طرق و مدارس

المدارس الصوفيَّة الإسلاميَّة النشأة والتطوُّر (الطريقة التجانيَّة أنموذجًا)

محمد حناي

المدارس الصوفيَّة الإسلاميَّة النشأة والتطوُّر (الطريقة التجانيَّة أنموذجًا)

محمد حناي

مقدمة :

إن الدارس لتاريخ العلوم الإنسانية لا يمكن له أن يدرس أي ظاهرة في تاريخ الإنسانية منفردة عن سياقها التاريخي والظروف المحيطة به ، فأي ظاهرة إلا وتجد لها امتدادا وتواصلا بظواهر أخرى في محيطها تتحكم فيها ظروف كثيرة كالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العلمية وهذا ما ينسحب على عنوان محاضرتنا المدارس الصوفية الإسلامية النشأة والتطور التي ظهرت للوجود من خلال ظروف أبرزتها كي تصبح على رؤوس الأشهاد وتقدم ما تقدم للدين والأمة وللإنسانية جمعاء والأشكال الذي سوف نعالجه في هذه المحاضرة هو: ما ماهية المدارس الصوفية ؟ وما هو مسلكها في خدمة الإسلام والمسلمين ؟

مستعينين بعدة أسئلة:  ما هو تعريف التصوف والمدارس الصوفية ؟ وأين وجدت ؟ ومن هم أقطابها ؟  ما هو مسار التصوف والمدارس الصوفية ؟ وكيف تأقلم مع محيطه ؟  من قعّد لمسيرة الصوفية حتى تكون عالمية وتكون إيجابية ومنتجة ؟ من جسد هذا التقعيد للاستفادة الإنسانية وكيف تم ذلك ؟

كل هذه لتساؤلات سنجيب عنها في هذه المحاضرة المتواضعة.  أقول وبالله التوفيق .

 

تعريف التصوف والصوفية:

لغة: التصوف:  هو مذهب أهل الصوفية وهو التخلق بأخلاقهم(1) .

الصوفية:  هي فئة المتعبدين لإفناء الذات والتجرد لله تعالى دون سواه والاتصال بحقيقة الحقائق.

اصطلاحا:  قالت طائفة أنما سميت الصوفية صوفية : ” لصفاء أسرارها ونقاء آثارها وقال (2)بشر بن الحارث: ” الصوفي من صفاء قلبه لله “.

وقال بعضهم : ” الصوفي من صفت لله معاملته فصفت له من الله عز وجل كرامته ”

وقال قوم: ” إنما سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يد الله جل وعز بارتفاع هممهم إليه وإقبالهم عليه ووقوفهم بسرائرهم بين يديه “. ونلخص مشد الصوفية في الآتي :

قال ذو النون:  رأيت امرأة ببعض سواحل الشام، فقلت لها:  من أين أقبلت رحمك الله ؟ قالت: من عند قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا(1) ” قلت : وأين تريدين ؟ قالت: إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله  (2) ، قلت : صفيهم لي!

فأنشأت تقول :

 

قوم همومهم بالله قـد علقـت

فمالهم همم تسمـو  إلى أحـد

فمطلب القوم مولاهم و سيدهم

يا حسن مطلبهم  للواحد الصمد

ما إن تنازعهم دينا ولا شرف

 

 

من المطاعم و اللذات و الولـد

 

ولا للبس ثياب  فائق أنيــق

 

ولا لروح سـرور  حل في بلد

 

إلا مسارعة في إثر منــزلة

 

 

قد قارب الخطو فيها باعد الأبد

 

فهم رهائن غدران وأوديــة

 

وفي الشوامخ تلقاهم مع العـدد (3)

 

ويمكننا تلخيص التصوف في:

التاء:  توبة، و الصاد:  صفاء، والواو:  ولاية، والفاء:  فناء.

والتصوف: هو الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وهو علم الأخلاق والتخلق وحسن المعاملة.

 

تعريف المدرسة الصوفية :

المدرسة : هي هيكل تعليمي تنويري(4) يقوم بناؤه على 3 أعمدة هم :

المعلم ( الشيخ المربي )، والتلميذ ( المريد )، والمنهاج ( علم التصوف ).

السؤال:  كيف نشأت المدرسة الصوفية ؟

نشأت المدرسة الصوفية بنشأة التصوف .

السؤال:  متى نشأ التصوف ؟

منذ مقتل الإمام سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه دخلت الأمة الإسلامية في فتنة لا تبقي و لا تذر قسمت الأمة إلى فرق وشيع عرفت “بالفتنة الكبرى” في الإسلام ويقول نيكلسون (R.A.nicholson  ) في هذا الصدد: ” لقد مزقت الحروب الأهلية التي أعقبت هذه الفتنة الإسلام شر تمزيق ولم يلتئم بعد الجرح الذي أحدثته تلك الحروب(5) حسب تعبيره .

انتقل الحكم إلى يد بني أمية بحيث جعلوا الحكم وراثي مناف لمبدأ الشورى مع التعسف والكثير من العنف والاستبداد والإباحية ، وانتهت هذه الفترة بمقتل الإمام الحسين رضي الله عنه في كر بلاء سنة 61 هـ / 680 م(6) .

يضاف إلى ما تقدم أن حياة المسلمين الاجتماعية في العصر الأموي تغيرت .. بدأ الثراء يظهر في المجتمع الإسلامي مقترنا بحياة الترف وما قد تستتبعه من انحراف خلقي ، وهنا وجد المسلمون الأتقياء أن من واجبهم دعوة الناس إلى ما كان عليه السلف من تقلل وزهد وورع ، وعدم انغماس في الشهوات وأمثلة الدعاة إلى ذلك الصحابي أبو ذر الغفاري الذي انتقد حياة الأمويين المترفة ، وأساليبهم في الحكم نقدا شديدا ودعا إلى الأخذ باشتراكية الإسلام العادلة(7) .

نشأة حركة الزهد وتطورها ( 1 هـ /7م ـ 3 هـ /9م ) :

قامت بداية حركة الزهد في أول أمرها بغير تخطيط أو تنظيم من جانب بعض الصحابة والصالحين الذين اهتموا بإصلاح حياتهم الخاصة والعامة إلا أنه مع مرور الوقت التف الناس حول من اشتهر منهم بزهده وحسن سيرة حياته فذاع صيته، وانتشرت في أرجاء العالم الإسلامي كله، و هكذا تكونت حول هؤلاء الزهاد حلقات من التلاميذ  تصاحبهم في حياة الزهد والعبادة والتنسك والبحث على إصلاح الذات في شتى العواصم الإسلامية خلال القرنين 1 هـ، و2 هـ وسمت هذه المراكز بحسب المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون ” مدارس الزهد ” (1).

السؤال: أين وجدت مدارس الزهاد هذه ؟ وما هي مميزاتها ؟

مدرسة المدينة المنورة: وكان من أشهر زهادها : أبو عبيدة بن الجراح ، وأبو ذر الغفاري،  وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وسعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله.

مدرسة البصرة:  وكان من أشهر زهادها: الحسن البصري، ومالك بن دينار، وعبد الواحد أبن زيد، وأبو المهاجر رباح بن عمرو القيسي، ورابعة العدوية .

مدرسة خرسان:  ومن أشهر زهادها: إبراهيم بن أدهم، وداود الطائي، والفضيل بن عياض وشقيق البلخي، ومعروف الكرخي.

مدرسة الكوفة: ومن أشهر زهادها: الربيع بن خيثم، وسعيد بن جبير، وطاووس بن كيان وسفيان الثوري.

مدرسة مصر:  ومن أشهر زهادها:  سليم بن عنتر التجيبي، وعبد الرحمن بن حجيرة، وحياة بن شريح الفقيه المصري، والليث بن سعد، وأبو عبد الله بن وهب بن مسلم المصري(2) .

وكان اهتمام هؤلاء الزهاد الأولين يدور في الأغلب حول فكرة الموت ويوم الحساب ومصيرهم بعد الموت من عذاب جهنم ونعيم الجنة ، فدفعهم هذا الشعور بالخوف إلى ممارسة حياة دينية جادة مع الحفاظ على أدق أحكام الشريعة ، بل إلى الزيادة فيها من النوافل والأعمال الصالحة.

وعلى أساس ذلك أقبل هؤلاء الناس على حياة الزهد والفقر والورع والاعتكاف والتهجد والصوم والتوكل وغير ذلك من طرق التنسك والتقشف ابتعادا منهم عن فتن الدنيا وفسادها ويقول صاحب كتاب مدخل إلى التصوف الإسلامي في هذا الصدد: ” ولعله قد تبين من أقوال بعض زهاد البصرة في الزهد أنها كانت تدور حول معنى الخوف من عذاب الآخرة، وهو الخوف الذي سيتبع بالعمل الديني الجاد، والانصراف عن ملذات الدنيا بالتقليل في المأكل والمشرب وغير ذلك مما لا يخرج عن حدود زهد النبي وصحابته(3) .

قد يقول قائل: إن الإخوة نسمعهم دائما يقولون إن التصوف منشأه ومبعثه رسول الله (صل الله عليه وسلم) وفي هذه المحاضرة سمعنا أنه بدأ من بعد سنة 61 هـ كيف ذلك ؟

نجيبه بقول بن خلدون في مقدمته حيث يقول عند كلامه على نشوء علم التصوف قائلا: «… وكان ذلك في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن 2 هـ وما بعده , وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية و المتصوفة » (4)و الشاهد عندنا في هذا الكلام أنه كان في زمن الصحابة أي على عهد رسول الله (صل الله عليه وسلم) وسئل ذات مرة أبو الحسن الهجويري عن التصوف كيف أن منشأه رسول الله (ص)فأجاب قائلا :«أن التصوف كان موجودا في عهد رسول الله (صل الله عليه وسلم) و الصحابة رضي الله عنهم كحقيقة معاشة من غير اسم» (5)

من خلال هذا الكلام لمجموعة من العارفين يتضح أن واضع قواعد التصوف الأول  –علم الأخلاق – هو سيد الوجود (صل الله عليه وسلم) وصحابته الميامين (رضي الله عنهم).

 

ازدهار المدارس الصوفية(3هـ/9م- 4هـ/10م):

بعد وصول العباسيين إلى الحكم سنة ( 132هـ/750م)(1)  بدا العصر الذهبي للحضارة الإسلامية وهذا خاصة خلال خلافة هارون الرشيد (193هـ/809م) وابنه المأمون (218هـ/833م) الذي أسس بيت الحكمة (217هـ/832م) وأصبحت من خلاله بغداد عاصمة عالمية علمية، وبرع فيها كثير من العلماء منهم أبو يوسف الكندي وأبي نصر الفرابي و الجاحظ وغيرهم، كذلك نشطت حركة الترجمة و العلوم لكن هذا الوضع العلمي الجيد كان يقابله وضع سياسي متأزم بسبب الحروب و الخلافات الداخلية و الخارجية، منها حرب الأمين و المأمون، سيطرة البويهيين على الحكم، ثورة الزنوج، حركة القرامطة، زحف الدولة الفاطمية من المغرب، هذا الوضع السياسي أفرز جنوحا عند الصوفية بالبعد عن أهل الحكم والسياسة والتوجه نحو حياة العلم والعمل مع المحافظة على الموروث القديم، فبرز منهم العديد في كثير من العلوم.

في التحليل النفسي (الحارث المحاسبي)، الفناء والمعراج الصوفي (أبو يزيد البسطامي)،النور المحمدي ومركزيته الكونية (سهل التسري)، الفناء ودرجات التوحيد ( أبو القاسم الجنيد)، المحبة وتوحيد الصدق ومراحل الحياة الكونية ( الحسين بن منصور الحلاج) هذا الزخم العلمي من المعارف الصوفية أدى بالمدرسة الصوفية  إلى الازدهار في إثبات الوجود مع المحافظة على وحدة و مسيرة المجتمع الإسلامي و مسايرة أوضاعه من خلال تخصص المشايخ الذي أضفى تخصصات على مدارسهم، لكن بداية القرن الرابع الهجري تعتبر نكسة للمدارس الصوفية وذلك بسبب تحالف المؤسسة الفقهية مع المؤسسة السياسية حيث تم إعدام الحسين بن منصور الحلاج سنة (309هـ/922م)(2) الذي لم يستطع إخفاء أسراره وفيوضا ته وجعلها في قالب لفظي تقبله العامة وتفقهه وفق منطق الشريعة فاتهم بالزندقة ثم كفًر و أعدم .

 

التصوف في مابين القرنين( 4هـ/10م- 11هـ/17م) :

بعد نكسة الإمام الحسين بن منصور الحلاج اتخذ التصوف لنفسه لبوس المنطقية بتكييف أحواله بمصطلحات ومفردات صوفية يمكن له أن يتواصل بها ومن خلالها مع المتصوفة في حين لا تضربه وبمسيرته وذلك ما دأب عليه الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ في مؤلفاته من خلال كتابه إحياء علوم الدين وبعده الإمام الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني (470هـ/1077م-561هـ/1166م) (3) الذي ربط بين محاسن الشريعة و العقول السليمة وتأثر بالتيار الروحي الصوفي وكان هو حلقة الوسط بين المذهب الفلسفي لابن سينا ومذاهب التصوف الفلسفي عند السهروردي ومحي الدين بن العربي(4) هذا التكيف مع روح العصر الموجود ة في تلك الحقبة ترك فرصته للتصوف في أن يحافظ على مسيرة متزنة دون أن يستطيع أي من أقطاب المتصوفة أن يقعّد له قواعد جديدة يمكنها أن ترتقي به إلى عالمية الطرح كفكرة تجتمع حولها أفراد الأمة الإسلامية لخدمة البشرية من خلال إحقاق العدل و المساواة في كل مناحي الحياة ونبذ الظلم .

وتزامنا مع ما كان يحصل من تطورات في هذا الاتجاه بناحية الشرق الإسلامي كان مثله في الغرب الإسلامي، حيث حاز الغرب الإسلامي على نصيبه من الحياة الصوفية وذلك من خلال تنقل الفكر الصوفي و المدارس الصوفية للمغرب الإسلامي عن طريق رحلات الحج و طلب العلم (5).

ومن هؤلاء الإمام محمد بن سحنون رافع لواء المالكية في عهد الدولة الأغلبية الذي تأثر بالزهاد و المتصوفة ومنهم عبد الرحيم بن عبد ربه الربعي المتوفى سنة 246هـ -247هـ  الذي كان يزوره كل يوم جمعة ويقول عنه: (هو رجل صالح ترجى بركته وبركة دعائه وكان والدي رحمه الله تعالى  يأتيه ويتبرك بدعائه ويلجأ إليه عند المهمات من الأمور )(1) .

وفي هذه الفترة الزمنية عرفت المدرسة الصوفية المغاربية الكثير من الأعلام الذين برزوا فيه و أضافوا له من خلال إدراكاتهم له حيث أنهم جعلوه يختلف عن تصوف المشرق الإسلامي حتى من ناحية المصطلح فغلبت في المغرب الإسلامي كلمة مرابط ، وكلمة مرابط وإن كانت تنتمي إلى التصوف والزهد ولكن في قالب آخر وأثر جديد، وإذا كان التصوف في المشرق يغلب عليه التواجد والانزواء، فقد غلب على متصوفة المغرب حراسة الثغور و العمل في توسيع نشر الدعوة(2)،  وهذا ما ظهر مع العالم الرباني عبد الله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين في  القرن(5هـ) , والشيخ سيدي عمر الفوتي مؤسس السلطنة التجانية في وسط بلاد الزنوج الفتيشيين في القرن( 13هـ) .

 

من أعلام التصوف بالمغرب الإسلامي المتقدمين :

1) أبو مدين شعيب بن حسين الأنصاري :

أصله من حصن قطنيانة من عمل اشبيلية ثم نزل ببجاية وأقام بها إلى أن أمر بإشخاصه (إرجاعه) إلى حاضرة مراكش فمات وهو متوجها إليها بموضع يقال له “يسر”(3) سنة (594هـ/1194م) وهناك من يقول سنة 589 هـ ودفن خارج تلمسان وذكره الشيخ أبو الصبر أيوب عبد الله الفهري فقال: ” كان زاهدا فاضلا عارفا بالله تعالى قد خاض من الأحوال بحارا ونال من المعارف أسرارا و خصوصا مقام التوكل لا يشق فيه غباره ولا تجهل أثاره وكان مبسوطا بالعلم مقبوضا بالمراقبة كثير الالتفات بقلبه إلى الله تعالى حتى ختم الله له بذلك (4).  ذهب إلى الحج فالتقى الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني وأخذ عنه الطريقة القادرية وهو من أدخلها إلى الجزائر(5) .

2 ) محي الدين بن العربي :

هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي من قبيلة طي مهد النبوغ و التفوق العقلي في جاهليتها و إسلامها ولد يوم الاثنين 17رمضان 560 هـ الموافق لـ28 جويلية سنة 1165م في مدينة ” مرسية ” بالأندلس وهي مدينة أنشأها المسلمون في عهد بني أمية وكان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه و الحديث ومن أعلام الزهد والتقوى و التصوف وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها فنشأ نشأة تقية ورعة نقية من جميع الشوائب ما إن أتم العاشرة من عمره حتى كان مبرزا في القراءات ملهما في المعاني و الإشارات ثم أسلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث و الفقه قام الشيخ محي الدين بن العربي برحلة طويلة استقر به المقام في دمشق سنة 1223م حيث كان أميرها أحد تلاميذه المؤمنين بعلمه ونقائه وظل بها يؤلف و يعلم حتى حطت عنده سفينة القدر في 28 ربيع الثاني سنة 638هـ الموافق لـ 16 نوفمبر 1240م (6).

ومن تلاميذه الملك المظفر بن الملك العادل الأيوبي الذي أعطاه إجازة ذكر فيها كثير من مشايخه و مؤلفاته يقول بن العربي : بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين : أقول وأنا محمد بن على بن العربي الطائي الأندلسي الحاتمي و هذا لفظي استخرت الله تعالى وأجزت السلطان المظفر بهاء الدين غازي أبن الملك العادل المرحوم أن شاء الله تعالى أبي بكر بن أيوب وأولاده ولمن أدرك حياتي ، الرواية عني في جميع ما رويته عن أشياخي من قراءة وسماع ومناولة وكتاب وإجازة وجميع مؤلفاته وصنفته من ضروب العلم(7) .

وغير هؤلاء المشايخ كثر من غير الذين ذكرناهم فمنهم على سبيل المثال لا الحصر الحرالي علي أبن أحمد بن الحسن بن إبراهيم التجيبي، وسيدي أبو الحسن الشاذلي علي بن عبد الجبار بن تميم الحسين (مؤسس الشاذلية)  المتوفى سنة 656 هـ ، الذي أخذ عن محي الدين العربي وأدخل مدرسة صوفية إلى المغرب وهي الشاذلية، وهي من أول الطرق ،  وسيدي أبو العباس المرسي أحمد بن عمر الأنصاري وغيرهم . هذا في المشايخ المتقدمين أما من المتأخرين فنجد الشيخ سيدي أبو العباس أحمد التجاني (1) وليد عين ماضي (بالجزائر) ودفين فاس (بالمغرب) الذي على كعبةُ في الولاية وسطع نجمة في الغوثنية  وحاز ختم الولاية ومرتبة الكتمانية فكان خاتمهم وتاجهم .

لقد كان هؤلاء المتصوفة والمشايخ ذوي قدرة على التأثير في من أحبهم، بما يرفع راية الإسلام ويخدم المسلمين، ويقمع الظلم ويحكم العدل، وأمثلتنا على تأثيرهم في كبار الأمة الإسلامية ممن خلدهم التاريخ، ولا أدل على ذلك الإجازة التي أجازها محي الدين بن العربي الملك المضفر، كذلك القائم صلاح الدين الأيوبي الذي نشأ وترعرع في بيئة يغلب عليها التصوف، وأخذ هذا الأمر على والده أيوب، وقائده نور الدين زنكي، حيث قال ابن كثير في صلاح الدين “… كان شجاعا. كثير الصلاة، وله خانقاه (زاوية) بالديار المصرية، وله كذلك أخرى بدمشق، حيث أن صلاح الدين هو أول من أنشأ الربط والخوانق و الزوايا ، ويعتبر صلاح الدين هو أول من أدخلها إلى مصر حيث يقول القلقشندي ” أما الخوانق والروابط ، فمما لم يعهد بالديار المصرية، قبل الدولة الأيوبية ، وكان المبتكر لها صلاح الدين أيوب ولقد كان زائرا مجدا للأولياء الأحياء والأموات ومنهم أبي زكريا المغربي”(2).

كذلك من هؤلاء القادة نجد الظاهر بيبرس (607 هـ /1219م – 676 هـ / 1290م) ، قاهر التتار في معركة عين جالوت الذي كان متصوفا حيث يقول بن عماد الحنبلي في كتابه (شذرات الذهب )” إنه بوصول السيد البدوي إلى مصر قادما من المغرب، تلقاه الظاهر بيبرس بعسكره وأكرمه وعظمه وانتسب إلى طريقته “(3) .

وإن كان الظاهر بيبرس من أعظم ملوك زمانه فإن محمد الفاتح هو أعظم سلاطين زمانه علما وتهذيبا وأشدهم بأسا وجهادا ، وأكثرهم على الله توكلا واعتمادا كان شيخه الطبيب العالم محمد بن حمزة الملقب بـ (آق شمس الدين) الذي أدخله الخلوة ولقنه الأوراد وبشره بفتح القسطنطينية وهو شيخ النقشبندية في زمانه(4).

ومن تلاميذ المشايخ المتأخرين نجد سيدي الحاج عمر الفوتي (1212 هـ/1797 م– 1272 هـ/ 1865 م) الذي قال في حقه المستشرق الفرنسي بوني موري (Bonnet Maury ) ” إنه خلف للطريقة التجانية سلطنة إسلامية عظيمة إلى أن يقول . . .  فصار وجود هذه السلطنة  التجانية خطرا عظيما على سيادتنا “(5).

وفي هذا المجال يشير الأمير شكيب أرسلان بقوله: ” . . إن إفريقية كادت أن تكون كلها إسلامية لولا قضاء فرنسا على سلطنة التجانية هذ ، كما أن أوربا كادت أن تكون إسلامية لولا انتصار شارل مارتل على العرب في بواتيه ، وهي الكلمة التي يتفق عليها المؤرخون الإفرنج “.

ومن خلال ما تم سرده نلاحظ أن أكبر المحطات في تاريخ الأمة الإسلامية كان مهندسوها شيوخ التصوف ومدارسهم ومريديهم .

هؤلاء المشايخ وهاته المدارس الصوفية تركت أثرا كبيرا في بناء ذاكرة ومجد الأمة فيما يخص التجديد الإيماني والتجدد العلمي وصيانة الأمة  من كل تحلل وتفسخ وذلك بإلباسها لباس عصرها ووفقا لثنائية متلازمة العمل، التسامح مع من كان متسامحا والثورية ضد من كان صليبيا في الفكر والثقافة والمعاملة .

لكن كل هذه السلوكيات لم تقعد في قواعد ثابتة يمكن استثمارها والبناء عليها للذهاب بالتصوف نحو الرسالية العالمية ،عن طريق الايجابية والإنتاج، حتى ظهر الشيخ سيدي أحمد التجاني الذي أطّر المدرسة الصوفية العالمية وفق قاعدة بسير زمانك سر وجسدها الإمام التماسيني في ثلاثيته الشهيرة اللويحة والمسيحة والسبحة ودأب على تطبيقها ميدانيا بادئ ذي بدء مع الأهل والعشيرة حيث أنه سار بهم في طلب العلم فكل شيخ عالم يأتي إلى سيدي الحاج على زائرا لتماسين إلا ويتفق معه على مدة بقاء معينة إما 6 أشهر أو 12 شهرا أو 24 شهرا لأجل تدريس أفراد العائلة وزوار الزاوية (1)، بهذا السلوك أسس سيدي الحاج علي التماسيني جامعة مفتوحة(2) ومن هؤلاء المشايخ: الشيخ النفطي التونسي، والشيخ سعيد الدكالي المغربي، والشيخ المكي بن عزوز، والشيخ  المختار الشنقيطي، وغيرهم.(3)

هناك نقطة ثانية يجب الإشارة إليها وهي أن الإمام التماسيني أسس لشيء اسمه التخصص العملي أو التسييري وهو بمفهومنا المعاصر الإدارة، حيث نجده وكّل الشيخ سيدي محمد العيد بخطابة الجمعة بالمسجد الكبير، ” الإمامة ” الشيخ سيدي محمد الصغير بخطابة الجمعة بالمسجد الصغير، “الإمامة ” (أين يتواجد الضريح) سيدي احميده كلفه بالمضافة والضيوف، سيدي الطاهر كلفه بالملك، سيدي الأخضر كلفه بالإفتاء، إما الخليفة الشيخ سيدي معمر فقد كان رئيسا للتشريفات في عهد أخويه سيدي محمد العيد وسيدي محمد الصغير، ولقد أوصى سيدي الحاج علي التماسيني به إخوته بأن يعلموه الإدارة(4).

لو قمنا بعملية مقابلة بين المدنية الحديثة التي تمخضت عنها الثورة الفرنسية ممثلة في حركة نابليون بونا بارت القانونية والإدارية سنة 1802م وما بعدها ، بعد خروجه من مصر  وحركة الإمام التماسيني بعد تأسيسه لزاويته 1803م ، وحتى وفاته 1844م، لوجدنا أن هناك تطابقا ومسايرة لحركة العصر الدائرة من حوله ، وهذا بتوفيق ودعم وتسديد إلهي .

لقد فصل الإمام التماسيني قاعدة شيخه بسير زمانك سر بثلاثيته الشهيرة اللويحة والمسيحة والسبيحة ، فجسدها ميدانيا من حيث ترسيخ قاعدة طلب العلم عمليا والاستفادة من كل من يأتي للزاوية أو القيام ببعثات علمية إلى حواضر العلم كالزيتونة ، وهذا ما دأب عليه خلفاؤه من بعده.

تثبيت قاعدة المسيحة ، حيث أنه أنشأ غابات النخيل بالاعتماد على الله ثم ساعده وجهده الخاص فعند وفاته ترك رضي الله عنه 14000 نخلة(5) ، أما السبيحة والرجوع إلى الله والتبتل إليه بالعبادة في كل عمل عبادي فقد جسد قاعدتها وفق فهمه لشرح شيخه القطب المكتوم لقوله تعالى:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(6).

فالحكمة عند القطب المكتوم رضي الله عنه هي أن تدعوا إلى الله بالله في الله، فكان هذا عزمه وديدنه في الدعوة إلى الله، إلى أن حطت عنده سفينة القدر للقاء ربه يوم الثلاثاء 22 صفر 1260هـ الموافق لـ 12 مارس 1844م.

ملخص القول:

إن التصوف منشؤه سيد الوجود صلى الله عليه وسلم.

إن التصوف مؤثر لا يتأثر، حيث أنه منهجُ بني على الكتاب العزيز(القرآن) والسنة النبوية الشريفة، وما بني على هذه القاعدة فهو الأكمل والأتم والجامع المانع .

إما التأثير فيكون على مستوى الأفراد.

التصوف والمدارس الصوفية مرا بأربع مراحل :

المرحلة الأولى: التنظير والتأسيس والتنظيم. (القرن الأول الهجري)

المرحلة الثانية: التثبيت والترسيخ القرنين (الثاني والثالث الهجري)، وهي المرحلة التي برز فيها التوجه نحو الآخرة والعزوف عن الدنيا.

المرحلة الثالثة: مرحلة الثبات و ملازمة العامة ومخاطبتهم بما يفهمون ( من القرن 4 هـ حتى 11 هـ ).

المرحلة الرابعة: مرحلة التجديد نحو العالمية بواسطة قواعد مختصرة ومفهومة.(القرن 12 هـ فما فوق )

إن المدارس الصوفية هي بنات عصرها وزمانها ، حيث نجدها دائما تلبس لباس العصر وتتكيف مع متغيراته . لكن المدارك والسبل والمناهج تختلف من مدرسة إلى أخرى وفق قاعدة الايجابية والإنتاج .

المدارس الصوفية : عالمية همها إسعاد البشرية والوصول بها إلى الله لأنها هي الامتداد للإسلام الروحي النقي، لكن القدرات والطاقات تختلف من مدرسة إلى أخرى.

المدارس الصوفية : علمية ، عملية ، بالحجة والمنطق والدليل ، مكسوة بكساء التسامح ، وتمتلك مخزون التغيير في كل مفاهيمها الذي بإمكانها أن تحدث به المطلوب في كل لحظة وحين إن رأت أن الأمة الإسلامية مهددة في دينها .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى