خصائص علم العرفان والفرق بينه وبين التصوُّف
خصائص علم العرفان والفرق بينه وبين التصوُّف
إعداد جمعيَّة المعارف الإسلاميَّة الثقافية.
الفرق بين التصوّف والعرفان:
التصوُّف:
التصوّف حركة ظهرت في العالم الإسلامي منذ القرن الثاني الهجري، وذلك استجابة لبعض النصوص الدينية التي تدعو الإنسان المسلم للابتعاد عن الدنيا، والانشغال بالعبادة والطاعة.
والتصوّف في اللغة مصدر على وزن تفعّل، فهو مصدر اشتق من اسم، ويعني لبس الصوف، مثل: تقمّص, فهي تعني لبس القميص1. وتطلق في بعض معانيها على الميل: “يقال” صاف السهم عن الهدف, بمعنى “مال عنه…”2 ويطلق التصوّف ويراد به النسبة إلى الصوف, لأنّ بعض الزّهاد اختاروا هذا اللباس للدلالة على الزهد، وقد يراد النسبة إلى “الصُفّة” أو إلى الصفاء.
جاء في كتاب “كشّاف اصطلاحات الفنون” ما نصّه: “في اللغة، التصوّف يعني ارتداء الصوف, وهذا نتيجة الزهد وترك الدنيا، وفي نظر أهل العرفان تطهير القلب من محبّة ما سوى الخالق، وتقويم الظاهر من حيث العمل والاعتقاد بالتكليف أو المأمور به، والابتعاد عن المنهي عنه، والالتزام بما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهؤلاء جماعة من المتصوّفة المحقّة”3.
قد عرّفوا التصوّف بتعاريف متعدّدة، من جملتها ما ذكر أبو الحسن النوري: “التصوّف هو الابتعاد وترك العلائق النفسيّة فالمتصوّفة هم الذين اطلقوا أنفسهم من كدر البشرية، وتخلّصوا من الآفات النفسيّة وهواها, وذلك من أجل أن يكونوا في مقدّمة الصفّ…”4.
أمّا ابن خلدون، فيحدّد التصوّف بشكل أدقّ، ويقول: “هو العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذّة ومال وجاه…”5 وهناك العديد من العبارات الأخرى التي ذكرها الصوفية في تعريف التصوّف والصوفي6.
العرفان:
بداية لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العرفان الإسلامي ظهر بداية على شكل حركة صوفية7، كان المراد منها تربية النفس وتهذيبها عملياً، وإبعادها عن كلّ ما له علاقة بالدنيا وزخارفها، ثمّ تحوّلت هذه الحركة الصوفية – ونتيجة اتّساعها – إلى أن تصبح حركة أكثر تكاملاً، تمتلك نظرية خاصة ورؤية محدّدة لله والإنسان والوجود، وبناءً على ذلك. فإنّ الاختلاف بين التصوّف والعرفان يعود إلى وجهتي نظر:
الأولى: أنّ للعرفان والتصوّف معنى واحداً من حيث الاصطلاح، وما يميّزهما هو اختلاف بسيط. فقد درس الباحثون الإسلاميون العرفان في بُعْدين: الأوّل باعتباره حركة ثقافية معرفية، والثاني باعتباره حركة اجتماعية وُجِدت في العالم الإسلامي بعد نزول الوحي. وإذا كان العرفان يدخل على كلا البعدين، فإنّ التصوّف يدلّ على البعد الاجتماعي للعرفان. وهذا يعني أنّ الحركة الصوفية هي حركة اجتماعية وُجِدت في المجتمع الإسلامي، كانت تدعو للعمل بالتعاليم الدينية فيما له علاقة بالزهد والابتعاد عن الدنيا…8.
الثانية: أنّ العرفان أعلى من التصوّف، لأنّ التصوّف أسلوب وطريقة نابعة من العرفان. وهذا يعني أنّ النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص المطلق. فكلّ عارف متصوّف، وليس من الضروري أن يكون كلّ متصوف عارفاً.
ولعلّ إلى هذا البحث أشار الشيخ الرئيس ابن سينا في حديثه حول الزاهد والعابد والعارف، حيث قال:9 “المُعْرِض عن متاع الدنيا وطيّباتها يُخَصُّ باسم الزاهد، والمواظب على فعل العبادات، من القيام والصيام ونحوها، يُخَصُّ باسم العابد، والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت، مستديماً بشروق نور الحقّ في سرّه يُخَصُّ باسم العارف، وقد يتركَّب بعض هذه مع بعض”.
الفرق بين الأخلاق والعرفان:
أشرنا إلى أنّ العرفان العملي علم يوضّح كيفية السير والسلوك للوصول إلى الحقيقة المطلقة، وهو بهذا الأسلوب يبيّن ما ينبغي على السالك أن يفعله وما لا ينبغي. وعلى هذا الأساس، فالعرفان العملي لا يختلف كثيراً عن علم الأخلاق الذي هو علم يبيّن كيفية اكتساب الفضائل والابتعاد من الرذائل. ومع ذلك يمكن الإشارة إلى بعض العناوين التي تشكّل الفوارق الأساسية بين العرفان، بشقّيه النظري والعملي، والأخلاق.
الفارق بين الاثنين هو ما عبّر عنه الشهيد الأستاذ مرتضى مطهري، عندما أشار إلى أنّ العرفان علم مَرِن، بينما الأخلاق علم جامد ثابت. والمقصود من ذلك أنّ العرفان العملي يبيّن عملية السير والسلوك عند العارف، حيث يجب تحديد نقطة البداية والمقصد والمنازل التي يجب أن يطويها العارف للوصول. وهذه المنازل لا يمكن أن تُطوى إلا بالتدريج، ومنزلاً بعد منزل. أمّا الحديث في الأخلاق. فليس حول منازل تتحقّق بالتدريج وواحدة بعد أخرى، بل الحديث حول سلسلة من الفضائل، من قبيل الصدق والعدل والعفّة والإحسان والإنصاف والإيثار… من دون وجود أيّ تراتبيّة في الموضوع.
العناصر الأخلاقية محدودة بمعانٍ ومفاهيم معروفة في الغالب، أمّا العناصر العرفانية فواسعة جداً وعميقة. قد نقول على سبيل المثال: إنّ الشخص الفلاني صادق، فهذا معنى واضح ومعروف، ويدلّ على حالة خاصّة عنده، أما عندما نقول: إنّ العارف تحصل له المقامات والأحوال الفلانية، كالرضا على سبيل المثال، فهذا ليس أمراً واضحاً محدّداً، ولا محصوراً بمفاهيم لفظية وغير لفظية.
ما تقدّم عبارة عن الفارق بين العرفان العملي والأخلاق، أمّا ما يميّز العرفان النظري عن الأخلاق، هو أنّ العرفان النظري مذهب فكري، يُعني بتفسير الوجود ومعرفة الله والعالم والإنسان، فالعرفان النظري من هذه الجهة كالفلسفة، وهذا يخالف علم الأخلاق10.
خصائص العرفان الإسلامي:
يمتاز العرفان الإسلامي بمجموعة من الخصائص والعناوين التي تميّزه عن غيره من الحركات “العرفانية” التي وُجِدت على امتداد الأديان والمذاهب البشرية، ونشير هنا إلى أبرز هذه الخصائص:
1- – محورية الله تعالى:
يتمحور العرفان الإسلامي حول الله تعالى، فالعرفان بكلا قسميه مرفوض وغير صحيح إذا حذفنا منه الله تعالى. ومحورية الله تعالى تتضمّن الإيمان به تعالى، وفهم كافة الوجود في إطار وجوده، ومن ثمّ العمل والحركة أو السير والسلوك نحوه.
2- – الولاية:
يعتبر السالك إلى الله في العرفان الإسلامي من أصحاب الولاية، وهذا يعني معرفة الإنسان الكامل والمعصوم وحبّه والالتزام العملي بسيرة أولياء الله تعالى.
3- – العمل بالشريعة:
يمتاز العرفان الإسلامي بأنّه يتحرك طبقاً للشريعة, أي طبقاً للأحكام الفقهية الإسلامية. والشريعة تشكّل المحور الأساس الذي يستقي منه العرفاء مادّة سيرهم وسلوكهم، وبها يعرفون مدى الإصابة والخطأ فيهما. فالعرفان من دون الشريعة ضلال. عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: “ألا وأنّ شرائع الدين واحدة وسبله قاصدة, فمن أخذ بها لحق وغنم، ومن وقف عنها ضلّ وندم”11.
4- – العقلانية:
العرفان الإسلامي ليس بعيداً عن العقل والعقلانية. فالعارف لا ينكر دور العقل، بل يضع المعرفة الشهودية والسلوكية في طول المعرفة العقلية. وبعبارة أدقّ: يستعين العارف بالعقل عندما يفرغ من عملية السير والسلوك، وينتقل إلى مرحلة إثبات الحقائق والكشفيات للآخرين, إذ إنّ إقناع الآخرين يحتاج إلى وسيلة مقبولة، وهي من دون شكّ العقل. طبعاً للعرفان خصائص أخرى، نكتفي بما ذكرناه منها.
بداية العرفان الإسلامي:
بدأ العرفان الإسلامي في مرحلة متأخّرة على ظهور الحركة الصوفية في العالم الإسلامي، والتي بدأت تباشيرها مع بداية نزول الوحي، وهذا ما نجده في حال الزهّاد والعباد الذين شكّلوا نواة المتصوّفة في العالم الإسلامي، حيث عُرِفوا في المرحلة الأولى باسم الزهّاد والنسّاك، وليس باسم الصوفية. وكان اعتقاد هؤلاء الأشخاص صافياً، وإيمانهم نقياً خالصاً، لم تُدَاخلهم الأفكار الفلسفية والكلامية، وكان جلَّ ما يريدون، الاستجابة لنداء الوحي، وأن يكونوا من عباد الله المخلصين.
اتّسعت الحركة الصوفية وانتشرت، وأصبحت تجمع شيئاً فشيئاً العدد الكبير من الأشخاص الذين شكّلوا في مرحلة لاحقة مدرسة خاصّة، كان لهم أفكارهم وسلوكياتهم ومظاهرهم التي تميّزهم عن غيرهم، والتي انتهت في المرحلة اللاحقة على القرن السابع، وأدّت إلى ظهور علم العرفان. وبشكل عام يمكن التمييز بين مراحل ثلاث للعرفان الإسلامي:
المرحلة الأولى: ظهور وتكامل العرفان العملي.
المرحلة الثانية: تدوين وشرح العرفان النظري.
المرحلة الثالثة: أفول مشايخ الصوفية من الناحيتين العلمية والعملية، والتوجّه نحو العرفان العملي القائم على أساس الفكر الشيعي.
المرحلة الأولى: تبدأ المرحلة الأولى من القرن الأوّل الهجري إلى القرن السادس، وتمتاز بالخصائص الآتية:
1- – رواج وشيوع حالات التصوّف بين الأفراد.
2- – بداية ظهور العرفان العملي من خلال ميل بعض المؤمنين نحو الزهد والعبادة (القرن الأول الهجري).
3- – ظهور بعض المفاهيم التي راجت على ألسنتهم، كالعشق والحبّ الإلهيين، والتوجّه نحو باطن الشريعة (القرن الثاني الهجري).
4- – الشروع بالاهتمام بالعرفان النظري (القرن الثالث).
5- – تكامل العرفان العملي، وتدوين أصول السير والسلوك، والبدء بالحديث عن دور الشريعة في الوصول إلى الحقيقة (القرن الرابع).
6- – وصول العرفان إلى أعلى مراتبه، وإقبال الناس عليه، وظهور مشايخ العرفاء وامتزاج أبحاثهم بالأفكار الكلامية والفلسفية (القرنين الخامس والسادس).
من أبرز الشخصيات في هذه الفترة: الحسن البصري، إبراهيم الأدهم، رابعة العدوية، أبو هاشم الصوفي، بايزيد البسطامي، بشر الحافي، السري السقطي، الجنيد البغدادي، الحسين بن منصور الحلاج، أبو سعيد أبو الخير، الهجويري، الخواجه عبدالله الأنصاري…
المرحلة الثانية: تتراوح هذه المرحلة بين القرنين السابع والعاشر من الهجرة، وتمتاز بانتشار العرفان وسيطرة العرفان النظري بالأخصّ، مع وجود شخصيات كبيرة من أمثال ابن عربي (م 638هـ.) وظهور الشروحات على أفكار وكتابات ابن عربي، ووجود بعض الحركات الصوفية والعرفانية الشيعية. وفي هذه المرحلة أيضاً بدأ الجمع بين العرفان والدين، وفي هذا الإطار تأتي الجهود التي بذلها الشيخ البهائي (م1030هـ.) وأمثاله، وقد أدّت في النهاية إلى أفول التصوّف. من أبرز الشخصيات في هذه المرحلة: شهاب الدين السهروردي الزنجاني، ابن عربي، القونوي، جلال الدين الرومي، محمود الشبستري، السيد حيدر الآملي، صائن الدين علي بن تركه الأصفهاني، الفناري…
المرحلة الثالثة: بدأ مشايخ الصوفية يفقدون الأبعاد العلمية والثقافية التي كانت تحيط بهم، وغرق التصوّف في المظاهر والكثير من البدع. وفي هذه المرحلة، أي ما بعد القرن العاشر الهجري، بدأ التخصّص في العرفان النظري، واتّسعت الدراسات التي تناولت ابن عربي، واقترب العرفان والتصوّف من الشرع والفلسفة والكلام، وذلك مع وجود شخصيات هامّة في العالم الإسلامي من أمثال صدر الدين الشيرازي (م 1050هـ. ق).
والخلاصة، أنّ العرفان بدأ في القرون الأولى على صورة ممارسات يشكّل الزهد والعبادة جوهرها، ثمّ انتقل ليشكّل حالة وحركة خاصة لها ما يميزها، ومن ثمّ أصبح مدرسة علمية وفكرية لها أسسها ومبادؤها ونظرياتها12.
_______________________________________________
الهوامش:
1- – مقدّمات تأسيسية في التصوّف والعرفان والحقيقة المحمدية، ضياء الدين سجادي، أحمد الاشتياني، كريم الاميري فيروز كوهي، دار الهادي، بيروت 2001، ص 4.
2- – لسان العرب، مادة (صوف)، ج 11، ص 102 ـ 103.
3- – التهانوي، محمد علي، كشّاف اصطلاحات الفنون، حقّقه محمد وجيه عبد الغني وغلام قادر، طبعة الهند ـ انتشارات خيام، 1346هـ. ش، ج 1، ص 841.
4- – مقدّمات تأسيسية، ص 8 ـ 9.
5- – ابن خلدون، عبد الرحمان، المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد، ط 1، لجنة البيان العربي، القاهرة 1379هـ ـ 1960م، ص 157.
6- – لمزيد من المعلومات راجع: مقدّمات تأسيسية في التصوّف والعرفان والحقيقة المحمدية، المقال الأوّل.
7- – راجع: حسيني، قوام الدين العرفان الإسلامي (بالفارسية)، مركز الدراسات الإسلامية، ط 1، مطبعة سبهر، قم، ص 21 ـ 22.
8- – راجع: مطهري، مرتضى، العرفان، ص 11 ـ 12.
9- – ابن سينا، الحسين بن علي، الإشارات والتنبيهات، شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق سليمان دنيا مؤسسة النعمان، 1992م، ج3، ص369.
10- – مطهري، مرتضى، العرفان، ص 15 ـ 17.
11- – نهج البلاغة، الخطبة 12.
12- – راجع: حسيني، السيد قوام الدين، العرفان الإسلامي، ص 25 وما بعدها.