الدراسات والبحوث

القراءة النقديّة للأفكار الصوفيّة عند أحمد الجزار (فكرة خاتم الأولياء عند أبي سعيد بن أبي الخير أنموذجًا)

د.غيضان السيد علي

القراءة النقديّة للأفكار الصوفيّة عند أحمد الجزار

(فكرة خاتم الأولياء عند أبي سعيد بن أبي الخير أنموذجًا)

د.غيضان السيد علي

أستاذ الفلسفة الحديثة المساعد بكليَّة الآداب، جامعة بني سويف، جمهوريَّة مصر العربيَّة

 

إنَّ أول ما يشد انتباه المطالِع لكتابات الأستاذ الدكتور أحمد محمود الجزار(**) هي تلك النزعة النقديّة البارزة التي تميز مناولاته الفكرية، والنقد في عُرف الجزار هو التقييم المُبيِّن لنقاط الضعف والقوة، الكاشف لمناطق الاتفاق والاختلاف الناتج عن إمعان النظر العقلي في الآراء والقضايا التي يطرحها أصحابها، وانطلاقًا من موقف فكري تبناه مفكرنا منذ بداياته الأولى وحتى آخر ما خط قلمه- أطال الله في عمره- من كتابات عميقة تشهد له بالتعمق وطول الباع في المجال الذي ارتضاه تخصصًا وهو مجال التصوف الإسلامي.

وعلى خلاف ما يذهب إليه البعض من أنَّ التصوف ليس فلسفة، اللهم إلا إذا قبلنا أن نُسمي تلك التأويلات البعيدة والتعليلات المرجوحة تفلسفا، وليست كذلك. يرى الجزار أنَّ التصوف الإسلامي يعد أحد جوانب الفلسفة الإسلامية ليس لأن حياة أغلب رجالاته تمثل سموًا روحيًا لا شك فيه، إضافة إلى تحليهم بالقيم الأخلاقية التي هي من صميم أصول الأخلاق الإسلامية. وإنما لأن هذا الجانب بالذات من جوانب الفلسفة الإسلامية قد أثار جدلا كبيرًا بين قدامى علماء المسلمين شأنه في ذلك شأن علم الكلام والفلسفة.

كما أن نزعته النقدية جعلته يطرح الآراء المتباينة حول مشروعية التصوف على طاولة البحث الموضوعي بلا تعصب أو تحيز. ويعد موضوع شرعيّة التصوف من الملفات الشائكة التي لا يمكن أن يقتحمها المرء دون استعداد من نوع خاص يلم فيه – على الأقل- إلمامًا كاملا بوجهة نظر الفريقين؛ المؤيد لشرعية التصوف والمعارض له. هذا فضلا عن تعمقه وطول باعه في معرفة ودراسة علوم التصوف ومعارفه.

فالفريق الرافض – كما يراه الجزار- رافض بإطلاق ويطالب بإخراج التصوف والصوفية من دائرة الفكر الإسلامي؛ فهم أصحاب بدع أردوا النيل من الإسلام، ولذلك عدَّ أنصار هذا الفريق الفرق الصوفية من ضمن الفرق المنحرفة، ورأوا أن المتصوفة من  أصحاب المذاهب الباطلة والشخصيات الضالّة والمضلّة، وندّدوا بهم غاية التنديد. فرأى بعضهم: إنّ التصوّف كان ولا يزال من أسوأ الأحداث التي طرأت على الإسلام والأُمّة الإسلامية خلال القرن الثاني من الهجرة النبويّة الشريفة، وما بعده إلى يومنا هذا، عن طريق الفرس وغيرهم ممّن دخلوا في الإسلام مرغمين بعد أن عجزوا عن مقاومته خلال القرون الأُولى من تاريخه، وتستّروا بالزهد والورع، وراحوا يتلاعبون بنصوص الإسلام يفسّرون الإعراض عن الدنيا، وتهذيب النفس بالجوع، ولبس الخرق والمرقّعات، والالتجاء إلى الكهوف والغابات، والتنكّر لجميع مقوّمات الحياة، بدعوى تفريغ القلب للعبادة والتجرّد عن المادّة التي تحول بين الإنسان وبين الله سبحانه، ومن خلال ما يسمّونه بالرياضات والمجاهدات ظهرت في أوساطهم فكرة الحلول والاتّحاد وتناسخ الأرواح وغير ذلك، ممّا أخذوه عن البوذيين والبراهمة واليونانيين. مما يتعارض مع موقف الإسلام الحقيقي الذي وقف من حاجات الجسم والروح موقفاً معتدلاً، وأعطى لكلّ منهما حقّه، ودعا إلى استخدام طاقات النفس والبدن فيما ينفع النّاس في ظلّ عقيدة التوحيد، وفرض على كلّ مسلم أن يأخذ ويعطي بدون إفراط أو تفريط، بل يتواكب مع الاعتدال والحدّ الوسط، وأن يقف للظالمين والباغين بالمرصاد، وألّا يفتتن بالدنيا وزخارفها وينزلق بمفاتنها وزبرجها، وألّا يخشى أحداً إلّا الله، ويستقيم على ذلك([1]). بينما رأى الفريق المؤيد لشرعية التصوف أنه يعبر عن روح الإسلام؛ حيث إنَّ التصوف في أساسه خلق، ومن ثم فهو يعبر عن روح الإسلام؛ لأن أحكام الإسلام كلها مردودة إلى أساس أخلاقي([2]).  بينما رد آخرون على تلك الإدعاءات التي تخرج بالتصوف خارج دائرة الإسلام مرتئين أن هذا محض افتراء بلا أي سند علمي؛ لأن أول التصوف هو العبودية بالتعبد لله تعالى كما أمر في الكتاب والسنة .

وبين هؤلاء وهؤلاء يحاول الجزار أن يفض الاشتباك على ضوء معيار علمي مقبول؛ فيرى أن دراسة التصوف الإسلامي تستوجب أن نرجع بمقالات أصحابه إلى أصول الإسلام ذاته عقيدة وشريعة. وكما تحددت في مصدريه الكبيرين القرآن والسنة. وما نتج من تفاعل المسلمين بهما من سلوك روحي يمثل خصيصة للصوفية الإسلامية الصحيحة. تلك التي تتجلى قسماتها الروحية في أعلى صور الكمال في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه المثل الأعلى للكمال الروحي والخلقي، ثم في انبثاقات هذا الكمال فيما درج عليه الصحابة والتابعون ومن مضى في هذا الدرج إلى يومنا هذا([3]).

وفي ضوء هذا المحك يمكن التعامل النقدي مع قضايا التصوف من منظور الجزار؛ حيث يتسنى لنا إمكانية التحديد على وجه الدقة ما يمكن أن يكون مشروعًا من التصوف وما لا يمكن أن يكون كذلك. وفي ضوء هذا المجك أيضًا يمكن الحكم على ما كتبه المتصوفة فيما يعد إسلاميًا وفيما لا يعد كذلك مهما ألبسه بعض المنتسبين إليه ثوب الإسلام.

وهكذا يخضع الجزار سلوكيات المتصوفة ومعارفهم وأقوالهم لمنظور الشرع الإسلامي حسب ما تقتضيه أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وما ارتضاه الصحابة والتابعون ومن سار على نهجهم حتى يومنا هذا.

  التناول النقدي لمفهوم الولاية:

يرى الجزار أن مفهوم الولاية من المفاهيم الرئيسية في عالم الصوفية؛ حيث إنها تمثل أعلى مراتب الكمال في العبادة والقرب من الله تعالى([4]). لكن ما هي الولاية في اللغة والاصطلاح؟ ولماذا كان لها هذا القدر فاكتسبت كل هذا السمو فغدت هكذا؟  ومن ثم كان لنا هنا وقفة عابرة مع مفهوم الولاية يتناسب مع نطاق هذه الورقة البحثية قبل الولوج إلى نقدها كمفهوم مع الدكتور أحمد الجزار.

الولاية من الولي وهو القرب والدنو. ومعناه لغةً: القريب أو الحبيب أو الظهير أو الناصر. وهو أيضًا التابع المحب. وأولياء الله هم الذين يكون الله وليهم أي ناصرهم في حجاجهم وهدايتهم وإقامة البرهان لهم لأنه يزيدهم بإيمانهم هداية. ووليهم أيضا في نصرهم على عدوهم وإظهار دينهم على دين مخالفيهم([5]). ومعناها في الاصطلاح: العارف بالله وصفاته حسب الإمكان، المواظب على الطاعات المجتنب للمعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات المباحة. ومن ثم قد تكون الولاية عامة وخاصة، وتكون الولاية العامة مشتركة بين جميع المؤمنين، أما الولاية الخاصة فهي مختصة بالواصلين من أرباب السلوك وهي عبارة عن فناء العبد في الحق، والبقاء به. فالولي هو الفاني فيه والباقي به([6]).

وفي تعريفات الجرجاني: الولي، فعيل بمعنى الفاعل، وهو من توالت طاعته دون أن يتخللها عصيانٌ، أو بمعنى المفعول، فهو من يتوالى عليه إحسانه الله وإفضاله، والولي: هو العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن المواظب على الطاعات، المجتنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات([7]). والولاية هي قيام العبد بالحق عن الفناء في نفسه، وذلك بتولي الحق إياه حتى يبلغه غاية مقام القرب والتمكن. والولي: من تولى الحق أمره، وحفظه من العصيان ولم يخله ونفسه بالخذلان حتى يبلغه في الكمال مبلغ الرجال([8]).

ويفرق الكثير من أهل التصوف والباحثين فيه بين جانبين من الولاية: الجانب الأول وهو ولاية العبد لله بتنفيذ أوامره، وهي في أصلها رحمة مهداه من الله للعبد. تتمثل في هدايته بنور النبوة حينًا وبنور العقل والفطرة حينًا آخر. أما الثاني فيتمثل في ولاية الله للعبد شئونه، فهي الأخرى جود وعطاء من الله. وعليه يرى أن الولاية الأولى أو الجانب الأول خرج من الرحمة والثاني من الجود الإلهي([9]).

وهنا نتوقف عند سؤال جوهري: وهو هل هناك دور للإنسان في بلوغ مرتبة الولاية أم هي رحمة إلهية وَجَودٌ إلهي لمن يشاء الله أن يتنعم عليه، ولا دور بشري فيها؟ وهو السؤال الذي يطرحه الدكتور الجزار بأكثر من صيغة يمكن تلخيصها في الصيغة المختصرة الآتية: هل الولاية موهبة واجتباء أم اجتهاد يعقبه اصطفاء؟  يعرض  الجزار أولًا لرأي كل من: أبي سعيد بن أبي الخير الميهني والهجويري، وكل منهما يرى أن الولاية موهبة من مواهب الحق تعالى لا من مكاسب العبد. وعلى هذا النحو لا تحصل الولاية ببذل المجهود. ولا يتوصل إليها العبد بمزيد من العبادة واستفراغ الطاقة. فالولاية سر من أسرار الحق يهبها لمن يشاء من عباده ولا يستوجبها الاجتهاد في العبادة. ولذلك يقال: “اطلع الله على قلب أوليائه فمن لم يصلح منهم للمعرفة شغله بالعبادة”([10]). فالعبادة أقل من الولاية؛ إذ قد يختار الله عبدًا من عباده المؤمنين ليجذبه إليه فيكون وليه. وليس لأحد أن يسأل الله عما يفعل، فإذا أراد الله يكون التوفيق. وحينئذٍ يصبح أمر الولاية مرهونًا بمشيئة الله، فإذا أراد الله كان أمره، وإذا لم يرد لم يكن([11]).

وهنا تصبح الولاية اصطفاءً خالصًا عند الميهني والهجويري؛ اصطفاءً لا اجتهاد يعقبه بعد درجة معينة ولاية الله واصطفائه، فمهما بلغ العبد من اجتهاد فحقق أعلى مراتب الكمال الروحي لن يكون مستحقًا للولاية ما لم يجذبه الله إليه، فجذبة من الحق تعالى توازي عمل الثقلين- كما يقول الميهني-، وأن العبد ما لم يكن جاذبه الله إليه تعالى فلن تكون له ولايته.

وهنا ينتقد الجزار هذا الرأي ويرى أن الولاية بين الاصطفاء والاجتهاد، بل إنَّه ينبه على أن الاصطفاء إنما كان في حالات أحادية لا يمكن أن يُعول عليها فتصبح قاعدة. وإنما الاجتهاد واستفراغ الطاقة والجهد في المجاهدات والعبادات هو السائد باستقراء حالات المتصوفة الذين وصلوا مرتبة الولاية. ونرى أنَّ الجزار في ذلك يتوافق مع ما تشير إليه كثير من الآيات القرآنية والأحاديث القدسية والنبوية الصحيحة، منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين﴾ ]العنكبوت:69] وَقوله تَعَالَى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ ]الحجر:99] وَقوله تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ ]المزمل:8] أي انْقَطِعْ إِلَيْه. وَقوله تَعَالَى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ﴾] المزمل:20] وَقوله تَعَالَى﴿: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ ]البقرة:273] ، والآيات في هذا الباب كثيرة ومعلومة. كذلك يستند الجزار لتدعيم وجهة نظره وتأكيد نقده إلى الحديث القدسي: عن أبي هريرة رضي الله عنه  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: منْ عادى لي وَلِيّاً. فقدْ آذنتهُ بالْحرْب. وَمَا تقرَّبَ إِلَيَ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَ مِمَّا افْتَرَضْت عليْهِ: وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه”. رواه البخاري. وأيضًا إلى الحديث النبوي الشريف: عن أَنس رضي الله عنه عن النَّبيّ ﷺ فيمَا يرْوِيهِ عنْ ربهِ عزَّ وجَلَّ قَالَ” : إِذَا تَقَربَ الْعبْدُ إِليَّ شِبْراً تَقرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِراعاً، وإِذَا تقرَّب إِلَيَّ ذِرَاعاً تقرَّبْتُ مِنهُ بَاعاً، وإِذا أَتانِي يَمْشِي أَتيْتُهُ هرْوَلَة”. رواه البخاري.

وهنا نلاحظ اتساق الجزار مع نفسه ومع المنهج الذي ارتضاه في دراسة التصوف الإسلامي بصفة عامة، وأن حقائقه ومسلماته تخضع في البداية والنهاية لهدي الكتاب والسنة، فما اتفق معهما أخذ به واعتقد بصحته، وما خالفهما رفضه ووجه إليه سهام نقده.

كما نبه الجزار إلى أمر آخر له خطورته، وهو أن الولاية لا تُمنع مع وجود صاحبها في غفلة فيستفيق في أي وقت أو ما يُصطلح عليه بلحظة الانتباه، أو أن يكون صاحبها مشغول بالمجاهدات ومواصلة الطريق في عباداته وطاعته لربه في كل أحواله. كذلك ينبه الجزار من خلال تناوله لمفهوم الولاية عند أبي سعيد بن أبي الخير الميهني إلى أمر مهم وهو أن الاجتهاد في العبادة وانشغال القلب بالله وحده ضرورة من ضرورات  اختيار الولي ودوام ولايته. وكنت أرجو لو أن الأستاذ الدكتور الجزار ناقش مسألة: هل ينتكس الولي؟ أو هل تنتهي الولاية في حياة صاحبها؟ لكن نعذره في أن سياق الكتاب لم يكن يرمي إلى مناقشة ذلك.

نقد فكرة خاتم الأولياء:

يرى الجزار أن فكرة خاتم الولاية لم تكن من ابتكار أبي سعيد بن أبي الخير الميهني وإنما إذا حاولنا تأصيلها نجد أن الترمذي(318ه) هو أول من أشار إليها بين الصوفية، بل إنه جعلها موضوعًا لواحد من أهم كتبه وجعل عنوانه “ختم الأولياء”، والذي قرر فيه أنَّ خاتم الأولياء في مبدأ أمره صحيح المنشأ، طيب التربة، عذب الماء، زكي الروح، صافي الذهن، عظيم الحظ من العقل، سليم الصدر من الآفات، واسع الصدر، مصنوع له. فهو سيد الأولياء كما أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء، وهو حجة الله على الأولياء وعلى سائر الموحدين، وهو شفيعهم يوم القيامة. يأتي في آخر الزمان بعد انقراض عدد الصديقين وقرب زوال الدنيا، وهو عبد اصطفاه الله واجتباه، وقرّبه وأدناه، وأعطاه ما أعطى الأولياء بختم الولاية فلم يزل مذكورًا، وإنما في البدء أولًا في الذكر، وأولًا في العلم، وهو الأول في المشيئة، ثم هو الأول في المقادير، ثم هو الأول في اللوح المحفوظ، ثم هو الأول في الميثاق، ثم هو الأول في المحشر، ثم هو الأول في الخطاب، ثم هو الأول في الشفاعة، وهو في كل مكان أول الأولياء، مقامه من محمد صلى الله عليه وسلم عند الإذن، والأولياء عند الفقهاء هو عبد مقامه بين يديه من ملك، ونجواه هناك في المجلس الأعظم فهو في قبضته، والأولياء من خلفه درجة ومنازل الأولياء بين يديه([12]).

وهنا يرى الدكتور الجزار أن خاتم الأولياء هذا كما يصوره الترمذي لم ينل هذه المرتبة السامية بطول دأبه وجهده، بل هو مفطور على هذا منذ نشأته، بل هو بالأحرى كذلك بالفعل منذ الأزل. ومن هذا الوجه استحق هذا الولي أن يكون خاتمًا لكل من سبقوه وقبل أن يكون وليًا بالفعل؛ لأنه يتقدمهم كما هو حاصل عند الترمذي منذ الأزل. نعني من حيث أزلية كونه خاتمًا للأولياء بمحض الاجتباء له من الحق تعالى. وهو في الآن نفسه يتقدمهم بالشرف والرتب صراحة. ولكن الأهم – في نظر الجزار- أن خاتم الأولياء هذا لم يوجد بعد، وإنما هو  مجرد فكرة ، أي أنه لم يوجد بعد، وإنما سيكون في آخر الزمان قرب زوال الدنيا، وبعبارة أخرى سيكون هو الذي يؤول إليه أمر هداية الناس في آخر الزمان لما ينقرض كل الذين حازوا مرتبة الصديقية([13]).

ويرى الجزار أن ما وصفه الترمذي من صفات وحددها في خاتم الأولياء لم يخلعها على نفسه، وإنما جعلها مجرد فكرة عن شخص ما لم يأت بعد، حتى جاء أبو سعيد بن أبي الخير الميهني وصرّح بلا مواربة بأنَّه خاتم الأولياء في عصره وليس أدل على هذا مما يرويه من رؤى منامية ووقائع تدل على ذلك. فقد ذكر أن المصطفى صلى الله عليه وسلم جاءه في النوم وعلى رأسه تاج وفي وسطه حزام. وقد وقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عند رأسه ووقف أبو القاسم الجنيد وأبوبكر الشبلي عن يمينه. فسلمت عليه وسألته يا رسول الله ما تقول في أولياء الله، فقال المصطفى هذا منهم وأنت آخرهم. فإذا ما مضيت أنت لشأنك فلا تذكر أحدًا بعدك وأشار إلى كل واحد منهم. كما يذكر الدكتور الجزار رؤية أخرى رواها الميهني في كتابه أسرار التوحيد تؤكد تصريحه على أنه خاتم الأولياء؛ حيث يقول الميهني:” رأيت المصطفى صلوات الله عليه وسلامه في النوم، وقال يا أبا سعيد كما أنني آخر الأنبياء، فأنت آخر الأولياء، ولن يكون بعدك ولي وخلع خاتمًا من يده وأعطاه لي”([14]).

وهنا تتجلى رؤية الدكتور الجزار النقدية لفكرة خاتم الأولياء عند أبي سعيد بن أبي الخير الميهني، حيث يرى أن صعوبات شتى تكمن حول الاستنتاجات المتعددة لتلك الفكرة الصوفية التي قال بها أبو سعيد، والتي يُفهم منها تصريح الميهني وإعلانه بأنه خاتم الأولياء، كما أنَّ النبي محمدًا  صلى الله عليه وسلم  هو خاتم الأنبياء، وأنَّ هذه المكانة لا يصل إليها أحد على الإطلاق إلا هو. ومن أهم هذه الانتقادات ما يلي:

أولًا:- تصريح الميهني بأمر الولاية وإعلانه بأنه خاتم الأولياء وأنه العارف الكامل، وهذا أمر دأب الصوفية على أن يجعلوه سرًا من الأسرار، وألّا يفصحوا عنه، بل رأى بعض الباحثين أن أبا منصور الحلاج ما ناله من  عذاب وصلب وقتل وحرق إلا لأنه أفشى سر التصوف والولاية وأذاعه، فأذاقه الله طعم الحديد. ومن ثم يرى الدكتور الجزار أنَّه من الغريب أن يعلن الميهني أمر ولايته ويتباهى به. فالولي الحق لا يشهد لنفسه كما فعل الميهني ولكن يشهد  الناس له، فالولي في الغالب يكون مستورًا ولا يكون مشهورًا. بل لا يحرص الولي على شيء مثل حرصه على ألا ينكشف سره بين الناس([15]).

ثانيًا:- تباهي الميهني بعلمه- وهو الأمر الثاني الذي يأخذه الجزار على الميهني-؛ فقد رأى أنّه العارف الكامل الذي تنثال عليه المعارف في كل أوقاته، وعلى الكل أن يجعلوه إمامهم في العلوم والمعارف ما ظهر منها وما بطن. وهو أمر غاية في الغرابة، فالأولياء الكاملون لا ينبغي لهم أن يتحدثون عن فضلهم على غيرهم كما فعل الميهني، بل بالأحرى أن يجري فضلهم على لسان غيرهم من الخلق. ومن ذلك قول الرفاعي لمريديه:”أنا لست بشيخ. لست مقدم على الجميع، لست بواعظ. لست بمعلم. حُشرت مع فرعون وهامان إن خطر لي أنني بشيخ على أحد من خلق الله. إلا أن يتغمذني الله برحمته فأكون كآحاد المسلمين([16]).

ثالثًا:- إن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة- وهما المعيار للصواب والخطأ عند الجزار-  يجعلان الولاية دوامًا لكل المؤمنين، فالولاية عند الجزار أمر قد يحصل عليه كل من اجتهد وبذل الجهد في طاعة الأوامر الإلهية وابتعد عن النواهي، فإنه حينئذ يتطرق من باب الرحمة إلى باب الجود الإلهي، ويصل من خلال حراسة جوارحه  للعيش في فسحة التوحيد متحررا من رق النفس ملازمًا لمرتبته التي حلَّ فيها، فإذا انصرف عنها إلى عمل الجوارح كان في حراسة الله.. فأولياء الله هم أصفياء الله في خلقه لإخلاصهم في حب الله وطاعته والعمل بما أمر والبعد عما نهى. وقد تحصل باصطفاء الله لأحد عباده ممن يستيقظون في إحدى لحظات الانتباه فيقبلون على الله ويتركون الدنيا بكل ما فيها وراء ظهورهم.

رابعًا:- إنّ ختم الولاية أمر لم يرد ذكره في القرآن الكريم ولا السنة النبوية المطهرة ، وإن كان قد ورد عند الترمذي مقالا لا حالا،  فإنها بمرور الوقت وجدت حالا ومقالا عند الميهني الذي جعل أوصاف خاتم الأولياء من مقام أوصاف خاتم الأنبياء وهذا الرأي الذي انتقده الطوسي(378هـ)  تلميحًا لا تصريحًا – كما يشير الجزار إلى ذلك- لما انتقد بعض الصوفية الذين جعلوا مقام الأولياء من مقام الأنبياء([17]).

خامسًا:- إن فكرة خاتم الأولياء هي فكرة من شأنها أن توصد الباب تمامًا أمام كل عبد من عباد الله لينال أعلى درجات القرب في ولايته. ما دام ختم الولاية قد حاز هذه المرتبة. ولم يعد هناك مكان لأحد بعده مع أن الولاية مرتبة متاحة للجميع وليست محصورة على فرد بعينه هو الذي يصير ختما عند الترمذي أو الذي صار بالفعل كذلك عند أبي سعيد الميهني نفسه([18]).

وهكذا تظهر النزعة النقدية للأستاذ الدكتور أحمد الجزار من خلال نقده لفكرة خاتم الأولياء، وهي فكرة صوفية أصيلة وردت عند أكثر من صوفي، وُجِدت مقالا ثم وُجِدت حالا. وذلك يعكس أن الأستاذ لم يُسلِّم بكل الآراء تسليما بل يقف معها موقفا نقديا فاحصا إياها من خلال معيار ارتضاه في تقييم الأفكار الصوفية، وهو معيار ما يتوافق مع الكتاب وصحيح السنة وما لا يتوافق، فجعل العلم الصوفي مضبوط بالكتاب والسنة فمن ادعى ما يخالف به الشرع ابتعد عن سواء السبيل وحاد عن جادة الحق؛ ومن ثم استطاع أن يميز بين الكرامات والشطحات، وهو الأمر الذي نحتاج إليه في دراسة التصوف ذلك المجال الذي ينتشر في شتى ربوع العالم الإسلامي ويمتلأ بالخرافات والخزعبلات والأساطير والترهات والأباطيل التي يعتقد فيها عامة الناس أنها من أساسيات العقيدة وهي أبعد ما تكون عن ذلك.

خاتمة:

نخلص مما سبق إلى أن الدكتور أحمد الجزار ينتقد مفهوم ختم الولاية الذي ورد عند الترمزي مقالا وعند أبي سعيد بن أبي الخير الميهني حالا، ورأى أنها فكرة لا يمكن قبولها فلم يرد ذكرها في القرآن ولا في صحيح السنة النبوية،  وهو المعيار الذي قاس به كل أفكار التصوف الإسلامي، فكل ما لا يستند إليهما (القرآن وصحيح السنة) لا يعول عليه. بل رأى أن مرتبة الكمال في الولاية أمر في متناول كل المؤمنين بمقدورهم أن يصلوا إليه سعيا بالجهد وبمداومة الطاعة والاستقامة. فيقرر  بشكل حاسم وقاطع أنه لا ختم للولاية ولا وراثة لها، وإنما هي مرتبة متاحة لكل من آمن وأيقن واجتهد وأطاع الله وابتعد عن المعاصي والذنوب ثم القبول والتمامية بعد ذلك من الله لعباده الكاملين المخلصين.

كما قرر الدكتور الجزار مدعما لوجهة نظره في نقد فكرة ختم الولاية عند أبي سعيد بن أبي الخير الميهني أنَّ هذه الفكرة لم تلق قبولا لدى واحد من شيوخ الصوفية الكبار، بل على العكس فقد انتقدوها، ومن ذلك ما يوجد عند أبي العباس المرسي الذي أَوّل بعض الآيات القرآنية على أنها تفسح المجال لتوالي ظهور الأولياء تباعا عبر الأزمنة المتتالية، وأنَّه ربما يأتي بعد كل ولي من هو أكمل منه ولا حدًا لذلك.

 

 

 

المصادر والمراجع

  • ابن منظور ، لسان العرب، الجزء الخامس عشر، تحقيق جملة من المحققين، بيروت، دار صادر، د.ت.
  • أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف، القاهرة، دار الثقافة،1972.
  • أحمد محمود الجزار، المعرفة عند صوفية الإسلام(أبوسعيد بن أبي الخير نموذجًا) القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، الطبعة الأولى، 2013.
  • الترمذي، ختم الأولياء، تحقيق إسماعيل يحيي ضمن مطبوعات معهد الآداب الشرقية، بيروت، المطبعة الكاثوليكية، 1966.
  • الجرجاني، التعريفات، تحقيق محمد علي أبو العباس، القاهرة، دار الطلائع للنشر والتوزيع، 2014.
  • الكاشاني، اصطلاحات الصوفية، تحقيق عبدالعال شاهين، القاهرة، 1992.
  • حسن حنفي، من الفناء إلى البقاء- محاولة لإعادة بناء التصوف، الجزء الأول، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2015.
  • عادل بن السيّد علي العلوي، التصوّف بين الرَّفض والقبول، على الرابط الإلكتروني التالي:

http://www.alawy.net/arabic/book/11755/9166

  • عادل محمد علي، مختارات في الفكر الصوفي، سلسلة دروس فلسفية(4)، 1999.

 

(**) الأستاذ الدكتور أحمد محمود إسماعيل الجزار مفكر وكاتب وأكاديمي مصري، ولد عام  1948 بمحافظة الدقهلية، وتخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1971، عُين معيدًا بكلية الآداب جامعة المنيا، ثم تدرج في السلك الوظيفي الأكاديمي من معيد إلى مدرس مساعد إلى مدرس إلى أستاذ مساعد إلى أستاذ في الفلسفة الإسلامية تخصص التصوف الإسلامي، ترأس قسم الفلسفة وقسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة المنيا، عمل وكيلا لكلية الآداب ثم عميدًا لها.  أشرف وناقش ما يزيد على ثمانين رسالة ماجستير ودكتوراه في مختلف الجامعات المصرية. وهو عضو عامل في العديد من اللجان العلمية، كعضوية لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضوية لجنة قطاع الآداب والعلوم الإنسانية، ورئيس اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة المساعدين والأساتذة. أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات الرصينة، منها: الله والإنسان عند الأمير عبدالقادر الجزائري(2015)، دراسات في التصوف الإسلامي(2015)، الولاية بين الجيلاني وابن تيمية(2014)، التقدم في مفهوم عاطف العراقي(2010)، الفناء والحب الإلهي عند ابن عربي(2009)، الفكر المصري المعاصر والتصوف (2008)، قضايا وشخصيات صوفية(2001)، المعرفة عند أبي سعيد ابن أبي الخير (2000)، الإمام المجدد ابن باديس والتصوف(1999)، فخر الدين الرازي والتصوف( 1996). وما زال عطاؤه مستمرًا في إثراء الحياة الثقافية والمكتبة العربية.

([1])عادل بن السيّد علي العلوي، التصوّف بين الرَّفض والقبول، على الرابط الإلكتروني التالي: http://www.alawy.net/arabic/book/11755/9166                                               /

([2]) انظر، أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف، القاهرة، دار الثقافة،1972، ص 12.

([3]) انظر، أحمد محمود الجزار، المعرفة عند صوفية الإسلام(أبوسعيد بن أبي الخير نموذجًا) القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، الطبعة الأولى، 2013، ص6.

([4]) انظر، المصدر السابق، ص73.

([5]) انظر، ابن منظور ، لسان العرب، الجزء الخامس عشر، تحقيق جملة من المحققين، بيروت، دار صادر ، د.ت، ص411.

([6]) انظر،عادل محمد علي، مختارات في الفكر الصوفي، سلسلة دروس فلسفية(4)، 1999، ص256.

([7]) انظر،الجرجاني، التعريفات، تحقيق محمد علي أبو العباس، القاهرة، دار الطلائع للنشر والتوزيع، 2014، ص247.

([8]) انظر، الكاشاني، اصطلاحات الصوفية،  تحقيق عبدالعال شاهين، القاهرة، 1992، ص79.

([9]) المرجع نفسه.

([10]) حسن حنفي، من الفناء إلى البقاء- محاولة لإعادة بناء التصوف، الجزء الأول، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2015، ص 816.

([11]) انظر،أحمد محمود الجزار، المعرفة عند صوفية الإسلام، ص77.

([12]) انظر، الترمذي، ختم الأولياء، تحقيق إسماعيل يحيي ضمن مطبوعات معهد الآداب الشرقية، بيروت، المطبعة الكاثوليكية، 1966، ص 340. وانظر أيضًا : أحمد محمود الجزار، المعرفة عند صوفية الإسلام، ص95.

([13]) انظر،أحمد محمود الجزار، المعرفة عند صوفية الإسلام، ص96.

([14]) انظر،المصدر السابق، ص98.

([15]) انظر،المصدر السابق، ص102.

([16]) انظر،المصدر السابق، ص102-103.

([17]) انظر،المصدر السابق، ص103.

([18]) انظر،المصدر السابق، ص104.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى