الدراسات والبحوث

الوحي والحضارة منهج الديمومة الحضاريَّة

د. صلاح الجابري

الوحي والحضارة منهج الديمومة الحضاريَّة

د. صلاح الجابري

عميد كلية الآداب وأستاذ الفلسفة في جامعة بغداد- العراق.

 

بُنيت الحضارة الإسلامية على أساس منظومة وحيانية، ولكن ماذا نقصد بالوحي في هذا السياق؟ نقصد بالوحي جملة المنظومة الفكرية والقيمية التي توجِّه العقل الإسلامي الناظم للحضارة والمحرِّك للتاريخ. وأن عمل الوحي في الواقع يجري عبر عملية معرفية وتطبيقية محورها الإنسان والواقع الإجتماعي، والحامل لها هو الإنسان، ولذلك فهذه العملية التي تصيِّر من المنظومة الوحيانية منهج عمل في الواقع الاجتماعي هي في حد ذاتها، ولشدة ارتباطها بالإنسان، نسميها «أنسنة الوحي»! فالإنسان هو الوسيط بين الوحي والواقع الإجتماعي وفي الوقت نفسه هو الإنسان ذاته مستهدف بهذه المنظومة الوحيانية، وكون الإنسان في حد ذاته مستهدفاً هنا من لدن الوحي هو الذي سيكشف لنا فيما بعد عن أهمية المنهج العرفاني في انجاز هذا الاستهداف.

وفي مسار تحرُّك المنظومة في الواقع أنتجت علاقة هوية ذاتية بين الوحي والعقل، فالوحي يشترط العقل، ويشكل معه وحدة مفهومية تؤطر العمل، قد تصل في مدياتها القصوى إلى تطابق و وحدة هوية، لكن العقل لا يشترط الوحي، فالعقل قد يستقل في معالجة الواقع ويعتمد على إمكاناته وقدراته الذاتية، ومثال هذا إنتاج العقل الغربي للحضارة المعاصرة. كذلك أنتج العقل الإسلامي في حركته الحضارية مناهج استدلالية وتجريبية وتاريخية – اجتماعية ناجحة، وكان تعثر تجربته الحضارية بسبب عوامل داخلية وخارجية.

ولذلك يبدو للوهلة الأولى أن حضور التصوف والعرفان في الحضارة الإسلامية أقرب إلى المدرسة الثقافية التي نشأت تحت ضغط ظروف معينة، سياسية واقتصادية، لكن المهم أنها حولت مركز الاهتمام من الجماعة إلى الفرد؛ لأن العرفان يتعامل مع ذات فردية بقابلياتها وتجاربها وتوجهاتها الذاتية، ولذلك فمعيار الحقيقة هو قوة الشعور الذاتي بالحقيقة وليس اجماع على دليل عقلي موضوعي مشترك يخضع لقواعد متفقة بين الجماعة.

وفي هذا السياق بالتحديد فإن جل ما ينجزه التصوف أمران:

الأول: البساطة والوضوح وتجاوز تعقيدات التجربة الحسية والقواعد المنطقية.

الثاني: ربط الواقع بالأخلاق العملية ربطاً محكماً لا انفكاك منه (الرؤية بعين الله).

سنعود إلى تعميق الإنجاز الثاني وبيان أهميته في ضمان ديمومة الحضارة، بعد أن نوضح بعداً آخر للتصوف والعرفان، وهو بعد ابستمولوجي. وهنا نتناول التجربة الصوفية والعرفانية بصفتها مرحلة من مراحل التكوين الأبستمولوجي للعقل البشري، وليس نهجاً مستقلاً بذاته، بل مجرد خطوة من خطوات المنهج الأبستمولوجي، وفي حركة الإنسان التاريخية، وهي خطوة لها انعكاساتها العلمية على البناء الحضاري. فالعرفان هنا خطوة من خطوات المنهج الاستدلالي في انتقالاته بين المقدمات والنتائج، وأعني بذلك «حدس المقدمات». فمقدمات الإستدلال دائماً قبليات غير مبرهنة، وهذه القبليات يسلم بها العقل لعدة أسباب منها حسية وتجريبية وأخرى حدسية وجدانية، وهذا الشعور بالمقدمات المعرفية هو مجال عمل خصب ومهم للمنهج العرفاني. وكأن التصوف هنا ينمّي قدرات سيكلولوجية في الإنسان قادرة على التقاط الحقيقة والبدء منها باطمئنان. ولذلك ترانا لا نسأل عن أصل الفكرة أو الفرضية، لكننها ننظر ونفحص طريقة البرهنة عليها وهو عمل لاحق على وضع الفكرة أو الفرضية. فالكشف والشهود يسبق البرهنة المنطقية، لذلك لا يهمني من أين استقى عالم الرياضيات الهندي رامنجان معادلاته الرياضية، من الآلهة كما يعتقد أم من عقله الباطن، إنما يهمني فحص عملية البرهنة التي قدمها فيما بعد لتلك المعادلات فحولها إلى مبرهنات، ويعتمد قبولي لها على البرهنة والدليل وليس على ادعاءاته حول مصدر اكتسابها. كما نلاحظ أن الكثير من العلماء والفلاسفة ادعوا بأنهم استلهموا مبادئ فلسفاتهم الطبيعية أو الميتافيزيقية من تجارب صوفية. لكن هذه التجارب الصوفية لا تغني الإنسان عن البرهنة العقلية، لأن عملية اشتغال هذه المعرفة في الواقع تحتاج إلى عقلنة تسبق التطبيق. فقد لا يحتاج الصوفي إلى برهان عقلي على وجود الله؛ لأنه يشعر بوجود الله شعوراً مباشراً، والله حاضر لديه شعورياً، لكن الصوفي نفسه لا يستغني عن البرهان من أجل تطبيق نظرية أينشتين على الواقع، أو لاشتقاق مبادئ عمل من فيزياء الكم، أو لتطبيق الديمقراطية في نظامه السياسي.

وفي هذا الإطار الشعوري تستخدم السيكولوجيا الصوفية للشعور بالمعنى العميق للأشياء. فالشعور الصوفي يتجاوز ظاهر الأشياء إلى عمقها أو قد يكتشف في ظاهر الأشياء معاني خفية أو باطنية. فالإدراك الحسي للبحيرة الجبلية، على سبيل المثال، في وقت الغروب قد لا يتجاوز لون البحيرة وحجمها وبرودتها والأحياء الموجودة فيها والطيور السابحة في مياهها، لكن الشعور الصوفي ينفذ إلى عمق البحيرة فيستحضر معاني مختلفة وربما جديدة أيضاً، مثل: الشعور بالسلام، والأمان والطمأنينة، الشعور بالصمت والهدوء، الشعور بالراحة والانشراح النفسي، الشعور بالحب، الشعور باللامتناهي، الشعور بالعمق، وقد تتفاوت قدرات الإنسان في استخراج المشاعر التي تزود العقل بمفاهيم جديدة، والإبداع عمل شعوري خيالي قبل أن يكون عقلياً. ولذلك فالمفاهيم الأخيرة ليست من وظائف الحواس الظاهرية، ولا مدركات العقل، بل هي مشاعر وجدانية، قد تختلف من فرد إلى آخر، و هذا هو الذي يدعونا إلى القول بأن التسامح والحب والاعتراف بالآخر واحترامه شعور ينطلق من الداخل إلى الخارج، أعني من الذات إلى الموضوع، لأن تلك المفاهيم تعبِّر عن تجربة وجدانية عميقة تضفي على الواقع معنى يختلف عن معناه الذي تصوره الصراعات الاجتماعية اليومية.

ولكن إذا نظرنا للتجربة الصوفية بصفتها الخاصة التقليدية كانعزال عن الواقع، وهجران للمجتمع، وهروب من التصدي لمشكلات الواقع الاجتماعي والركون إلى الخلوة، فهذا المنهج لا يخدم الحضارة ولا سياسة مصالح الناس.

نعود الآن إلى النقطة التي تركناها في الصفحة الأولى وأعني بها العرفان كنهج تربوي روحي ونفسي عميق. وهنا يمكننا أن نحدد وظيفة مهمة لهذا النهج التربوي لا يضطلع بها أي حقل معرفي أو قيمي آخر، وهو نهج يمكن أن يمد الحضارة بعوامل بقائها واستمرارها في التاريخ.

وفي هذا السياق، والسياقات التي تناولناه سلفاً، قد لا نتعقل خلق التصوف أو العرفان للحضارة، ولكن الواضح لدينا أن التصوف نشأ وتطور في أحضان الحضارة الإسلامية كمدرسة ثقافية لها أسسها ومنهجها ومفرداتها أو لغتها. وهي مدرسة تربوية نفسية تركز على الفرد قبل الجماعة، أعني الأصالة فيها للفرد وليس الجماعة. فهي يمكن أن توفر منهجاً وطريقة تمد الفرد بطاقات نفسية و روحية هائلة. لذلك فالتربية الروحية والنفسية من العوامل الأساسية لاستمرار المد الحضاري الإسلامي، بالإضافة إلى العوامل الأخرى الاقتصادية والتاريخية. وهنا يمكننا أن نتعامل مع التصوف كمدرسة روحية وأخلاقية، تنتج مفاهيم ومفردات عملية يحتاجها المجتمع في حل أزماته المستعصية في مرحلة تاريخية معينة. ومن بين هذه المفاهيم والمفردات العلمية: التسامح، والتعددية، والاعتراف، والحب، والتضامن. وهذه مفاهيم أساسية للإنسانية ويجري التشديد عليها من قبل المدارس الفكرية المختلفة في الغرب، وتستعملها منظمات الأمم المتحدة في معالجة أزمات المجتمعات التي تعاني من حروب وتمزق اجتماعي بسبب الحروب الداخلية والارهاب والإبادة الجماعية.

ومن هذه الزاوية التربوية نفهم لماذا ينظر المتصوفة والعرفاء للإمام علي عليه السلام بوصفه المتصوف الأول في الإسلام. والسبب أن الإمام علي عليه السلام أدرك أن استمرار الإسلام كدين وحضارة يحتاج إلى تعميق البعد الروحي في الإنسان، فانتج نهجاً مختلفاً عن الصحابة، نهجاً أقل التصاقاً بالمنافع المادية واكثر تركيزاً على التنمية الروحية للإنسان. فبعد أن توطت أركان الدولة الإسلامية واكتملت معالم الدين العامة سعى إلى تأسيس عوامل بقائها و ديمومتها في التاريخ من خلال تربية البعد الروحي في الإنسان هو مسعى أطلق عليه في الأديبات الإسلامية مصطلح «الجهاد الأكبر»، وسمي الأكبر لأنه يحافظ على ديمومة الحضارة والدين وتزويد الإنسان بعوامل وقابليات يتجاوز بها السنن التاريخية ويسيطر عليها، مثلما أن الإنسان يحقق رفاهيته على الأرض بالسيطرة على قوانين الطبيعة والتصرف بها لصالحه.

ويبدو أن توطيد أركان الدين ومن ثم الدولة كإطار اجتماعي محكوم بقيم وقونين وأنظمة يسبق عملية توفير أسباب الديمومة والاستمرار، بحكم أننا لا نستطيع أن نوفر وسائل توجيه المجتمع عبر التعليم والتربية وننتظر أن يثبت الدين وينتظم الإطار الاجتماعي بشكل تلقائي، لأن الصراع الاجتماعي الذي تخلقه المنافسة مع أصحاب المصالح والمتنفذين اجتماعياً يعوق عملية التجسُّد التلقائي للقيم الدينية والحضارية بوساطة التربية الروحية، وإنما لا بد من عمل ثلة أو نخبة تقوم بمسؤولية مواجهة الصراع ورفع العوائق و توطيد أركان الدين والدولة، ثم تعمل بعد ذلك على توفير عوامل البقاء والاستمرار.

كان الإمام علي عليه السلام يؤمن بأن استمرار هذه الحضارة الدينية مرهون بعمق الشعور الديني والأخلاقي في الإنسان الحامل لمشعل الحضارة، فإذا تراجع هذا الإنسان بتراجع مركزية الوحي في ذهنه واستبدل المنظومة الوحيانية بأخرى وضعية وخلط هذا بذاك؛ بسبب الابتعاد الروحي أو الزمني عن مصدر الوحي، فإن هذا الإنسان لن يستطيع مقاومة السنن التاريخية التي سوف تطيح به عاجلاً أو آجلاً. ولكي يحافظ هذا الإنسان على ديمومة الحضارة كان لابد من تطوير منهج عملي تربوي وذاك هو المنهج العرفاني الروحي الذي يعمل على تعميق المنظومة القيمية الوحيانية في الذات الإنسانية ويجعلها حاضرة لديه على نحو متواصل، لتتحول، عن طريق اللغة، والتفاعل الاجتماعي، إلى علاقة بين ذوات منخرطة في حوار أخلاقي سياسي في الفضاء العام، ومن هنا تتحول المنظومة من حالتها التربوية الفردية إلى علاقة اجتماعية وتتخذ صيغة اجتماعية في علاقة عناصر المجتمع بالله وبالمنظومة الوحيانية ذاتها.

من هذه الزاوية نعم يمكن أن يشكل التصوف منهجاً يعمل على تعميق الشعور الإسلامي من ناحية، وجامعاً للأمة بمختلف مذهبها من جانب آخر. لأن التصوف بصفته منهجاً تربوياً ودرساً روحياً محل اتفاق بين أغلب المذاهب الإسلامية، بل محل اتفاق حتى مع الأديان الأخرى. ولذلك نحتاج إلى تطوير واعتماد هذا اللون من المنهج الصوفي البين ذاتي، والذي يمكن تسميته بالتصوف السياسي.

نستخلص من هذه المقدمة ما يأتي:

التصوف منظور ومنهج لاستكشاف الواقع من طريق استنهاض اقصى قدرات الإنسان الشعورية والوجدانية. ولذلك فهو:

منهج ودرس في التسامح والحب والاعتراف بالآخر، والتضامن.

درس نفسي يتجاوز الوعي الاعتيادي إلى تخوم غائرة في الذات الإنسان، ويمكن أن يحفز منابع الابداع والابتكار.

التصوف درس تربوية روحي يعمق المنظومة الوحيانية القيمية والأبستمولوجية في النفس الإنسانية. ولذلك فهو:

يحافظ على ديمومة الحضارة واستمرارها في التاريخ

يحقق الوحدة الداخلية للأمة الإسلامية، والوحدة الإنسانية مع الأمم الأخرى.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى