الصوفي أبو مدين شعيب التلمساني في المخيال الأدبي والشعبي
كمال لعور
مرت نزعة التصوف بالجزائر بخمس مراحل، المرحلة الأولى كانت عبارة عن زهد وتقشف خاصة في القرنين الأولين للهجرة، أما الثانية فكانت تقليدا أو اقتفاءا لها، ولكن المرحلة الثالثة كانت أوغل في التصوف الخالص منها إلى الزهد، وفي المرحلة الرابعة ظهرت الطرق الصوفية وتبلورت اتجاهاتها وطقوسها الخاصة منذ القرن الخامس الهجري، ثم جاءت المرحلة الأخيرة التي استمرت حتى العصر الحديث، وهي التي سادت فيها المبالغة في الشطح، واتقدت فيها طقوس المتصوفة، وكثر من يدعي الكرامات وامتلأت بالمجذوبين، وغزت فكرة الوجود البيئات الصوفية.
وقد انتشر التصوف في الجزائر التي كانت معبرا ومزارا للعلماء والفقهاء والمتصوفة مثل أبي مدين شعيب التلمساني الذي نزل ببجاية في ذلك العهد واستقر بها، وابن عربي الذي أثر بنظريته وحدة الوجود في البيئة الجزائرية أثناء زيارته لها ولقائه بشيخه أبي مدين.
ويفسر انتشار التصوف أيضا كثرة الطرق والزوايا الصوفية إلى حد يصعب معه تعدادها، ولكن أهمها هي الرحمانية، القادرية، الشاذلية، العيساوية الدرقاوية، السنوسية والتيجانية.
لقد كان أهم شيء قدمه الإسلام الجديد الوافد إلى الرقعة المغربية هو وحدة اللغة والعقيدة التي دعمت وحدته العرقية والجغرافية والتاريخية، وهو أمر جد هام لم يستطع الرومان ولا مسيحية روما وبيزنطة أن تقدمه وتوفره لهما.
وبفضل وحدة اللغة والعقيدة هذه، وفي إطار الإسلام انكب شعب الإقليم على البناء والإبداع الحضاري في أوسع مجالاتها، وفي جو من الحرية السياسية، والبحبحة الاقتصادية، وقامت بالإقليم مراكز حضارية هامة لا تقل مكانة ورقيا عن مراكز الشرق الإسلامي مثل القيروان وفاس وتيهرت والمسيلة وأشير وقلة بني حماد، وبجاية ومراكش، وتلمسان وقسنطينة إلى جانب حواضر الأندلس الكبرى وصقلية الإسلامية.
وقد أخصب فيها الفكر ونفقت التجارة وتطور العمران واتسع وازدهرت الفلاحة والصناعة والحياة الاقتصادية بصفة عامة وتطورت الحياة الاجتماعية وازدهرت، ونما السكان وكثروا وأبدعوا في كل مجالات الحضارة.
وأنجب الإقليم فطاحل العلماء والأدباء والشعراء والفقهاء والكتاب والمفكرين والفلاسفة والمؤرخين أمثال ابن رشيق المسيلي، وسحنون القيرواني، وابن رفة التونسي، والقاضي عياض السبتي، والشريف السبتي الإدريسي، وابن مرزوق الخطيب، والحفيد، وحفيد الحفيد، وإبراهيم الآبلي، وأحمد المقري، وسعيد العقباني، وأحمد الغبريني، وأحمد بن ادريس البجائي، وعبد الرحمن الوغليسي، وابن معطى النحوي، والشيخ ابن مروان العنابي، وعبد الرحمن الثعالبي، وعبد الرحمن ابن خلدون، وأخيه يحيي، وعبد الكريم الفكون، ويحيي العبدلي، والحسين الورتلاني شاركوا كلهم في بناء صرح الحضارة العربية الإسلامية وإثرائها تلك الحضارة التي ستكون أهم رافد لنهضة أوروبا ويقظتها.
ومر التصوف بمرحلتين، فترة التصوف النخبوي خلال القرون السادس والسابع والثامن، وبقي فيها التصوف يدرس بالمدارس الخاصة مقتصرا على طبقة معينة من المتعلمين، ولم ينتشر بين الطبقات الشعبية مستقرا في الحواضر الكبرى تلمسان بجاية ووهران.
أما فترة التصوف الشعبي، فقد انتقل فيها التصوف من الجانب الفكري إلى الجانب الشعبي منذ القرن التاسع، من النظري إلى العملي، أسهم في ذلك نشأة الزوايا والرباطات.
فالتصوف في الجزائر أو ما يعرف قديما بالمغرب الأوسط بدأ نظريا ثم تحول ابتداء من القرن العاشر الهجري إلى الناحية العملية، وأطلق عليه تصوف الزوايا والطرق الصوفية، ومن أوائل المتصوفة الجزائريين الشيخ أبو مدين شعيب بن الحسن الأندلسي، وقد عرفت طريقته المدينية شهرة واسعة، وازدادت شهرته على يد تلميذه عبد السلام بن مشيش ت655ه، وتوسع فيها تلميذه أبو الحسن الشاذلي، فأسس الشاذلية التي غدت مصدر معظم الطرق الجزائرية، وسنعكف في هذا المقال على تتبع تأثير الشيخ أبي مدين التلمساني في الأوساط العلمية والشعبية، ومدى تمسك المخيال الشعبي بسيرته وآثاره، والتماس بركاته، حتى فاق ذلك أحيانا حدود الواقع، وشاع تلقيبه بشيخ الشيوخ، وأطلق عليه تلميذه محيي الدين ابن عربي لقب معلم المعلمين.
مآثر أبي مدين شعيب ومواقفه:
ينحدر الشيخ أبو مدين من مدينة إشبيلية بالأندلس عاش حياة بسيطة في صباه، لكنه عاش جلَ حياته ببجاية الجزائر، وقد حرمه إخوته من التعليم صغيرا، وسخروه لرعي المواشي، فتألم من وضعه، وقرر مغادرة الأندلس كلية والاتجاه إلى عدوة المغرب، ليحصل هناك على ما حرم منه بمسقط رأسه، فعبر المضيق إلى مدينة سبته المغربية، ونزل على أحد صيادي السمك، واشتغل عنده بعض الوقت، فقال له أحد الشيوخ انصرف إلى الحاضرة حتى تتعلم العلم فإن الله تعالى لا يعبد إلا بالعلم.
من الحوادث العجيبة التي جرت له في صغره كما يرويها عندما أراد ترك عمل تربية المواشي، والفرار لطلب العلم، فاعترض عليه اخوته، فيقول في ذلك الشيخ، فسل أحدهم السيف علي وقال لي: والله لأقتلك وأستريح منك، فعلاني بسيفه ليضربني، فتلقيته بعود كان بيدي فانكسر سيفه وتطاير قطعا، فلما رأى ذلك قال لي: يا أخي اذهب حيث شئت5.
وبعد إقامة قصيرة في مدينة سبته اتجه أبو مدين إلى مدينة مراكش بصحبة جمع من المسافرين الأندلسيين الذين اعتبروه كمجند لهم، واستغلوا عطاءه المادي لصالحهم، فتألم من ذلك، ولكنه صبر حتى وصل إلى مبتغاه، وأخذ بمراكش يبحث عن أندية العلم والعلماء، ونصحه الذين سألهم أن يتجه إلى مدينة فاس التي كانت آنذاك في القرن السادس الهجري والثالث عشر ميلادي تعج بالحياة الاقتصادية الناهضة والمتطورة والاقتصاد الفكري والثقافي والعمراني والاجتماعي6.
وبفاس تقلب في مجالس العلماء دون أن يستوعب حتى وجد ضالته في مجلس العالم الزاهد أبو الحسن علي بن حرزهم، فقال عنه: كلما تكلم بكلام ثبت في قلبي وحفظته، فلازم شيخه وعمل نساخا للكتاب لإعالة نفسه، وتعلم على يد الفقيه المجاهد أبو الحسن بن الغالب، ثم تلقى علوم الباطن أو فن التصوف على يد الشيخ الزاهد أبي يعزى التلمساني.
مما تلقاه عن الأشياخ بفاس رعاية المحاسبي على يد أبي الحسن بن حرزهم، وكتاب السنن لأبي عيسى الترمذي على أبي الحسن علي بن غالب، وأخذ طريقة التصوف عن أبي عبد الله الدقاق، وأبي الحسن السلاوي7.
كما تأثر بكتاب الإحياء للغزالي إلى درجة مخالفته لأستاذه ابن حرزهم حين رضي بفتوى تحريم قراءة وتداول كتاب الإحياء بين الناس، ثم سافر إلى الحج، وعندما وصل الحجاز «التقى بالشيخ عبد القادر الجيلاني بجبل عرفات، وتعرف عليه ولازمه بعض الوقت في الحرم الشريف بمكة، ودرس عنه علم الحديث، وسر كثيرا بذلك، وافتخر بصحبته لهذا الشيخ واعتبره أفضل وأعظم مشايخه الأكابر»8.
وبعد رحلته بالمشرق استقر ببجاية التي كانت تشهد في القرن السادس للهجرة نشاطا ثقافيا، ونهضة فكرية وتطورا عمرانيا واجتماعيا، ومن بين من درس على يديه الشيخ أبو علي المسيلي الملقب بأبي حامد الصغير، ومحيي الدين ابن عربي دفين دمشق، ومن الكتب التي كان يدرسها للطلبة الرسالة القشيرية، والمقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى لأبي حامد الغزالي.
لما عاد أبو مدين من المشرق أدخل معه القادرية إلى المغرب العربي، فتردد في بلاد افريقية أي تونس ثم استقر به المقام في بجاية، وهي المدينة التي كان يفضلها على كثير من المدن، وكان يقول عنها: إنها مغنية على طلب الحلال، وكانت بجاية يومئذ قد بلغت أوج إشعاعها الثقافي والحضاري على عهد الحماديين، ثم على عهد الموحدين بعدهم، وعاصر أبو مدين العهدين.
لقد كان أبو مدين متحفظا أثناء تدريسه المقصد الأسنى إذ كان يأمر طلابه أن لا يقيدوا عنه شيئا مما يقوله في هذا الكتاب، لأن عيون الدولة الموحدية المتعصبة لمسائل علم الظاهر كالفقه وعلم الكلام كانت تراقبه وتتوجس منه خيفة من شهرته وكثرة طلابه، وأصحابه وعموم أتباعه الذين أصبحوا يشكلون قوة لها خطرها على الدولة القائمة على مذهب مخالف9.
وذاع أمره وكثر الطلاب الزوار والوافدون طلبا للعلم، فحقد عليه بعض علماء الظاهر، ومنهم الشيخ أبو عمر الحباك الذي وشى به إلى السلطان يعقوب المنصور الموحدي، وقال له: إنا نخاف منه على دولتكم، فإن له شبها بالمهدي وأتباعه كثيرون في كل بلد، فتأثر المنصور بهذه الوشاية، فقرر أن يحقق مع أبي مدين بصفة شخصية، وبعث إلى أمير بجاية، وطلب منه أن يشخصه إليه معززا مكرما، وعندما علم أصحابه وتلاميذه بالخبر شق عليهم فراقه، وتخوفوا من سوء مصيره، فطمأنهم أبو مدين وقال لهم: «إن منيتي قريبة، ولغير هذا المكان قدرت، فبعث الله من يحملني إليه برفق وأنا لا أرى السلطان ولا يراني».
فطابت نفوسهم، وذهب عنهم الخوف وارتحلوا به إلى أن وصلوا إلى ضواحي العباد بتلمسان، فقال لهم: ما أصلحه للرقاد، ولما وصلوا إلى وادي يسر اشتد عليه المرض، فأنزلوه عن دابته، وتوفي فحملوه إلى العباد ودفنوه هناك سنة 594ه الموافق لـ: 1197م.
قال عنه الشيخ أبو الصبر أيوب الفهري: كان زاهدا فاضلا عارفا بالله تعالى، قد خاض من الأحوال بحارا، ونال من المعارف أسرارا، وخصوصا مقام التوكل لا يشق فيه غباره، ولا تجهل آثاره، وكان مبسوطا بالعلم مقبوضا بالمراقبة كثير الالتفات بقلبه إلى الله تعالى حتى ختم الله له بذلك، ولقد أخبرني من أثق به ممن شهدوا وفاته أنه قال: رأيته عند آخر الزمان يقول: الله الحق10.
كان سريع البديهة، ذكي الخاطر محبا لشيخه أبي يعزى مدافعا عنه، فكان مما رواه في ذلك: «قالت لي جماعة من الفقهاء المجاورين لأبي يعزى ثبت عندنا ولاية أبي يعزى، ولكن نشاهده يلمس بيده صدور النساء وبطونهن، ويتفل عليهن، فيبرأن، ونرى أن لمسهن حرام، فإن نحن تكلمنا في هذا هلكنا، وإن سكتنا تحيرنا، فقلت لهم: أرأيتم لو أن بنت أحدكم أو أخته أصابها داء لا يطلع عليه إلا الزوج، ولم يجد من يعاينه إلا طبيب يهودي أو نصراني، ألستم تجيزون ذلك مع أن الدواء اليهودي أو النصراني مظنون، وأنتم من معاناة أبي يعزى على يقين من الشفاء، ومن معاناة غيره على شك، فبلغ كلامي أبي يعزى، فكان يقول: إذا رأيتم شعيبا فقولوا له: عسى أن يعتقني، كأنه استحسن جوابي عنه»11.
ومن كراماته وأحواله التي جعلته مثلا سائرا، وزادت في ذيوع أمره بين العامة، أنه جاء رجل إلى الشيخ أبي مدين ليعترض عليه، فأراد القارئ أن يقرأ عليه الكتاب، فسكته أبو مدين وقال: اسكت، ثم التفت إلى الرجل، وقال: لما جئت؟ فقال له الرجل: جئت لأقتبس من أنوارك، فقال له ما الذي في كمك، فقال له مصحف، فقال له أبو مدين: أخرجه، فأخرجه من كمه، فقال له اقرأ أول سطر، ففتحه، وقرأ أول سطر منه فإذا فيه: «الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين»12، فقال له أبو مدين: «أما يكفيك هذا»13.
ومع ما عرف عنه من كرامات، لم يكن يتقصدها في حياته، ولا يتخذها كما يفعل بعض المتصوفة آية للإقناع و الإخضاع للأتباع، بل كان ينفر من اتخاذ الكرامة الدالة على الولاية غاية تطلب لذاتها من وراء التعبد والتزلف إلى الخالق، فكان مما أثر عنه قوله: الملتفت إلى الكرامات كعابد الأوثان، فإنه إنما يصلي ليرى كرامة.
فقد قرن بين الشرك والتماس الكرامة حين لا يكون هم المتصوف رضا الخالق بل نيل المطالب والأماني الدنيوية حتى تصير الكرامة هوى جديدا يلقي بصاحبه في درك الشقاء والسمعة، وكم فتن الناس بأصحاب الكرامات، وكم شطح بعض المتصوفة بكراماتهم فغبنوا الناس وأوهموهم واستغلوهم أبشع استغلال.
فهذه العبارة وغيرها مما أثر من الشيخ تثبت نقده لتصرفات أتباع الطريقة الصوفية، وتفضح مدعي التصوف، وهذا ما جعل بعض الدارسين لحياته وشعره يؤكد أن أبا مدين «جمع بين التصوف النظري والتصوف العملي جمع علم وعبادة»14.
خصوصيات خطابه الشعري الصوفي:
اعتبارا لكون شعر أبي مدين الغوث كان في محطاته الأصلية والأصيلة صدى صادقا لنفس مفعمة بحب الله متشبعة حتى الارتواء بماء الحقيقة متلونة بألوانها هائمة بين أطيافها وصورها، فإن هذا الصدى الدافق كثيرا ما كان أكبر من كل حدود شعرية، من كلمة ووزن، ففاضت الإشارة حتى لم يبق للعبارة معنى، وعجز الوزن عن مجاراة إيقاعات النفس، وهام الشاعر المتصوف على الكون من وجد ومن طرب، وبجانب هذا الأفق الشعري الباذخ، وانسجاما مع أدوار الشيخ أبي مدين الغوث التي توزعت بين التربية والإفادة والتعليم، فإننا لا نعدم وجودا في هذا الديوان لشعر تعليمي بسيط لعله يعود لبدايات الشيخ الأولى15.
تؤكد هذه العبارة ترنح شعر أبي مدين الغوث في المستوى الفني، فتارة يرتفع لعمق تجربته الفنية الروحية الصادقة، وتارة يسهل ويتبسط بسبب ظهوره في مراحل الشيخ الأولى من سلوك الطريق، أو بتأثير من التربية والتعليم التي شغلت معظم وقت الشيخ أبي مدين.
فمن شعره في الاستغاثة والتوكل:
إليك مددت الكف في كل شـدة
ومنك وجدت اللطف في كل نائب
وأنـت مـــلاذي والأنـــام بـمـعــزل
وهـل مستحيل في الرجاء كواجـب
فحقق رجـائـي فيك يا ربي واكفني
شمـات عــدو أو اسـاءة صـاحـــب
ومـن أيــن أخــشى مـن عـدو إسـاءة
وسـترك طـاف من جميع الجوانب
فكـم كـربة نجيتـني مـن غمارهـا
وكـانت شـجى بين الحشا والترائب
فــلا قــوة عـنـدي ولا لــي حـيـلــة
ســوى أن فـقـري لجـمـيل المواهـب
تتجلى في هذه الأبيات أحاسيس المتصوف وأحواله في مدارك الرياضة الروحية وما يساوره من توحيد وربوبية وتوكل ورجاء للخالق في أحوال الشدة والبلاء على الخصوص، فتنتزع الشاعر العاطفة الدينية المتعلقة بالله بلا وسائط، بل بتضرع مباشر، تفضح هذه العلاقة توظيف أبي مدين لمفردات خطابية مباشرة: «إليك، منك، أنت»، وقد جعلها الشاعر مقدمة وجوبا في أشطره الشعرية توقيرا واعتزازا وتخصيصها للمخاطب.
وبعض العبارات لا تحمل معنى العبودية وصدق التوكل فقط بل توحي بالتوحيد، كقوله: الأنام بمعزل، ففيها معنى الإخلاص لله وحده دون طلب الأنام أو إشراكهم في الطلب أو التواكل عليهم، فالصوفي الحق هو من يخص ربه وحده بتوكله ولا يطلب حاجته إلا منه، «إن شئت فسم تلك المثاليات بالتصوف أو بالأفق الأعلى، وإن أحببت فليكن عنوانها نورانية العبودية أو الروحانية الإسلامية. فالتصوف هو جماع تلك المثاليات، وهو الذي يرسم الأفق الأعلى لمن يتسامى، الأفق الأعلى المشرق بالروحانية الإسلامية، الأفق الأعلى الذي تتجلى فيه العبودية الكاملة بأنوارها وإلهاماتها»16.
من بديع الصور في هذه المقطوعة تشبيه الكربة بالشجا، وهو إما الغصة ببقايا الطعام، أو الهم والحزن، ودقة التصوير التي جعلته يصف مكان الشجا المتموقع بين الحشا (الأحشاء أو داخل البطن)، والترائب جمع تريبة، وهي موضع القلادة أو عظام الصدر للإيحاء بعظم الكربة، ولكن الأعظم منها الخالق القادر على زحزحة الكروب على ثقلها وشدة وطأتها.
ونلفي الشاعر يوظف بعض المصطلحات التي أضحت جزءا من لغة المتصوفة مثل: اللطف، الرجاء «فقري المواهب»، وقد اختار لتضرعه بحر الطويل.
ويقول من بحر الطويل أيضا17:
تذللت في البلدان حين سبيتني
وبـت بــأوجـاع الـهـوى أتـقــلـب
فلو كان لـي قلبان عشت بواحد
وأتـرك قلـبا في هواك يعذب18
ولكن لي قلبا تملكه الهـوى
فلا العيش يهنى لي ولا الموت أقرب
كعصفورة في كف طفل يضمها
تذوق سياق المـوت والطفل يلـعب
فلا الطفل ذو عقـل يحـن لما بها
ولا الطـير ذو ريـش يطير فيذهــب
تسميت بالمجنون من ألم الهوى
وصارت بي الأمثال في الحي تضرب
فيا معشر العشاق موتوا صبابة
كما مات بالهجران قيس المعــذب
تدخل هذه المقطوعة الجميلة في الحب الإلهي، وتحمل الآلام الجسام في سبيل التعلق بالحضرة الإلهية، فمن فرط تعلق أبي مدين بالخالق تاه في البلدان، وشبه حاله بحال المسبي الموثق المغرب تضنيه أحوال المحبين من صبابة وشوق وسهاد وشجن، حتى تمنى أن يمتلك قلبين، فيعيش بواحد، ويخلص الثاني لخالقه، كي يوفق بين مطالب الدين والدنيا، ولكن أنى له ذلك وهو لا يملك بين جوانحه سوى قلبا واحدا يتجرع به غصص التعلق، ويكاد ينفطر مما يعالج من أحوال المحبين، فهو معلق بين حياة وموت، وأحسن الشاعر اقتباسا عن مجنون الشعراء قيس بن الملوح حين شبه قلبه، وهو في هذه الحالة بحال العصفورة التي وقعت بين يدي طائش لاهٍ يضمها لهوا فيكاد يقضي بحتفها، فهي بين ضم وموت، لا يفك الطفل عقالها، ولا العصفورة تملك ريشا يسعفها بالطيران بعيدا، فما أبدعه من تصوير لقلب العاشق الولهان، حتى أطلق عليه تسمية المجنون وهو المجذوب المتأله الذي له أحوال تخرج عن دائرة المألوف، وهي تسمية كثيرا ما أطلقت على المتصوفة لأنهم يخرقون ما هو معروف بالعادة قولا وأحيانا فعلا، وينبسون بشطحات قد ينكرها القوم، ومن ذلك أيضا الملامة، قال أبو حفص الفتى الخراساني عن الملامتية: «أظهروا للخلق قبائح ما هم فيه، وكتموا عنهم محاسنهم، فلامهم الخلق على ظواهرهم، ولاموا أنفسهم على ما يعرفونه من بواطنهم»19.
ويعد أبو مدين من الأوائل في المغرب ممن قصدوا القصيدة في الحب الإلهي التي لا تباين قصيدة الحب الإنساني في البناء والدلالة إلا من حيث اعتبار السياق الصوفي، ومن حيث بعض القرائن اللفظية والدلالية القليلة التي تستوقف القارئ المتأني من حين لآخر، «وسبيل التصوف إلى تلك الآفاق هو الاستعداد الفطري الأمثل في الحب الإلهي، ثم الذكر الدائم، والخلق الكامل، والتطوع المتواصل لما فوق الفرائض والنوافل»20.
وهذه القصيدة تصور بعد الغياب أو ما يسميه الصوفية بالفرق الأول، فقد قرأ أحد المريدين شعر شيخه الصوفي فبدا له غير ما اعتقد، فقال الشيخ لمريده: إن فتشت في شعري عن الحب الجسداني فسوف تجده، وإن فتشت عن الحب الصوفي فسوف تجده أيضا، ولكن بالقدر الذي أنت عليه.
وكأن القصيدة بوصفها جملة كبيرة مجاز لغوي علاقته المشابهة بين حقيقة ما تدل عليه من حب إنساني، ومجاز ما تدل عليه من حب إلهي مع وجود قرينة السياق الصوفي والمتصوف مانعة من إرادة المعنى الحقيقي للدال، وصارفة إلى إرادة المعنى المجازي له21.
فالقصيدة إذن هي بمثابة استعارة كبيرة تصريحية قائمة على علاقة التناظر والتماثل بين الشبيه المصرح به أبدا والأصيل المطوي أبدا.
ففي قصيدته هذه يتجلى شوق الذات الصوفية إلى لقاء الذات العلية، وتبرم من الفراق الذي حدث في عالم الأمر والسوي من عالم الخلق الذي وجدت نفسها فيه مكبلة بأغلال الحظوظ البشرية، مثلها في ذلك مثل السبية التي سبيت وأبعدت عن موطنها وأهلها22.
فالعلاقة بين الذات الصوفية والذات العلية علاقة الانفصال الأمري، وغياب الذات الصوفية في عالم الغير، وتعلقها الشديد بعالمها الأصلي وشوقها إليه.
ويقول من بحر الكامل:
تحيا بكم كـل أرض تنزلون بها
وكـأنكم في بقاع الأرض أمطـار
وتشتهي العين منكم منظرا حسنا
كـأنكم في عيون الناس أزهــار
ونوركم يهتدي الساري لرؤيته
كـأنكم في ظـلام الليل أقـمـار
لا أوحش الله ربعا من زيارتكم
يا من لهم في الحشا والقلب تذكار
كثيرا ما تعلق المتصوفة بإخوانهم الفقراء وبادل المريدون سمات الاحترام والتبجيل لشيوخهم، ونرى هذه العاطفة متجلية عيانا في هذا المقطع، فيجعل منزلة الفقراء من منزلة الغيث المطير في البقعة الجدباء، ونظارة وجوههم وضيائهم بصورة الأزهار التي تخلب العيون بمنظرها، وهدايتهم للناس في علو الأقمار، وتنويرها لحلك الظلام، وتقترب هذه الصور المقسمة تقسيما تقابليا من الصور التي دأب شعراء الأندلس على صوغها في موشحاتهم لأنها ترتبط كثيرا بالمناظر الحسية، كأن عرق أبي مدين التلمساني الإشبيلي نزغ فنطق في هذه اللحظة، فعبر عن الحال بأنفاس أندلسية.
فيما يخص الهيكل العام للقصيدة الصوفية ألفيناه قد تجسد وتشكل من قسمين أساسيين لا تخلو قصيدة صوفية من انبنائها بهما معا أو من أحدهما على الأقل، ففي حال انبنائها إلى جزأين فإن أحدهما ـــ الأول منها غالباــــ لابد أن يتضمن الفرق الأول وبالتالي فهو مبني إلى الغياب عن الحضرة، وآخرها ــــ الثاني منها غالبا ــــــ لابد أن يتضمن الفرق الثاني، وبالتالي فهو مبني إلى الحضور أو الغياب عما سوى الحضرة.
وحينئذ فالجزءان يشكلان بنية القصيدة تشكيلا متقابلا ومتباينا وفي حال انبنائها إلى جزء واحد مطرد وصريح، فإن هذا الجزء، إما أن يكون كله مبنيا إلى الغياب، وإما أن يكون كله مبنيا إلى الحضور، مع وجود الظلال الإيحائية للبعد المناقض، وحينئذ ففضاء النص الصوفي يتشكل على نحو من الأنحاء الآتية:
– (غياب) (حضور) أو العكس
– (غياب صريح) (حضور إيحائي ضمني ممكن)
– (حضور صريح) (غياب إيحائي ضمني ممكن)
من الموضوعات الشائعة لدى أبي مدين ما يتعلق بقسم الغياب : الطلل، الحنين، الرحلة، ما يخص قسم الحضور: الخمر المادية، المقام، الحال، ومنها ما هو مشترك بين القسمين كالغزل أو ما يعرف بالحب الإلهي23.
القصائد كما سبق وصف بنيتها وجدناها إما أنها ترسم دلالة الغياب وتتجه نحو الحق، وإما ترسم دلالة الحضور وتلتفت نحو الحق، وفي كلتا الحالتين يتم رسم الدلالة من موقع الخلق إذ لم نجد من القصائد ما يزامن موقع الحق، وذلك لأنها مرحلة الجمع التي يمتنع فيها كل شيء24؛ راسمة بذلك دلالة موحدة على شكل مثلث يوافق تمام الموافقة سلوك الصوفية العملي، فهم جميعا ينطلقون من سلوكهم من موقع الخلق، والذي يسمونه «الفرق الأول» ثم يتدرجون منه نحو «الحق» حيث يتم لهم الجمع، ولابد بعده من صحو وعودة إلى موقع الخلق، وهو ما يسمونه بالفرق الثاني، وذلك أيضا ما يوافق تمام الموافقة مقولات الصوفية النظرية، ونكتفي هنا بقول أبي مدين التلمساني:
– من علامات صدق المريد في بدء إرادته فراره من الخلق؛
– من علامات فراره من الخلق وجوده بالحق.
– ومن علامات صدق وجوده للحق رجوعه إلى الخلق.
إن الشعر الصوفي كما تحدده التجربة الصوفية لا شيء سوى شعر الغياب عن الحضرة الكلية أو شعر الحضور أو هما معا متعاقبان في قصيدة واحدة، أو في ديوان واحد، وما عدا ذلك فقد يكون نظما في غرض من الأغراض المحيطة بالتجربة الصوفية العملية.
ومن حيث الكم في منظوم أبي مدين التلمساني خصوصا كما هو في منظوم الصوفية عموما فإن الغلبة الغالبة هي عادة لمرحلة الغياب، ذلك لأن التجربة الصوفية العملية قلما يحظى فيها الصوفي بالحضور، فقد يظل ينشده في شعره دون فتح، لذلك فقد لا نجد لبعض الشعراء في مجموع شعرهم الصوفي قصيدة واحدة تمثل بعد الحضور وتناظره، وإن وجدت فهي في حكم الترجي أقرب منها إلى حكم الحضور الفعلي، كما هي الحال في تائية أحمد التيجاني25.
إن المتصوف كي يتسنى له تغيير المجتمع من حوله مما هو عليه في الواقع من حظوظ دنيوية إلى ما ينبغي أن يكون عليه من حقوق مثالية لابد له من أن يسعى هو أولا إلى تغيير ما بنفسه من حظوظ عن طريق المقامات المرسومة في سلم الترقي نحو الحق، حتى يتم له القيام بالحق ثم يعود إلى الخلق، أو المجتمع ليقوم فيه مغيرا الكائن إلى الممكن بالحق للحق، فهو لا يكتسب لقب الولي أو الولاية، ولا يمارس سلطته الروحية على من حوله إلا إذا اكتسب شرعية الحق، وظهرت عليه مخايل ذلك في الخلق، وذلك بجريان الكرامات أو خوراق العادات على يديه تماما كما جرت المعجزات على يدي الأنبياء تصديقا لهم من الحق وتأييدا، فولي بلا كرامات دعي كالنبي بلا معجزات، وما تلك الكرامات للأولياء والمعجزات للأنبياء في نظر الصوفية إلا فعل الفاعل يصرفها في أيدي القوابل التي قامت بالحق للحق في دنيا الخلق26، وغالبا ما يتمثلون في مثل هذا التأويل بقول الله تعالى: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى»27.
مكانة الشيخ أبي مدين شعبيا:
للشيخ أبي مدين شعيب مكانة مرموقة في الوسط الشعبي، فقد نظر إليه عامة الناس بشكل متوراث أنه صاحب الولاية الأول مغربيا، وأقدم صوفي عرفته بقعة الجزائر والمغرب، وهم يفتخرون لكون تلميذه الصوفي ابن عربي، وأستاذه عبد القادر الجيلاني، وقد تخرج على يده علماء كثر تجاوز عددهم التسعمائة، كما أنه جمع بين التصوف النظري والعملي، وبين العبادة والجهاد، وبين الممارسة الصوفية والشعر الصوفي، فكان أنموذجا نادر التكرر.
فلم ينتبذ أبو مدين صومعة ولا انعزل في غار بل كان في موكب المجتمع يخدمه بعلمه وبكرمه، حتى أنه هب للمشاركة في حملة صلاح الدين الأيوبي لتحرير بيت المقدس، وقطعت ذراعه هناك. فمن ينقذ الأقصى، فذراعه في القدس تصيح؟
ولقد روج بعض أشهر تلاميذه لكرامة التحدث عن الشيخ ونفعها وبركتها حتى صار ذلك دأب العامة، في التماس بركة أبي مدين عند مقصد الزيارة لضريحه بتلمسان، وقد روى في ذلك الشيخ ابن عربي ــــ وهو تلميذ لأبي مدين ـــ في رسالته روح القدس في محاسبة النفس في ترجمته للعالم أبي يعقوب يوسف بن يخلف القومي بعد أن ذكر خروجه معه مع آخر من أصحابه، فأردا النزول إلى المدينة، فركب فرسه، وألزم ابن عربي كما قال بيده ركابه، فجعل يحدثني بفضائل الشيخ أبي مدين، وكراماته رضي الله عنه، وأنا قد فنيت في كلامه، فلا أحس بنفسي، وأرفع إليه وجهي في أكثر الأوقات فأراه ينظر إلي ويبتسم، ويهمز فرسه فيسرع وأسرع معه، ثم وقف وقال لي أنظر ما تركت خلفك، فنظرت فرأيت الطريق الذي مشيته كله شوك يصل إلى مقعد الإزار، ورأيت شوكا آخر منبسطا في الأرض، قال انظر إلى قدميك، فنظرت إلى قدمي، فلم أرى بهما أثر، قال أنظر إلى ثوبك، فنظرت فلم أرى أثرا، فقال هذا من بركة ذكرنا أبا مدين رضي الله عنه، الزم يا بني تفلح، وهمز فرسه وتركني.
ولعل أبرز تأثير شعبي يرتد إلى عصر الشاعر لخضر بن خلوف28 وهو أيضا مجاهد وصوفي جزائري تأثر في العهد الإسباني بالولي الشيخ بومدين، ووضع قصيدة بعنوان الأمانة فسرها النقاد أنها بمثابة الاعتماد الروحاني في مواصلة العمل الصوفي والمثابرة عليه.
وهي تدخل في إطار الشعر الشعبي، والشعر الملحون الجزائري في أغلبه تقليد للقصيدة المعربة، فالفرق بينهما هو الإعراب، فهو من لحن يلحن في الكلام إذا لم يراع الإعراب والقواعد اللغوية المعروفة، أما قائل هذا الشعر فقد يكون أميا، وقد يكون متعلما فبعض القصائد رغم أنها لا تراعي القواعد اللغوية فهي في روحها فصيحة، لأن ألفاظها وعباراتها مما يدخل في تركيب الفصحى لا في تركيب العامية ونسيجها، وإن كان بعضها لا يراعي البحور والأوزان المعروفة29.
ويفضل الركبي تسمية الشعر العامي الذي يمزج بين كلمات الفصحى والعامية الشعر الملحون مخالفا لبعض الباحثين الذين يفضلون تسميته بالشعر الشعبي أو شعر الزجل، ويعود السبب برأيه إلى أن في هذا الشعر من الموشحات أو الأزجال التي تقترب من الفصحى في كثير من الأحيان أو تتراوح بين العامية والفصحى30.
وبالنسبة للجزائر يمكن القول بأن الشعر غير المعرب يرتد إلى الفتح الإسلامي ثم شاع بين الناس بصورة جلية بعد مجيء الهلاليين إلى الجزائر حاملين معهم لهجاتهم المتعددة حيث تغلغلوا في الأوساط الشعبية، وساهموا في تعريب الجزائر بصورة جلية اعترف بها كثير من الدراسين.
ومن الأسباب الأخرى الفاعلة في انتشار الشعر الملحون ضعف الثقافة العربية في عصور الانحطاط وبعد دخول الأتراك والاحتلال الفرنسي، وتظافر ظروف القهر وغياب الاستقرار السياسي مما عطل انتشار العلم والتعليم.
وقد ألهم لخضر بن خلوف بالسفر من مستغانم إلى تلمسان أين يقوم مدفن أبي مدين في المزار الشهير بالعباد، وأشار بن خلوف في مستهل قصيدته أنه انتظر خمسين عاما ليحقق أمنيته، ويذهب إلى تلمسان.
يقول في بعضها:
آه يا سعدي وفرحتي
من بومدين الغوث جبت الأمانة
من بعد خمسين عام وأنا نستنى، سعيت بروحي وراحتي
محمد الفضيل مفتاح الجنة
أحمد روحي وراحتي
وهي أمانة روحية شعر بن خلوف بنيلها عند زيارته لقبر أبي مدين ما يثبت بجلاء مكانة الشيخ في نفوس العامة، فقد مرت على وفاته أربعة قرون ونيف، ومع ذلك لا يزال قبره يزار، ويتبرك الزائر بالقدوم إليه.
ويقول بن خلوف منوها بقيمة هذه الزيارة:
آه من سعدي وفرحتي بهذا الملقى فيها شلا
نصيف من نعايم الأسرار.
كنت على كل يوم تأخذني الضيقة مكاوية
منورة من نور المختار.
حتى جاد الإله من ليه البقاء
أنعم علي بزورة إمام الجدار.
وحسب أحد الباحثين فإن بن خلوف في هذا المقطع يومئ بمعاناته من ضيق مصدره نور النبي محمد31؛ ولم ينجي ضيقه إلا بهذه الزورة التبركية التي تؤشر لحصول ابن خلوف على علائم الطريق الصوفي كما يؤكد ذلك بقوله في حوار جواني جرى بينه وبين الشيخ بما يشبه الرؤيا داخل مقامه الصالح:
تم مكنت لي بريتي
منين قراها أنا واياه تسالمنا
عجباته جماعتي
اقضيت منه مسايلي وتعاهدنا آه يا سعدي
وفرحتي
محمد الفضيل مفتاح الجنة
أحمد روحي وراحتي
بتنا متذاكرين الليل وما طال
على دين النبي أحمد طه المبرور
قال لي أنا بومدين أصلي من الأفضال
من الأندلس همتي فيها مذكور
قلت له أنا بن خلوف مداح المرسال
هاويني بالحديث يا مصباح النور
ويشير في ثنايا حديثه بإعجاب الشيخ أبي مدين بشعر بن خلوف في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أعطاه أمانة إكمال طريقه الصوفي32؛ والسعي إلى نشر الأخلاق الفاضلة والتعاليم المتظللة بمشكاة النبوة، وقد أمدت هذه الزيارة بن خلوف بالطاقة الإيجابية وأسبغت عليه القوة فزار كل أضرحة الأولياء في مقاماتهم بمنطقته، فيقول مفتخرا:
بعد كمال الحديث قال لي يا الأكحل
خذ الأمانة و سير بها بإذن الله
مية وعشرين شيخ من والي الكامل طبعوا لك
بالنصاف هاك الكاغط اقراه
كمل الختمة الشفيع المفضل
أسقاك بالسر الزمزمي رسول الله
إذا كان للشيخ أبو مدين حضور في الشعر الشعبي لا يزال مستمرا كلما لهج الشعراء بذكر الأولياء ومناقبهم في أشعارهم، فإن له حضورا مماثلا أيضا في الذائقة الفنية، فقد تحولت بعض القصائد عنه إلى مغان شعبية متداولة في أوساط الناس بكثرة كتلك الأغنية المشهورة باسم «سيدي بومدين» والتي لاقت نجاحا منقطع النظير منذ ظهورها لا تضارعها في المكانة سوى أغنية أخرى «عبد القادر يا بوعلام رواج هذه الأغاني يكشف عن شدة تعلق العامة بأخبار الأولياء، وبخلود مكانتهم في أذهانهم، فهم يشعرون بالارتياح بمجرد سماع إحدى الأغنيتين، مما يكشف عن عمق الاعتقاد لديهم بتقديس هؤلاء الصالحين.
هذا التأثير السحري في العوام جعل الأموال المحصلة في عشرة أضرحة بالجزائر فقط يقدر بأكثر من 80 مليار س بما يقابل 5.7 مليون دولار ناهيك عن وجود خمس وسبعون ألف (75000) ضريح ومزار، منها ستة ألاف تقام لها الاحتفالات الرسمية، كما جاء في دراسة أحد الباحثين استمرت قرابة عقد من الزمن33.
ويأتي مطلع القصيدة المغناة بالصيغة الآتية: «سيدي بومدين جيتك زاير، آجيني في المنام نبرا»، «منظر وجهك يا السيد تذهب عني كل جحرة»، راني مضرور يا السيد مثل المدقوق بالشفرة»، وهي تشير إلى زيارة ضريح أبي مدين للتبرك وطلب الشفاء، والتوسل بمقامه، وبث شكواه، وتباريح معاناته من الزائر الولهان، وتمني رؤيته في المنام لكي ينعم الرائي بالشفاء البدني والروحي على طريقة الشيخ لخضر بن خلوف الذي تجلى له طيف أبي مدين فكشف عن كربته في مقام العباد الذي دفن به الشيخ أبو مدين، فيصف ذلك بقوله:
يوم الجمعة مشيت ساري للعباد
تم نادى وهب لي بومكحلة
نصيب مغارة مجاورة سيدي عباد
وقفت على السجود من نحو القبلة
ونظرت خيال جاي فدفد كالفدفاد
يا محسنه بزين مكمول الطولة
ومكنت له بريتي
وتصدرت هذه الأغنية الشعبية المتداولة ببيت فصيح: «أمر على الأبواب من غير حاجة لعلي أراكم أو أرى من يراكم»، وهي مما نظمه الشيخ أبو مدين التلمساني، وشاع ذكره وحفظه بين المحبين والمنتسبين إلى التيار الطرقي الصوفي.
ولعل التغني بأقطاب الصوفية وبمآثرهم الروحيةـ وإن كان فيه ما يدل على التوقير للشيوخ، ولكنه أيضا يثبت نزعة التواكل لدى العامة، وشكلية التعلق بالولي قولا لا عملا، هكذا إذن يصبح التصوف لدى بعض الدارسين -في زمن الانهيارات الكبرى- مجرد فاكهة. والعمل الضروري إنما هو قائم على التشمير عن ساعد الكدح؛ لاستخراج حقائق الإيمان مباشرة من القرآن العظيم، والسير بها في الآفاق مربيا ومعلما34.
ومن أبرز خصائص الشعر الملحون الجزائري عامة وشعر لخضر بن خلوف ظاهرة التقليد، فقصائد الشعر الملحون الديني تسير على نسق القصيدة العربية الدينية التقليدية من حيث بدايتها أو الموضوعات الكثيرة التي تعرض لها في القصيدة الواحدة35، وحين يمدح العباد والزهاد ورجال الطرق فهو تارة يفعل ذلك بعد مدحه للرسول صلى الله عليه وسلم، وتارة أخرى يوجه مدحه لممدوحه منذ اللحظة الأولى، وهذه كلها بدايات تقليدية رأيناها في الشعر المعرب الفصيح.
لقد احتفت أشهر المصادر التي أرخت للتصوف وترجمت لأعلامه بمكانة الشيخ أبي مدين ككتاب «صلة الصلة»، وكتاب «التكملة»، و«سفر النجم الثاقب فيما لأولياء الله من المآثر والمناقب»، وكتاب «أنس الفقير وعز الحقير»، وكتاب «المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى»، وكتاب «جذوة الاقتباس»، ومصدر «سلوة الأنفاس»، وكتاب «نفح الطيب»، كما له في الموروث الشعبي رصيد ومكانة مبرزة مماثلة في علمي الحقيقة والشريعة، ولعل جهاده في الأقصى ومكانته العلمية التي جعلت ما يقارب 1000 عالم يتخرج على يده، وتصديه لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أثار توجس السلاطين كانت شواهد في بقاء سيرته راسخة في المخيال الشعبي رغم مرور ما يربو عن عشرة قرون.
الهوامش:
- عبد الله الركيبي: الشعر الديني الجزائري الحديث، ج1، دار الكتاب الجزائر، 2009، ص: 242.
- المرجع نفسه، ص: 243
- يحي بوعزيز: أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة، دار البصائر الجزائر، 2009، ج2، ص: 11
- المرجع نفسه، ص:12
- أبو يعقوب يوسف بن يحي التادلي: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي يعلى العباسي السبتي، منشورات كلية الآداب الرباط، ط2، 1997، ص: 320
- يحي بوعزيز: أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة، ج2، ص:14
- أبو يعقوب يوسف بن يحي التادلي: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي يعلى العباسي السبتي، ص: 322.
- يحي بوعزيز: أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة، ج2، ص:16
- حبار مختار: شعر أبي مدين التلمساني، الرؤيا والتشكيل، منشورات اتحاد الكتاب العرب، سوريا، 2002ص: 14
- أبو يعقوب يوسف بن يحي التادلي: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي يعلى العباسي السبتي، ص: 319.
- المرجع نفسه، ص: 323.
- سورة الأعراف، الآية 92.
- أبو يعقوب يوسف بن يحي التادلي: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي يعلى العباسي السبتي، ص: 325
- حبار مختار: شعر أبي مدين التلمساني، الرؤيا والتشكيل، ، ص: 13.
- ينظر مقدمة ديوان أبي مدين شعيب الغوث: إعداد عبد القادر سعود، سليمان القرشي، كتاب ناشرون، بيروت، لبنان،ط1، 2011، ص: 08. وقد بلغ ما جمع في ديوان أبي مدين 47 منظومة منها 18 موشح، و29 قصيدة ما بين مقطوعة ومطولة.
- طه عبد الباقي سرور: التصوف الإسلامي والإمام الشعراني، مؤسسة الهنداوي، المملكة المتحدة، 2017، ص: 11
- ديوان أبي مدين، ص: 14.
- هذا البيت والأربعة التي تليه اقتباس كامل من قصيدة قيس بن الملوح
- أبو يعقوب يوسف بن يحي التادلي: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي يعلى العباسي السبتي، ص:19.
- طه عبد الباقي سرور: التصوف الإسلامي والإمام الشعراني، ص:12
- حبار مختار: شعر أبي مدين التلمساني، الرؤيا والتشكيل، ص: 36.
- المرجع نفسه، ص: 37.
- حبار مختار: شعر أبي مدين التلمساني، الرؤيا والتشكيل، ص:23.
- المرجع نفسه، ص: 24.
- المرجع نفسه، ص: 32.
- المرجع نقسه، ص: 25.
- الأنفال، الآية: 17.
- هو الشاعر الأكحل بن خلوف بن عبد الله المزغراني ولد في احدى قبائل منطقة الظهرة سنة 1479 م الموافق ل 899 هـ، قضى شبابه بمنطقة مزغران، خاض غمار الجهاد ضد الإسبان في معركة شهيرة جرت سنة 1557م خلدها في شعره الملحون، في الأربعينات من عمره زار تلمسان فتأثر بمشايخها الصوفيين، فمال الى التزهد والعبادة، ثم ارتحل رفقة عائلته إلى عين ابراهيم، وأكمل حياته في العبادة ونظم شعر المدائح النبوية، عاش متقصدا متعففا فقيرا وكثيرا ما أفصح عن ذلك بشعره، عمر طويلا حتى ناهز 124 سنة توفي سنة 1585هـ 1024م ويتواجد ضريحه حاليا بمنطقة سيدي لخضر بولاية مستغانم، ينظر: أبو القاسم سعد الله: تاريخ الجزائر الثقافي،ج1، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر،1981،ص:200.
- عبد الله الركيبي: الشعر الديني الجزائري الحديث،ج1، ص:362
- المرجع نفسه: 365
- صحيفة المساء عدد 10/08/2012 مقال بعنوان: باحثون مختصون يشرحون قصيدة الأمانة: بن خلوف أصبح واليا بعد زيارته لبومدين الغوث.
- عقدت أيام دراسية بالمهرجان الوطني لأغنية الشعبي خصصت لدراسة تحليل قصيدته الأمانة في شهر أوت سنة 2012
- الدراسة أجراها الباحث عمر بن عيشة متخصص في تراث الأنساب والمقدس الشعبي، نقلا عن مقال بعنوان: من ينتقع بأموال طالبي بركة الأضرحة في الجزائر، نشر حمزة عتبي على موقع :www.arabic.cnn.com
- فريد الأنصاري: بديع الزمان النورسي: من برزخ التصوف إلى معراج القرآن، مجلة النور للدراسات الحضارية والفكرية السنة الخامسة جانفي 2014، العدد 9 ، ص: 104.84.
- عبد الله الركيبي: الشعر الديني الجزائري،ص:504.
- المصادر
– أبو يعقوب يوسف بن يحي التادلي: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي يعلى العباسي السبتي، منشورات كلية الآداب الرباط، ط2، 1997
– ديوان أبي مدين شعيب الغوث: إعداد عبد القادر سعود، سليمان القرشي، كتاب ناشرون، بيروت، لبنان،ط1، 2011
– حبار مختار: شعر أبي مدين التلمساني، الرؤيا والتشكيل، منشورات اتحاد الكتاب العرب، سوريا، 2002.
– طه عبد الباقي سرور: التصوف الإسلامي والإمام الشعراني، مؤسسة الهنداوي، المملكة المتحدة، 2017
– فريد الأنصاري: بديع الزمان النورسي: من برزخ التصوف إلى معراج القرآن، مجلة النور للدراسات الحضارية والفكرية السنة الخامسة جانفي 2014، العدد 9 ، ص: 104.84.
– عبد الله الركيبي: الشعر الديني الجزائري الحديث، ج1، دار الكتاب الجزائر، 2009
– يحي بوعزيز: أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة، ج2، دار البصائر الجزائر، 2009،
________________________________
*نقلًا عن موقع فصلية “الثقافة الشعبية”- البحرين.