الموسيقى الصوفية في السودان – الموسيقار عاصم الطيب قرشي موسوعة تراث تؤكد أن المحلية قمة العالمية
خالد سراج الدين
الموسيقى الصوفية في السودان – الموسيقار عاصم الطيب قرشي موسوعة تراث تؤكد أن المحلية قمة العالمية
خالد سراج الدين
دهشة إبداعه تنسيك جوائزه، ومنها جائزة التصفير العالمي عن عزفه بالفم مقطوعات لموزارت. عاصم الطيب قرشي فنان سوداني عالمي وأشهر من تغنى بالغناء الصوفي وحمل إيقاع النُوبة لأقصى مشارق الأرض ومغاربها، ليُسمع أمام اللوفر الفرنسي والبرلمان الأسترالي والميادين النرويجية ومسارح سيدني وصولا للقارة الأمريكية، ناشراً في العالم حالة التسامح والمحبة التي يعيشها الصوفية في السودان. خالد سراج الدين والتفاصيل
“في القمة كنا عيناً ترنو للكون ..
في الحكمة نور يضوى عمق الحلزون..
تأخذنا رعشة سحر النون تلبسنا حالة عشق الله..
تأتي الدنيا زفة عرس نفرغ فيها ضوء الشمس..
يتكسر طيفاً همساً لمس ..
وصفاء يردد اسم الله..
الله ..الله.. الله ”
لا يذكر اسمه في معهد الموسيقى والدراما التابع لجامعة السودان، إلا ويذكر لك أساتذة المعهد وموظفيه تلك القصة التي يحفظها طلاب الكلية عن ظهر قلب وقصته هناك: أنه يوماً دخل إلى مباني المعهد فوجد إحدى بائعات الشاي الشعبيات تجلس حزينة باكية فما كان منه إلا أن تحدث معها بلهجة منطقتها المحلية “الرطانة” ثم أخرج كمنجته وبدأ بعزف مقطوعة بإيقاع الكلش-أحد إيقاعات منطقة الانقسنا، وما أن بدأ بالعزف حتي قفزت “حاجة حواء” ترقص فرحا غير مبالية بالطلاب الذين التفوا حول المشهد. كانت تلك أول ما لفت نظر الناس لتلك الشخصية النحيلة ليظهر بعدها ذلك الشاب خلف كبار الفنانين كالموسيقار وردي ومحمد الأمين .
جاب الأستاذ والمربي الطيب قرشي البلاد طولا وعرضا غربا شرقا ليعود بزوجته من تلال الانقسنا لينجبا عاصم في قرية مصطفى قرشي في ضواحي مدينة الحصاحيصا في أواسط مشروع الجزيرة. ويعيش عاصم في رحاب قرى منطقة الحلاويين وبيئتهم الريفية حتى يرجع لمنطقة الانقسنا ليتابع تعليمه هناك وينتهي به المطاف في مدينة الخرطوم طالبا مقبولا بكلية الموسيقى والدراما قسم الموسيقى عن رغبة أكيدة راودته منذ الصغر ليحمل ذكريات قرى الحلاويين ومدائحها القروية وألحان وأغنيات مدينة الروصيرص بلهجاتها المحلية ورقصات وإيقاعات منطقة الانقسنا المختلفة.
يبدأ بالعزف فيتمايل الجميع ويحس أن السودان كله ملكه
“أحس أن السودان كله ملكي حين أغني”، يقول عاصم. “أحبه كأنه ملكي وحدي، وأتألم كأنه جسدي”. يحفظ ويعزف كل إيقاعاته ولهجاته المحلية غير واضعٍ اعتبارات للقبلية والجمهور الذي قد لا يفهم كلمات تلك اللهجات، فيغني بلغات قبائل التاما والامبرورو وقبائل الانقسنا، ثم يمدح لأولاد حاج الماحي والبرعي ويعرج على إيقاعات الـ “فرنجابية” والمردوم ويلحقها بالنوبة ورنات “الدليب” الحزينة ممازجا إياها بأصوات “الجراري” القادمة من أواسط باديات كردفان.
وما أن يبدأ بالغناء والعزف حتي يتمايل الجميع ويفرحون وتصيبهم حالات بكاء في الأغنية التي تليها، تلك الدهشة التي تصاحب أغانيه فتصير أعصاب الناس كأوتار كمانه المشدودة فيحتويها -الكمنجة- كما يحتوى ألحانها الخارجة للناس يجتهد في إيصالها كما سمعها، وإن اختل قليلا توقف واعتذر بأنه فشل في إيصال إحساسها كاملا كما سمعها عند أهالي تلك المناطق، يقول عاصم : “لم أجد الصعوبة إطلاقاً في الحفر في تاريخ الوسط السوداني الموسيقي، بيد أن السفر في جغرافيا الهامش، كان وعرًا وعورة السفر في الدواخل، كنت حقيقة أبحث عن ذاتي وسودانيتي، تارة أتعرف على نفسي عبر الآخر، وأخرى على الآخر عبر ذاتي”.
لا يقطع موسيقى عاصم إلا قصصه التي يرويها عن أغانيه وكيفية وصولها إليه من سكان تلك المناطق غير المعروفة لسكان المدينة والأجانب الذين يعزف لهم يحكي حكاياتهم وأمثالهم الشعبية، وتعايشهم وطرائقهم في التعبد. قصص تكون للبعض أجمل من غنائه حتى، فعاصم موسوعة تراث مختصرة يأتي بك من أقصي تلال كردفان إلى أعلي جبل الـ”تاكا” في 5 دقائق تكون كافية بأخذ قدر قليل من ثقافة وطن قارة في ثقافته واختلافات سحناته. يحكي عن “أباشومو” الفار الذي أصاب المحاصيل تارة وعن إيقاع الـ “كتلوك” وقصص قتالات ومعارك البجا عن رقصات قبائل الهدندوة والارتيقا ليرجع غربا باتجاه شرق بعيد. تذهب معه تأملات الحضور كأنهم على متن طائرة نفاثة تجوب البلاد طولا وعرضا ذات جلستهم المسائية ، ويعتذر مرارا بأنه فشل ان يوصل تلك الإيقاعات للجمهور كما سمعها تماما.
لم يعلم المربي الفاضل الطيب قرشي أن ابنه الصغير، الذي ترسم آلة النُوبةَ –وهي طبل صوفي تراثي- على الشفاه الدهشة، يمكن أن يصبح أشهر من يتغنى بذلك الغناء الصوفي ويحمله -إيقاع النُوبة- لأقصى مشارق الأرض ومغاربها ليسمع أمام اللوفر الفرنسي وفي مبنى البرلمان الأسترالي وميادين النرويج ومسرح سيدني وصولا للقارة الأمريكية. فبين خلفية أبيه المتصوفة وعلاقته بطيبة الشيخ القرشي ارتبط عاصم بالتصوف، تصوف يباهي به وسط مجتمعات التحضر بلا تكلف.
يحكي عن أهله ومن أعطاه الطريق وتبناه وهو طالب علم. يحكي عاصم أنه ذهب يوما عنده -الصائم ديمة- وأخبره بأنه قُبِلَ في معهد الموسيقى والدراما، فكان رد الشيخ غير متوقع لعاصم: “الله ينصرك يا ولدي”. قالها وسط استنكار الحاضرين من خيار الشاب الجامعي لدراسة “المزيكا” التي تعتبر أبعد العلوم عن الدين -في رأيهم.
لكن حالة التسامح تلك التي يعيشها الصوفية في السودان بطبعهم هي أجلُ صفاتهم علي الإطلاق التي جذبت الكثيرين وعاصم كذلك وكما نشر أجداده لأبيه القرآن والتسامح ينشر عاصم بأغانيه نفس معاني التوحيد والمحبة غير المصطنعة، محبة تبدأ عند الذات المتواضعة وتنتهي بحب الآخرين ثم مبادلة المحبة “والما عنده محبة ما عنده الحبة”.
تواضع أملكه حب الجميع يبادلهم التحايا كقريب أو جار قديم يحتضنهم بلا سابق معرفة فيتجرد من ذات الفنان المدهش إلى الإنسان اللطيف ويودعهم “العفو والعافية” فعاصم يعتبر ألا عافية بلا عفو .
لا يتحدث عن نفسه إطلاقا ودهشة إبداعه تنسيك فضول معرفته و جوائزه التي حازها في سنوات غربة غابرة، فأي جائزة أفضل من عشق الأذن وفك لجام التفكير الصلب، عاصم فنان عالمي شارك في العديد من المهرجانات والمسابقات العالمية في مجال الموسيقى ودراساتها ليؤكد مقولة إن “المحلية قمة العالمية” ويفتح أبواب العالم لثقافة السودان، في رصيد عاصم عدة جوائز فهو حائز على أفضل موسيقى في واشنطن 2011، قال وقتها إنها لأستراليا ولكنه ملك السودان، وهو أيضا حائز علي جائزة التصفير العالمي الذي عزف فيها بالفم مقطوعات لموزارت بالإضافة لجائز أميز مهاجر للقارة الجديدة -أستراليا- دعي علي إثرها لعزف ايقاعات السودان داخل قبة برلمان استراليا وهو ما حدث.
عاصم الطيب قرشي “ساحر” أو كما اتفق بعض أصدقائي على وصفه، فلا هو موسيقي ولا باحث أنثروبولوجي ولا شيخ طريقة. يَعرِف -ببساطة- كيف يحول كل تلك الأفعال والمعلومات والنغمات لحالة شرود من الذات الحاضرة في النفوس لإيجاد ذات أخرى لا تشعر بضغائن العنصر وسوءاتها، ولا يعرف الكره لها سبيلا ويحولك بنقرة إصبع أو صفارة إلى “أنآك الآخر” تكتشف فيه نفسك البريئة لتحب وتعشق بلا تكلف موسيقي تقلب المعادلة فيصير الأعلى مرتبة عرقية، هو الأغنى بثقافة مجتمعه وروح الكون المستمد من خالق يتنزل ويتلبس بدلات الحاضرين واحدا واحدا ليأمرهم بأن كونوا.. فيكونوا غفورين رحيمين…جدًا.
____________________
*نقلًا عن موقع “قنطرة”.