الدراسات والبحوث

“أرضُ الزِّئبق” لنعيم تلحوق معناكَ هناكَ في أرضِ الذهبِ المصفَّى

د. محمود حيدر

“أرضُ الزِّئبق” لنعيم تلحوق معناكَ هناكَ في أرضِ الذهبِ المصفَّى

د. محمود حيدر

مفكِّر وباحث في الفلسفة والإلهيَّات- لبنان.

 

 

لمَّا عاينتُ “أرض الزئبق” من أطرافها، لاَحَ ليِ تَسآلُ عمَّا دهاكَ فحمَلكَ إلى تلك الأرضِ الموحشةِ على سابقِ وعيْ. منذ أوائل كلماتكِ تساءلتُ: لماذا أراني أراكَ تهمُّ الاختياضَ في لُجَّة الزئبقِ، ولا تخشى التلاشي في أبديَّةٍ مسكونةٍ بالعتم؟.

درتُ مع كتابكَ غيرَ دورة. وكنت كلَّما قرأتُ تضاعَفَتْ حَيْرتي إن كان عليَّ أن أمضيَ معك في أرض الزئبق، أم أرى إليها من بعيد. لكنَّ المسافةَ ما لبثت أن طُويت. وأيقنتُ أن لا مناص من مصاحبتكَ ولو في الأمر خطبٌ جللْ.

دلَّ ما ألفتني وأنت تجوبُ أرضكَ الجديدة، أنَّك، أكثرتَ في طلب المعنى حتى امتلأتَ به وامتلأ بك. قلتُ إنَّ بالمعنى الحياةَ كلَّها، وإنَّ بالحياة سرّاً آخرَ لا يعرفه إلاَّ الأتقياء. ولأنَّك شغوفٌّ بالتقوى فلم تُرِدها عن طريق النبأ الذي تَنَزَّل على الناس من وراءِ حجاب. وهذا لَعَمري ممَّا للمألوفِ الذي ألِفتَه من قوَّةٍ وسلطان. قلتُ لا بأس من توسَّل المعنى أيَّاً يكُن لونُه وصبغتُه. المهمُّ أن تجدَ مسلكاً إليه ولو شَقَّ عليك. فإنَّك لو حصَّلتَهُ نجوتَ بنفسكَ، وطابق اسمُكَ مُسمَّاكَ المسمَّى وصرتَ نعيماً في عرشك. ولمَّا أن اتَّخذتَ من الكلمات الثِّقال دُرْبةً في المخاطرة. قلتَ في سرِّك: لا ينبغي أن أخشى ممَّا أُبْديهِ من قولٍ غريبٍ لا تألَفُهُ الأذهان، فإنَّ كلَّ مألوفٍ ومقبولٍ اليومَ كان بالأمسِ غريباً.

*     *     *

أخالُك وقد بحثتَ عن المعنى لتعثُرَ عليه، إلاَّ أنَّك لم تعثُرْ عليه إلى الحدِّ الذي يمنحُكَ هدأةَ الصدر. وإذَّاك، صار حالُكَ كحالِ المُعلَّقِ بين أرضٍ وسماءٍ لا عمادَ لها. فما سؤالُك: “لماذا تركتَ المعنى خلفكَ من دون أيَّةِ دلالةٍ تشير إلى معناكْ” إلاَّ لتُعربَ عمَّا استغلقَ جوابُهُ عليك. حتَّى لكأنّي بكَ وقد تراءَيت لي وسْطَ فراغٍ عجيب.

 

 

والفراغُ العجيبُ هو الذي لا يصلُهُ إلاَّ الأقلَّونَ ممَّن كابدوا أرضَ الزِّئبق. وهو كهفُكَ الممتلئُ قلقاً وخوفاً ورجاءْ. إنَّه شغبٌ نادرٌ في معركة المعنى. الخائضُ في لجَّته محمولٌ على الظنِّ، أنَّ السؤالَ المُستَنْبَتَ من حجَّةِ العقلِ كفيلٌ بجعلِنا ننحني لظهورِ الحقيقة. لكنْ الظانُّ إيَّاهُ، كثيراً ما يغفلَ عن أمرٍ يؤيِّده العقلُ، وهو أنَّ السؤالَ الذي اُتُخِذَ سلاحَاً أوحَدَ لنيلِ الحقيقةِ المُدَّعاة، سوف يُمسي مع الزمنِ داءً لا شفاءَ منه. كلَّما انتهى من سؤالٍ ابتدأ بآخر. حتى ليصير الخائضُ في اللُّجَّةِ كالظَّمآنِ المضطرِّ لماءِ البحرِ كلَّما ارتوى ازداد عطشاً. وإنّي لأزعمُ أنَّك وأنتَ تهمُّ الاحتراثَ في أرضِ الزئبقِ أدركتَ أنَّ “الفراغ العجيب” هلعٌ وتهيُّب ومتعة. من هنا جرأتُكَ على الخوضِ فيه لعلَّكَ تلتمسُ ما تيسَّر لكَ من عجائبيَّتهِ وفتنتهْ.. هنالك لا استشعارَ للمكانِ ولا للزمانِ، حتى ليخالُ الذي هو ساكنٌ فيه كأنَّه في تيهٍ لا مُمْسِكَ له، أو لكأنَّه شيءٌ محاطٌ باللاَّشيء. فهو غريبٌ في أرضهِ. ولا يجدُ ما يؤنسهُ في غربتهِ سوى علاماتِ استفهامٍ لا جوابَ عليها. حتى لقد بدا كمثْلِ واقفٍ بقدمينِ مهزوزتينِ يوشكُ على السقوطِ من منحدرٍ شاهقْ.

المُمتَحنُ في ابتلاءاتِ المعنى كأنتَ يا صاحبي يستشعرُ في نفسه ضدَّين يتنازعانِ بلا هوادة: ضدٌّ يصرُفه عن الامتلاءِ ليبقيه في بئرٍ دهريَّةٍ بلا ماءٍ، وضدٌّ يتطلَّع إلى الانعتاقِ ولا يجد إلى ذلك سبيلاً.. ولولا أن بقيَ للمُمتحنِ حظُّ من عقلٍ ورجاءٍ لمكثَ في بطنِ الظُّلمةِ أبداً. ولمَّا أن شقَّ عليكَ تحصيلُ المعنى مِلتَ إلى الجسد لعلَّ في حسن بدوته وسحر إغوائه ما يأتيك بمعنى. إلاَّ أنك لم تتلبَّث إلاَّ قليلاً، حتى ترجع القهقرى إلى ما أنتَ فيه من أسئلةٍ لا هوادةَ فيها ولا استجابةْ.

*     *     *

في أرضِ الزئبقِ التي استدعيْتَنا إليها، يظلُّ الواحدُ منَّا يسألُ حتى يتبدَّد السؤال.. وحين يصلُ إلى تلك المنطقةِ من الفراغِ العجيبِ يجدُ نفسه على الحافَّة: إمَّا أن يتطيَّرَ ويسقطَ في لُجَّةِ العدم، وإمَّا أن يغمرَهُ الأنسُ الأتُّمُ ويعودَ الكونُ كلُّه على كَثرتهِ وكَدَرهِ حضرةً رحمانيّةً واحدةْ …

ماذا لو مضينا معاً أنتَ وأنا من أرض الفراغِ العجيبِ إلى أرضِ الذهبِ المصفَّى حيث لا عينٌ رأتْ ولا أُذُنٌ بلَغَهَا نبأ.؟

هنالك يا صديقي سيتهيَّأ للداخل إليها كما لو أنَّ يداً قدسيَّة امتدَّت نحوَهُ وتلطَّفتْ عليه بالأمانِ وسعةِ الصدر. ولو تنبَّه المتهيِّءُ إلى هذا “التأتِّي اللَّطفانيِّ” النَّازلِ عليه من الامتلاءِ المحضِ، لساءَلَ نفسَهُ عمَّا ينبغي له أن يردَّ الجميلَ بالجميلِ، واللُّطفَ باللُّطفْ. لكنَّ الأرضَ هنا غيرُ الأرضِ هنالك. هنا لا شيء أمامَكَ إلاَّ التلقِّي بصبرٍ وصمت. التأتِّي اللُّطفانيُّ بهذه الصورةِ غالباً ما يتدفَّقُ من دون حسبانٍ على الناجين من أغلالِ الفراغِ العجيب. ولذلك، فهو تدفُّقٌ مفاجئٌ يثيرُ مشاعرَ متضادَّةً تُراوحُ بين الدهشةِ والحبورِ والتهيُّب. وعلى الرَّغمِ من الفجْأةِ التي غمرَتْهُ برهبتِها، لا يجدُ الناجي غرابةً في ما حلَّ فيه. فما تؤتيهِ اليدُ القدسيَّةُ ينبسطُ على غيرِ صورة. حيناً على هيئةِ عقلٍ هادٍ، وحيناً كأمرٍ قدسيٍّ يمدُّه بالمسرَّةِ، وثالثاً على صورة روحٍ كليِّ العطاءِ ينفقُ من غير مِنَّة.

*     *     *

يوشك صاحبُ الحظِّ الذي جاوز أرضَ “الفراغ العجيب” أن يتعرَّض إلى جذبٍ غيرِ عاديٍّ، هو ضربٌ من استشعارٍ خاطفٍ بلذَّةِ الامتلاءِ بالمعنى. معه يتبدَّد كلّْ سؤالٍ مميتٍ، لينبعثَ من بعدهِ كلُّ تساؤلٍ حيّْ.

حين يكشفُ الجاذبُ القدسيُّ عن معناهُ، لا يعودُ للسؤالِ عن سرِّ المعنى آنئذٍ مِن نفع. فلا لزومَ لإشغال الفكر باستفهاماتٍ قد تودّي بصاحبها إلى الاغتمامْ. فمن أدركَ سرَّ الاندهاشِ العجيبِ إدراكَ عيشٍ ومُعاينةٍ، لا يعبأَ إن كان قد تعقّلَ السرَّ بالحجَّةِ والاستدلالْ. فقد وصلَهُ الدليلُ بالمعاينةِ لا بالخبرِ المَشوبِ بالشكّْ. فإنَّ من عاشَ السرَّ لا يَعُودُ يهمُّهُ التعرُّفُ على صفاتهِ وآثارِه، فقد بات يعرف ما لا يطيقُ معرفتهُ أكثرُ أهلِ النُدرة.

ثمَّ بعد هنيهةٍ قد يطرقُ سمْعَك مُنادٍ يناديك: لا تُرهق نفسكَ بما ظننتَ أنَّك وأصلُهُ ولمَّا تصلْ إليه. الباحثونَ عن المعنى من قبلكَ مضَوا في الضلالِ، ثمَّ تاهوا في أرضِ الكلماتِ الفانيةِ حتى غًشِيتْ أعيُنُهم عن الأبصار. ثمَّ سيقولُ لك: إمضِ بعيداً في ما لا سبيلَ إلى فهمِ سرِّهِ الرهيب. ولا تخشَ العتمةَ ولو تملَّككَ الرَّهَبُ الأكبر، وكن دائماً بمفردكَ، ولو أعرض عنك المؤنسون.

إذن، لا تبحث عن المعنى وأنت على حالكَ هذا، ستقولُ للذي أنبأك السرَّ: وكيف أراهُ؟: سيجيبك: معناكَ في نفسكِ التي بين جناحيك. فلو استترتَ عنها أو سترْتَها أقمتَ أبداً في الجهل. فلو عرفتَ ما أنتَ عليه عرفتَ معنايَ، ولو عرفتني ما عدتَ تسألُ عن معناك. قدرُكَ حتى تمسي معي أن تكون بلا معنىً أنت تريدُه. فما أنتَ تريدُه لا يكفيكَ، ثمَّ إنك لن تراني حتى تخلعَ نعليكَ: معناكَ وأناكْ. فلو فعلتَ فهي أول الانتباه، وأول الانتباهِ أنك طرقتَ بابَ السرِّ، فإذا فُتِح لكَ انقشعتْ لناظريكَ الغوامضُ، وانفسحتْ لبصيرتكِ الأمداءُ وتوسَّع صدرُكَ من بعدِ ضيقٍ.. ثمَّ من بعدِ ذلك سترى ما لن يكون لكَ أن تراهُ من قبل: إنكَ لتنظرُ إلى الكون كلِّه بعينِ النقصِ، وترى معنى الوجودِ بأمِّ العين.

الآن، وأنتَ توشكُ على مفارقة أرض الزئبق، ماذا لو تزاورنا في عالم الخيالِ ما سمَّاه العارفُ الواصلُ أرضَ الحقيقةِ الهانئةِ بإشراقاتِ المعنى: سيقول لك القدسيُّ: أنت معنى الكون، معناكَ أقوى من الأرضِ والسماء. تبصر بلا طَرْفٍ وتسمعُ بلا سمعٍ. هنالك لا تسكنُ الديارَ ولا تأكلُ الثمارَ. معناكَ هنالكَ لا تحيطُ به الألبابُ ولا تتعلَّق به الأسبابْ. وقال: لا يعرفُ معنايَ الحرفُ، ولا أُعرفُ بالحرفِ، ولا تعرفُ نفسك بالحرفْ. فإنَّ الحرفَ حجابٌ، وإنَّ الحجابَ حرفٌ. وقال: قف لي، أنت جسري إليك.

_________________________________________

* نص الكلمة التي ألقيت خلال اللقاء الفكري حول كتاب “أرض الزئبق” للشاعر نعيم تلحوق في قاعة جريدة “السفير” بدعوة من مؤسسة  “تحوُّلات” بتاريخ الجمعة 18-11-2022.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى