الدراسات والبحوث

“ سِفر الحب”: رؤى فلسفية بسرد أدبي

سِفر الحب”: رؤى فلسفية بسرد أدبي

د بهاء درويش[1]

سعدت سعادة غامرة أن أتلقى دعوة من الكاتب المتميز د محروس عامر رئيس مجلس إدارة جريدة كنوز عربية للمشاركة في الحديث عن أحد إصداراته وهو كتاب “ سِفر الحب” الذي يضم نصوصاً أدبية. ولأن بدايتي مع رحلة القلم كانت من خلال كتابة القصة القصيرة فلم أستطع أن أرد هذه الدعوة، إذ أن بيني وبين الأدب من الحنين والحميمية ما يمنعاني من الرفض. السبب الثاني هو رغبتي الدائمة في بيان الصلة الوثيقة بين الفلسفة والأدب، فانتهزها فرصة لتكرار التأكيد على ذلك.

أميز في العادة بين الفيلسوف بالفطرة والفيلسوف بالمهنة أو الفيلسوف المحترف. الفيلسوف بالفطرة هو كل منا. فلكل إمرىء رؤية معينة للوجود ومجموعة من القيم تُسيِّر حياته وإن لم يكن على وعي بهذا. أما الفيلسوف المحترف فهو ذلك الذي يستخرج هذه الرؤى والقيم من علائقها الدنيوية وينظر فيها ليتحقق من صحتها سعياً لحياة الإتساق مع النفس.

فإذا كانت قاعة مناقشة كتاب د محروس قد جمعتنا، فمن الممكن استنتاج الرؤية التي وجهتنا جميعاً للحضور وهي قناعتنا بأن “للأدب أهمية في حياتنا”. وإذا ارتكب شخص ما فعلاً ما وقال له آخر: ” ما هذا الذي تفعله؟ استغفر الله العظيم.” يمكننا استنتاج أن رؤية الأخير الفلسفية للكون تشتمل على وجود إله يوجد على رأس هذا الكون. وإذا رأينا شخصاً كسولاً مستسلماً لا يحاول تغيير حياته، وسألناه، لم لا تحاول البحث عن عمل أو تطوير حياتك أو..الخ. نجده يقول لنا ” أقدارنا محتومة شئنا أم أبينا”. قد يراني شخص ما أربت بيدي على كتف شخص ما فيسألني: أتربت على كتف مخطيء؟ أقول له: ” لا بأس، “الخير قبل العدل””.

فإذا كان هذا هو حال الفلاسفة بالفطرة، فالفلاسفة بالمهنة أو بالاحتراف هم من يعون أن حياتهم تسيرها قيم ومباديء داخلهم، ويحاولون تجريدها من علائقها الدنيوية للتحقق من مدى اتساقها مع ما يرغبون من سلوكيات.

الفلسفة- إذاً- في داخلنا، فأين هي في كتاب د. محروس؟

لما كانت نصوص الأدب سرديات من حياتنا، وحياتنا- على النحو الذي أوضحنا- تُسيِّرها أفكار ورؤى فلسفية، فالأدب الجاد ينطوي بالضرورة على رؤى فلسفية. ولما كانت نصوص محروس عامر نصوصاً أدبية جادة، فهي تنطوي على رؤى وقيم فلسفية وهو ما سأحاول بيانه فيما يلي.

إذا بدأت بالعنوان “سفر الحب” فإن اختيار الكاتب للعنوان ينطوى على تقديسه للحب. فكأن للحب قداسة خاصة يحكيه في كتاب مقدس، من هنا كان اختيار عنوان الكتاب أنه “ سفر” أي كتاب مقدس.

أما في (مرآتي)، فنجد أنه يلاحظ تغيرات جسدية طرأت عليه، فخشي أن تغير صورته في عيني قرينته. جاءه في النهاية صوتها أنه سيظل الجذر الثابت في حياتها، منها تستمد الحياة والحب. الفكرة الفلسفية التي تناقشها هذه السردية هي فكرة العلاقة بين (الظاهر والحقيقة) وتستدعي الأفكار التالية: أين الحقيقة؟ هل هناك حقيقة للوجود؟ بالضرورة نعم. ولكن هل نصل إليها أم نظل نرى أوجهًا مختلفةً لها. هل الظاهر هو وسيلتنا لكشف الحقيقة؟ هل تَغيُّر المظاهر يُغير الحقيقة؟ يُغير رأينا وحكمنا؟

في سرديتي (تناقض)و (ذكرى لا تموت) يبدو كأنه فقد حبيبته ولكنه لم يفقد حبها.

ولكني آخذ على الكاتب أن حبيبة بالوصف الذي جاء به لا أتصور أن يكون رقم هاتفها مكتوبًا ” افتح الدفتر أمامي كي استخرجه للاتصال”.  المفترض أنه محفوظ عن ظهر قلب.

في سرديتهغداً سنلتقييضع لنا الخلاصة بشكل مباشر بالخط الداكن: (الحقائق العينية مصدر الحقائق العقلية). أختلف هنا مع الباحث في هذا الحكم العام. فإذا كان هذا الحكم ينطبق على موجودات الكون الفيزيقي، فإنه لا ينطبق على حقائق المنطق والرياضيات والمباديء الأخلاقية مثل الحرية والعدل. فحقائق المنطق والرياضيات نصل إليها بالاتفاق أو كما نقول نحن أهل الفلسفة “ بالمواضعة” وليس انطلاقاً من أي واقع عيني.

تمثل سردية (تمرد) محاولة تمرد فاشلة، وبالتالي كان من الأفضل تسميتها (محاولة تمرد).

هذا النص يثير التساؤل الفلسفي التالي: ما هو الحب الصادق؟ هل هو عدم القدرة على استبدال الحبيب؟ وهل استبدال الحبيب دليل على عدم صدق الحب؟ أم يعبر عن واقعية أكثر هي ضرورة استمرار الحياة؟

الاجابة لدي أن جميع هذه الاجابات سليمة إذ أنه أمر نسبي يختلف من شخص لأخر. وهكذا تطغى النسبية وتفرض نفسها.

يمثل عنوان السردية (أدركت الحقيقة) في ذاته رؤية فلسفية بل إنه هدف كل فيلسوف من تفلسفه. يرى محروس عامر أن للإدراك درجات: أن تدرك كونك إنساناً وليس شجرة أو نباتاً، ثم إدراكك لوجود الأشياء من حولك وعلة وجودها، أما الدرجة الثالثة فتتمثل في إدراك ماهيتك ورسالتك في الحياة وما يتوجب عليك فعله لتحقيق الغاية من الحياة.

أرى أن كاتبنا كان عليه أن يعكس درجات الإدراك الأولى والثانية. فالأولى تتحقق من خلال الثانية وليس العكس. أما الدرجة الثالثة فاتفق مع كاتبنا أنه لا يصل إليها كل فرد.

التأثير الديني واضح لدى كاتبنا وخاصة في سرديتهسنبقى معا” وذلك في السرد، والتخيل وفي الحوار مع ملك الموت وكيف أن الحياة هناك لا حجب ولا زمان أو مكان فيها. ثم في تساؤلاته: كيف سنرى من سبقونا ومن نتمنى رؤيتهم؟

الإحساس بقيمة الزمان يختلف وفقاً لعمر الإنسان. يعبر محروس عامر عن هذه الفكرة الفلسفية تعبيراً رائعاً في سرديته (أعلنت الحب). يوضح كيف أن صاحب السن المتقدم يشعر بأن لكل لحظة زمنية قيمة وهو ما لا يفهمه أو يشعر به الشاب الذي يشعر أن الزمن مازال أمامه.  هكذا يتغير مفهوم الأشياء وفقاً للمرحلة العمرية. للوقت قيمة في الكبر تختلف عن قيمته أثناء الشباب.

أما عن رؤيته للحب، فالحب وفقاً له خلق ليمارس ويحيا وينبت خيراً ونماء، لذا فهو يدعو الجميع للحب.

تمثل سرديته (ويبقى الوجع) البحث عن الانتماء وعن الحقيقة المخفية (الأوجاع) خلف المظاهر: الرداء المنمق وروائح العطور. لذا نجد كاتبنا يبحث عن عالمه المختلف عن هذا العالم. لا المكان الفيزيقي هو المكان المراد ولا الزمان هو الزمان. في هذا العالم يشعر أن حقائق الأشياء تختفي وراء الظواهر التي تتغير، لذا لا يرضيه هذا المكان، فهو ليس المكان الذي يتمنى العيش فيه. يبحث عن المكان الحقيقي ولكنه يدرك أنه ليس هنا. المكان الحقيقي ليس هنا، والانتماء ليس للبعد الفيزيقي. تؤلمه الحروب وأنين الأطفال. حزين على دمشق وبغداد. يبحث عن المكان الذي تتحقق فيه إنسانيته.

في النهاية قد يتساءل متساءل: هل يصلح الحب في هذه الأيام التي نحياها، حيث الأزمات المالية في العالم والحروب ونذير الحرب النووية؟

الإجابة لدي وأحسبها أيضاً إجابة كاتبنا: نعم يصلح. إذ ما هو الحب؟

أليس الحب في بعض صوره تآزراً وتناصراً وتضحية وإيثاراً وفداء؟

أليست هذه هي القيم التي نحتاجها في أيامنا هذه؟

وهكذا يبقى الحب ما بقى الإنسان. تحية لكاتبنا الكبير.

 

 

 

 

 

 

 

 أستاذ الفلسفة جامعة المنيا وعضو اللجنة الدولية لأخلاقيات البيولوجيا، اليونسكو، باريس.[1]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى