ضرورة التنظير إلى علم المبدأ للدكتور محمود حيدر
د. بتول قاسم
باحثة وأستاذة فلسفة العلم-العراق
سبق للأستاذ الدكتور محمود حيدر أن دعا إلى التأسيس إلى مشروع ثقافي وحضاري بديل للمشروع الثقافي الغربي الذي أفضى إلى الضلال المعرفي ورسخ سطوة النزعة الدنيوية على مجمل حداثة الغرب، فأصبحت دينًا لها بديلًا عن الدين . ويتمثل هذا المشروع بقيم بديلة تحرر الإنسان وتحترم عقله وذاته وتعمل على إسعاده، هي قيم الأمة الوارثة لخلافة الله الساعية إلى أن تتجلى أخلاق الله في الأرض. واستكمالًا لدعوته هذه يقدم الدكتور في محاضرة له من على منصة “المجمع الفلسفي العربي” فكرة تحدد بعض مفردات هذه الثقافة البديلة بالدعوة إلى ضرورة التنظير إلى (علم المبدأ).
في البدء يوضح: لم أستعمل الحرف( إلى ) بدلًا من الحرف (ل)، ويبين أن لهذا الاستعمال معنى هو أن هناك مسافة بين التنظير والعلم المرتجى، وأن التنظير يشكل الطريق التي تؤسس لعلم ما يزال في طور التشكُّل. ثم يذهب إلى أن هذه الدعوة محاولة لاستعادة ما هو منسيٌّ في عالم الفلسفة، وفتح الباب لتفكير يكون جديدًا في الميدان الفلسفي، وتأسيس منفسح من النقاش حول علم المبدأ لتكتمل مبانيه، ولضخ ما هو جديد في التقليد الفلسفي الذي عصفت به النمطية. فمنذ التأسيس للميتافيزيقا ساكنت الفلسفة السؤال الفلسفي مجرد السؤال أما الجواب فكان مستبعدًا، وكان العقل متردِّدًا وموضع شك لا يقدر على الإجابة، وكان الاكتفاء بالفلسفة بما هي سؤال محض لا يُنتظر له جواب. ينقسم العالم في التنظير الفلسفي إلى نومان وفينومان ولكن كان هناك نسيان للنومان وهو الوجود بذاته. الوحيد الذي تصدى لهذا الأمر ولم يستكمله هو سقراط، وعندما جاء أرسطو أعرض عن النومان وذهب إلى الفينومان، وكرس علم الظواهر بمقولاته العشر التي هي المباني التي استند إليها هذا العلم والتي أقامت سورًا محكمًا أمام العقل.
ولم يتحدث الفلاسفة الأوائل عن سر المبدأ الأول الذي صدرت عنه الموجودات إلا من حاول الجمع بين الوحي والفلسفة على طريقته . وكحال الفلاسفة الأوائل كان حال الفلاسفة في العصر الحديث الذين أرادوا اتخاذ مسار مفارق للفلسفة الكلاسيكية ولكنهم أكدوا مثل سابقيهم أن النومان سر مستغلق ومن المستحيل معرفة سره، فلا بد من الاهتمام بالظواهر التي تشي بما وراءها، فذهب هوسرل وهو يسعى لإخراج الفلسفة من معضلتها إلى إمكان التعرف إلى الشيء بذاته من خلال ظاهره ولكنه يستطع تجاوز المعضلة الكبرى. وهكذا استغرقت الفلسفة الحديثة بالتأمل في العقل الأدنى (الفينومين)، وحاولت أن تجدد نفسها في المابعديات التي لا تعكس نشاطًا إبداعيًّا بل أزمة وصلت إلى طريق مسدود، وأساسها نسيان النومان الجوهر المنفرد بذاته والمبدأ الأول وما أوجده هذا الموجود الأول. من هنا تأتي الدعوة إلى التنظير إلى علم المبدأ، وهي تحتاج إلى تأصيل المصطلح والمفهوم ولقد أعطاه كل فيلسوف تسمية حسب استشعاراتهم له فقالوا عنه أنه الموجود الأول الذي أوجده المبدئ لكي يكون نقطة انطلاق لكل الموجودات لذلك سمّي بالعقل الأول أو الخلق الأول أو الحق المخلوق به أو الكلمة كما يعبر اللَّاهوت المسيحي أو هو الكلمة التي عبرت عنها الآية الكريمة : “(إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون” (سورة يس ، الآية 82 ) ، وهو كنز موجود في علم الله وليس من عدم، يأتي من موجد هو الله واجد الوجود، إنه ظهور بالقول والأمر وهو أطاع الأمر وظهر.. مخلوق مطيع لخالقه ولكنه خالق في الوقت نفسه، موجود به كل الموجودات: كل عناصر الكون المادية صدرت عنه، هو حاو لكل العقول وإن الكون تمدد لهذا الموجود الأول الذي هو الكون كله، إنه نقطة بدأ منها الكون ثم تمددت الى هذه السعة . وهو الوسيط بين الله والعالم، هو توسطية لفهم الصلة بين التنزيه والتشبيه، فهم فعل الله في العالم، والتوسط أمر ضروري لعملية الخلق، لتوحيد الله والعالم فهو يشكل وحدة وجود محصورة بهذا الكائن الأول، ومعنى هذا أن كل حركة في دنيا الانسان حركة معتنى بها وليس كما قالت الفلسفة إن الانسان يدبر نفسه .
ما الداعي إلى التنظير في علم المبدأ وفتح النقاش حول النومينولوجيا ؟.. والإجابة: إنه اشتياق وشغف وجداني لعلم جديد يمنح الإنسان ماهيته المتسامية المتعالية، ومسعى الى استرجاع ما هو مفقود في الميتافيزيقا، واستكشاف المنسي والمغفول عنه من الوجود، ومحاولة لبث روح جديدة في القول الفلسفي . وهنا نتساءل: هل يمكن لهذا العقل الأداتي أن يتعرف إلى هذا المجهول ؟.. يذهب الدكتور محمود حيدر في الإجابة عن هذا السؤال إلى ضرورة التحرر من هذا العقل الذي نحمله لكي ننظر إلى الوجود من خلال العودة إلى الفطرة وإلى الأمية بمعنى إفراغ القلب من المعلومات المكتسبة التي تشكل حجابًا بينه وبين المعرفة لكي يتعلم العلم الوحياني أو علم المبدأ، فعلم المبدأ هو العودة إلى علم الفطرة المكنون في داخل الانسان أي العودة إلى أصل العلم الذي يفهم منه الوجود حق الفهم، والذي يتمدد حتى يصل إلى المعرفة التامة. وهي معرفة فائقة وغير نمطية لم تعرفها الفلسفة القبلية منذ نشأت وإلى عصر ما بعد الحداثة، فلم تلتفت هذه الفلسفة إلى أن الأذهان لم تطأ أرض الحقيقة بالاستدلال، وقيدت نفسها بالسؤال، فهي تسأل دائمًا في سلسلة متصلة لا متناهية من الأسئلة التي لا تلبي الحاجة ولا تروي الظمأ الوجودي إذ ارتبط وعيها بالمادة فلا جدوى من وجودها وهي لا تفضي إلى سعادة الإنسان. إن علم المبدأ يسعى لمجاوزة صرامة العقل الأدنى في فهم الوجود، الميتافيزيقا البعدية مجاوزة للميتافيزيقا القبلية وهي الحكمة. إن الحكمة هي التي تقدم الجواب لأنها تفارق حصرية السؤال، وهي تعتمد الحدس والكشف والإلهام والإشراق والعلم الحضوري أو العرفان كما يسميه ابن عربي، وبه يحصل التعرف على ما هو فائق ومتسامِ وخارج نطاق الأغراض الفانية وهو المبدئ الذي نتعرف منه على المبدأ . العقل الحضاري لم يتخلص من الانسداد الفكري للحضارة العلمانية الفينومينولوجية إذ لم يمتد ولم يصل إلى إمكانات العقل القدسي الذي ينبغي لنا أن نجري مصالحة بينه وبين عقلنا الأداتي لكي نؤسس لميتافيزيقا كونية جديدة تستطيع أن تجيبنا عن الموجود الأول فتحل لنا مشكلة علاقة الله بالعالم وهي مشكلة كبرى أخذت كثيرًا من اهتمام الفلسفة ولم تحسم . الميتافيزيقا الجديدة المرجوة لا تقطع صلتها بالميتافيزيقات القديمة، كذلك لا تتخلى عن العقل الأداتي الطبيعي فهو مركز الدائرة لكن عدم الاكتفاء بهذا العقل الذي حددته الفلسفة بالمقولات وبالحواس الخمس، فالعقل في أصل خلقته غير محدود وله امتدادات، ولكن الفلاسفة ركزوا على هندسة للعقل فيها قهر لطبيعة هذا العقل الذي له امتدادات تتجاوز تحديداتهم .
وأخيرًا، يدعو الدكتور محمود حيدر في سبيل التحقق من صدق النظريات الجديدة في علم المبدأ إلى المكابدة في التعرُّف باستمرار، وأن لا نتوقف إلى أن نصل إلى حيث يتبدد السؤال، فلا يمكننا أن نسأل في منطقة حجب شديدة الدقة والحساسية حيث لا نستطيع أن نتعدى حدودها، وهي منطقة التسليم الراضي الهانىء الذي هو ذروة الحكمة، فلا معنى للتطفل عندها، وهو أمر جوهري في نظرية المعرفة، وهي المعرفة العليا.