الدراسات والبحوث

سؤال المنهج، حوار متجدّد بين العلم والفلسفة الفترة الحديثة نموذجاً

خاليد الخطاط

سؤال المنهج، حوار متجدّد بين العلم والفلسفة الفترة الحديثة نموذجاً

خاليد الخطاط

الملخص:

إنّ المعقولية كمبدأ عامّ يحكم مجال الفكر النظريّ، لا يمكن تلمّسها بشكل معزول في مضامين العلم أو الفلسفة، وإنّما بالبحث في تمظهراتها المتجسّدة في مكونات النسق بأكمله. وعليه فإن السؤال عنها هو سؤال عن السمات العامة لهذا النسق. من هذا المنطلق يحاول هذا المقال تبيان بعض مظاهر العلاقة الجدليّة بين العلم والفلسفة بعد الثورة الكوبرنيكيّة، ومآلات سيرورة الفكر الفلسفيّ في ظلّ الحوار الموسوم بالتّأثير والتّأثر بين العلم والفلسفة.

الكلمات المفاتيحمعقولية، ثورة علمية، براديغم، علاقة الجدلية، منهج.

Abstract:

Intelligibility as a general principle that governs the field of theoretical thinking cannot be touched in isolation in the contents of science or philosophy, but rather by searching in its figurative manifestations in the components of the whole system. Therefore, the question about it is a question about the general characteristics of this system. From this point of view, this article attempts to show some aspects of the dialectical relationship between science and philosophy post the Copernican Revolution, and the culmination of the process of philosophical thought in the light of the dialogue marked by the influence and vulnerability between science and philosophy.

Keywords: Intelligibility, Scientific Revolution, Paradigm, Dialectical relationship, Method.

1- مقدّمة:

يبقى التّفكير الفلسفي مشروطا بوجود الإنسان ولصيقا به، سواء احتلّ موقع الفاعل بما هو ذات مفكّرة، أو موقع الموضوع بما هو غاية. فالفلسفة تبحث فيه من جهة أصله وطبيعته ووجوده ومصيره، ومختلف العلاقات التي تربطه بذاته وبالغير وبالمجتمع وبالعالم. فعلى هذا النّحو تحدّدت مهمّة الفلسفة حرصا على قيمة الإنسان.

ولـمّا كان الوجود الإنسانيّ وجودا تاريخيّا، كانت الفلسفة مدعوّة لمراجعة محاولات النّظر والتّأمّل في الإشكالات والقضايا والأطروحات التي يقدّمها الفلاسفة عبر مختلف لحظات الفكر التّاريخيّة. وفي هذا المضمار نُظِرَ إليها، ومن خلال تاريخها، على أنّها قادرة على اقتراح إمكانات ورؤى جديدة، توسّع آفاق الفكر، وتحرّره من قيود التّقليد والاجترار. ويَرْجِعُ ذلك إلى تبدّل السّياقات الفكرية والمُسَوِّغاتِ النّظريّة التي تضفي طابع المشروعيّة والاتّساق على كل المحاولات القائمة التي تبقى بدورها نسبيّة، تضمن صمودها بقدرتها على الاستجابة لما يُسْتَحْدَثُ من إشكالات. وهذا ما يفسّر حركة النقد والتجاوز التي يكشف عتها تاريخ الفلسفة. بهذا المعنى تقدّم الفلسفة نفسها، ومن خلال تاريخها، على أنّها حوار نقديّ متجدّد.

الواضح أن الفكر الإنسانيّ يتشكّل من سلسلة تطورات متّصلة الحلقات، تستتبع الواحدة منها الأخرى، بموجب منطق التّراكم: كل عصر جديد يرى أنّ سابقه لم يعد قادرا على تفسير الأشياء تفسيرا مقنعا، الأمر الذي يَفْرِضُ إعادة النّظر في المبادئ والمنطلقات، وفحصها لاستبدالها بأخرى أكثر قدرة على نسج نسق نظري جديد يقدّم نفسه كمعقولية جديدة.

لا يعني هذا المعطى أن الجديد انبنى بشكل منعزل عن ماضٍ معرفيّ نظريّ، بل إنه يتضمنه وينطلق منه لإعادة صياغة تصورات للعالم والغير والذات. فمنه يستمد عناصره الأوليّة التي تنمو حتى يبلغ أشدّه، ويرسم ملامحه واستقلاليته. وإذا كانت الفلسفة الحديثة تقدم نفسها بوصفها ثورة نظريّة على الفكر القديم والوسيط، فإنّها لم تظهر بموجب ما سلف بشكل فجائيّ، بل كانت حصيلة ظروف وأسباب وعواملَ تَأَتَّى لها البروز والتّأثير. إنها سليلة سيرورة تطوّرات حصلت طوال الفترة الواقعة ما بين مطلع القرن الخامس عشر للميلاد والقرن السّادس عشر، أي ما يصطلح عليه بعصر النهضة. وإذا وجدت المشكلات المطروحة حلّها في الذّات، فإن هذا الواقع الجديد بَشَّرَ بتحوّل إبستيمي مهمّ، تمثّل في الانتقال من منظومة الموضوع إلى منظومة الذّات. وهكذا فما كان يُشَكِّلُ مرجعا للذّات في المنظور الكوسمولوجي القديم، صار مرجعا لفهم الطبيعة وظواهرها، وتُوّج ذلك التحوّل بالمرور من منظومة الوجود إلى منظومة المعرفة.

2- التّداعيات النظرية للثّورة الكوبرنيكية:

شكّلت الطبيعة عند القدماء مرجعا للحقيقة، ونموذجا يُسْتَلْهَمُ في كل تنشئة خلقية سياسية. من هذا المنطلق نُظِرَ إلى الاجتماع البشريّ على أنه أمر طبيعي كفيل بأن تتحقَّق فيه الفضيلة الخلقية وكمالات الإنسان، ما دامت الطبيعة قد وهبت لكل واحد جملةً من الاستعدادات التي تحدد مرتبته ووظيفته داخل الجماعة السياسية. هكذا شكّل الكوسموس مبدأ للنّظريّة السياسية اليونانية التي منحت الأسبقية للكل على الجزء، وساهمت في تعطيل تبلور شّروط قيام نظرية سياسية قوامها الفرد بما هو منطلق الدولة وغايتها. وللوقوف على مختلف التحولات التي ساهمت في إنضاج البيئة النظرية لتشكل مفهوم الفرد، سنحاول تبيان بعض الأسباب والعوامل الإبستيمولوجيّة ذات الصلة بهذا التحول.

تشبّع المنظور الكوسمولوجيّ في العصور الوسطى بمعطيات دينيّة، أخصبته وألبسته لبوسا لاهوتيّا محافظة على جوهره. فأهمّ التعديلات التي يمكن الوقوف عندها في هذه الحقبة، تلك التي تهمّ تعويض فكرة الطّبع التّفاضلية بفكرة الإنسانية الواحدة خُلقيا: فالنّاس جميعهم من آدم، وآدم من تراب، والله خلق البشر كلّهم من نفس واحدة ثم خلق لها زوجا. فضلا على أنّ الخطاب الدّينيّ كان موجّها لكل واحد من حيث هو مستقلّ عن الآخرين في وجوده، فيمكن عدّه محركا إبستيمولوجيّا لفكرة الفرد التي يكون بموجبها كلّ واحد مسؤولا عن أفعاله. فالدّين جاء لينفي كلّ انصياع للآخرين وللأساطير.

لقد أدرك كلّ واحد، بموجب خطاب إلهي سماوي، أنّه فرد حر ذو إرادة يحاسب على اختياراتها وأفعالها. لقد أخذ الفرد في التّحرر من غايات الطّبيعة التي فرضت عليه. إنّ الغايات التي كان يَحْوِيهَا الكوسموس، صارت مبثوثة في الخطاب الدّيني كأوامر وَنَوَاهٍ على كل واحد التّقيّد بها، كي ينجو من الوعيد ويظفر بمفازه. وأبقى هذا الوضع الإنسان محكوما بحدود التّيولوجيا وخطاباتها المهيمنة.

لعب المعطى السّماوي دور المحرّك الإبستيمولوجي بإفرازه لإشكالات نظرية جديدة، من قبيل الفرد وخلق الإنسان والعالم. وبالرغم من ذلك، بقي التصور الكوسمولوجيّ صامدا في وجه الإحراجات الدينيّة، لأن الدّين السّماوي لم يكن بمقدوره خلخلة هذا التصور في أسسه الميتافيزيقيّة والعلميّة، ولأن القياس الأرسطيّ كان ملائمًا للتّعامل مع الكتب المقدّسة لاحتوائها حقائق كليّة صادقة بشكل مسبق، ولا تتطلّب سوى استنباط نتائج جزئية من خلال عملية القياس المنطقيّة. وهذه السّمة طبعت العصور الوسطى ووسمت مسار البحث عن الحقيقة وفقا لقواعد القياس الأرسطي.

شكل عصر النهضة حقبة أساسية شاهدة على توجيه بوصلة الاهتمام نحو الشؤون الدنيوية ومعرفة القوانين الناظمة لها. قد يُرَدُّ هذا التّحول إلى الاهتمام بالأشياء المادية الجزئية التي تتّخذها العلوم الطّبيعيّة الاختبارية مواضيع للدّراسة. ومهما يكن الأمر، فإنّ تطور العلوم الطبيعيّة لا يمكن ردّه إلى الرّصيد النّظريّ اليونانيّ وحده[1] أو إلى الاهتمام بالبعد العمليّ الحياتيّ، وإنّما هو ثمرة التقاء بين النّظرية والعمل. وهذا ما بصم عصر النهضة بتحول في طرق النظر وأسس التفكير، وجعله لحظة فارقة في تاريخ العلم. وإذا كان سؤال المنهج الذي أفرزته التّحولات الفكريّة والإبستيمولوجيّة، قد احتل صدارة النّقاش الإبستيمي بفعل الثورة الكوبرنيكيّة، فإن الغاية الثّاوية في ذلك كامنة في ضرورة تحرير البحث من المثال العلمي الاستنباطيّ الذي طبع الفلسفة المدرسيّة في العصور الوسطى. فالانطلاق من مقدّمات للوصول إلى نتيجة مّا، لا يعني أن هذه النّتيجة تقدّم نفسها كمعرفة جديدة، ما دامت موجودة ضمنيّا في المقدّمات، وتمّ استنباطها وَفْقاً لقواعد المنطق الصّوري وقوانينه، دون الحاجة إلى الرّجوع إلى عالم التّجربة الحسيّة أو الواقع المرئيّ، للتّأكد من صحّتها. وإذا كان العلم في عصر النّهضة يطلب معرفة جديدة كلّ الجدّة، فإن القياس الأرسطيّ لم يخدم هذه الغاية، لأنه لا يفيد في معرفة حقائق جديدة، ولا يصلح لمعرفة العالم الخارجيّ.

هكذا لم يكن ممكنا في العصور الوسطى دراسة الطّبيعة وظواهرها العلميّة بشكل مستقلّ عن التأثيرات الدّينية. هذا المطلب لم تتبلور شروطه النّظرية إلا بفعل اختمار الثورة العلميّة الّتي عرفها علم الفلك في القرن السادس عشر على يد نيكولاس كوبرنيكوس (1473م-1543م).  لقد أفضى هذا الوضع العلميّ إلى تغيير زوايا النّظر في فهم الوجود الإنسانيّ في مختلف أبعاده السّياسية والفنيّة والثّقافية…إلخ، كما يشهد على ذلك عصر النّهضة.

أنشأ كوبرنيكوس نموذجا فلكيّا مركزه الشّمس يتعارض مع النظام البطليمي الذي اتّخذ من الأرض مركزا له.  واعتبارا للتماسك والتوافق بين المعطى الدّيني والتّصور الكوسمولوجي الأرسطي، فإن نظرية كوبرنكوس ولّدت صراعا حول معايير الحقيقة، استمر طوال حقبة الإصلاح الديني وعصر النهضة. ولم تُشكّل اختبارا لادّعاءات الكنيسة والتصوّر الأرسطي البطليمي وحسب، بل أثارت ثورة في خبرة الحياة المباشرة. وهو الأمر الذي تُعزّزه دعوة كوبرنيكوس قرّاءه بأن يتخيلوا أنفسهم خارج المركز، وأن يلاحظوا العالم من منظور مختلف تماما. وهي دعوة تحمل تصورا جديدا كلّ الجدّة للبشريّة والعالم. إنها تخاطب الإنسان بوصفه ذاتا تنظر في ذاتها وفي العالم من وجهة نظر مختلفة تماما، وتطلق شرارة منظور تأمليّ انعكاسيّ، سيجد تأسيسه الميتافيزيقيّ والفلسفيّ عند ديكارت.

هكذا، لم تعد الأرض مركزا في النّظام الفلكيّ الجديد، وصارت كوكبا كباقي الكواكب. فبات الكون الجديد عالما مفتوحا مادّته واحدة، لا يعترف بأي تراتبية أو أفضليّة في الشّرف. إنّه مجال لتصادم القوى وفق قوانين الميكانيكا. فلم يعد الكون ينطوي على نموذج يمكن الاقتداء به في تربية الإنسان وإدارة المجتمع. ولم تبق الطّبيعة مرجعا قيميّا وأخلاقيّا وسياسيّا وتربويّا.

إن استبدال التصوّر الكوسمولوجيّ بتصوّر ميكانيكيّ قائل بتصارع القوى، وضع الإنسان أمام صعوبةِ قبول مجتمع تكون فيه القوّة أساسا للحقّ، ويكون فيه الإنسان مجرّد حيوان يعيش تحت تهديد الطّبيعة الخارجيّة وأفراد نوعه. لقد دعت الحاجة النّظرية إلى البحث عن أساس صلب قادر أن يكون في اللّحظة نفسها مرجعا نظريّا وعمليّا، لا يستلهم نموذجه من الطّبيعة الخارجيّة.

لقد وظّف الفلاسفة الحلّ الذي قدمه كوبرنيكوس في حلّ مشكلات ميتافيزيقيّة متمخّضة عن حركيّة الفكر، وانسداد الأفق أمام البراديغم الكلاسيكيّ. تمت العودة إلى الذات والارتداد إليها، ولم يكن الاهتمام منصبّا على موضوع الملاحظة فحسب. فالخلل الذي كان يُعتقد أنّه في الموضوع (الكواكب السيارة) مردّه الذات المتحركة، فحركة الشمس هي في الأصل حركة الملاحظ[2]. لقد وجدت المشكلات المطروحة حلّها في الذات إذا. فإذا كانت الذّات هي الملاحظُ فلكيّا، فإن دلالتها الفلسفيّة هي الذّات المفكرة القادرة على بناء حقيقة موضوعات المعرفة.

أفضت الثّورة الكوبرنيكيّة إلى تحطيم ثنائية العالميْن التي قامت على تشريف العالم الفوقي وتحقير العالم السّفلي[3]. لقد شكّلت مفتاحا لتوحيد العالم تحت قوانين واحدة. فمعها تبلورت رؤية جديدة اهتزّت فيها التّراتبية الطّبقية التي كانت تضع الناس مراتب ومنازل مختلفة بحسب قيمة الشّرف. لقد توارت المرجعية الكوسمولوجية لتفسح المجال للذّات، ولتعطي انطلاقة البحث عن دلالات جديدة للوجود والعالم، بعدما رُفِعتِ الرّعاية الإلهية عن الإنسان الذي كَفَّ عن الانبهار بالتناغم والانسجام، وبات يتمتّع بوعي ذاتيّ إيجابيّ، قوامه القدرة على فهم الطّبيعة والسّيطرة عليها.

أدرك الإنسان أنّه في مواجهة الطّبيعة دون أيّ حماية. إنه مسؤول عن أفعاله بعدما ٱسْتَنْفَدَتِ العقول المفارِقة والقوى الغيبيّة صلاحيتها النّظرية في النّسق الجديد. وأصبح كائنا لا يعدو أن يكون سوى نقطة صغيرة جدا في هذا العالم لا قيمة له فيه، اللهم كونه فردا حرّا مسؤولا عن أفعاله التي لا تصدر إلا عن إرادته الفردية، واعيا وعاقلا لذاته وللعالم. وهكذا تغيرت النظرة إلى العالم والكون والوجود، وتم ّالارتداد إلى الذات الذي ممّا فسح مجال التأمل في الإنسان ومفهومه.

زعزعت الكوبرنيكيّة كل التّصورات السّابقة عليها عندما بيّنت هشاشة أسسها. لقد فتحت المنجزات العلمية مع غاليلي(1564م/1642م) وآخرين المكان على اللاّتناهي، وتبيّن أن العالم شاسع جدا، إن لم يكن لا متناهيا. إن الدّلالة الهامة للكوبرنيكية تتمثل في كونها بيّنت أن حركة الشّمس الحسية ما هي إلا مجرد مظهر لحركة حقيقية هي حركة الأرض. إن دوران الشّمس هو دوران للأنا الملاحظ. يقول كانط: «عندما لم يفلح كوبرنيكوس في تفسير حركات السّماء بالتّسليم بأن كافة الكواكب تدور حول الملاحظ، حاول أن يبيّن ما إذا كان الّنجاح سيكون حليفه على نحو أفضل، إن هو حرّك الملاحظ»[4]، وهو الأمر الذي يقر به غاليلي بشكل صريح في مؤلفه حوار حول النّظامين الرئيسيين للكون، عندما اعتبر أن التّجارب التي يمكن إجراؤها على الأرض ستكون غير كافية لاستنتاج حركتها ومع ذلك فإن هذه الاستحالة لن تمنع من إثبات دوران الأرض.

يحيل هذا التّحول في صيغة المعالجة ومنطلقاتها على طريقة جديدة في إدراك الأشياء الحسّية، وفي تنظيم الموجودات وفق ثنائية الموضوع والذات: فالموضوعات تهمّ كلّ الأشياء ذات الصفات الكميّة القابلة للدّراسة والتفسير، والذّات بما هي مفكّرة قادرة على الاشتغال على الموضوعات ضمن نطاق العلم. لقد أصبحت للذّات سلطة على موضوعات العالم، وباتت لها إمكانية تكميمها وإعادة تنظيم وجودها وفق نماذج نظريّة وعلاقات رياضيّة جبريّة. وهو المطلب الذي ساهم فيه المنهج الفرضيّ الاستنباطيّ الذي تأسّس عليه النموذج الفيزيائيّ لغاليلي، حيث احتلت الفرضيّة مركزا أساسا في دورة الاشتغال العلمي. إنه يبدأ بالافتراضات، ثم ينتهي بإجراء التجارب والملاحظات التي تؤكد الافتراض أو تنفيه. والعالم في هذا النموذج يخلق التّجربة ويصنعها، لأن الطبيعة تحتاج إلى تدخل الـمُجرِّب لعزل الظّواهر ودراستها وتحديدها تحديدا كمِّيا ورياضيّا بغية صياغة القانون العامّ بلغة الرياضيات المحكمة.

هكذا، أصبح بمقدور العالم استنطاق الطّبيعة وترييضها. ويبقى النّموذج العلمي الفيزيائيّ الذي قاد غاليلي لبناء نظريّة سقوط الأجسام سقوطا حرّا في الفراغ، عاملا إبستيميا للأخذ بإمكانية التخيّل والافتراض أيضا، لامتناع القيام بالتّجربة والتّحقّق العينيّ من الفرضيّات. إن هذا المنظور الجديد لإعادة تنظيم العالم الطبيعيّ وظواهره العلميّة، فتح المجال أمام إمكانية التّفكير في خلق المجتمع من لدن الفلاسفة على شاكلة خلق العالم للتّجربة في انضباط تامّ لروح التّفكير الّتي طبعت نظريات العقد الاجتماعيّ.

لقد قادت التّحولات الفكريّة والعلميّة والإبستيميّة إلى ميلاد نمط جديد في التّعامل مع العالم وظواهره وَفْقَ أسس ومبادئَ مخالفة لما كانت السّكولائية تؤسس عليه تصوّراتها. ومن المبادئ الجوهريّة للفلسفة الحديثة، نذكر الاتّجاه الميكانيكيّ الذي يستند في نظرته لطبيعة الوجود إلى «فكرة أن كلّ ما يجري في الكون من حوادث، وكل ما يظهر فيه من ظواهر، إنما يتّصل بعضه ببعض اتّصالا عِلِّياً أعمى، وأن كل موجود لا يعدو أن يكون علّة لغيره أو معلولا له بهذا المعنى، كما هو مُشاهَدٌ في ظواهر العالم الطبيعي. وقد سمّيت النّظرية بهذا الاسم – أعني الميكانيكيّة – لأنها تفسّر جميع الصّلات التي ترتبط بها الأشياء تفسيرا يرجع بها في نهاية الأمر إلى قوانين الحركة، وعلم قوانين الحركة وهو علم الميكانيكا»[5]. وينبغي التنبيه هاهنا أن لفظة “الميكانيكيّ ” تستعمل لتشبيه العالم بآلة تسير دون تدخل عقلي أو أي توجيه. ويرى هذا المنظور أن أحداث العالم لا ترتبط فيما بينها إلا برباط السببية (La causalité)، وهو حال جميع الحركات الديناميكية التي تخضع لقانون الجاذبية.

إن الدلالة العلميّة للنزعة الميكانيكيّة، تجد مضمونها وأساسها في الفيزياء كما صاغها نيوتن (1642م -1727م) حيث «لم يكتف نيوتن بأن وحّد ميكانيك كبلر(1571م-1630م) وغاليلي وأكمله، بل بيّن أيضا أن حركات العالم الدّيناميكيّة يمكن أن توصف بعلاقات رياضيّة أساسيّة تصلح في أي مكان في هذا الكون، حتى لقد أعطت فائدة الرّياضيات المؤكدة هذه الفلسفة الطبيعية (كما كانت تسمّى الفيزياء آنذاك) أساسا نظريّا قائما بذاته لم يكن لها مثله من قبل قطّ»[6].

3- العلم ومطلب تجديد منهج الفلسفة:

يظهر تأثير علوم العصر الحديث في طريقة التناول الفلسفيّ للإشكالات مع هوبز (1588م-1679م). ولا شكّ في أنّ فلسفته الطبيعيّة تشهد على ذلك التّأثير القويّ: فالعالم عنده مؤلّف من جزئيّات ماديّة تتحرّك ميكانيكيّا. وهكذا كانت فلسفته محكومة بمرجعيّة ميكانيكيّة صرفة. لقد حاول أن يفهم المجتمع والسّياسة فهما عقليّا وعلميّا. إنه يرى أنّ الطّبيعة الإنسانيّة ثابتة لا تاريخيّة بشكل أساسيّ. وهو في دراسته للمجتمع لم يكتف بالمنهج الوصفي ولا بتعميمات قائمة على دراسة الأحداث الجزئيّة. لقد كان اختياره للمنهج مرتهنا بالقدرة على شرحٍ أعمق للظواهر الاجتماعية المعاشة.

لقد انطلق البحث الذي قام به هوبز لفهم المجتمع ومنطقه الوظيفيّ من الإنسان لتفسير المجتمع، وفي ذلك ارتداد إلى الأصل بتحليل المركّب وإرجاعه إلى ما هو بسيط ليُعاد تركيب الأجزاء من جديد. ونجد في كتابه حول المواطن (Du citoyen) مثالا شاهدا على ذلك حيث يستخدم الساعة للتّشبيه والشّرح. ففهم الكيفيّة التي تعمل بموجبها الساعة، تفرض تفكيكها ودراسة مكوناتها وخصائصها، وإعادة تجميع هذه الأجزاء على نحو يضمن للسّاعة العمل من جديد. بهذه الطريقة يتمّ الكشف عن الكيفيّة التي تربط بين أجزاء السّاعة لفهم ما السّاعة. وهذه الفكرة هي التي طبقها هوبز بطريقة مماثلة على المجتمع، وهي ما افتتح به مُؤَلَّفَهُ اللّيفيتان (Le Léviathan) قائلا: «إنّ الطبيعة (أي الفنَّ الذي صنع به الله العالم ويحكمه) يقلّدها فَنُّ الإنسان، كما يقلّد أشياء كثيرة أخرى، إلى حدّ إمكانية صنع حيوان اصطناعيّ. وبما أنّنا نرى أن الحياة ليست إلا حركة للأطراف تكمن بدايتها في قسم رئيسيّ مّا في داخلها، فلماذا لا يمكننا القول إنّ لكل الآلات (التي تتحرّك ذاتيّا بواسطة زنبركات[7] [نوابض] وعجلات كما تفعل الساعة) حياةً اصطناعية؟»[8].

إن القسمة التي يتحدّث عنها هوبز هاهنا، لا تعني قسمة واقعية، وإنما هي قسمة متخيّلة قائمة على منهج تفكيكيّ تركيبيّ. وهكذا، فإن المجتمع يُشرح على أساس أجزائه المكوّنة له والوظائف الرّابطة بينها. فالكلّ لا يُفْهَمُ إلا بأجزائه ووحداته الوظيفية. وهذا المعطى سمح لهوبز بتجاوز مستوى الملاحظة إلى ما هو أعمق. وعليه، فالعناصر المكوّنة للمجتمع هي كائنات بشريّة تتمتّع بالاستقلال الذاتي، يكمن هدفها الرّئيس في حفظ الذّات الّذي يفسر جميع رغبات الأفراد. والمجتمع هو تعبير عن اتّفاق بين أفراد أنانيّين، أملته الضّرورة والمصلحة. وبالمحصّلة يكون الفرد وطبيعته أساسا لشرح المجتمع. وإذا كانت فلسفة هوبز تُظهر بجلاء التّأثر بعلوم العصر، فإن الفلسفة الديكارتية تشكل أساسا ميتافيزيقيّا لعلم الفيزياء.

في كتاب “العالم “، يعضد ديكارت (1596م – 1650م) فلسفته بالفيزياء الحديثة قائلا: «كنت قد عزمت على أن أبعث إليك بكتابي “العالم Le Monde” في أعياد الميلاد هذه السّنة…غير أنّني سأخبرك أنّه وبينما كنت أبحث هذه الأيام عن كتاب “نسق العالم لغاليلي… أُخبِرتُ أنّه طُبع حقّا، غير أنّ كلّ النّسخ أُحرقت في روما، وأن صاحبه قد أُدين. وهذا ما أثار دهشتي إلى حدّ أنّه جعلني أقرّر حَرْقَ جميع أوراقي، أو على الأقلّ ألاّ أُطلع عليها أحدًا، وذلك لأنّني لم أكن أتخيّل أن يجرّم لا لشيء إلا لأنه يُثْبِتُ حركة الأرض… وإنّني لأعترف أنّه إذا كان هذا باطلا فإنّ كلّ أسس فلسفتي ستكون باطلة كذلك، لأنها تبرهن عليها، أي على حركة الأرض، بوضوح. إن هذه الأخيرة مرتبطة ارتباطا وثيقا بكل أجزاء رسالتي، بحيث لا أستطيع فصلها عن هذه الأجزاء دون أن يبقى الباقي مختلاّ. ولكن لـمّا كنت لا أريد أن يصدر عنّي خطاب توجد به أقل كلمة تستهجنها الكنيسة، فإنني أحببت أن ألغيه على أن أجعله يظهر ناقصا»[9].

من خلال هذا المقطع المهم نستشفّ العلاقة القويّة التي تجمع بين علم الفيزياء المنبثق عن الثورة الكوبرنيكية (النموذج الفيزيائي) والفلسفة الديكارتية. فحتى وإن امتنع ديكارت عن نشر كتابه “العالم” فإنّه بادر لإقامة أساس ميتافيزيقي للعلم الحديث بديلا لأساس البراديغم السّكولائي. ولهذه الغاية، يرى ديكارت أنّ التركيز ينبغي أن ينصبّ على مسار الفكر وطريقه وتكوّنه، فقبل أن نَتَوَجَّهَ إلى أيِّ موضوع نريد معرفته، علينا أن نركّز انتباهنا على فعل المعرفة نفسه. فالسؤال الهامّ هاهنا ليس هو: ما الموضوع الذي أعرفه؟ بل هو كيف أتوصل إلى معرفته؟

إن تأسيس فعل المعرفة هو مشروع كتاب “التأملات الميتافيزيقية Les Méditations métaphysiques“، فالحديث فيه لا يدور حول الفلسفة الثّانية كما هو الحال في كتاب “العالم أو بعض أجزاء كتاب “خطاب في المنهج Discours de la méthod ، بل يدور حول أساس هذه الفلسفة. وهذا الأساس هو الفلسفة الأولى التي يحاور فيها الفكر نفسه دون عودة إلى التّجربة أو إلى الآراء السائدة. ومن خلال هذا الحوار يسعى الفكر إلى إقامة الحقّ، أي ما هو صحيح، ليقدّم نفسه على أنّه معرفة تامّة يقينيّة، وهو الموقف الذي يأخذ به جان جاك روسو (1712م – 1778م) أيضا حين يقول: «فبعدما استعرضتُ مختلف الآراء التي أثارتني منذ ولادتي، وجدتها جميعها غير مقنعة على الفور وكلها قابلة للتّرجيح، وتوافقها مع وجداني يكون على درجات متفاوتة. وعلى أساس هذه الملاحظة الأولية، وبعد مقابلة الآراء المتعارضة مع بعضها البعض في إخراس تام للأحكام المسبقة، وجدت أن أولى الأفكار وأعمّها إلى الناس هي أبسطها وأقربها إلى العقل»[10].

إن المطلب السّابق لن يتحقق من دون إعادة النظر في المعرفة السّابقة فحسب، وإنما في أسس ومبادئ هذه المعرفة أيضا. بعبارة أخرى: ينبغي تأسيس العلم على مبادئ يقينية راسخة تقوم على التخلّص من جميع الآراء دون استثناء. والشك هو الأداة الأنسب لتحقيق ذلك. إنّ ما يميز الشكّ الدّيكارتي كونه شكّا منهجيّا إراديا، غايته تحريرُ الفكر من كل الأحكام السّابقة والآراء القائمة. كما أنه شكٌّ كونيٌّ لا يقف عند الآراء منفصلة، بل يقوّضها جميعها من خلال توظيف افتراضات كفرضية الله الضامن ليقين الأفكار الفطرية وفرضية الشيطان المارد الذي يخدع ويضلّل الذهن. لقد شك ديكارت في وجوده ووجود العالم، وهو ما لم يُشَكِّكْ فيه الشّكّاك أبدا، ليجد أساسا يقيم عليه العلم الجديد.

في بداية التّأمل الثّاني يصف ديكارت وضعيّة الفكر بعد الشّك الشامل. فيشبهها بوضعية من سقط في جبِّ ماء عميق، فلا هو ظلّ طافيا، ولا هو بلغ العمقَ، فيتّخذه ركيزة يضرب عليه برجليه ويدفع نفسه إلى السّطح. هنا يجد ديكارت ضرورة للبحث عن نقطة ارتكاز أرخميدية لبناء العلم بأكمله[11]، أي عن حقيقة أولى يقينية وثابتة. ونقطة الارتكاز هذه هي الكوجيطو[12]. وبالنتيجة أدّى الشك المنهجي إلى إثبات حقيقة أولى ألا وهي الأنا المفكّر. أمر ترتّب عنه الفصل بين الذّات والموضوع.

إن الإنسان بوصفه جسما لا يساوي شيئا بالقياس إلى امتداد العالم، لكنّ قيمته لا تتحدد بالحجم أو المقدار بما هي أحوال للامتداد، بل تقاس بالفكر. العالم امتداد قاصر وعاطل والإنسان عملاق بفكره وليس بامتداده. هكذا يتنحّى براديغم الموضوع ليحلّ محلّه براديغم الذّات الّذي جعل من الفرد المفكّر نقطة البداية الّتي ميّزت الأزمنة الحديثة[13]. هكذا جعل ديكارت من الذات نقطة بدء لإعادة خلق العالم[14]. وهذا الموقف الفلسفيّ نجد تأثيره حاضرا لدى روسّو، فقد وظّفه في مجال فلسفته العملية باحثا عن قاعدة ثابتة للسّلوك. يقول روسّو في هذا الباب: «بعد كل هذا لا فلسفة لي سوى حب الحقيقة ومنهج بقاعدة بسيطة سهلة تغنيني عن خوض جدال عقيم. وعلى هذا الأساس أعدت النظر في كل المعارف التي تهمني. فما اطمأن إليه قلبي دون تردد حسبته حقيقة بديهية، وما ترتب في نظري عن هذه الحقيقة حكمت عنه بالصحة، وما دون ذلك وضعته بين المنزلتين، لا أقره ولا أنفيه، بل دون أن أخوض فيه إذا كان لا يقود لأي منفعة عملية»[15].

يشهد تاريخ الفلسفة، وخصوصا السّياسية منها، على حقيقة العلاقة الجدليّة بين العلم والفلسفة. إذ يمكن القول إنّ المنهج الفلسفي الذي اتّبعه فلاسفة العقد الاجتماعي، بغضّ النّظر عن الاختلافات في مواقفهم، يبقى أكثر تمثيلا وتعبيرا للتّحول الابستيميّ المنهجيّ في تناول القضايا السّياسية وتأسيسها فلسفيّا. إنّ المنحى الذي طبع البحث في أسس المجتمع في الفترة الحديثة مُسْتَمَدٌّ من النّموذج العلمي الذي أسست له الثورة الكوبرنيكية وعلم الفيزياء الغالّيليّة والميتافيزيقا الديكارتيّة. إذ نجد أن مفهوم حالة الطبيعة شكلت حلاّ واضحا لهذا التّحول. فبات معه فلاسفة العقد الاجتماعي يُجمعون على أنّ حالة الطبيعة ليست هي الحالة البدائيّة التي وُجِدَ عليها البشر أول أمرهم. إنها مجرّد تسويغ فلسفيّ يحتاجه الفيلسوف لفهم حالة المجتمع القائم منظورا له كحالة اصطناعيّة حاصلة، يصعب استنباط منطق تشكّلها على نحو يسير. فروسّو مثلا، يرى أنه «ليس بالعمل الهين أن نفرز بين ما هو أصلي وما هو اصطناعي في طبيعة الإنسان الحاليّة، ولا من السّهل أن نعرف حقّ المعرفة حالة لم تعد توجد، وربما لم توجد قط، ومن المحتمل ألا توجد أبدا؛ ومع ذلك ضروري أن تحصل لنا عنها أفكار صحيحة حتى نحسن الحكم في حالتنا الحاضرة»[16]. هكذا، تكون حالة الطبيعة غير مخصوصة بأي حقبة تاريخية، فهي مفهوم مجرّد يسمح للفكر بالتكوّن والبناء والانتظام.

4- خاتمة:

مكنت التّحوّلات النّظرية الإنسان من تغيير نظرته إلى العالم الذي شكّل بالنّسبة إليه معيارا للمعرفة وإطارا موضوعيا لوجوده. فالنظرة الجديدة الّتي باتت تنظّم علاقة العقل العلمي بموضوعات العالم الطبيعي اللاّمتناهي، فرضت تغيير المنطلقات والمرجعات ومراكز الاهتمام لحظة تأمّل علاقة الإنسان بذاته أو بالغير أو بالعالم. لقد حول العقل اهتمامه بالأنطولوجيا وبالثيولوجيا التي وسمت العصر الوسيط إلى مجال الإنسان في مختلف أبعاده السياسية والأخلاقية والثقافية بفعل ما مارسه العلم من تأثير وما أبان عنه منهجه من فعاليّة. فعلى سبيل المثال لم يعدْ يُنْظَرُ إلى المجتمع على أنّه معطى طبيعيّ ثابت، إنّه موضوع يمكن خلقه وتكوينه من جديد ليصير نتيجة بعدما كان منطلقا. وهو ما يمكن اعتباره وجها من وجوه التّداعيات النّظرية والفلسفيّة للثّورة الكوبرنيكية في مختلف مباحث الفلسفة وموضوعاتها.

في مقابل هذا التأثير الّذي مارسه العلم على الفلسفة، نجد تأثيرا في الاتجاه المعاكس يتجلى في الاستجابة لمطلب التأسيس الميتافيزيقي للعلم الحديث، في ظل إخفاق الأسس الميتافيزيقية الأرسطية في تقديم إجابات فلسفية متسقة لإشكالية الملاحظ، ما جعل العلم في حاجة إلى أسس ميتافيزيقية جديدة قادرة على حلّ هذه الإشكالية الّتي وجدت خلاصها في مفهوم الذّات الذي أسسه ديكارت وجعل به إمكانية المعرفة ممكنة. وعليه، اٌعْتُبِرَ مفهوم الذّات نقطة ارتكاز جديدة في النسق النظري الحديث. فبموجبه صار يُنْظَرُ إلى الكائن الإنساني على أنّه ذات مفكّرة حرة، قادرة على أن تفكّر وتقدّر وتحكم وتقوم بعيدا عن أي تأثير خارجيّ، إنّها تسمع لصوت الأنا المفكر. هذا المفهوم الجديد شكّل الشّرط اللازم لتأسيس المجال العملي على تصورات محمولة عن الإنسان بعيدا عن النظرة السّتاتيكيّة العابثة بماضيه المتخذة من التفسير المكاني مرجعا لها على حساب كل تّفسير زماني يجعل من المنهج التَّكوينيِ حائزا على ضرورته الإبستيمولوجية.

ما كان لنظريّة المجتمع والسياسة إذا، أن تكون مؤسّسة في العصر الكلاسيكي على أي معطى تكوينيّ زماني، يفسّر الحاضر بالماضي ويرجعه إلى أصله في ظل تصوّر يحدّد غاية الإنسان ووظيفته من خلال الموقع الذي يشغله داخل النّظام ومن خلال تصارع القوى بداخله. وعلى هذا النحو، وفي سياق حوار العلم والفلسفة، أصبح العلم النّظريّ وسيلة لتغيير العالم والسّيطرة والهيمنة عليه. ويمكن إرجاع هذه الرغبة إلى أمرين اثنين على الأقل: فكرة إمكانية إعادة خلق العالِمِ للعالم من خلال عزل الظاهرة والإبقاء على الأسباب والعلل المباشرة لوقوعها، وهي فكرة تحيل على إمكانية وقوع التّجربة وتكرارها، وفكرة قدرة الذّات المفكرة على بناء حقيقة موضوع المعرفة، وهي فكرة مرتبطة بإمكانية تنظيم وضبط مسار التجربة. هذه الذّات التي باتت قادرة على سبر أغوار الكون والكشف على قوانينه، هي الذّات نفسها التي أصبحت مستقلّة عن الإله والعالم الموضوعيّ، وباتت مصدرا لكل تشريع أرضيّ، مادامت واقعة الفكر واقعة أساسية تعبر عن جوهرها المفكر. فالذات هي التي تنطلق من تحديد أصل موضوع المعرفة، علميا أكان أم فلسفيا، لرسم مسارات البحث فيه وضوابطه وممكناته وحدوده وكشف طبيعته. هكذا، فكما تجددت أسئلة العلم بتجدّد منهجه، تجدّدت معها إشكالات الفلسفة وسبل معالجتها في انضباط تامّ لمبدأ المعقولية العام الذي يحكم مسارات اشتغال العقل سواء في العلم أو الفلسفة.

المصادر والمراجع:

العربية:

  • روسّو (جان جاك)،خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، ترجمة بولس غانم، تدقيق وتعليق وتقديم عبد العزيز لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2009.
  • كوليه (أزفلد)،المدخل إلى الفلسفة، ترجمة وتعليق أبي العلا عفيفي، أقلام عربية للنشر والتوزيع، القاهرة2017.
  • متز(لويد) وويفر (جيفرسون هين)،قصة الفيزياء، ترجمة طاهر تربدار ووائل الأتاسي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط.2، دمشق 1999.
  • هوبز( توماس)،الليفيتان أو الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حبيب حرب وبشرى صعب، مراجعة وتقدي رضوان السيد، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ودار الفارابي، بيروت2011.

الأجنبية:

  • Descartes (René), Discours de la méthode, GF Flammarion, Paris 1992.
  • Kant (Emmanuel),Critique de la raison pure, Trad. E. Renaut, Flammarion GF, Paris 2006.
  • Pascal (Blaise), Pensées, Edition Brunch, Seuil collection intégrale, Paris 1963.
  • Rousseau (Jean-Jacques), Émile ou de l’éducation, Présentation et notes par André Charrak Éditions, Flammarion, Paris, 2009.

[1]– شكلت الفلسفة الأفلاطونية الجديدة الواقعية التصورية الخاصة بالرياضيات مرجعية أساسية للعلوم. كما هو الأمر بالنسبة لنيكولا الكوزائي (1401م – 1464م) في أوائل عصر النهضة، ومن بعده كوبرنيكوس وكيلر.

[2]– إن صدور كتاب كوبرنيكوس في ثورة الأفلاك السماوية De Revolutionibus Orbium Celestium سنة 1543م، وهو تاريخ موت كوبرنيكوس نفسه، سيشكّل ثورة حقيقيّة في تاريخ علم الفلك، ليس لأنّه جاء بنظريّة جديدة تضاهي النظرية الأرسطيّة فقط، بل لأنه كذلك خلخل الأسس الميتافيزيقية للعلم، وخرج عن الوصاية التي كانت تفرضها الكنيسة على الحقل العلميّ والفلسفيّ، فالفرضيّة الجديدة التي أخرجت الأرض من مركزيّتها وجعلتها تتحرّك مع حركة باقي الكواكب، وأحلّت الشّمس مركز الكون، جعلت المهتمّين بالحقل العلميّ يعيدون النّظر في النظريّة التقليديّة (الأرسطو- بطليميّة) خصوصا وأننا أصبحنا أمام نظريتين متناقضتين، بل ومتعادلتين من حيث الحجج، وخصوصا تلك التي سيقدمها فيما بعد غاليلي (1564م/1642م) باكتشافاته الجديدة، ففكرة الذّات الملاحِظة مع كوبرنيكوس ستعيد الاعتبار للذّات بعدما كان التركيز من قبل منحصرا في الموضوع، (ولعل هذه العودة إلى الذّات هي مُلهمة ديكارت في منهجه الجديد، منهج الشكّ العقلانيّ، أو الشكّ المنهجي)، بمعنى أن السّبب في عدم إدراكنا لحركة الأرض مع أرسطو، هو أنّنا نوجد عليها ونتحرك مع حركتها، وبالتالي يتعذر على الملاحظ إدراك حركتها، إذن لنُخرِج الذّات من مركزيتها حتى تدرك حركة الأرض. وهذا المعطى ذكره إيمانويل كانط (1724م/1804م) في مؤلفه نقد العقل الخالص مؤكدا دور ذات الملاحظ في خلخلة أسس الفيزياء الحديثة وصياغة قانون الجاذبية بعدما افترض كوبرنيكوس أنّ الكواكب المتحيرة بأكملها تدور حول الملاحظ الثابت. انظر:

Kant, Critique de la raison pure, trad. E. Renaut, Flammarion GF, Paris, 2006, p.78.

[3]– حقق غاليلي اكتشافا مهما. فبواسطة التلسكوب (Télescope) الذي صنعه، شاهد جبالا ووديانا على القمر. وكانت النتيجة هي التّوصل إلى أن القمر ليس بالكرة الكاملة كما ساد في الاعتقاد السّابق. كما اكتشف أن الكوكب فينوس/الزهرة (Vénus) لم مظاهر تشبه وجوه القمر.

[4]-Kant, Critique de la raison pure, trad. E. Renaut, Op.cit. p.78.

[5]– أزفلد كوليه، المدخل إلى الفلسفة، ترجمة وتعليق أبي العلا عفيفي، أقلام عربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017، ص240.

[6]– لويد متز وجيفرسون هين ويفر، قصة الفيزياء، ترجمة طاهر تربدار ووائل الأتاسي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط.2، دمشق،1999، ص60-61.

[7]– اَلزُّنْبُرُكُ شريط من الفولاذ طويل مقوَّس يُلَفُّ على محور الساعة ونحوها، فاذا انبسط حرَّكَ دَوَاليبَها، فهو يستخدم في النَّوابض الذَّاتيّة الحركة أو الدَّفع، ذو عدّة طبقات من الشَّرائط المعدنيّة المرنة المجمَّعة؛ لتعمل كوحدة واحدة.

[8]– توماس هوبز، الليفيتان أو الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حبيب حرب وبشرى صعب، مراجعة وتقديم رضوان السيد، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ودار الفارابي، بيروت،2011، ص17.

[9]-Descartes, Discours de la méthode, Flammarion GF, Paris, 1992, p. 245-246.

[10]– Jean-Jacques Rousseau, Émile ou de l’éducation, présentation et notes par André Charrak, Éditions Flammarion, Paris, 2009, p. 386.

[11]– أدرك أرخميدس (287ق.م-212ق.م) أنه من الممكن نظريا تحريك الأرض بواسطة رافعة إن توفرت نقطة ارتكاز ثابتة.

[12]– الكوجيطو(Cogito) فكر محض، مهمته الوحيدة هي التفكير. وكونه جوهرا يعني أنه مكتف بذاته. ويمكنه أن يؤدي مهمته حتى لو لم يوجد الجسم. فالجسم مجرد امتداد، والامتداد لا يفكر. الأنا المفكر نقطة ارتكاز هامة جديدة للعلم والفلسفة، بعد أن اتضح أن الأرض ليست نقطة ارتكاز ما دامت تتحرك. وبحركتها يسقط أساس المعرفة المطلقة. فلا مجال هنا لتعريف الإنسان على أنه حيوان عاقل، فالحياة خصيصة الجسم، والجسم ليس ثابتا ما دامت الأرض التي يقف عليها تجوب الفضاء. لا وجود لنقطة ارتكاز مادية نستند عليها. فنقطة الارتكاز الوحيدة الممكنة هي الفكر. وماهية الفكر تكمن في فعل التفكير فحسب. إنه متمايز عن موضوعاته، ذلك أن أفكاره ليست نسخا للأشياء وانطباعات عنها. فللأفكار واقعها الموضوعيّ والدليل على ذلك، أنّ الفكر لا يستطيع أن يبدل فيها ويجعلها غير ما هي عليه.

[13]– يقول باسكال مؤكدا هذا الموقف: «إن الفكر يصنع عظمة الإنسان. وما الإنسان إلا قطعة قصب، وهي أضعف ما في الطبيعة، غير أنه قطعة قصب تفكر. لا يلزم أن يتسلح العالم بكامله لسحقه، إذ أن بخارا أو قطرة ماء تكفي لقتله. ولكن حتى عندما يهشمه العالم، فإن الإنسان يبقى أنبل ممن يقتله، لأنه يعلم أنه يموت وأن العالم يغلبه، أما العالم فلا يعرف شيئا عن ذلك».

Blaise Pascal, Pensées, Edition Brunch, Seuil collection intégrale, Paris, 1963, p .346-347.

[14]– لعب المنهج التكويني دورا هاما في إعادة تشكيل الظواهر العلمية بهدف الكشف عن قوانينها، وهو المنهج الذي وجه روسو في الإجابة على سؤال: ما الإنسان؟ الذي شكل الموضوع الرئيس لمؤلف خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر. يقول روسو بهذا الخصوص: «لنبدأ، إذا، بإزاحة جميع الوقائع فهي لا تمت البتة بصلة للمسألة». جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر. ترجمة بولس غانم. تدقيق وتعليق وتقديم عبد العزيز لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، ص 66.

[15]– Jean-Jacques Rousseau, Émile ou de l’éducation, Op.cit., p.387.

[16]– جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، مصدر سابق، ص، 54.

______________________

*نقلًا عن ” مركز نقد وتنوير للدراسات الإنسانية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى