الدراسات والبحوث

الفتوَّة الحقَّة: الإمام علي (ع) من منظور صوفي

د. جعفر نجم نصر

الفتوَّة الحقَّة: الإمام علي (ع) من منظور صوفي

د. جعفر نجم نصر

أستاذ انثروبولوجيا الدين / الجامعة المستنصرية/العراق

 

منذُ الطفولة وفي أوساطنا الاجتماعية التي تربينا بها، وفي غيرها من أوساط في العالم الإسلامي، ونحن نسمعُ عبارةً اما تتداول على الألسن او تخط بالالوحات على الجدران او تذكر على ألسنة الخطباء من على المنابر وهي ( لا فتى إلا علي) وتردف معها عبارة أخرى دائماً وهي (لا سيف إلا ذو الفقار)، وربما بدت العبارة الأخيرة واضحة بلا لبس وهي قوة سيف ذو الفقار الذي كان يستعملهُ الأمام علي بن ابي طالب(عليه السلام) في حروبه مع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن تظل معاني (لا فتى إلا علي) غير دقيقة لدينا وأن كنا نفهم منها من غير شرح شارح انها تشير الى أن جيل الشباب او الفتيان لا سيد لهم ولا سواه هو الفتى الحق غير (الأمام علي)، وهي معاني بطبيعة الحال تتصل بالقوة او الشجاعة والعمر لا غير، وبذلك النحو استقرت تلك المعاني في الإفهام  لأوساطنا الاجتماعية جيل بعد جيل الا ما ندر منها؟ .

الا أن لدى العرفاء والمتصوفة معنى أخر مفارق كلياً يتصل بمعنى (الفتوة) نفسها، والتي تتصل اتصالاً وثيقاً بالممارسة السلوكية الأخلاقية (العملية)، والتي كان ينظر فيها الى الأمام علي (عليه السلام)  وأهل بيته معه(عليهم السلام) بوصفهم جميعاً الانموذج التام والكامل والمطلق لمعاني تلك الفتوة، ولعل هذا الأمر يستدعي الكشف عن معانيها ودلالاتها لديهم، وهي أصبحت هي معاير الخلق التام والسلوك الأرفع، فكيف تسيّد الأمام علي وأهل بيته هذهِ الدائرة الأخلاقية الأكمل والأتم عند المتصوفة والعرفاء الى يومنا هذا، يقول أبو العلا عفيفي: وأما الفتوة فأسم أطلق على مجموعة من الفضائل أخصها الكرم والسخاء والمروءة والشجاعة، تميز المتصف بها عن غيره من الناس وبهذا المعنى الخُلقي وجدت الفتوة قبل الإسلام وفي الصدر الأول منه في بلاد العرب وفارس، وبها لقب علي بن ابي طالب وأهل بيته.ولكنها كانت إلى ذلك العهد أمراً فردياً لا وجود له في جماعة منظمة.ولا يعرف نظام اجتماعي لأهل الفتوة إلا في عصر متأخر (عفيفي، 27).

وحسن حنفي يبُسط التعريفات أكثر عن معاني (الفتوة) بعد أن يوجزها من كبرى المدونات الصوفية ويعيد تقديمها بعباراته هو من جهة وببعض عباراتهم من جهة أخرى، أذ يقول انها تعني: عذر الإخوان في الزلات وعدم معاملتهم بما يوجب الاعتذار.الفتوة إذن هي الشهامة، هي احتقار النفس وتعظيم حرمة المسلمين، تقوم على إنكار الذات والتضحية بالنفس في سبيل الأخر، من النفاق لبس لباس الفتيان دون حمل أثقال الفتوة، الفتوة رؤية أعذار الخلق وتقصير الذات، وتمامهم ونقصانها والشفقة على الخلق كلهم برهم وفاجرهم، وكمال الفتوة هو عدم الانشغال بالخلق عن الله.الفتوة رؤية فضل الناس بنقصان الذات. هي سمة التواضع، وعدم رؤية الإنسان زيادة فضل له غيره، هي فضيلة دون رؤية النفس فيها، الفتوة كف الأذى وبذل الندي والمسالمة لدرجة عدم منافرة الفقير معارضة الغني وهما ضروريان للتغير الاجتماعي، الفتى من كسر الصنم مثل إبراهيم وتكسير الأصنام رمزاً للقضاء على الضلال الديني والانحطاط الخلقي، والفساد الاجتماعي كما أن الفتوة عدم الهروب من المسائل وعدم الاحتجاب من القاصدين (حنفي، 863).

فالفتوة هنا ترمز للحركة الإنسانية الدائبة والمستمرة في خدمة المجتمع، وأي شأن من شؤونه، مادام يقيم الحق ويدفع الباطل عبر ممارسة حامليه من ذوي الأخلاق السنّية، ويقول الباحث محمد بن الطيب في هذا الصدد: أن لدى أقطاب التصوف شعوراُ مرهفاً بالمسؤولية عن البشر جميعاً فهم متفقون على العمل من أجل إنقاذ البشر من الفقر والذل في الدنيا ومن العذاب في الآخرة (الطيب،197)، ولا يقتصر مثل هذا السلوك الاجتماعي- الإنساني على متصوفة المشرق، بل إننا نجد له أشباهاً ونظائر وشواهد كثيرة عند متصوفة المغرب الإسلامي تدل على أن الصوفي غيري المنزع، لا تعنيه ذاته الفردية ومصلحتها ونفعها، وإنما همه مساعدة غيره، وخاصة من الفقراء والمستضعفين وذوي الحاجة(الطيب، 197-198).

أن هذا الشعور الكبير بالمسؤولية الاجتماعية كان حاضراً وشاخصاً عند الأمام علي وأهل بيته جميعاً، ولهذا ألهذا الأمر الكثير من الدلائل والشواهد من القرآن الكريم ومن أهل السيد وكتب المؤخرين مما لا احد ولا عد له، بفضائلهم العالية، ولعل هذا الأمر هو الذي كان مدعاة لأهل التصوف والعرفان أن يكون الأمام علي هو أنموذج تلك (الفتوة) الى جانب قضايا أخرى، عسى أن نوفق لإيرادها هنا.

 

من علامات الفتوة عند الأمام (عليه السلام):

يقول كامل مصطفى ألشيبي في هذا السياق وأثناء تعليقه على أشارات أبو العلا عفيفي حول (فتوة) الأمام علي وأهل بيته: ومن الملاحظة أن هذا هو خلق الأمام علي الرجل الشجاع المؤثر على نفسه زملاءه في الخلافة، الذي لم يثر ولم يعارض تغليباً للمصلحة العامة وتغلباً على المصلحة الشخصية، الذي عرض نفسه للموت بمبيته في فراش النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الهجرة وقد وصف علي بالسخاء والمروءة- وهما أخص صفات الفتوة- في القرآن ودارت حوله الآية:(ويطعمون الطعام على حبة مسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) (الدهر: 8-9)، ويشارك علياً في ذلك فاطمة وجارية لها اسمها فضة، وقد يضاف إليهم الحسن والحسين.والقصة تدور حول السخاء والإيثار إذ كان المعنيون بالآية صائمين وجادوا  بإفطارهم على مسكين ويتيم وأسير (الشيبي، 527-528).

وعن هذهِ الآية المباركة يحدثنا السيد الطباطبائي في تفسيره قائلاً: ضمير على حبه، للطعام على ما هو الظاهر، والمراد بحبه توقان النفس إليه لشدة الحاجة، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران: 92 ، وقيل : الضمير لله سبحانه أي يطعمون الطعام حباً لله لا طمعاً في الثواب، ويدفعه أن قول تعالى حكاية منهم: (إنما نطعمكم لوجه الله) يغنى عنه، والمراد بالمسكين واليتيم معلوم، والمراد بالأسير ما هو الظاهر منه وهو المأخوذ من أهل دار الحرب.وقول بعضهم: إن المراد بهِ اسارى بدر او الأسير من أهل القبلة في دار الحرب(الطباطبائي، 126).

وهذهِ الآيات تتحدث برأيه عن أسمى درجات الأخلاق التي تتقدمها الخلوص التام لله تعالى، فالسخاء والكرم أي أعلى درجات الفتوة أنما كانت طلباً لمرضاة الحق سبحانه، وهو يقول عن قوله تعالى: (أنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) وجه الشيء هو ما يستقبل به غيره، ووجهه تعالى صفاته الفعلية الكريمة التي يفيض بها الخير على خلقة من الخلق والتدبير والرزق وبالجملة الرحمة العامة التي بها قيام كل شيء، ومعنى كون العمل لوجه الله على هذا كون الغاية في العمل هي الاستفاضة من رحمة الله وطلب مرضاته بالاقتصار على ذلك والإعراض عما عند غيره من الجزاء المطلوب، ولذا ذيلوا أقوالهم : (إنما نطعمكم لوجه الله) بقولهم (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا)(الطباطبائي،127).

ثم يذهب السيد الطباطبائي تحت مظلة البحث الروائي لبيان أن من أنزلت فيهم هذهِ الآيات المباركة إنما كانوا هم الأمام علي والسيدة فاطمة (عليهم السلام)، أذ يقول : وفيه أخرج ابن مردوية عن ابن عباس في قول تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه) الآية قال : نزلت هذهِ الآية في علي بن ابي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (الطباطبائي، 132)، ثم ينقل عن تفسير ألقمي قائلاً: وفي تفسير ألقمي عن أبيه عن عبد الله بن ميمون عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: كان عند فاطمة عليها السلام شعير فجعلوه عصيدة، فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال: مسكين رحمكم الله فقام علي (عليه السلام) فأعطاه ثلثاً فلم يلبث أن جاء يتيم فقال: اليتيم رحمكم الله فقام علي (عليه السلام) فأعطاه الثلث ثم جاء أسير فقال: الأسير رحمكم الله فأعطاه علي (عليه السلام) الثلث وما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم وهي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عز وجل (الطبا طبائي، 133).

وبذلك النحو المثبت في القرآن الكريم وفي أحاديث السنة النبوية الشريفة فقد حاز الأمام علي المنزلة الروحية والأخلاقية الكبرى ضمن دائرة الفتوة، التي لم تكن مجهولة قبل الإسلام ولا بعده، وان كانت المعايير قد اختلفت بطبيعة الحال، ولكنها التقت من جهة الصفات الكريمة: السخاء والإباء ومعاونة الفقراء والمعوزين والشجاعة وسرعة النجدة ونحو ذلك وقد اقترنت ببعض السلبيات كذلك قبل الإسلام وبعده، ولكنها في الإسلام وعلى أيدي المتصوفة والعرفاء أخذت معنى جديد بطبيعة الحال، وكما بيناهُ في التعريفات التي تقدم ذكرها، ولكنها كانت في الإسلام تبحث عن أنموذج أسلامي(كامل متكامل)، فلم تجد ذلك الا بشخص الأمام علي بن ابي طالب وهو فارس الإسلام الأول وسيف الله الأوحد والأنبل والأشرف، بطل بدر وأحد والأحزاب وسائر المعارك والغزوات مع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

لقد اتفقُ القول لدى أهل السيد والمؤرخين أن هنالك منادي نادى يوم أحد، أن

(لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار) ، وعن ذلك قال ابن هاشم: وحدثني بعض أهل العلم، أن ابن ابي نجيح قال: نادى مُنادٍ يوم أحد : لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي(ابن هشام، الجزء الثالث، 64)، والمتفق عليه أن المنادي هو جبرائيل(عليه السلام)، ولقد قال في ذلك الأمر حسان بن ثابت شعراً وهو مشهور

  جبريل نادى معلناً     والنقع ليس بمنجلي
  والمسلمون قد أحدقوا     حول النبي المرسل
 لا سيف إلا ذو الفقار      ولا فتى إلا علي

فكانت شجاعته من الشجاعات النادرة التي يُشرف بها يصيب بها وحتى يُصاب..ويزيدها تشريفاً انها ازدانت  بأجمل الصفات التي تزين شجاعة الشجعان الأقوياء.فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها علي بغير كلفة ولا مجاهرة رأي، وهي التورع عن البغي، والمرؤة مع الخصم قوياً او ضعيفاً على السواء، وسلامة الصدر من الضغن على العدو بعد الفراغ من القتال، فمن تورعه عن البغي، مع قوته البالغة وشجاعته النادرة، انه لم يبدأ أحداً قط بقتال وله مندوحة عنه، وكان يقول لابنه الحسن: لا تدعون الى مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغٍ والباغي مصروع (العقاد، 18).

وإذا كانت المروءة جوهر الفتوة مع صنوها الأبرز(الشجاعة) فالإمام مقام أخلاقي عالي لا يدانيه احد بعد النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولنترك عباس محمود العقاد يصف ذلك وصفاً دقيقاً وموسعاً: أما مروءته في هذا الباب فكانت أندر بين ذوي المروءة من شجاعته بين الشجعان فأبى على جنده وهم ناقمون أن يقتلوُا مدبراً أو يجهزوا على جريحٍ او يكشفوا ستراً او يأخذوا مالاً وصلى في وقعة الجمل على القتلى من أصحابه ومن أعدائه ألد أعدائه المؤلبين عليه فعفا عنهم ولم يتعقبهم بسوء، وظفر بعمرو بن العاص وهو أخطر عليه من جيش ذي عدة فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأته اتقاء لضربته، وحال جندُ معاوية بينه وبين الماء في معركة وهم يقولون له: ولا قطرة حتى تموت عطشاً..فلما حمل عليهم وأجلاهم عنه سوغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده، وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل فصاحت به صفية أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادي كما أيتمت أولادي، فلم يرد عليها شيئاً، ثم خرج فأعادت عليه ما استقبلته به فسكت ولم يرد عليها.قال رجل أغضبه مقالها: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذهِ المرأة وهي تقول ما تسمع؟..فانتهره وهو يقول: ويحك؟..ان أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات أفلا نكف عنهن وهن مُسلمات؟..وانه لفي طريقه اذ أخبره بعض أتباعه عن رجلين ينالان من عائشة فأمره بجلدهما مائة جلدة، ثم ودع السيدة عائشة أكرم وداع وسار في ركابها أميالاً وأرسل معها من يخدمها ويحف بها، قيل انه أرسل معها عشرين امرأة من نساء عبد القيس عمهن بالعمائم وقلدهن السيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر بهِ وتأففت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذي وكلهم بي..فلما وصلت الى المدينة ألقى النساء عمامتهن وقلن لها: إنما نحنُ نسوةً وكانت هذهِ المروءة مع خصومه، من استحق منهم الكرامة ومن لم يستحقها،..(العقاد،20-21).

 

المتصوفة وفتوة الأمام:

وبهذه الأخلاق وبغيرها الكثير أصبح الأمام علي هو المرجع الرئيس والسنام الأعلى للفتوة وبحسب قول ألشيبي: وقد صار علي رأساً للفتوة وسيداً لها باعتبارها مشرباً جديداً يجتمع في الانتماء إليه طائفة معينة من الناس، وفي ذلك يقول ابن ابي الحديد ألمعتزلي: فأن أربابها (يعني أصحاب الفتوة) نسبوا أنفسهم إليه وصنفوا في ذلك كتباً وجعلوا لذلك إسناداً أنهوه إليه وقصروه عليه وسموه سيد الفتيان(الشيبي،528).

وهذا الأمر لم يحصل في بلاد العرب فحسب، بل في بلاد فارس كذلك، فإذا كان للفتوة جذورها قبل الإسلام في بلاد العرب، فإن لها كذلك جذور في بلاد فارس، بل كان أهل الفتوة عندهم يمثلون طبقة مسؤولة عن معارضة الحكم وإحقاق الحق وظلت قائمة الى عهد حكم العباسين، وكان أنموذجهم الشهير أبا مسلم الخراساني في البدء، ولكن عندما استقرت القواعد الصوفية، تجمعت كل الحلقات الصوفية من أهل الفتوة حول شخص الأمام علي (عليه السلام) وما نسب لها بعدئذ فحسب.

فعلى سبيل المثال لا للحصر ورد في كتب الفتوة أسماء أوائل من سلك الفتوة وهم : أدم الصفي وإبراهيم الخليل، ورسول الإسلام محمد (عليه الصلاة والسلام) ومن بعده الأمام علي بن ابي طالب وسلمان الفارسي، ثم ذكروا سلسلة ما بعد سليمان، وهم : دجلي الأنصاري، والأشج، وأبو مسلم الخراساني، ونجده بن ميسرة، ومالك، وعبد الله بني الهاشمي، ومعاذ المازني، والمظعون، ومبارك ابن مطاعن، وحامد بن عدي، والمهدي(نفيسي، 169).

ووردَ في سند أخر أن الناصر لديني لله (575-622هـ) قبل على نفسه عام 578هـ قاعدة للفتوة، وقد ألبسه رداء الفتوة مالك بن عبد الجبار ابن يوسف بن صالح وبحضور ولده شمس الدين علي وصهره يوسف ابن عقاب وندماء الخليفة.وقد وردت في هذا السند أسماء سلسلة السلف من علي بن ابي طالب حتى الناصر لدين الله وهم : سلمان الفارسي، لأشج البصري،…،أبو مسلم الخراساني،..وآخرون كثر (نفيسي، 169-170).

وفي حقيقة الأمر لم يكن شخص الأمام علي (عليه السلام) فحسب هو مصدر(الفتوة) والسلسلة بل انها كانت تضم أهل بيته الكرام، وبهذا النحو فالميراث المحمدي كان حاضراً عند عدة جماعات دينية، ومثلما قال الباحث إيريك جوفروا: وفي الجوهر، فإن التصوف والتشيع يتقاسمان الميراث المحمدي نفسه، الذي ينتقل عبر التعليم باطني.وتمر أغلب السلاسل التعليمية في التنظيمات الصوفية عبر علي بن ابي طالب، كما يتبنى أهل السنة الحديث النبوي: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، ليس غريباً إذا أن نلاحظ الهيمنة الروحية التي مارسها على مر القرون الأئمة جعفر الصادق وموسى الكاظم وهم من أحفاد علي، علي الروحانيين أمثال بشر الحافي والبسطامي ومعروف الكرخي، بل ونلاحظ أيضاً وجودهم ضمن السلسلة التعليمية للطرق الصوفية. كان الجميع يعترف لجعفر الصادق، بشكل خاص، بالزعامة الروحية وبالخصوص في ميدان التأويل الباطني للقرآن، أن التقارب العقائدي والتعليمي بين المنهجين لا يرقى إليه الشك، وبالأساس الفكرة القائمة على أن دورة (الولاية) هي التي تعقب دور (النبوةّ)، ما يضمن بقاء المنهج الباطني في الإسلام حياً باستمرار(جوفروا، 29).

فلهذا كان يعد القشيري الروايات عن الأمام جعفر الصادق(عليه السلام) عن الفتوة بمثابة مصدر روحي لا يمكن تجاوز عمقه ودلالاته الروحية والأخلاقية أذ أورد هاتين الروايتين في كتابة (الرسالة القشيرية في علم التصوف)، تحت (باب الفتوة): وقيل أن رجلاً نام بالمدينة من الحاج فتوهم أن هميانه سرق فخرج فرأى جعفر الصادق فتعلق بهِ وقال أخذت همياني فقال: إيش كان فيه، فقال: ألف دينار، فأدخله داره ووزن له ألف دينار فرجع الرجل الى منزله ودخل بيته فرأى هميانه في بيته وقد كان توهم أنه سرق فخرج الى جعفر معتذراً، ورد عليه الدنانير فأبى أن يقبلها وقال شي أخرجته من يدي لا أسترده، فقال الرجل، من هذا؟، فقيل جعفر الصادق، وقيل سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد عن الفتوة فقال: ما تقول أنت، فقال شقيق: أن أعطينا شكرنا وان منعنا صبرنا، قال: جعفر، الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل، فقال شقيق يا بن بنت رسول الله: ما الفتوة عدكم؟ فقال: أن أعطينا آثارنا وان منعنا شكرنا(القشيري،179).

وعد الإيرانيون أن الفتوة تشمل ثلاث مراتب: السخاء ومعناه أن تهب كل ما تملك، والصفاء ويعني: تطهير الصدر من الحقد، والوفاء لله وخلقه، ويجدون أن إبراهيم الخليل(عليه السلام) أول قطب في دائرة الفتوة، ويكُني بأبي الفتيان، ومن ثم النبي يوسف(عليه السلام) ثم يوشع الى نون(عليه السلام)، والرابع أصحاب الكهف، والخامس الأمام علي بن ابي طالب(كرم الله وجهه) الذي كان يُسمى(الفتى المطلق) ويصفونه بالشيخ والمريد في ألسنتهم جميعها، وقد وجدوا أن شروط الإرادة خمسة:

أولها: التوبة الصادقة، وثانيهما: ترك علائق الدنيا، وثالثهما: توافق اللسان مع القلب على الحق، ورابعهما: اقتداء طريق الإصلاح، وخامسهما: إغلاق باب مراد النفس(نفيسي،176).

أن المتصوفة ينظرون الى أصحاب الأمام علي الخلص بمثابة ورثة الفتوة وهم المسؤولون عن نشرها بين الأقاليم آنذاك، وبذلك النحو فالإمام علي (عليه السلام) لم يكن رمزاً وسيداً للفتوة بنظرهم فحسب، بل كان هو المسؤول الأوحد عن نشر أخلاق الفتوة العالية في جغرافيات متعددة، وعن ذلك الأمر عن قال نفيسي: يُرجع الفتيان في كل مكان سلسلة نسبهم إلى أحد أصحاب الأمام علي بن ابي طالب وكانوا يقولون: أن كل واحد من أصحابه مكلف بنشر هذهِ القوانين في منطقة بعد أن عقد الأمام بيده وسطهم وصار سلمان الفارسي مأمور المدائن، وداود المصري مأمور مصر، وسهيل الرومي مأمور الروم، وأبا محجن الثقفي مأمور مصر، وينتسب أهل ما وراء النهر وخراسان وطبرستان وعراق العجم والعرب إلى سلمان، وأهل مصر والإسكندرية وحلب وتوابعها إلى داود المصري، وأهل الروم والمغرب ونواحي أذربيجان إلى سهيل الرومي، وأهل اليمن وعدن وهرموز والهند حتى حدود الصين إلى أبي محجن (نفيسي، 179).

ولقد كان لبقية أهل البيت (عليه السلام) الحضور الكبير ليس في دوائر التصوف والفتوة كما بينّا مع الأمام الصادق(عليه السلام)، أنما الأمر ابتدأ مع شخص الأمام الحسين(عليه السلام) كذلك، فهذا ألشيبي يخبرنا عن ذلك قائلاً: ولم يكن وصل التصوف مقصوراً على علي وإنما كان الحسين بن علي فتى من طراز نادر، فضحى بنفسه في سبيل المثل الإسلامي والمحافظة على روح الإسلام حتى قرن في مواضع كثيرة- في أخباره- بالمسيح الذي غسل ذنوب البشر بدمه(بسبب الرؤية المسيحية حصراً)، وقد وجدنا الحسين يقرن في الفتوة والشهامة بالحلاج الذي ذهب ضحيته عقيدته وأعتبره الصوفية مثبتاً لهذا المشرب باءباحة دمه(ألشيبي، 531-532) ثم يذهب نحو شخص ولده الأمام زين العابدين (عليه السلام) وان ما كان من سيرته ما يعكس من فتوة تتمثل في وصل المساكين في السر، وبأنه قد وجد على جسده آثار حمل ما كان يجود بهِ على المحتاجين(ألشيبي،532).

وخلاصة القوم أن من أظهر معالم الفتوة وأخرجها للملأ بالمعنى الأخلاقي والروحي هم المتصوفة والعرفاء، وكانوا بحاجة الى أكمل النماذج وأعلاها كما يكونوا قدوة لهم، فلم- يجدوا إلا فتوة الأمام علي بن ابي طالب وأولاده من آل البيت (عليهم السلام) التي تكون مناراً أخلاقياً وميراثاً روحياً يتوارثونه جيل بعد جيل وفي اغلب الطرق الصوفية في العالم الإسلامي.

 

 

المراجع:

 

1- أبو علا عفيفي، الملامتية والصوفية وأهل الفتوة، منشورات الجمل ، بيروت_بغداد، 2015.

2- ابي القاسم القشيري، الرسالة القشيرية في علم التصوف، دار التربية للطباعة والنشر، بغداد، د.ت.

3- أيريك جوفروا، التصوف: طريق الإسلام الجوانية، ت: عبد الحق الزموري، دار الحكمة، أبو ظبي، ط1، 2010.

4- كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع (الجزء الاول) منشورات الجمل، بيروت- بغداد، 2011.

5- سعيد نفيسي، مصادر التصوف الإيراني، ت: مازن ألنعيمي وعبد الكريم جرادات، جامعة الكوفة، توزيع دار الرافدين، بيروت، ط1، 2019.

6- حسن حنفي، من الفناء الى البقاء: محاولة لأعاده بناء علوم التصوف، الجزء الاول: الوعي الموضوعي، دار المدار الإسلامي، بيروت،ط1، 2009.

7- محمد بن الطيب، من وجوه مقاومة التصوف للتطرف، مقالة في كتاب: التصوف والصنف، لمجموعة باحثين، إشراف: صابر سويسي، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، المغرب، ط1، 2021.

8- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، المجلد العشرون، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط2، 1974.

9- ابن هشام، السيرة النبوية، علق عليها واخرج أحاديثها ووضع لها فهارس، أ.د.عمر عبد السلام تدمري، (الجزء الثالث)، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1990.

10- عباس محمود العقاد، عبقرية الأمام علي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1967.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى