تأسيس لمفهوم الوجود على ضوء الواقعيَّة الماهويَّة
أ. غلام رضا فياضي
تعتبر مسألة أصالة الوجود واعتبارية الماهية من أهم مباحث الفلسفة الإسلامية. نجد هذا الموضوع في آثار فلسفة الفارابي، وابن سينا، وبهمنيار، وميرداماد، وفي كتابات شيخ الإشراق، وأتباع الفلسفة الإشراقية. أمّا طرح هذه المسألة بصورة أساسية فهو من ابتكارات صدر المتألهين، فقد كان أول فيلسوف تعرّض لحل هذه المسألة بشكل موسّع ومن جميع جوانبها في “الحكمة المتعالية”، ويمكننا القول بحق إنّ هذه المسألة “أصالة الوجود واعتبارية الماهية” من أهم مباحث الحكمة المتعالية.
ولكن ما هو رأي الملا صدرا في هذا الموضوع؟ هل يعتبر أنّ الماهية أمر عدمي ومنتزع من حد الوجود؟ أو هي تركيب ذهني صرف وانعكاس له؟ أو أنّ الماهية ظل الوجود؟ أو أنّه يعتبر أنّ الماهية أمر عيني وواقعي؟
حقيقة الأمر – وعلى الرغم من المكانة العظيمة لهذه المسألة في الفلسفة الإسلامية – فمنذ زمن العلّامة السبزواري وما بعده، يوجد الكثير من الانحرافات والشبهات في تفسير وجهة نظر ملا صدرا في هذا الموضوع. وبرأينا، لم يتم فهم هذا الفيلسوف الكبير بشكل صحيح. ومن وجهة نظرنا إلى الموضوع، سوف نسلّط الضوء على بعض الآراء حوله، وسنسعى إلى نقد ومناقشة هذه التفاسير بالإجمال؛ لنصل إلى التفسير الصحيح والحقيقي لهذه النظرية.
ولتبيين هذا الأمر، نجد أنفسنا أمام ثلاثة آراء، وعلى الرغم من الاختلاف الحاصل فيما بينها، توجد نقاط مشتركة وموارد متفق عليها أيضًا بعنوان أنّها أصول موضوعة ومقدّمات لهذا المبحث. ومن المناسب قبل الحديث عن أصل المسألة أن نبيّن ولو بشكل إجمالي الأمور المشتركة والمتّفق عليها بين هؤلاء.
مسلّمات بين يدي البحث
1 . قبول أصل الواقعية:
تجدر الإشارة – قبل عرض المسألة – إلى أنّ السفسطائيين أنكروا أصل الواقعية، فالأصالة ليست للوجود ولا للماهية؛ إذ لا شيء أصيل عندهم.
2 . انتزاع مفهوم الوجود والماهية من كل أمر واقعي:
ننتزع من كل أمر واقعي مفهومين: مفهوم الوجود ومفهوم الماهية. أي إنّ ذهن الإنسان يحلّل من كل واقعية خارجية مفهومين اثنين هما الوجود والماهية.
3 . اختلاف مفهومَي الوجود والماهية من حيث حكايتهما عن الواقع:
إنّ مفهوم الوجود يحكي عن الجانب المشترك للواقعيات، في حين أنّ الماهية هي الجانب المختص لكل واقعية.
4 . تباين مفهومي الوجود والماهية:
هناك تغاير بين مفهومي الوجود والماهية. وكما يقال: الوجود زائد على الماهية، أي في عالم المفاهيم كل واحد منهما على حدة.
5 . الكاشفية المحدودة لكل مفهوم:
مفهوم الوجود يحكي صرف واقعية الأشياء، ولا يدل على الناحية الوجودية والناحية الملكية للأشياء، ولكن الماهية وحدها تدل على الناحية الوجودية ولا تحاكي أصل الوجود.
6 . اعتبارية الماهية من وجهة نظر علماء المعرفة:
هناك اتفاق في علم المعرفة على أنّ الوجود هو الأصيل والماهية اعتبارية، أي إنّ مفهوم الوجود هو الذي يحكي الواقعية، والمفاهيم الماهوية ليس فيها محاكاة.
وحتّى القائلين بأصالة الماهية يقرّون بأنّنا إذا أردنا أن نتحدّث عن أصالة الماهية، علينا أن نستمدها من مفهوم الوجود. وباعتقادهم، إنّ مفهوم الوجود بنفسه ليس له واقعية، ولكن دوره يقتصر على أن يحكي عن ملاك عينية الوجود.
بناء على ذلك، فإنّ مسألة أصالة الوجود واعتبارية الماهية ليست مسألةً معرفيةً كي نبحث فيها عن المفاهيم وعن كيفية محاكاتها، بل إنّها مسألة وجودية ترتبط بالواقعيات الخارجية، حيث يبحث فيها عن أنّ الواقعية العينية تحكي أيّ من المفهومين: الوجود أو الماهية.
7 . معنى الأصالة والاعتبار:
تأتي الأصالة بمعنى “ذي حقيقة”، و”منشأ للآثار”، و”موجود بذاته”، و”تشكيل مادّة الواقعية”، وبمعنى “أصل الموجودية والتحقّق”. وعندما يقال: الوجود أصيل، إنّما يقصد به أنّ مفهوم الوجود لديه مصداق واقعي، والواقع الخارجي هو المصداق الحقيقي للوجود. أي إنّ الأصيل هو الشيء الذي أسند إليه الموجودية والعينية الخارجية بالمعنى الحقيقي.
أمّا الاعتبارية، فإنّها تعني إسناد الوجودية والتحقّق لشيء ما على سبيل المجاز. وإذا قلنا عن شيء اعتباري إنّه موجود، فهذا يكون على أساس المجاز العقلي، وهو موجود “في عالم الاعتبار”. وأمّا في عالم الحقائق فهو غير موجود، وعالم الاعتبار هو المحل الذي يفترضه الذهن لواقعية الأشياء الاعتبارية.
8 . وحدة المصداق بين مفهومي الوجود والماهية:
ينتزع مفهوم الوجود وكذلك مفهوم الماهية من مصداق عيني واحد، ولا يعني هذا أنّ المصداق الواحد ينقسم إلى قسمين ينتزع من كل قسم منهما أحد المفهومين.
ودليل وحدة المصداق أنّنا نحملهما على بعضهما البعض، وعليه فهما مفهومان لمصداق واحد، وإلا لما صح الحمل.
ومن هنا، يفهم أنّه لم يقل أحد بأصالتهما معًا سوى القول المنسوب إلى الشيخ أحمد الإحسائي الذي يقول إنّ لدينا واقعيتين في الخارج: الوجود الذي هو منشأ الخيرات، والماهية التي هي منشأ الشرور؛ ولأنّ الخير أمر واقعي، وكذلك الشر، فهما متحقّقان بالخارج.
التفسير الأول: الماهية بعنوان حد الوجود
يعتقد بعض أتباع الحكمة المتعالية أنّ معنى أصالة الوجود واعتبارية الماهية هو أنّ الوجود هو الواقع وما له ثبوت خارجي. وأنّ الماهية في الحقيقة ليست سوى الحد العدمي للوجودات العينية؛ لذلك تسند الوجودية والواقعية للوجود إسنادًا حقيقيًا و”إلى ما هو له”، وإسنادهما للماهية إسناد مجازي و”إلى غير ما هو له”.
وفي الواقع تنتزع الماهية من حد الوجود، ووجودها انتزاعي، ومنشأ انتزاعها من الوجودات المحدودة، فهي بالحقيقة أمر عدمي. وبما أنّ الوجود موجود، والماهية حد له، أعطي حكمًا عقليًا بوجودها، ويقال على سبيل المجاز: الإنسان (الماهية) موجود؛ وإلا فإنّ تحقّق الماهيات هو تحقّق سرابي، ومن قبيل الوهم.
ومهما يكن، يعرّف أصحاب هذه النظرية الماهية بأنّها “حد الوجود”، ومفهومها منتزع من حد الوجود المحدود.
التفسير الثاني: الماهية بعنوان خيال حد الوجود
يعتقد أصحاب هذا التفسير أنّ الماهية ليست حدًّا للوجود، الماهية في الخارج لا شيء. وهذا المعنى المجهول لها ليس له وجود في الخارج، وإنما الموجود في الخارج هو الوجود، ولكن ذهننا – آلة إدراكاتنا الحصولية – عندما يقف أمام وجودات محدودة، يستنسب على نحو ما أن يضع لها حدًّا يسمّيه الماهية. أي إنّ الواقع الخارجي المحدود هو نوع من تأثير علمنا الحصولي، ونسمّيه الماهية. وبعبارة أخرى، الماهيات بذاتها اعتبارية، ومن صناعة أذهاننا.
وهذا التفسير تم طرحه ضمن آراء متفاوتة:
– البعض اعتبر أنّ الماهية أمر اعتباري نصنعه نحن بين الوجود الذهني والوجود الخارجي. أي إننا عندما نلحظ الوجود الخارجي بواسطة الوجود الذهني نسمّي هذا المعلوم ماهيةً، فنجعل لهذا المعلوم اعتبارًا – بغض النظر عن الوجود الذهني والوجود الخارجي – وإلى أن يتحقّق هذا الاعتبار فلن يكون للماهية أي شأن من هذه الجهة؛ فإنّ موطنها الذهن الذي هو وعاء العلوم الحصولية، وما لم توجد هذه العلوم الحصولية وموطنها الذهن فلن يكون هناك أي ذكر للماهيات، والشيء التابع للذهن لا يمكنه أن يكون أصيلًا. إذًا، الماهية ليست سوى قالب مفهومي فارغ.
– علماء آخرون قالوا إنّ الماهية ليس لها واقعية خارجية بأي وجه، بل هي ظل للوجود، فالماهية ظل ذهني للوجود وليست ظلًّا خارجيًّا، ولا شيء في الخارج سوى الوجود؛ لذا فَهُم يعتبرون الماهيات ظهورات للوجود في الأذهان.
وباختصار، بناءً على هذا التفسير لأصالة الوجود باختلاف تعابيره، فإنّ الماهية عندهم ليست حتّى عدمًا مضافًا، وليس لها ما بإزاء. وهي ليست موجودة في الخارج؛ لا كمحتوى للوجود، ولا كحد له، بل هي أثر يرسمه الخارج في أذهاننا؛ لذلك فإنّ علاقة الماهية بالخارج كعلاقة الأثر بالمؤثّر. من هنا، يمكن القول – بناءً على هذا التفسير – إنّه مع عدم وجود الذهن لن يكون هناك وجود للماهية. وهذا ما لا يمكننا قوله بحسب التفسير الأول.
إشكالات على التفسيرين
هذان التفسيران – بنظرنا – ليس أنّه لا يرتبطان بنظرية صدر المتألهين في أصالة الوجود واعتبارية الماهية فحسب، بل هما أصلًا من التفاسير الخاطئة فلا يمكن قبولهما.
ولبيان عدم صحّتهما نطرح السؤال التالي: ما الذي حدا بأصحاب هذين التفسيرين إلى ترك أي بحث بعينية الماهية، أو عينية الوجود والماهية معًا، بمجرّد الاعتقاد بأصالة الوجود؟
السرّ في ذلك هو أنّهم قد افترضوا مقدّمةً مسلّمةً في بحوثهم وإن لم يصرّحوا بها، ولكنّهم اعتمدوا عليها وبمقتضاها خلصوا إلى هذه النتيجة.
وهذه المقدّمة المضمرة هي أنّ الواقع الخارجي البسيط ليس أكثر من مصداق واقعي لمفهوم واحد. وعندما يكون لدينا مفهومان متغايران أو أكثر، لا يمكن عد مصداق تلك المفاهيم شيئًا واحد. وبعبارة أخرى فإنّ تعدّد المفاهيم دليل على تعدّد المصاديق، ولأنّه في الخارج هناك مصداق واحد لكل مورد، يلزم أن يكون هذا الشيء الخارجي مصداقًا بالذات لأحد المفهومين، ومصداقًا بالعرض للآخر.
ولأنّ هذه المقدمة ليست ظاهرةً ولم يقم أي دليل عليها، بل على العكس صرّحوا بخلافها، مضافًا إلى أنّه يمكن ذكر شواهد متعدّدة يكون فيها مفاهيم متباينة ويكون لها مع ذلك مصداق واحد، وتكون منتزعةً من حقيقة واحدة، وهذا المصداق الواحد هو مصداق حقيقي لكل هذه المفاهيم. مسألة ذات الله وصفاته، ومسألة العلم الحضوري للنفس بذاتها، ومسألة تساوق المفاهيم الوجودية هي من هذه الشواهد التي سيأتي تفصيلها عند بيان النظرية المختارة.
وحاصل الأمر، إنّ المفاهيم المتغايرة قد تمتلك مصداقًا حقيقيًا واحدًا، وهذا الكلام لا يختص بالمفاهيم الوجودية والمعقولات الثانية فحسب، بل إنّه يصدق على المفاهيم الماهوية، وكذلك على المفهوم الماهوي والوجودي المنتزع من شيء واحد.
ويمكن الاستشهاد بكلام العلامة الطباطبائي على أنّ هذا منطبق في مورد الصفات، حيث إنّه يعتبر أنّ صفات الوجود هي عين الوجود مصداقًا مع اختلافها عنه مفهومًا. وهكذا تجتمع – بنظره – المقولات المتعدّدة التي هي من سنخ الماهيات في شيء واحد، مثل مفهوم الجسم ذي الأبعاد الثلاثية الجوهرية، والكم الذي يعيّن هذه الأبعاد الثلاثية الجوهرية، ويكونان – أي الجسم والكم – موجودان بمصداق واحد في الخارج؛ لأنّ تعيّن أي وجود هو عين وجوده.
وقد اعتبر الشيخ الرئيس أنّ الموجودية هي إضافة بعين موجودية موضوعها، وهذا القول نقله صدر المتألهين مرارًا، وحاول تبسيط تصوّر ابن سينا في هذه المسألة.
إذا دقّقنا في إحدى النتائج التي توصّلت إليها الحكمة المتعالية، وهي أنّ الأعراض من مراتب وجود الجواهر ومن صفاتها الذاتية، يتبيّن لنا أنّ كل الأعراض وجواهرها التي تختلف في ماهياتها يجب أن تكون موجودةً بنفس وجود الموجود، ومن هذا الجانب يكون الشيء الواحد مصداقًا لمفاهيم متباينة.
التفسير الثالث: الواقعية للوجود والماهية معًا
بعد بيان عدم صحّة التفسيرين السابقين، نصل إلى عرض النظرية التي نعتقد بها، وهي أنّه علاوة على أنّ الوجود له واقعية عينية، وهو أصيل، كذلك الماهية أيضًا هي بعين الوجود توجد واقعية حقيقية وعينية، بحيث إنّ إسناد الموجودية لأي منهما هو إسناد حقيقي. بمعنى أنّ الأمر الحقيقي الواحد بعينه هو مصداق حقيقي للوجود، وكذلك هو مصداق حقيقي للماهية بدون أن يكون هناك تفاوت بينهما في الخارج.
فمثلًا بخصوص الإبريق الممتلئ بالماء، نستطيع القول: إنّ محتوى الإبريق – ذاك الشيء الذي ملأ فراغ الإبريق – هو وجود، وأيضًا هذا المحتوى هو ماء. وفي كلتا الحالتين لم نقل مجازًا ولم نستخدم الإسناد المجازي، أي إنّ الماء حقيقة في عين ذاك الوجود، موجود الآن في الإبريق أيضًا.
وعليه، نؤكّد مجدّدًا أنّه لا يوجد لكل من الوجود والماهية واقعية بمعنى تمايزهما عن بعضهما – والذي هو قول باطل – بل إنّهما عين بعضهما البعض. فلا يوجد في الخارج إلا واقعية واحدة، غاية الأمر أنّ هذه الواقعية الواحدة تكون في الوقت نفسه مصداقًا للوجود ومصداقًا للماهية.
وهذا أمر متصوّر ومعقول؛ وبالتأمّل في هذا المدّعى يمكن أن نجد له نماذج وشواهد كثيرة، من جملتها مسألة الذات والصفات الإلهية؛ فإنّ الله تعالى هو مصداق للوجود، وأيضًا هو مصداق للعلم، والقدرة، والحياة، ونظائرها.
هل يوجد في الله شيء اسمه الوجود، وآخر اسمه العلم، وثالث اسمه القدرة، أم أنّه شيء واحد موجود، وعالم، وقادر، أيضًا؟ الحق أنّه وإن كانت الذات والصفات متغايرة مفهومًا، إلا أنّها متحدّة مصداقًا.
وكذلك ارتباط الوجود والماهية يكون أيضًا بهذا النحو، أي إنّهما يتغايران مفهومًا ويتحّدان مصداقًا، وبتعبير صدر المتألهين: فإنّهما بحسب المعنى وتحليل الذهن غير بعضهما البعض، ولكن في نفس الأمر هما واحد[1].
شاهد آخر، هو مسألة اتحاد العالم والمعلوم في العلم الحضوري للنفس بذاتها، فمع أنّ مفهومَي العالم والمعلوم متعدّدان ومتباينان، ولكن مصداقهما واحد، وليس في مصداقهما تعدّد بأي شكل كان.
وكذلك هي مسألة تساوق المفاهيم، وعلى سبيل المثال: إنّ مفهومَي الوجود والوحدة متساوقان، وعلى الرغم من التباين المفهومي بينهما إلا أنّه ليس مصداقهما واحد فحسب، بل إنّ حيثية صدقهما أيضًا واحدة.
وملخّص القول، إنّ الماء والرياح والتراب والقمر والشمس واقعًا لديها وجود في عالم الخارج، ولديها عينية وتحقّق خارجي؛ لذلك فإنّه إذا قيل إنّ الماهية اعتبارية، وأنّ الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة، فهذا يصحّ فقط في مورد الماهية التي جرّدها العقل من الوجود، أي الماهية في حد ذاتها ومن حيث هي، وليس الماهية الخارجية – الماهية الموجودة –.
وإلا إذا كان المراد من الماهية الخارجية – الماهية الموجودة أو الماهية بعد الجعل – فإنّها أمر عيني، وإسناد الموجودية لها هو إسناد إلى ما هو له.
شواهد من كلام صدر المتألهين في تأييد هذا الرأي:
وكما أشرنا سابقًا، يستنتج من آثار وكتابات صدر المتألهين أنّه يتبنّى هذا الرأي، فهو من ناحية قد صرّح بعينية الوجود والماهية، حيث إنّ الوجود والماهية – في الشيء الذي يحتوي على الوجود والماهية – هما شيء واحد، وأكّد على أنّه إذا كان أحدهما في الحقيقة موجودًا في الخارج، فإنّ الآخر سيكون موجودًا أيضًا.
ومن جانب آخر، اعتبر أنّ ارتباط الماهية والوجود مثل ارتباط الجنس والفصل في النوع البسيط، ومثل ارتباط ذات الله وصفاته، حيث يقول:
“فكما أنّ وجود الممكن – عندنا – موجود بالذات، والماهية موجودة بعين هذا الوجود بالعرض؛ لكونه مصداقًا لها، فكذلك الحكم في موجودية صفاته – تعالى – بوجود ذاته المقدّسة”[2].
وهذا القول يدل بشكل واضح على ما ذكرناه؛ وإذا لم يكن للماهية وجود في الخارج، فإنّ قياس مسألة الماهية والوجود مع مسألة ذات الله وصفاته لن يكون صحيحًا حينئذ.
أشار صدر المتألهين أيضًا إلى أنّ الشيء الواحد البسيط يمكنه أن يكون مصداقًا لعدّة مفاهيم من دون أن يكون متكثّرًا، أو لديه حيثيات خارجية متعدّدة. مستشهدًا بذلك على صدق العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، وسائر الأوصاف الإلهية على واجب الوجود، وعلى بحث العاقل والمعقول. وبالنظر لهذه النقطة، ومقايستها مع ما سبق ذكره من خلال المقارنة بين الوجود والماهية وبين الذات والصفات الإلهية، يمكن فهم وجهة نظر هذا الحكيم حول باب الماهية.
ونتيجة هذين المطلبين هي: كما أنّ واجب الوجود واحد وبسيط ويؤخذ منه مفاهيم متعدّدة، وتكون هذه الذات مصداقًا حقيقيًّا لكل هذه المفاهيم، فكذلك أيضًا في باب الوجود والماهية لدينا في الخارج واقعية واحدة نأخذ منها مفهومين، هما الوجود والماهية، وتلك الواقعية تكون حقيقيةً لكليهما، وبتعبيره، وجود أي شيء ذاتًا يكون مصداقًا لحمل ماهية ذلك الشيء عليه.
أدلة النظرية المختارة
المدّعى هنا يتضمن أمرين: أصالة الوجود وعينية الماهية، وبالنسبة إلى أصالة الوجود فقد تم إثباتها، ولذلك سوف نستدل على إثبات عينية الماهية، ولبلوغ هذا الهدف سوف نتّبع سبيلين: إثبات عينية الماهية، ونقد ومناقشة أدلة القائلين باعتباريتها.
1 . إثبات عينية الماهية:
لإثبات عينية الماهية سوف نشير إلى دليل هو في عين أنّه بسيط، محكم ومتقن. وهو أنّه ليس هناك من دليل يدل على وجود الشيء أقوى من صدق مفهومه على عين خارجية في قضية خارجية.
ولتفسير هذا القول، نأخذ مثالًا إبريق الماء، يمكن أن نقول عن محتواه: “هذا ماء”، أي إنّ مفهوم الماء صادق بدون أدنى شك على محتوى الإبريق. وإذا أردنا تعريف الماء بأي نحو – سواء كان هذا التعريف علميًّا أو عرفيًّا أو فلسفيًّا – فإنّه سيبقى ما بداخل هذا الإبريق ماء؛ لذلك فإنّ الماء موجود.
ولمّا كان محتوى الإبريق ماءً، ونعلم بمقتضى أدلة أصالة الوجود أنّ محتوى الإبريق هو وجود أيضًا، وقد مرّ معنا أنّ المصداق الواحد يمكن أن يكون مصداقًا واقعيًّا لعدّة مفاهيم متباينة؛ لذلك فإنّ محتوى الإبريق هو مصداق حقيقي للوجود، وكذلك هو مصداق حقيقي للماء، وهذا يعني أنّ أصالة الوجود هي عين تحقّق وعينية الماهية.
وإذا كان صدق المفهوم على شيء في الخارج أهم دليل على وجود ذلك الشيء، وإذا لم يكن هناك شك في صدق المفاهيم الماهوية مثل الماء، والإبريق، والورد، والإناء، على مصاديقها في الخارج، وإذا لم يكن أساس لموجودية الماهيات في الخارج غير معنى صدق مفاهيمها على إحدى الموجودات الخارجية، فإنّه لن يبقى مجال للشك في موجودية وعينية الماهية في الخارج.
2 . نقد أدلة اعتبارية الماهية:
هناك أدلة كثيرة في الكتب الفلسفية لإثبات أصالة الوجود واعتبارية الماهية، وبحث كل هذه الأدلة لا يسع هذه المقالة، ولكن ضمن تقييم كلي لهذه الأدلة يمكن أن نقسّمها إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: الأدلة التي لم تثبت أي من المدّعَين: لا أصالة الوجود، ولا اعتبارية الماهية، وبعبارة أخرى هذه الأدلة واهية وباطلة.
المجموعة الثانية: تعتبر من أهم الأدلة على إثبات أصالة الوجود، ومع ذلك لم تعر أي اهتمام لإثبات اعتبارية الماهية. وفي الواقع، أغلب هذه الأدلة كانت في مقام نفي ادّعاء الذين قالوا بأصالة الماهية – مثل شيخ الإشراق – وذلك من خلال إثبات أصالة الوجود، ولم تكن في مقام إثبات اعتبارية الماهية.
المجموعة الثالثة: الأدلة التي أقيمت لإثبات اعتبارية الماهية.
وبعد هذا التقييم الكلي، ولإثبات مدّعانا في عينية الماهية، سوف نقوم بمناقشة وبحث المجموعتين الثانية والثالثة، ونهمل الأولى؛ لخروجها عن إطار البحث.
1 . الاستدلال عن طريق الاتحاد الخارجي للوجود والماهية:
استدل الحكيم الهيدجي[3] – في حاشيته القيّمة على شرح منظومة الحكمة – لإثبات اعتبارية الماهية كما يلي:
أولًا: لا شك أنّ الماهية والوجود متحدان في الخارج، ومن المؤكّد أنّه لا يمكن أن يكون لكلٍ من الشيئين المتحدين في الخارج وجود حقيقي، وإلا لما صح اتحادهما، لأنّهما في هذه الصورة سوف يكونان متغايرين لا متحدين، فيجب أن يكون أحدهما اعتباري. وبما أنّه ليس هناك شك في أصالة الوجود، فإذًا الاعتبارية للماهية.
والوجه في ضعف هذا الدليل يكمن في التوصيف غير الصحيح للاتحاد، فقد اعتبر هذا الدليل عدم إمكان اتحاد موجودين حقيقيين، مع أنّ هذا القول منقوض بمسألة اتحاد العلم والقدرة الإلهية؛ فإنّ العلم والقدرة موجودان حقيقةً، ومتحدان أيضًا. وكذلك اتحاد العالم والمعلوم في مسألة علم النفس بذاتها علمًا حضوريًّا.
ثانيًا، إنّ المفهوم المتبادر من هذا البرهان يرتبط فقط بأحد أقسام الاتحاد، وهو اتحاد حدود المحدود. مع أنّ للاتحاد أقسام أخرى أيضًا: أحدها اتحاد وجودين متغايرين كما في الهيولى والصورة، والآخر اتحاد معنيين متغايرين في وجود واحد بحيث يصدقان على الموجود العيني الواحد الذي ليس فيه أي لون من ألوان الكثرة، كما في اتحاد الصفات الإلهية بالذات. واتحاد الوجود والماهية هو من هذا القبيل.
2 . الدليل المبني على الوجود الذهني للماهية:
هناك دليل آخر على نفي عينية الماهية، وذلك من خلال إثبات أصالة الوجود عن طريق الوجود الذهني. هذا الدليل طرح على الشكل التالي: إذا كان للماهية موجودية، فلن يكون ثمّة فرق بين الوجودين الذهني والخارجي. وفي هذه الصورة كان على النار الذهنية أن تحرق، وعلى الورد الذهني أن يفوح رائحةً عطرة. والحال أنّ هناك فرق بين الوجودين؛ فالماهية الموجودة في الخارج يترتّب عليها الآثار، في حين أنّ الماهية الموجودة في الذهن لا يترتّب عليها أي أثر. وبناءً على هذا، لا يمكن أن تكون الأصالة للماهية، ولا يمكن أن يكون لها عينية.
والمغالطة في هذا الدليل تكمن في مقدّمته التي افترضت أنّ الماهية تنتقل بعينها إلى الذهن، في حين أنّ مفهومها فقط هو الذي ينتقل إلى الذهن. فالورد الذهني الذي لا رائحة له ولا لون هو مفهوم لا أكثر، والورد الموجود في الحديقة هو الذي لديه الروائح والألوان.
وبناءً على هذا، قال حكماء الحكمة المتعالية إنّ الماهية الذهنية لا تندرج تحت مقولة لها تحقّق خارجي وتترتّب عليه الآثار، بل إنّ الماهية الذهنية لديها فقط مفهوم تلك المقولة. وبهذا البيان ترتفع الإشكالات الواردة مثل اجتماع الجوهر والعرض، واندراج شيء واحد تحت مقولتين، وأمثالهما. وهذا الأمر يعني أنّ الذي يحضر إلى الذهن هو الماهية بالحمل الأوّلي – مفهوم الماهية – التي لا تندرج تحت أي مقولة.
وخلاصة الأمر – وبلحاظ الوجود الذهني – ليس هناك فرق بين الوجود والماهية.
وكما أنّ مفهوم الوجود يجد له محلًا في الذهن، كذلك الماهيات تحل ضيوفًا على الذهن بمفاهيمها، ومثلما أنّه لا يمكن بهذا الدليل جعل الوجود اعتباريًّا، حيث إنّ مفهومه لا آثار خارجية له، كذلك الماهية لا يمكن جعلها اعتباريةً، لأنّ مفهومها ليس له آثار خارجية أيضًا.
[1] قال في موضع من الأسفار: “إن الوجود نفس ثبوت الماهية، لا ثبوت شيء للماهية، فلا مجال للفرعية هاهنا، وكان إطلاق لفظ الاتصاف على الارتباط الذي يكون بين الماهية والوجود من باب التوسع أو الاشتراك؛ فإنه ليس كإطلاقه على الارتباط الذي بين الموضوع وسائر الأعراض والأحوال، بل اتصافها بالوجود من قبيل اتصاف البسائط بالذاتيات لا اتحادها به”. الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحتان 57 و58.
[2] المشاعر، مصدر سابق، الصفحة 107.
[3] محمد بن معصوم علي الهيدجي الأزربايجاني المعروف بحاجي آخوند، ولد بهيدج من زنجان في 1270، وتوفي في حدود سنة 1349، [في الذريعة، الصفحة 1339] كانت دراسته الأولى في هيدج قرب زنجان، ثم قرأ في قزوين علوم اللغة والمنطق، وفي طهران قرأ العلوم الكلامية والرياضية على الميرزا حسين السبزواري، كما قرأ الحكمة على الميرزا أبو الحسن المتخلص بجلوة، وقرأ الفقه والأصول على غيرهما. ولقد بقي زهاء سنة في المدرسة المنيرية في طهران مشغولًا بالبحث والتدريس وناظرًا على مكتبتها. له تعليقة على منظومة السبزواري ومجموعة في النظم والنشر. انظر، أعيان الشيعة، الجزء 10، الصفحة 58؛ الذريعة، الجزء 9، الصفحة 1304.
______________________
*نقلُا عن موقع “المعارف الحكمية- معهد الدراسات الدينية والفلسفية”.