمه العضوي، وتلك القواعد والنماذج الكلية، لا تمليها الطبيعة بل الثقافة (culture)[58].
لقد كان ضعف الأميركيين الأصليين البدني سببا رئيسا في جلب الزنوج الأفارقة إلى أميركا واستخدامهم في الأعمال التي ينبغي أن تتم في العالم الجديد، ذلك لأن الزنوج كانوا أكثر تقبلا للمدنيّة الأوربية من الهنود حسب هيغل.
استعبد الأوربيون الزنوج وباعوهم في أميركا والعبودية منتشرة بصفة مطلقة في إفريقيا، ذلك لأن المبدأ الجوهري للرق أو العبودية هو ألّا يكون الإنسان قد وصل إلى مرحلة عدم الوعي بحريته وينحدر بالتالي إلى مرتبة الشيء المحض، أي يصبح موضوعا بغير قيمة. والمشاعر الأخلاقية عند الزنوج ضعيفة للغاية أو هي معدومة إن شئنا الدقة، فالآباء يبيعون أبناءهم كلما سنحت الفرصة لهم، ولقد اختفت بسبب انتشار العبودية عندهم جميع روابط الاحترام الأخلاقي. وكثيرا ما يكون الهدف من ممارسة نظام تعدد الزوجات عند الزنوج الحصول على عدد كبير من الأطفال ليباعوا كرقيق. وهكذا فإن السمة التي يتميز بها احتقار الإنسانية عند الزنوج ليست هي إزاء الموت كما عبر عنها هيغل في جدلية السيد والعبد، بقدر ما هي الافتقار إلى احترام الحياة نفسها، وينبغي أن نعزو الشجاعة العظيمة عندهم إلى سمة افتقارهم لاحترام الحياة هذه التي تدعمها قوة بدنية كبيرة.
يرى هيغل أن النظم السياسية عند الأفارقة ليست متطورة، فهم ينقادون بالرغبة الحسية العشوائية، مضافا إليها كافة الإرادة ما دامت القوانين الروحية الكلية (مثل قوانين أخلاق الأسرة) لا يمكن أن يعترف بها هنا، إذ لا توجد الكلية عندهم إلا كاختيار ذاتي عشوائي، ولذلك فإن الروابط السياسية عندهم لا يمكن أن يكون لها طابع القوانين الحرة التي توحد الجماعة، ولا شيء يقيد الإرادة العشوائية ولا شيء يمكن أن يربط الدولة لحظة واحدة سوى القوة الخارجية: فالحاكم يتربع على رأس الدولة، لأن الهمجية الحسية لا يمكن أن تكبح جماحها سوى القوة المستبدة. ويتمتع الملوك إلى جانب ذلك بامتيازات خاصة أخرى: فالملك عند الأشانتيين (وسط غانا) يرث كل الثروة التي يخلفها رعاياه بعد موتهم، وفي بعض المناطق يأخذ نساءهم وأطفالهم. وإذا غضب الزنوج من ملكهم أسقطوه وقتلوه بالتمرد الشامل[59].
إنها تلك النظرة الأوربية مسكونة في آن واحد بكراهية الجسد الأسود والخوف منه والقلق إزاءه والرغبة الجنسية فيه. وهكذا فإن هذه النظرة العرقية تعاني وعيا منفصما مزدوجا، وعي التفوق ووعي عدم الكفاءة، وعدم الاكتمال. إنه عدم اكتمال يتجسد في الرغبة البصرية للآخر، الآخر الزنجي[60].
إنه يجعل من الأسود موضوعا ويختم على مصيره بأنه أسود. إن الآخر الأبيض يختزل الأسود إلى موضوع مسبب للفوبيا (الرهاب) يعبر عن الرغبات المكبوتة لدى المجتمع الأوربي وهو الضعف الجنسي حسب فانون.
يقول فانون: في أعمق أعماق العقل الباطن الأوربي، تم صنع صورة لرجل أسود أجوف بصورة جامحة، تكمن فيها أكثر الدوافع انحطاطا أخلاقيا وأكثر الرغبات مدعاة للعار. وكما أن كل إنسان يصعد نحو البياض والضوء، فإن الأوربي حاول إنكار ذاته غير المتحضرة التي سعت لأن تدافع عن نفسها. وعندما وقع اتصال الحضارة الأوربية بالعالم الأسود، بتلك الأقوام الهمجية، اتفق الجميع على أن: أولئك السود هم مبدأ الشر في العالم. فالأسود هو رمز الشر، رمز السادية، رمز الشيطان، رمز القذارة الأخلاقية، ورمز الخطيئة. وهذه الرموز بعد إسقاطها على الأسود مرة تلو المرة، تخلق الأساس لعقدة النقص، إذ يصبح الآخر الأبيض عماد انشغالاته.
تتميز الشخصية الزنجية في نظر هيغل بالافتقار إلى ضبط النفس وتلك حالة تعجز عن أي تطور، ولهذا كان الزنوج باستمرار على نحو ما نراهم اليوم. والرابطة الجوهرية الوحيدة التي وجدت ودامت بين الزنوج والأوربيين هي رابطة الرق والعبودية، ولا يرى الزنوج في هذه الرابطة شيئا مشينا لا يليق بهم، بل إن الزنوج عاملوا الإنجليز أنفسهم على أنهم أعداء لأنهم بذلوا جهدا كبيرا في إلغاء الرق [61].
والنظرية التي نستنتجها من حالة الرق هي: إن حالة الطبيعة ذاتها هي حالة من الظلم، فهي انتهاك للحق والعدل. وكل درجة متوسطة بين هذه الحالة وبين التحقيق الفعلي للدولة العقلانية كما كان يتوقع المرء بجوانب وعناصر من الظلم، ولهذا نجد الرق حتى في الدولة اليونانية والرومانية. لكن الرق حين يوجد في دولة ما على هذا النحو يشكل مرحلة متقدمة بالقياس إلى الوجود المادي المحض المنعزل، أي مرحلة تعليم ونوع من المشاركة في أخلاق عليا وثقافة ترتبط به: إن الرق في ذاته ولذاته، ظلم، لأن ماهية الإنسان هي الحرية. ولكن لا بد لتحقيق هذه الحرية من أن ينضج الإنسان، ولذلك فإن الإلغاء التدريجي للرق أحكم من إزالته فجأة. والواقع أن ما نفهمه من اسم إفريقيا هو الروح غير المتطور الذي لا تاريخ له ولا تطور أو نمو حسب هيغل، والذي لا يزال منغلقا تماما وفي حالة الطبيعة المحض، والذي كان ينبغي أن يعرض هنا بوصفه واقعا على عتبة تاريخ العالم فحسب، وعليه فلا بد لشعوب شمال إفريقيا أن لا ينسوا أنهم في امتداد مستمر لإفريقيا ثقافة وجغرافيا[62].
فانون ناقدا لهيغل: الرجل الأبيض هو من أوجد الرجل الأسود!
ينتقد فانون في كتابه «جلد أسود وقناع أبيض» نظرة هيغل المقصر في حق الكينونة الإفريقية، وعلى أنها كانت عرجاء ولا ينطبق عليها سير ديالكتيكي وهو النص الأكثر ثباتا لنقد ديالكتيك هيغل بشأن جدلية السيد والعبد وادعائه أن: الإنسان لا يكون إنسانا إلا بقدر ما يحاول أن يفرض وجوده على إنسان آخر من أجل الحصول على اعترافه به.
إن صورة الإفريقي حسب فانون توجد بصورة مطلقة من أجل الآخر[63] فمن أجل امتلاك اللغة يفترض وجود ثقافة وعالم تعبر عنهما تلك اللغة، وتماما كما يعتبر هيغل في فينومينولوجيا الروح أن اللغة هي عنصر مهمٌّ في التبادلية. فوفق هيغل تتطلب التبادلية بين أنواع الوعي الفردي لسانا مشتركا أي لغة. اللغة والاعتراف يستلزم كل منهما الآخر، التكلم مع آخرين يعني الاعتراف بهم، ومعرفتهم كأشخاص، وحيثما لا يوجد هذا النوع من اللغة ينشب الصراع.
وعلى هذا الأساس يعد ديالكتيك السيد/ العبد لدى هيغل هو بدء الصراع حتى الموت، ويتوقع المنتصر خدمة لا خطابا وفق قراءة فانون، وفي الوضع الاستعماري الخطاب لا يحقق التبادلية المفروضة بين طرفين، وبما أن المستعمر لا يحترم ثقافة الآخر، فإن اللغة الوحيدة التي يتكلمها هي لغة العنف والترهيب والإقصاء، وفي هذا الشأن يقول فانون: كل شعب مستعمر-وبعبارة أخرى – كل شعب نشأت في روحه عقدة نقص نتيجة موت ودفن أصالته الثقافية المحلية-يجد نفسه وجها لوجه مع لغة الأمة ناقلة الحضارة.
إن لغة السيد هي أداة للتقدم في العالم الأبيض، لكن الأسود الذي يتكلم لغة البيض يظل محروما من الاعتراف مهما تملق فيها، ويبقى بياض الوجه المعيار المعتمد لتحديد الاستقامة والتفوق، وبالتالي في نظر فانون فإن الوعي المؤسس على وعي التشابه يصل إلى طريق مسدودة. فالعبد الذي يعتنق كلام السيد يمكن أن يصل بأقصى أمله إلى اعتراف زائف فقط-إلى قناع أبيض، وفي ظل هذه الظروف، لا تتقدم لغة السيد من إحساس وبناء عليه، فإن التبادلية في صميم الديالكتيك الهيغلي لا تكون ممكنة عندما نقوم بإسقاطها على علاقة الأبيض بالأسود حسب فانون.
يعد نقد فانون لهيغل هو نقداً أصيلاً، ويتمثل أحد أوجه هذه الأصالة في وصفه للديالكتيك بأنه (غير مرتب) أو أنه مفتوح النهاية. إن إدخال فانون عامل العرق في ديالكتيك السيد/ العبد الهيغلي أربك نوعا ما قانون عمل هذا الديالكتيك، وهو مساهمة فعالة وأصيلة جرى تطويرها في سياق فلسفة هيغل في فترة ما بعد الحرب في فرنسا.
وعليه فإنّ فانون في خضم نقده قدّمه على أنه ديالكتيك سلبي الأطراف.
وبناءً على هذا النقد، يدعو فانون إلى ضرورة تصحيح الأخطاء الثقافية من قبل الأسود ذاته، ومن أجل تصحيح هذه الأخطاء من منظور فينومينولوجي، يعود فانون إلى تحليل التجربة المَعيشة الخاصة بالكائن الأسود في مجتمع عنصري، وهذه الطريقة التي يسميها بطريقة(النكوص)، والتي هي أهم طريقة للنضال في نظر فانون.
وكما يرى فانون أن الوقوف على مصدر اغتراب الأسود من ناحية التحليل النفسي يتطلب الذهاب إلى المرحلة السابقة لعقدة أوديب، وبالتحديد إلى مرحلة التنشئة الاجتماعية ما قبل الأوديبية، فإن الوصول إلى ديالكتيك السيد/العبد من منظور العرق يتطلب العودة إلى لحظة اليقين الذاتي السابقة للرغبة، ومن المفارقات أن هذه العودة تبدو أنها تعيد إنتاج الموقف الكولونيالي والهيغلي نمطيا إزاء الإفريقي بوصفه طفلا يغوص في الغرائز.
يرى فانون أن الديالكتيك الهيغلي يجبر على التراجع إلى مرحلة سابقة للرغبة في كتاب “فينومينولوجيا الروح” وبالتحديد إلى مرحلة بناء الوعي الذي شرحناه سابقا، حتى يجد معياريته الذاتية. وفي ما يتعلق بوعي الأسود، يعلن فانون أن الديالكتيك يدخل الضرورة في أساس حريتي ويخرجني من ذاتي، وبتعبير آخر، إن الحركة من اليقين الذاتي تنشأ من الضرورة التاريخية للنضال من أجل الحرية، لكن شكلها لم يحدده تطور أوربا بعد[64]، وفانون، بخلاف هيغل وسارتر، يرى أن المنهجية الارتكاسية هي السبيل الوحيد للخروج من طريق الديالكتيك المسدودة، أي أن الخطوة الوحيدة هي العودة إلى الخلف وبالتحديد إلى نقطة البداية.
حسب فانون ظل حلم الزنجية مثلا هو التحول إلى امرأة بيضاء حتى تتوحد مع العالم الأبيض وبالتالي بالمجتمع الراقي. يجسد مفهوم هيغل بشأن (اليقين الذاتي وقد أصبح جسدا)، وحقيقة هذا الوعي المتيقن من الأحاسيس تعكس عالما مقلوبا، حيث المنظر من فوق يسيطر على الحياة من تحت والاقتصاد العنصري للمدينة الكولونيالية المعهود منذ أيام الطفولة يغدو جسدا في اليقين الذاتي لدى المرأة السوداء، ويشير فانون إلى أن من السهل رؤية ديالكتيك الوجود والامتلاك في هذا السلوك، فبالنسبة إلى الأسود، لا مخرج من البنية الاجتماعية إلا من خلال العالم الأبيض. وهكذا فإن الديالكتيك الهيغلي مسدود الطريق يتسم بالاغتراب بما أن الرجل الأسود لا يجد أيْ فرصة لاختيار وجوده عبر الآخرين، لأن كل أنطولوجيا تصبح مستحيلة المنال في مجتمع مستعمر، وبتعبير آخر أن تكون أسود لا يغدو وجودا ذا معنى إلا في علاقتك بالأبيض، مع أن العكس ليس كذلك، ويعلق فانون على ذلك بقوله: إن هذا الشكل من أشكال الاعتراف لم يكن هيغل قد تصوره في فلسفته، إذ تنشأ علاقة غير متكافئة على أساس واقع لا يعترف بالثقافات الأصلية والمحلية والتي قام بمحوها مما يجعل الديالكتيك بلا حركة[65].
إن التبادلية المطلقة التي يؤكدها فانون بوصفها أساس الديالكتيك الهيغلي تبدو مستحيلة في عالم العلاقات بين السود والبيض. فبدلا من الصراع يمنح السيد الأبيض الحرية للعبد الأسود، ومن دون مجازفة بالحياة، لا يمكن للعبد أن يحصل حقيقة (الاعتراف كوعي ذاتي مستقل) ولأن الحرية هنا ليست نتيجة النضال، لا تنشأ قيم جديدة ولا تكون كلفة الحرية معروفة حسب فانون.
خاتمة:
مما تقدم نخلص إلى أن الغرب بمؤسساته ومرجعياته الثقافية والفلسفية والدينية والسياسية ومنذ عصر النهضة، تبنّى استراتيجية استغلال الشعوب في ذواتهم ومهاراتهم ومواردهم ومنتجاتهم، وهي استراتيجية لا تتم بدون مخططات ثابتة تساعد على تحقيقها، ومن أبرز هذه المخططات نجد خيار الاستعمار والاستغلال والتهميش والاحتكار، وهي مخططات في مجملها تمت بوسائل عُرف بها الغرب الحديث بتفعيله لعنصر القوة بهدف تدمير حضارات الشعوب وطمس معالمها المعنوية والمادية، ولعنصر المعرفة والعلوم والتقنية، التي لم يدخر جهدا لتطويرها وتوجيهها لهذا الغرض.
إن ارتباط المعرفة بالقوة والسيطرة في فجر العصر الحديث في أوربا لهو دليل قاطع على نوايا الغرب الاستعمارية، بفعل مجهودات بعض فلاسفته الذين نظّروا لهذا الاتجاه، على غرار ما فعل «رينيه ديكارت» في فلسفته التي نشدت ضرورة توظيف العلم للسيطرة على الطبيعة واعتباره بعض الكائنات الحية مجرد آلات خالية من الروح، وأيضا سار في السياق نفسه الفيلسوف الإنجليزي «فرنسيس بيكون» الذي رأى أنّ وظيفة المعرفة تكمن بالأساس في إخضاع الطبيعة لسلطة الإنسان، وهي الوظيفة التي اعتمدت في ما بعد على الإنسان نفسه، وصار الإنسان في ظلها عبدا لذاته، وفتح الباب من جديد لعصر الصراع والاستغلال والتطهير النوعي، بتأثير من النظريات العلمية الجديدة مع داروين وسبنسر في البيولوجيا وهيغل وشبنهاور ونيتشه في الفلسفة، نظريات غذت النزعات المتطرفة.
تعد فلسفة هيغل من أبرز الفلسفات الغربية عنصرية في حق شعوب العالم غير الأوربية، والدارس لنصوصه سيقف حتما على تصنيفاته الإقصائية للكثير من منجزات شعوب العالم العقلية والعلمية والحضارية بصفة عامة، وهي آراء جعلت من الحضارة الغربية تتوج تاريخ النوع البشري في مجمله، كما حصر محاولات المجتمعات الشرقية والأفريقية والشعوب اللاتينية بمثابة مدخل لتاريخ الحضارة الغربية، وهي محاولات أبقت الشعوب الأفريقية في مصاف الحيوانية مثلما تناوله في كتابه «العقل في التاريخ» وكتابه «العالم الشرقي» ودروسه في فلسفة التاريخ، التي نظّر فيها لسمو العرق الجرماني وتفوقه الحضاري، معتبرا إياه عرقا بشريا نموذجيا.
إن كتابات هيغل العنصرية في حق الشعوب الإفريقية والآسيوية كانت مرجعا لدوائر الحكم الأوربية في عصره، ومبررا مباشرا للغزو الإمبريالي على المجتمعات بهدف تحضيرها وإدماجها في تاريخ الغرب، وتثقيفها بثقافته، وهي كلها أفكار مركبة ومنتزعة من تراث الغرب ذاته وبالضبط من الثقافة اليونانية والرومانية والمسيحية التي تؤمن بفكرة التميز والتفوق، وأيضا من التحولات الثقافية والعلمية الكبرى التي عرفتها أوربا في العصر الحديث، التي تخدم هذه الأفكار، ومن هذه الزاوية قدم هيغل تبريراته الفلسفية لهذه النزعة، حيث إن نسقه الفلسفي بمجمله وبفروعه الفلسفية من فلسفة التاريخ وفلسفة الحق والجمال والدين كلها خدمت هذا التوجه.
وعليه يجب قراءة كتاب هيغل «فينومينولوجيا الروح» من هذه الزاوية ككتاب فاتح للعالم بأعين غربية محضة، فهو تأويل دقيق لصعود الأنا الغربية وهيمنتها على العالم منذ نشأة الأنا الغربية الواعية إلى غاية نابليون بونبارت وفتوحاته العسكرية، الذي اعتبره هيغل بمثابة العقل الكلي صانع الحريات، وهي كلها اعتبارات تقوّي شوكة التفرقة العنصرية والتصنيفات غير الشرعية كمنهج للاختزال والإقصاء والتهميش.
[1]* – باحث وأستاذ في الفلسفة المعاصرة جامعة تلمسان، الجزائر.-كتاب كارل بوبر، بحثا عن عالم أفضل، ترجمة أحمد مستجير، مكتبة الأسرة، 1999، ص150.
[2]- كافيين رايلي، الغرب والعالم، ج2، ترجمة: عبد الوهاب المسيري، هدى عبد السميع حجازي، عالم المعرفة(ع97) 1986،الكويت، ص81. [3]- كافيين رايلي، الغرب والعالم(ج2)، مرجع سابق، ص28،. [4]- كافيين رايلي، الغرب والعالم(ج2)، مرجع سابق، ص86. [5]- نغوجي واثيونغو، تصفية استعمار العقل، ترجمة سعدي يوسف، دار التكوين، 2011، دمشق، ص16. [6]- ولتر ستيس. هيغل، فلسفة الروح، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع-ط3 2005 بيروت ص 07. [7]- نايجل سي. غابسون. فانونن، المخيلة بعد- الكولونيالية، ترجمة خالد عايد أبو هديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2013، ص52. [8]- نايجل سي. غبسون. فانون، المخيلة بعد- الكولونيالية، مرجع سابق، ص55. [9]-هيغل: العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة 1987، ص157. [10]- المصدر نفسه، ص157. [11]- جان هيبوليت. دراسات في ماركس وهيغل، ترجمة جورج صدقني، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القوم دمشق 1971 ص29. [12]- فرنسوا شاتلي. هيغل، ترجمة جورج صدقني، مراجعة الأب فؤاد جرجس بربارة، منشورات وزارة الثقافة دمشق 1970 ص80. [13]- المرجع نفسه ص 95. [14]- Garaudy: La Pensée de Hegel, p 41. [15]-نايجل سي. غابسون، فانونن، المخيلة بعد- الكولونيالية، مرجع سابق، ص59. [16]- Jean Hyppolite, Etudes Sur Marx et Hegel, p30. [17]- Ibid, p31. [18]- ولتر ستيس. هيغل، فلسفة الروح، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ص 09. [19]-ولتر ستيس. هيغل، فلسفة الروح، مرجع سابق ص 15. [20]-* الذات: هي كل ما يقابل الأنا ويطلق على الغير، أي أنها تطلق على الغير فيشعر في مقابلها الأنا على أنه الغير Lalande ,Vocabulaire Technique et Critique et de la philosophie ,P.U.F ?Paris 2em 1972 p 173.
[21]- هيغل. العقل في التاريخ، مصدر سابق، ص173.
[22]- من الدهشة أن نجد هيغل هنا يدع محركة الاستعمار الأوربي على شمال إفريقيا، ويظهر اعجابه بها خاصة للفرنسيين، وهو من كبار الفلاسفة الذين دافعوا عن الحرية والكرامة الإنسانية، وما ساقه من مبررات عقلية للاستعمار الفرنسي لا معنى لها، وهنا يظهر النقص المعرفي لهيغل بما يتعلق بإفريقيا وبالمجتمعات المغاربية. [23]- Hegel, Phénoménologie de l’esprit, tr. Jean Pierre LeVebvre, Aubier 1991 p174. [24]- Ibid. p9. [25]- إمام عبد الفتاح إمام. المنهج الجدلي عند هيغل، دار التنوير للطباعة والنشر ط2 1982 ص33. [26]- Robert Brandon, Rolf-Peter Horstmann, Walter Jaesche,Terry Pinkard, Robert Pippin Ludwig Siep, La Phénoménologie de l’esprit de Hegel, Lectures contemporaines, p54. [27]- ولتر ستيس. هيغل، فلسفة الروح، مرجع سابق ص 16. [28]- هيغل. فينومينولوجيا الفكر، ترجمة مصطفى صفوان، المكتبة الوطنية للنشر والتوزيع، 1981، ص 06. [29]- ولتر ستيس. هيغل، فلسفة الروح، مرجع سابق ص 17. [30]- عبد الفتاح ديدي. فلسفة هيغل، مكتبة الأنجلو المصرية، 1970 ص 111. [31]- نقلا عن ولتر ستيس.هيغل، فلسفة الروح، مرجع سابق ص 17. [32]- G.W.F Hegel : Encyclopédie des Sciences Philosophiques (2) Philosophie de la Nature p13. [33]- هربرت ماركيوز. العقل والثورة، هيغل ونشأة النظرية الاجتماعية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1979،بيروت، ص 91. [34]- عبد الرحمان بدوي. شلينج، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1981، بيروت، ص 126. [35]- هيغل. فنومينولوجيا الروح، ترجمة ناجي العوْنليِّ، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت 2006، ص 122. [36]- Robert Brandon, Rolf-Peter Horstmann, Walter Jaesche,Terry Pinkard, Robert Pippin Ludwig Siep, La Phénoménologie de l’esprit de Hegel, Lectures contemporaines p108. [37]- نقلا عن ولتر ستيس. مرجع سابق، ص 19. [38]- المضمون Contenu: يقوم تحليل المضمون على الكشف من معدل ظهور بعض الموضوعات في بعض الكلمات، أو بعض الأفكار داخل نص معين.
جان فرانسوا دورتيه. معجم العلوم الإنسانية، ترجمة جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، ط1، 2009، بيروت، ص 994.
[39]- ولتر ستيس. فلسفة الروح، مرجع سابق، ص20. [40]- المرجع نفسه، ص 20. [41]-هيغل. فنومينولوجيا الروح، ترجمة ناجي العوْنليِّ، مصدر سابق، ص122. [42]- Robert Brandon, Rolf-Peter Horstmann, Walter Jaesche,Terry Pinkard, Robert Pippin Ludwig Siep, La Phénoménologie de l’esprit de Hegel, Lectures Ccontemporainse p157. [43]- أي المفارق لكل تعيين محدد. كأن يكون ليلا أو نهارا بالنسبة للآن أو شجرة ومنزلا بالنسبة للهنا (بتصرف). [44]- G.W.F Hegel , Encyclopédie des Sciences Philosophieques (2) Philosophie de la Nature p19. [45]- هيغل، العقل في التاريخ، مصدر سابق، ص157. [46]- المفروض في الديانة المتطورة أنها تفصل بين العقل الكلي الذي هو الله، وبين العقل الجزئي الذي هو الإنسان، بحيث يصبح هدف الدين كله عبور هوة الانفصال هذا، والتوفيق بين الله والإنسان، وحيثما لا يكون هناك الانفصال لا يكون هناك دين. والصورة الأولى المباشرة للدين عند هيغل هي السحر، وهي التي نجدها عند الزنوج، ولا يوجد في هذه الديانة فصل بين الكلي والجزئي. فالكلي وهو الله ليس موجودا، وإنما يصبح كل شيء جزئيا، فليس ثمة سوى هذه الشجرة وهذا النهر وهذا الإنسان، ومن هنا لا يستطيع أن يميز الإنسان نفسه عن الطبيعة، لكن سمو الروح لا بد أن يظهر إلى الوعي بعض الشيء، فيشعر الإنسان بأنه يعلو على الأحجار والصخور والشجر، ومن ثم فهو يسيطر عليها بحيث تمتد إرادته فيكون في استطاعته أن يأمر العواصف والمياه والسحب فتنصاع لأمره وذلك هو السحر. هيغل العقل في التاريخ. مصدر سابق. ص175. [47]- هيغل، العقل في التاريخ، مصدر سابق، ص176. [48]- المصدر نفسه، ص177. [49]- سلبية Négativité: عند هيغل سمة النقيضة الأطروحة المضادة (لحظة ديالكتيكية من لحظات الفكر). أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية المجلد الثاني، ترجمة خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت/باريس، ط2، 2001، ص1119. [50]- من البين أن كلا الطرفين الموضوع والمعرفة قائم بالآخر، فأما عند الوعي الطبيعي في مبدأ خبرته، فالموضوع هو وحده الشيء الجوهري، بينما المعرفة أمر عارض وثانوي (بتصرف). [51]- هيغل. فينومينولوجيا الفكر، مصدر سابق ص 84. [52]- شيخ محمد. فلسفة الحداثة في فكر هيغل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2008، ص 164. [53]- Jean Hyppolite , Etudes Sur Marx et Hegel, éditions Marcel Riviére et cie, Paris , 1955, p34. [54]- هيغل. فنومينولوجيا الروح، مصدر سابق ص 124-125. [55]- ولتر ستيس. فلسفة الروح، مرجع سابق ص 23. [56]- G.W.F Hegel , Encyclopédie des Sciences Philosophiques (2) Philosophie de la Nature, Bernard Bourgeois Librairie Philosophique, j, Vrin, Paris, 2004, p50. [57]- هيغل. فنومينولوجيا الروح، مصدر سابق ص125. [58]- هربرت ماركيوز. أساس الفلسفة التاريخية-نظرية الوجود عند هيغل-ترجمة إبراهيم فتحي، دار التنوير للطباعة والنشر، ط3 2007 بيروت ص 12. [59]- هيغل، العقل في التاريخ، مصدر سابق، ص179. [60]- نايجل سي. غابسون، فانون، المخيلة بعد – الكولونيالية، مرجع سابق، ص60. [61]- هيغل، العقل في التاريخ، مصدر سابق، ص181. [62]- المصدر نفسه، ص 183. [63]- نايجل سي. غابسون، فانون، المخيلة بعد- الكولونيالية، مرجع سابق، ص69. [64]- نايجل سي. غابسون، فانون، المخيلة بعد- الكولونيالة، مرجع سابق، ص82. [65]- نايجل سي. غابسون، فانون، المخيلة بعد- الكولونيالية، مرجع سابق، ص84.__________________
*نقلًا عن “المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية” – بيروت.