بين التصوُّف العقلي والشعبي: تونس المحروسة بأوليائها
روعة قاسم
لم تكن صدفة ان تطلق أسماء المتصوفة على العديد من المدن والقرى التونسية، فللتونسيين علاقة خاصة بالأولياء الصالحين والمتصوفة. سيدي بو سعيد الباجي والسيدة المنوبية وسيدي حسين وسيدي محرز بن خلف وسيدي بن عروس وسيدي بلحسن الشاذلي وسيدي علي الحطاب وسيدي علي عزوز، هي بعض من أسماء الأولياء الصالحين في تونس الذين مروا بهذه البلاد وعاشوا بين جنباتها واشتهروا بكراماتهم المحفورة في الذاكرة الشعبية، حتى بات البعض يقول ان تونس محروسة بأوليائها.
يقول الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في كتابه «الحبيب بورقيبة.. المهم والأهم»: لما شعرت والدتي بأولى آلام المخاض، نقلت تنفيذا لأوامر جدي إلى ضريح الولي الصالح في مدينة سيدي بوسعيد، أي سيدي أبي سعيد الباجي، لتلد تحت رعايته. ونذر جدي أن يطلق على المولود اسم الباجي إذا جاء ذكرا، وهكذا فتحت عيني لأول مرة في ضريح سيدي بوسعيد الباجي الذي أحمل اسمه». بتلك الواقعة يمكن فهم العلاقة التي تربط التونسي بأوليائه الصالحين.
بين التصوف الشعبي والعقلي
الأستاذ بدري المدني هو باحث في الفكر الإسلامي يوضح لـ «القدس العربي» ان التصوّف هو الركن الثالث من الدين الإسلامي – الذي يرتكز على ثلاثة أسس هي الإيمان والإسلام والإحسان. فالإحسان هو التصوّف – فقد دخل إلى تونس بدخول الإسلام إليها عبر مراحل، يوم كانت تسمى افريقية خلال سنة 27 هـ الموافق لعام 647م. ثم تدعّم الإسلام في افريقية (تونس) بدخول العبادلة السبعة ثمّ بمجيء عقبة ابن نافع الفهري سنة 50 هـ تدعم الإسلام أكثر فأكثر وانتشر بأركانه الثلاثة، وتغلغل ركن الإيمان وركن الإسلام وركن الإحسان والتصوف في قلوب المسلمين في تونس. وكانت العناية بالدين أكثر والتعلّق به أشمل وأعمق، وبتقدم الوقت ولكثرة الانغماس والتعلق بالدنيا، وقعت الغفلة عن الركن الثالث، إلا قليلون بقوا مُعْرِضين عن الدنيا بقلوبهم متمسكين بهذا الركن بشدة، وعرفوا بورعهم وعكوفهم على تقوى الله وتصفية بواطنهم حتى تميزوا وظهروا في المجموعة بطريقتهم فسموا الصوفية، أهل الله وأحباب الله تعالى والطرق الصوفية.
وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون في أثره المقدمة فقال «وأعلم أن أصل الطريق لم يزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين من بعدهم طريق الحق والهداية وأصلها الذي تنبني عليه العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف فلما فشى الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس لمخالطة الدنيا فاختصّ المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة».
ظهور الطرق الصوفية
يقول محدثنا ان «الطرق الصوفية ظهرت منذ زمن قديم في كامل أنحاء تونس، في شمالها وجنوبها وشرقها وغربها. وشمل التصوف الرجال والنساء، وبقيت آثارهم إلى عصرنا الحديث، فهناك القادريّون أتباع الطريقة القادرية نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكان من أتباعه في شمال تونس الإمام المنزلي وهو أول من أدخل الطريقة القادرية إلى تونس. وفي الجنوب التونسي بالجريد وُجد القادريون بشكل ملحوظ وانتشرت الزوايا ولعلّ أبرزها زاوية سيدي المولدي المدفون في مدينة توزر التي ظلت إلى يومنا هذا تدرس القرآن. وظهرت في تونس أيضا الطريقة الشاذلية نسبة إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي حوالي القرن السابع هجري وقد دخل إلى طريقته في تونس العديد من الرجال والنساء ومنهم من بقيت آثارهم تذكر حتى اليوم، ومن مريديه المشهورين الشيخ عبد الرحمان السبتي ومن مريداته المشهورات السيدة المنوبية المدفونة في جهة السيدة في تونس العاصمة» .
وظهرت في تونس أيضا الطريقة العيساوية نسبة إلى الشيخ علي بن عيسى وقد وقع تحريفها اليوم، إذ قل نشاطها الديني وارتكز نشاطها على استعراض الفولكلور. وكذلك طريقة الشيخ عبد السلام الأسمر والتي تسمى بالسلامية، ولكل هؤلاء زاوية ومريدون يلتقون فيها ويذكرون الله ويقيمون حلقات الذكر فيها.
وفي القرن العشرين عادت إلى تونس الطريقة الشاذلية عن طريق أتباع الشيخ أحمد العلاوي الجزائري توفي 1934 لتسمّى الطريقة المدنية التي أسسها الشيخ محمد المدني-1888/1959- في قصيبة المديوني سنة 1910 ولا تزال متواصلة إلى اليوم.
التصوف والهوية في شمال أفريقيا
أما عن تأثير التصوّف وعلاقته بالمجتمع التونسي، فيوضح محدثنا ان التصوّف في صيغته الطرقية، يعتبر إحدى دعائم الهويّة في منطقة شمال أفريقيا من خلال المحافظة على اللغة العربية وتحفيظ القرآن وترداد التراث الشعري وإحياء المناسبات الدينية والزيّ وغير ذلك. ويتابع:»رغم محاولات البعض إلصاق التهم بالطرق الصوفية بأنها كانت عميلة للاستعمار وحتّى صنيعته وهذا باطل، إلا أنه يكفي الاستدلال على أنّ كلّ الشخصيات الشهيرة التي قاومت المستعمر في دول شمال أفريقيا هي شخصيات صوفية بامتياز، مثل عمر المختار والأمير عبد القادر الجزائري وعبد الكريم الخطابي وأبو الحسن الشاذلي وغيرهم.
ويشير الباحث في الفكر الإسلامي إلى ان الصوفية تنتمي إلى الإسلام غير الرسمي، الذي يجد ترحابًا وإقبالًا من عامة الناس، الذين يعتقدون أنّهم يحتاجون إلى الوساطة بينهم وبين ربّهم لقضاء الحوائج والمغفرة لهم دون الوقوع في عبادة الأشخاص كما يتوهّم، أو لنقل يتّهم بذلك الوهابية لأهل التصوّف، وقد عرف شمال أفريقيا العديد من المتصوّفة الذين اعتكفوا في زواياهم وزهدوا في الدنيا وملذاتها، وعملوا الصالح من الأعمال ممّا أكسبهم حبًّا مضاعفًا في حياتهم ومماتهم، ومن أشهر أعلام الصوفية في تونس، محرز بن خلف، أبو مدين الأنصاري، وأبو الحسن الشاذلي ـ توفي656 هـ – وسيدي أبو سعيد الباجي- توفي 1231 هـ –
قامت الصوفية بتبسيط المعتقد لدى العامة دون خوف أو ترهيب، وهو ما أضفى على التديّن مسحة من الحبّ والأمان.
طقوس خاصة
يقول المدني ان التقرب إلى الأولياء الصالحين يتم ضمن طقوس احتفالية خاصة، وهو ما جعل لهؤلاء مؤسسات خاصة بهم وأتباع ومريدين، حتى بعد موتهم، يقومون بخدمة المقام وقراءة الأذكار والأوراد في الزاوية المخصصة لهذا، ويحظى الوليّ، أو من يمثله بسلطة رمزية، فهو يلعب دور الواعظ الديني من جهة، ودور الحاكم من جهة أخرى.
وللطرق الصوفية هيكليتها، فيعتبر الشيخ متصدرا أعلى السلم، وهو الزعيم الروحي وصاحب الطريقة، ويتمتع بسلطة مطلقة، وهو المرجع الأوّل للأتباع، ومؤسس الأحكام التي يلتزم بها كلّ أتباعه. ويخلف الشيخَ الخليفةُ، وهو الرجل الثاني الذي يعوّضه في البلدان البعيدة لنشر طريقته ومذهبه وكسب أنصار جدد، ويأتي المقدّم في المرتبة الثالثة، وهو الذي يقوم بتفسير الطريقة لدى العامة، ويأتي الأتباع في المرتبة الأخيرة، وهم أنصار الطريقة الذي ينتسبون إليها دون تكليفهم بوظائف رسمية، ويطلق عليهم بالأخوة أو المريدين أو الفقراء.
وعن أشهر الأولياء الصالحين في تونس يوضح المدني :»يعتبر سيدي بلحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية، من أشهر أولياء تونس الصالحين، حيث يقبع ضريحه الرمزي فوق ربوة في العاصمة. لقد قام أتباعه بنشر طريقته، وذاع صيته في كلّ العالم، ويعتبر أحد أقطاب الصوفية الإسلامية، وما زال إلى اليوم أتباعه يقيمون الأذكار والأوراد، ويتصدقون على الفقراء من زوّار المقام. وكذلك هناك سيدي محرز، أو سلطان المدينة، كما يحلو لمريديه مناداته حاضرًا في أذهان التونسيين. ورغم انه لم تسم بهما مدينة أو منطقة عكس غيرهم، ممن سميت قرى ومدن بأسمائهم مثل قرية سيدي بوسعيد الشهيرة في العاصمة ـ نسبة لأبي سعيد الباجي- ومنطقة منوبة نسبة إلى السيدة عائشة المنوبية ـ ت665 هـ – وقصيبة المديوني وسيدي علي بن عون ومسجد عيسى والقائمة طويلة وفي هذا دلالة على تعلّق التونسي بالأولياء والصالحين وحبّه لهم والتبرّك بمقاماتهم من خلال الذبائح التي تنذر للأولياء كإحدى وسائل التقرّب إلى الوليّ، الذي يقوم بدور الوساطة، وعادًة تقام الولائم في أضرحة الأولياء في طقوس احتفالية، تصل أحيانًا في بعض المحافظات في تونس إلى تقديم العروض الفروسية، وعزف الموسيقى الصوفية والرقص، وتندرج هذه المظاهر ضمن طقوس العبور من الذنب إلى المغفرة ومن الضيق إلى الراحة.
تونس المحروسة
تعرف مدينة تونس (العاصمة) باسم تونس المحروسة، نظرا لكون المدينة يحرسها من الجهات الأربع (شمالا وجنوبا، شرقا وغربا) أربعة أولياء صالحين من الرجال العلماء البررة المتعمقين في علوم الدين، الزاهدين في الدنيا وهم: الولي الصالح محرز ابن خلف الملقب بسلطان المدينة وحاميها الأول، فالولي الصالح الثاني أبي الحسن الشاذلي، وثالثا الولي الصالح أبي سعيد الباجي الملقّب بريّس الأبحار حامي تونس من واجهتها البحريّة وأخيرا سيّدة فاضلة هي السيدة المنوبيّة. كما أنّه وعلى امتداد كامل الشريط الساحلي التونسي حوالي 1300 كلم توجد بشكل متقارب جدا أضرحة للأولياء والصالحين في كلّ منطقة ساحلية وحتّى الداخلية منها، وكأنهم يحمون تونس التي يعتقد البعض أن هؤلاء يحرسونها لذلك لم تشهد تونس في التاريخ الحديث من الأحداث إلا كانت بلطف.
وهناك تسجيل كبير لعدد من الطرق الصوفية والشخصيات في تاريخ تونس وحتّى في حاضرها ممن حملوا راية الإسلام المعتدل رفضا لجميع صور التشدد والتطرّف ودعوا إليه بصدق وإخلاص ودافعوا عنه بكل وسيلة، فأينما حلوا كانوا يشيدون الزوايا لنشر الدين والعلم ورعاية الفضيلة والسجايا الكريمة، ومن الحق والإنصاف أن يذكر بفضلهم في الدفاع عن الإسلام ونشر علومه وآدابه وأخلاقه وإظهاره للناس في صفائه على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم في الزهد والعدل ونشر الفضائل.
ولابد من التمييز بين التصوّف الشعبي الفولكلوري الذي اتخذ منحى ثقافيا فرجويا طقوسيا قد يخالف أحيانا المنطق السليم والضوابط الشرعية، وبين التصوّف الإشراقي الفلسفي المتأثر بحكمة الشرق فيكون في تعبيرات أصحابه من الغموض والالتباس على غرار الحلول والاتحاد وغيرها مما هو حق ومما هو باطل مليء بالدسائس، وبين التصوّف السنّي الذي اتخذ منحى علميا مرتكزا على تزكية القلوب وتطهيرها وتصفية البواطن وزرع القيم الروحية النبيلة وفق الكتاب والسنّة كما قال الإمام الجنيد ـ توفّي 297 هـ: «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدي به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيّد بالكتاب والسنة».
ويتابع المدني بالقول:»ونعني بالتصوّف السنّي والذي ندافع عنه، التصوف الذي لا علاقة له بالمظاهر والأشكال، ولا بلبس المرقعات أو تعليق المسابح، بل هو أن يعمر الإنسان صدره بالصلة بالله، والخوف منه، والرجاء فيه. وهناك كثير من أدعياء التصوف يتوهمون أو يزعمون أن التصوف معناه عدم السعي أو عدم العمل، ويظنون أن التصوف كسل وبطالة، ونفور من الجهد والاجتهاد في شعاب الحياة الفاضلة الطيبة، ولو قبلنا هذا التصوير المنحرف للتصوف لكان نكبة على المجتمع الإسلامي، وكان تمرداً على توجيه الحق جل جلاله الذي يقول في سورة الجمعة (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)».
ويظهر أن الذين حملوا على التصوف وأهله تلك الحملة القاسية الشعواء، كانوا متأثرين بتلك الصورة التي رسمها للتصوف أولئك الأدعياء الذين لم يصدقوا في إيمانهم وإحسانهم، ولم يتقنوا العمل الجامع بين خيري الدنيا والآخرة.
___________________________
*نقلًا عن مجلة “القدس العربي”.