الدراسات والبحوث

علاقة العرفان والتصوُّف بالدّين الإسلامي

د. فادي ناصر

علاقة العرفان والتصوُّف بالدّين الإسلامي

د. فادي ناصر

أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلاميَّة في جامعة المعارف – لبنان

 

إنّ البحث حول علاقة العرفان بالدين الإسلامي من الأبحاث الأساسيّة والمُهمّة في العرفان. فعلى ضوئها يمكننا معرفة جذور هذا العلم ومدى أصالته، ومدى نسبته إلى الإسلام. فقد دار نقاش وجدال واسع حول أصول العرفان الإسلامي، والسؤال الأساسي المطروح: هل نشأ العرفان الإسلامي في ظلّ تعاليم الدين الإسلامي، أو إنّه وفد إلى العالم الإسلامي عبر الأديان والتيّارات الفكريّة الأخرى.

في هذا المبحث، سوف نتحدّث بشكل عام وإجمالي حول علاقة وارتباط علم العرفان مطلقًا بالدين، على أن يأتيَ تفصيل الكلام عند الحديث عن تاريخ العلم، وعلاقته بالشريعة في الأبواب والفصول اللّاحقة. ولكن أردنا هنا أن نسلّط الضوء بشكل عام ومختصر حول علاقة العرفان بالدين؛ ليكون مقدّمة ومنطلقًا للمباحث التفصيليّة الآتية، ولنعلم بداية ما إذا كان العرفان بصفته علمًا له جذور دينيّة وإسلاميّة، ثمّ لاحقًا عند بياننا لأنواع العرفان وأقسامه، نفرد الكلام بشكل مسهب حول القسم الّذي يعنينا، ويشكّل محورًا رئيسًا في بحثنا؛ أي العرفان النظري.

إنّ الكلام عن علاقة العرفان بالإسلام هو كلام بطبيعة الحال عن علاقة العرفان بتعاليم الإسلام، بأصوله وأحكامه. فالإسلام بصفته دينًا هو مجموع أحكام ومعتقدات وسنن وآداب، والّتي جمعت تحت مسمّى الشرع والشريعة. فالشريعة هي مجموع تعاليم الإسلام الفقهيّة والعقائديّة والسلوكيّة، والّتي تهدف إلى تحقيق مقام التسليم للإنسان؛ لأنّ الإسلام “هو التسليم للحقّ الّذي هو حقّ الاعتقاد وحقّ والعمل، وبعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبيّة في المعارف والأحكام”[i].

وقد ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿إنّ الدين عند الله الإسلام[ii]، إنّ المراد “بكون الدين عند الله وحضوره لديه سبحانه، هو الحضور التشريعي، بمعنى كونه شرعًا واحدًا لا يختلف إلّا بالدرجات، وبحسب استعدادت الأمم المختلفة”[iii].

وعليه، فإنّ الحديث عن منشأ العرفان وعلاقته بالدّين ونسبته إليه هو حديث عن رابطة العرفان بشرع الإسلام وأصول هذا الشرع من الكتاب والسنّة. والسؤال الّذي يطرح نفسه في هذا المجال: هل استقى العرفان تعاليمه الأساسيّة وقواعده من الدين الإسلامي ومن تعاليم الإسلام وأصوله؟ بعبارة أخرى، “هل إنّ العرفان الإسلامي من قبيل الفقه والأصول والتفسير والحديث، أي هو من العلوم الّتي اتّخذ المسلمون موادّها الأصليّة من الإسلام واكتشفوا لها القواعد والأصول والضوابط؟ أو هو من قبيل الطبّ والرياضيّات الّتي دخلت إلى عالم الإسلام من خارجه، وتطورّت وتكاملت على يد المسلمين؟ أو إنّ هناك قسمًا آخر؟”[iv].

هناك العديد من الآراء والنظريّات[v] في منشأ العرفان والتصوّف وعلاقاتهما بالدين. يمكن أن نختصرها بثلاث نظريّات:

النظرية الأولى: تعتبر العرفاء والمتصوّفة غير متقيّدين بالإسلام، ولا دخل لهما بالإسلام ولا بالدين، لا من قريب ولا من بعيد، وإنّه لا أسس لهم سماويّة ولا دينيّة، وأنّ استنادهم إلى الكتاب والسنّة ليس إلّا خداعًا للعوام وجلبًا لقلوب المسلمين ضعاف الإيمان والالتزام. فهو مجرد اختراع بشري ولا ربط له بالروحانيّة ولا المعنويّات الحقيقيّة. وعليه، فلا ربط للعرفان أساسًا بالإسلام.

النظرية الثانية: تعتبر أنّ العرفان والتصوّف وأفكارهما الدقيقة واللّطيفة إنّما دخلت إلى الإسلام من خارجه، من الديانات التوحيديّة الأخرى، وربّما الوثنيّة. وهم يرون أنّ للعرفان عروقًا مسيحيّةً ويهوديّةً، وحتّى فارسيّةً وبوذيّةً. والبعض يرى أنّ العرفان الإسلامي هو نتاج الفلسفة اليونانيّة الّتي هي تأليف أفكار أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس وغيرهم… وبالتالي، فإنّ جذور العرفان والتصوّف ليست إسلاميّة، بل وافدة من الأديان والمذاهب الفكريّة الأخرى الّتي لها اهتمامات وصلات بعالم المعنويّات والروحانيّة.

الثالثة: تعتبر أنّ العرفان “إنّما أخذ مواده الأولى من الإسلام وبيّن لها قواعد وضوابط وأصولًا، ولم يتخلّص من تأثير الأفكار الكلاميّة والفلسفيّة، ولا سيّما الإشراقيّة. أمّا ما هو مدى موفّقيّة العرفاء في بيان القواعد والضوابط الصحيحة والمستخرجة من المواد الإسلاميّة الأولى، وهل إنّهم كانوا موفّقين في ذلك؛ كالفقهاء أو لا؟ وما هو مدى تقيّدهم بعدم الانحراف عن الأصول الإسلاميّة الواقعيّة؟ وما هو مدى تأثير المجريات الخارجيّة على العرفان الإسلامي؟ وهل إنّ العرفان الإسلامي صهرها في بوتقته وصبغها بصبغته، وأفاد منها، أو إنّ أمواج تلك المجريات دفعت العرفان الإسلامي في مسيرتها؟ هذه أمور يجب أن تبحث بدقّة في مظانّها. والمقطوع به هو أنّ العرفان الإسلامي أخذ أصوله من الإسلام فحسب”[vi]، بناءً على هذه الرؤيا الثالثة.

وللتحقيق أكثر في المسألة، لا بدّ من الإجابة عن الأسئلة الآتية:

ما هي علاقة العرفان الإسلامي بالقرآن الكريم والسنّة الشريفة؟ وهل يستند العرفان عليهما؟

ما هي رابطة العرفان بالشريعة الإسلاميّة؟ هل توجد قواسم مشتركة ونقاط التقاء بينهما، أم إنّهما متخالفان ولا يلتقيان على الإطلاق؟

من هم أعلام هذا العلم وروّاده الأساسيّون؟ وهل لهم صلات وأصول دينيّة، أم إنّهم وافدون على الدين، ولا علاقة لهم بالإسلام؟

وفي ما يلي، سوف نستعرض آراء ثلّة من أعلام التصوّف والعرفان الإسلامي؛ لنقف على عقيدتهم وحقيقة موقفهم، ونستكشف منها مدى ارتباطهم بأصول الدين الإسلامي وتشريعاته. وبالنسبة إلى رابطة العرفان والتصوّف بمصادر التشريع الإسلامي من الكتاب والسنّة، نقف عند أقوال بعض أعلام هذه المدرسة لنستبين رأيهم في الأمر وحقيقة مواقفهم.

قال “الجنيد” (ت297) : “عِلمُنا هذا مشتبك بحديث رسول الله (ص)”[vii].

وقال “سهل بن عبد الله التستّري” (ت 283): “كلّ وجد لا يشهد له الكتاب والسنّة فباطل”[viii].

وقال “أبو سليمان الداراني” (ت 215): “ربّما تنكت الحقيقة قلبي أربعين يومًا فلا آذن لها أن تدخل قلبي إلا بشاهدين من الكتاب والسنّة”[ix].

وقال “الجنيد” أيضًا: “لا ينبغي أن يسلك هذا الطريق إلّا شخص يكون كتاب الله تعالى بيمينه، وسنّة رسوله (ص) بيساره، وبضوئهما يسلك، لئلّا يقع في جُبِّ الشّبهة وظلمة البدعة”[x].

وقال “سرّي السقطي” (ت 257) : “التصوّف اسم لثلاثة معان: هو الّذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلّم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب أو السنّة، ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله”[xi].

يُستشفّ من أقوال هؤلاء الأعلام أنّ القرآن الكريم والسنّة الشريفة مصدران أساسيّان لهذه الطائفة ومنشأ مشروعيّتها، ومن دونهما لا معنى للحديث عن هذا المذهب، ولا لسلوك طريقته، واتّباع منهجه الحقّاني. وبالعودة إلى مدرسة “أبي سراج نصر الطوسي” الّذي يقول بشأنها الدكتور “عبد الحليم محمود” في مقدّمته على كتاب “اللّمع”: “مدرستان صوفيّتان اعتصمتا بالكتاب والسنّة، واتّخذتا من سيّد المرسلين إمامًا وقدوةً، وجعلتا من أشواق الحبّ الإلهي، ومن إلهامات الروح القرآني، ومن مثاليّات الخلق المحمّدي، منهجًا في المعرفة، وطريقًا في السلوك، ومعراجًا للوصول… مدرستان هما قلب التصوّف ولسانه وبيانه، إليهما الفتوى والفيصل في مناهجه وقواعده، وسلوكه ومعارجه. مدرستان تميّزتا بالمعرفة الكاملة الصادقة، النابعة من الكتاب والسنّة، لم تتفرّق بهما السبل، ولم تجنح بهما الأذواق والأشواق، قلّما يعترفان أبدًا بالسبحات الفلسفيّة، والشطحات المترنّحة، والكلمات الغامضة، والّتي تسرّبت إلى الأفق الصوفيّ، وحاولت أن تنتسب إليه، وأن تتستّر بأشواقه وأذواقه. أمّا المدرسة الأولى فهي مدرسة الإمام أبي القاسم الجنيد البغدادي… والمدرسة الثانية هي مدرسة الإمام أبي نصر السراج الطوسي بنيسابور”[xii].

يقول أبو سراج نصر الطوسي في كتابه “اللّمع” مبيّنًا مكانة ومنزلة القرآن الكريم والسّنة الشريفة وموقعهما الحقيقي عند هذه الطائفة، مبيّنًا أنّ مقام أولي العلم إنّما هو وقفٌ على المعتصمين بكتاب الله وسنّة نبيّه:

“وعندي والله أعلم، أنّ أولي العلم القائمين بالقسط الّذين هم ورثة الأنبياء، هم المعتصمون بكتاب الله تعالى، المجتهدون في متابعة رسول الله (ص)، المقتدون بالصحابة والتابعين، السالكون سبيل أوليائه المتّقين وعباده الصالحين، هم ثلاثة أصناف: أصحاب الحديث، والفقهاء، والصوفيّة. فهؤلاء هم الأصناف الثلاثة من أولي العلم القائمين بالقسط الّذين هم ورثة الأنبياء”[xiii].

ويقول أيضًا في موضع آخر من كتابه، شارحًا حقيقة استناد علوم هذه الطائفة إلى القرآن والسنّة: “وللصوفيّة أيضًا مُستنبطات في علوم مشكلة على فهوم الفقهاء والعلماء؛ لأنّ ذلك لطائف مودعة في إشارات لهم تخفى في العبارة من دقّتها ولطافتها، وذلك في معنى العوارض والعوائق والعلائق والحجب وخبايا السرّ ومقامات الإخلاص، وأحوال المعارف، وحقائق العبوديّة ومحو الكون بالأزل، وتلاشي المحدث إذا قورن بالقديم، وفناء رؤية الأعواض، وبقاء المعطي بفناء رؤية العطاء، وعبور الأحوال والمقامات، وجمع المتفرّقات، وفناء رؤية القصد ببقاء رؤية المقصود، والإعراض عن الأعواض، وترك الاعتراض، والهجوم على سلوك سبل منطمسة، وعبور مفاوز مهلكة.

فالصوفيّة مخصوصون من أولي العلم القائمين بالقسط بحلّ هذه العقد، والوقوف على المُشكل من ذلك، والممارسة لها بالمنازلة والمباشرة، والهجوم عليها ببذل المهج، حتّى يُخبروا عن طعمها وذوقها ونقصانها وزيادتها، ويطالبوا من يدّعي حالًا منها بدلائلها، ويتكلموا في صحيحها وسقيمها، وهذا أكثر من أن يتهيّأ لأحد أن يذكر قليله، إذ لا سبيل إلى كثيره. وجميع ذلك موجود علمه في كتاب الله عزّ وجل، وفي أخبار رسول الله (ص)، مفهوم عند أهله، ولا ينكره العلماء إذا استبحثوا عن ذلك. وإنّما أنكر علم التصوّف جماعة من المترسّمين بعلم الظاهر؛ لأنّهم لم يعرفوا من كتاب الله تعالى، ولا من أخبار رسول الله (ص)، إلّا ما كان في الأحكام الظاهرة، وما يصلح للاحتجاج على المخالفين، والناس في زماننا هذا إلى مثل ذلك أميل؛ لأنّه أقرب إلى طلب الرياسة، واتخاذ الجاه عند العامّة والوصول إلى الدنيا”[xiv].

وعند سؤاله عن معنى المستنبطات، وعن مادّتها وآثارها، ونتائجها، بيّن معناها وشرحها: “إذا قالوا: ما معنى المستنبطات فيقال: المستنبطات، ما استنبط أهل الفهم من المتحقّقين بالموافقة لكتاب الله عزّ وجل؛ ظاهرًا وباطنًا، والمتابعة لرسول الله (ص) ظاهرًا وباطنًا، والعمل بها بظواهرهم وبواطنهم. فلمّا عملوا بما علموا من ذلك، ورّثهم الله تعالى علم ما لم يعلموه وهو علم الإشارة، وعلم مواريث الأعمال الّتي يكشف الله تعالى، لقلوب أصفيائه من المعاني المذخورة، اللّطائف والأسرار المخزونة، وغرائب العلوم وطرائف الحكم في معاني القرآن ومعاني أخبار رسول الله عليه الصلاة والسلام من حيث أحوالهم، وأوقاتهم، وصفاء أذكارهم”[xv].

ومن الشواهد المهمّة على ارتباط العرفان وعلاقته الوثيقة بالإسلام، والّذي يعتبره الشهيد مرتضى المطهري مؤيّدًا وشاهدًا قويًّا على وجهة نظر العرفاء، وما يرونه من عدم تناقض مبادئهم مع الدين الإسلامي، ومنابعه ومصادره المعرفيّة من الكتاب والسنّة؛ هو أنّ العرفاء أنفسهم يعتبرون أنّ مصدر معتقداتهم وموادّهم العلميّة مأخوذة كلّها من صميم القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وهي محاولة منهم لتفسير وفهم ما ورد في الكتاب والسنّة، مثلها مثل سائر العلوم الإسلاميّة الأخرى؛ كالفقه والأصول والتفسير، وهم على هذا الأساس بنوا أسسهم النظريّة والعمليّة.

فمن وجهة نظرهم، هنالك العديد من الآيات والروايات لا يمكن فهمها إلّا بالرجوع إلى مدرسة العرفان الأصيل. ويذكر الشهيد مطهّري شواهد عديدة على هذا الأمر من خلال عرض مجموعة من الآيات والروايات الشريفة الّتي لا يمكن تأويلها أو تفسيرها إلّا من خلال الرؤية المعرفيّة العرفانيّة. فيحسم موقفه من أنّ العرفان بكلّ أقسامه وأشكاله “إنّما أخذ موادّه الأولى من الإسلام، وبيّن لها قواعد وضوابط وأصولًا”[xvi]. ثمّ يبيّن نبذة من هذه المؤيّدات الشرعيّة، بعد إنكاره بشدّة على الرأي الذي يرى أنّ العرفان ليس له جذور إسلاميّة، وأنّه وافدٌ على الإسلام من الخارج. ثمّ يستدل بمطالب تثبت أنّ تعاليم الإسلام الأصيلة كانت هي الملهم الأساس للمعارف العميقة في العرفان النظري والعملي. منها على سبيل المثال لا الحصر؛ قوله تعالى: ﴿أينما تولّوا فثمّ وجه الله[xvii]، وقوله ﴿ونحن أقرب إليه منكم[xviii] و﴿هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن[xix]. فهذه الآيات وغيرها دعت الإنسان والعقل الإنساني إلى التفكير في نوع من التوحيد، هو أسمى وأعلى من التوحيد السطحي الّذي يعتقد به العوام.

كما أنّ إلقاء نظرة على بعض الآيات القرآنيّة الّتي تتحدّث عن “لقاء الله” و”رضوان الله” وحقيقة “الوحي” و”الإلهام” ومكالمة الملائكة، ولا سيّما من غير الأنبياء كمريم (عليها السلام)، وآيات معراج الرسول (ص)، والآيات الكريمة الّتي تتحدث عن “تزكية النفس” بعنوان أنّها طريق الفلاح الوحيد: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ‏ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها[xx]، وعن المجاهدة بعنوان أنّها طريق الهداية ﴿وَالَّذينَ جاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا[xxi]، وعن “النفس الأمّارة” و”النفس اللوّامة” و”النفس المطمئنّة” و”العلم الإفاضي” و”العلم اللدنّي”، وعن الحبّ الإلهي، وأنّه فوق كلّ حبّ، وعن تسبيح وتحميد جميع ذرّات العالم…؛ هذه الآيات الكريمة وغيرها تكفي لتكون نقطة إلهام لأصحاب القلوب والعقول، للانطلاق نحو فضاءات المعارف والعلوم المعنويّة في الإسلام، من أجل البحث حول حقيقتها ومكنوناتها.

وبالإضافة إلى الآيات القرآنيّة، فإنّ الروايات والخطب والأدعيّة والاحتجاجات الإسلاميّة، وتراجم أكابر المتربّين بتربية الإسلام، تثبت هي أيضًا لنا أنّ الّذي كان في صدر الإسلام لم يكن زهدًا جامدًا وعبادة من أجل الظفر بالأجر والثواب فقط، بل الروايات والخطب والأدعية والاحتجاجات زاخرة هي الأخرى بالمعاني العرفانيّة العظيمة والسامية. كما أنّ سيرة شخصيّات الصدر الأوّل تحكي عن سلسلة من العواطف الجيّاشة، والواردات الروحيّة، والبصيرة القلبيّة، وعن درجة عالية من العشق والفناء المعنوي. “فحياة وحالات وكلمات ومناجاة الرسول الأكرم (ص) مليئة بالهيجانات المعنويّة الإلهيّة والإشارات العرفانيّة. وقد استشهد العرفاء كثيرًا بأدعية الرسول الأكرم (ص). وكلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ملهمة للمعرفة المعنويّة، وهو الّذي إليه يُنهي أكثريّة أهل العرفان والتصوّف سلسلة مشيختهم. وإنّ الأدعية الإسلاميّة، ولا سيّما الأدعية الشيعيّة، كنز من المعارف؛ كدعاء كميل ودعاء أبي حمزة الثمالي والمناجاة الشعبانيّة وأدعية الصحيفة السجاديّة. فهل لنا مع جميع هذه المنابع أن نفتّش عن أيّ منبع من خارج عالم الإسلام”[xxii].

ويأتي “مطهّري” بشاهد إضافيّ على مدّعاه من كلامات بعض المستشرقين الّذين كانت للبعض منهم إسهامات في الترويج لنظرية فصل العرفان عن الإسلام. فبعض المستشرقين الّذين لهم باع معروف في دراساتهم وأبحاثهم حول التصوّف والعرفان، أقرّوا واعترفوا بعد طول بحث وتجوال بالأصول والجذور الإسلاميّة للعرفان، قال:

“ومن حسن الحظ أنّ بعض المتأخرين من المستشرقين، مثل نيكولسون الإنجليزي، وماسينيون الفرنسي، ممّن يعترف لهم الجميع بمطالعاتهم الوسيعة في العرفان الإسلامي، اعترفوا بأنّ المنبع الأصلي للعرفان الإسلامي هو القرآن والسنّة. يقول نيكولسون بهذا الصدد: “نرى القرآن يقول: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ[xxiii]، ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَليم‏﴾[xxiv]، ﴿لا إِلهَ إِلاَّ هُو…﴾[xxv]، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْها فان‏﴾[xxvi]، ﴿وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي‏﴾[xxvii]، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريد[xxviii]، ﴿فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ[xxix]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُور[xxx]، ولا شكّ في وجود جذور للتصوّف والعرفان في هذه الآيات، ولم يكن القرآن للصوفيّين الأوائل كلمات الله فحسب، بل سبب التقرّب إليه أيضًا. وكان الصوفيّون يسعون في الحصول على الحالة الصوفيّة لرسول الله (ص) في أنفسهم، عن طريق العبادة والتعمّق في أقسام من القرآن، ولا سيّما الآيات الرمزيّة في معراج رسول الله”.

ويقول أيضًا: “الوحدة الصوفيّة نرى أصولها مذكورة في القرآن أكثر من أيّ مصدر آخر، وكذلك الرسول يقول كما في الحديث القدسي: “لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى إذا أحببته، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به ولسانه الّذي ينطق به ويده الّتي يبطش بها”[xxxi]. وقد كرّرنا القول إنّ الكلام ليس في صحة ما استلهمه العرفاء والمتصوّفة وعدمها، بل الكلام في أنّ منشأ هذه الاستلهامات هل هي منابع إسلاميّة أو من خارج الإسلام”[xxxii].

ومن الشواهد القويّة والمهّمة على علاقة العرفان الوطيدة بالإسلام، ما يذكره العلّامة “الطباطبائي” في كتابه “رسالة الولاية”[xxxiii]؛ في أنّنا لو رجعنا إلى القرآن الكريم والسنّة الشريفة، فسوف نلاحظ أنّ هناك معارف باطنيّة وأسرارًا وعلومًا خفيّةً مخفيّة عنّا، لا يعلمها إلّا الله عزّ وجلّ، أو من شاء الله وارتضى أن يعرّفه إيّاها. وأنّ الكتاب والسنّة مشحونة بهذه المعارف والأسرار الباطنية، والّتي غالبًا ما تأتي مرمّزة، ومختصرة، لا يمكن فهمها إلّا بتأويل خاصّ من أولي العلم الّذين قال الله تعالى عنهم في كتابه الكريمِ: ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[xxxiv]. وهو يرفض بدورة فكرة أنّ العرفان وافدٌ وطارئٌ على الإسلام من الخارج، أو أنّ الإسلام ورث العرفان عن الأديان والمذاهب الأخرى. بل يعتبر أنّ التصوّف والعرفان حالة طبيعية وضروريّة في حركة الأمم وثقافتهم عند توجّههم نحو عالم الغيب والمعنويّات والمسائل الروحيّة، والّتي ليست حكرًا على فئة أو دين أو مذهب. بل من جهة نظر العلّامة الطباطبائي، إنّ دخول العامل الديني على أيّة أمّة من الأمم كفيلٌ بتصويب مسارها نحو المعنويّات والمسائل الروحيّة والغيبيّة، قال:

“إنّ دين الفطرة يهدي إلى الزهد، والزهد يرشد إلى عرفان النفس. فاستقرار الدين بين أمّة، وتمّكنه من قلوبهم، يُعدّهم ويُهيّئهم لأن تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة، ويأخذ بها بعض من تمّت في حقّه العوامل المقتضية لذلك. فمكث الحياة الدينيّة في أمّة من الأمم بُرهة معتدًّا بها يُنشئ بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة، وإن انقطعوا عن غيرهم من الأمم الدينيّة كلّ الانقطاع. وما هذا شأنه لا ينبغي أن يُعدّ من السُّنن الموروثة الّتي يأخذها جيل عن جيل”[xxxv].

وعليه، نستنتج بعد هذا الشرح ومجموع ما ذكرناه، أنّ نشأة العرفان والتصوّف الإسلامي هي نشأة إسلاميّة، وأنّ القرآن والسنّة مصدران ورافدان أساسيّان لهذه الطائفة، وهما يوليانهما أهمّية كبيرة وفائقة، ويجعلونهما معيارًا وعلامة على صحّة ما يتوصّلون إليه في أبحاثهم ونظريّاتهم. فنلاحظ بشكل واضح أنّ كتب ومدوّنات العرفاء والمتصوّفة مليئة وزاخرة بالأحاديث والروايات والاستشهادات القرآنيّة. وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على مدى أصالة هذا العلم، ومدى مركزيّة الكتاب والسنّة فيه.

والعرفاء والمتصوّفة لم يكتفوا بأن استقوا أصولهم وقواعدهم السلوكيّة والمعرفيّة من الدين الإسلامي، وبالتحديد من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وعدّوا كلّ ما يخالفهما مرفوضًا ولا قيمة له على الإطلاق، بل تميّزوا أيضًا بنظرتهم الخاصّة والفريدة للدّين، والّتي يعدّونها أعمق وأشمل من رؤى غيرهم. فهم من خلال رجوعهم إلى أصول الدين وقواعده وأحكامه المنصوصة في الكتاب والسنّة، بيّنوا أنّ للدين الإسلامي بتراثه المعرفي وأحكامه وآدابه بعديْن ينبغي على كلّ مسلم الالتفات إليهما والأخذ بهما. وهذان البعدان يحاكيان في الوقت نفسه عالمَيْ الوجود التكويني والنفسي أيضًا، اللّذيْن ينقسمان إلى نشأتين وبعدين هما: الغيب والشهادة، أو الباطن والظاهر.

فالعارف يرى أنّ للعالم الكبير الكوني، والصغير الإنساني، ولأحكام وتعاليم الدين الإسلامي بتبعهما، بعديْن هما الظاهر والباطن، بل ولباطن كلّ منها بطون. وله على ذلك شواهد كثيرة من الكتاب نفسه والسنّة كما سوف يتبيّن معنا، فضلًا عن الشواهد والأدلّة العقليّة الّتي سوف نتعرّض لها ونبيّنها في الفصول اللّاحقة. ونتيجة لهذا الفهم والرؤية الخاصّة للحقائق الوجوديّة، تكوّن لدى العارف تصوّرٌ مختلفٌ للدين هو أعمق وأشمل ممّا هو موجود عند بقيّة الطبقات والفئات العلميّة والفكريّة. فالعرفاء يرون أنّ الشرع المحمّدي، أي مجموع تعاليم الدين الإسلامي المبين، يشتمل في حقيقته على ثلاث مراتب تشير كلّها إلى حقيقة وهويّة واحدة، هي هويّة الإسلام، ولكنّها حقيقة ذات شؤون ومراتب، يطلقون عليها تسمية “الشريعة”، “الطريقة”، “الحقيقة”. فالدين الإسلامي المنزّل من عند الله بنظر العرفاء له ثلاثة أبعاد ومراحل، والعلاقة بين هذه المراحل علاقة طوليّة. ومن خلال هذه الرؤيا وهذا الفهم الخاصّ بالدّين، نلاحظ أنّ العرفاء لم يعتمدوا فقط في مباحثهم على الكتاب والسنّة الشريفة، بل إنّ جوهر نظريّتهم مبنيٌّ على أنّ العرفان ليس سوى الدين، ولكن بلحاظ بعده الغيبي والباطني، النابع من البعد الظاهري.

والبعد الباطني عندهم لا ينفصل ولا ينفكّ عن الظاهر، والطريقة والحقيقة عندهم ليستا مباينتيْن للشريعة، بل هما في طولها، إن لم نقل عينها بحسب وجهة نظرهم كما سوف نلاحظ لاحقًا. فالدين عندهم حقيقة واحدة ذات شؤون ومراتب تبدأ من الظاهر وتغوص في الباطن لتصل في نهاية الأمر إلى الحقيقة المطلقة الّتي ينشدها كلّ إنسان ووجدان إنساني.

وعليه، فإنّ ارتباط العرفان بالدين وشريعته بناءً على هذه الرؤيا وهذا الفهم هو ارتباط وثيق وأصيل أيضًا، بل هو من أوثق مظاهر الارتباط لكونه ينسجم مع النظام الوجودي، التكويني والإنساني معًا، ويحقّق الهدف الحقيقي والنهائي للدين الإسلامي، وهو الكمال. كما يقول السيد “حيدر الآملي”[xxxvi] وهو أعظم عرفاء القرن الثامن الهجري: “الشريعة والطريقة والحقيقة أسماء مترادفة صادقة على حقيقة واحدة باعتبارات مختلفة، وليس فيها خلاف في نفس الأمر”[xxxvii].

ويضيف شارحًا معنى هذه الحقائق والأبعاد، ومنزلتها وعلاقتها فيما بينها: “فالشريعة اسم للوضع الإلهي والشرع النبوي من حيث البداية، والطريقة اسم له من حيث الوسط، والحقيقة اسم له من حيث النهاية. ولا تخرج المراتب أصلًا – وإن كثرت – عن هذه الثلاث. فيكون اسمًا جامعًا للكلّ، أي يكون الشرع اسمًا جامعًا للمراتب كلّها، وعليه تترتّب المراتب المذكورة؛ لأنّ الأوّل مرتبة العوام، والثاني مرتبة الخواص، والثالث مرتبة خاصّ الخاصّ، والمكلّفون وذوو العقول بأجمعهم ليسوا بخارجين عنها، فتكون هذه المراتب – أي الشريعة والطريقة والحقيقة – شاملة للكلّ، ومعطية حقّ الكلّ، فيكون كلّ واحد منها حقًّا في مقامه”[xxxviii].

ويبيّن السيّد “حيدر الآملي” تجلّيات ومظاهر كلّ مرتبة من هذه المراتب، ومصاديقها الواقعيّة في هذه النشأة الدنيويّة. ويصل إلى نتيجة أنّ العرفاء هم أكمل الناس وأحسنهم التزامًا بالشرع الإسلامي، لكونهم يجمعون حقيقة المراتب الثلاث، والّتي لا يوفّق إليها إلا من أُوتِي جوامع العلم والكَلِم. فهذه المنزلة عندهم هي منزلة الأنبياء والأولياء الكاملين الّذين اجتباهم الله وحباهم بهذه الكرامة لقابليّاتهم واستعداداتهم الخاصّة:

“المراد من مجموع هذا البحث أنّ نثبت أنّ الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) كانوا مراعين للمراتب الثلاث، أعني الشريعة والطريقة والحقيقة، وكانوا أهلها، وأنّ رعاية المراتب الثلاث واجبة على كلّ عاقل، وأنّه على هذا بدأ مذهب أهل الله تعالى وبه انختم”[xxxix].

إذًا، بالعودة إلى تعاليم الدين الإسلامي وأحكامه، ووفق الرؤية العرفانيّة الأصيلة، فإنّ هذه الأحكام ليست محصورة بالبعد الظاهري المرتبطة بالتشريعات والأحكام الفقهيّة فقط، بل الشريعة في منطق العارف هي الجامعة للظاهر والباطن. وهي إلى جانب الأوامر والنواهي الظاهريّة، والتي يصطلح عليها العارف بالشريعة، هناك الطريقة، وهي طريق السير والسلوك الّذي يهدف من خلاله العارف التقرّب إلى الله تعالى من خلال العمل بالأوامر كافّة والالتزام بالقوانين الإلهيّة كافّة.

وبالإضافة إلى الطريقة هناك الحقيقة، وهي عبارة عن المعارف الإلهيّة الّتي تُفاض على قلب العارف عن طريق الكشف والشهود، بعد العمل بما جاء به الشرع وطيّ مقامات الطريقة ومنازلها.

والعلاقة بين هذه المراتب الثلاث بنظر العارف هي علاقة طوليّة، فمن يسعى للوصول إلى مقام قرب الحقّ تعالى، لا بدّ له أولًا من أن يبدأ بالشريعة، من خلال الالتزام الدقيق بكلّ أحكام الشرع الحنيف، ومن ثمّ السير والسلوك في الطريقة والعمل بمقتضياتها من أجل الوصول في النهاية إلى منزلة الحقيقة، فيشاهد حقائق التوحيد في عالم الوجود.

ويؤكّد العرفاء على أنّه لا يمكن أن يخطوَ الإنسان في عالم الطريقة والسير والسلوك المعنوي، ولا حظّ له للوصول إلى الحقيقة، من دون مراعاة أحكام الشريعة، بل والالتزام بأدقّ تفاصيلها، وعدم مخالفتها على الإطلاق؛ لأنّ التقرّب إلى الحقّ تعالى من وجهة نظرهم لا يمكن أن يتحقّق من خلال مخالفة الأوامر والنواهي الإلهيّة، والّتي هي برنامج طريقتهم وسيرهم نحو المعرفة الشهوديّة والكشفيّة للحقائق الوجوديّة.

من هنا، نعرف منزلة الشريعة وأهمّيتها وموقعها الحقيقي عند العارف، ونفهم أكثر علاقة العرفان بالدين وتشريعاته وأحكامه. فأهمّية الشريعة لدى العرفاء تصل إلى الحدّ الّذي يرون فيه استحالة السير والسلوك والوصول إلى حقائق التوحيد ومراتب الكمال الإنساني من دون اتّباع الشريعة بأدقّ تفاصيلها. وهم يعتقدون أيضًا أنّ هذا الاتّباع ليس أمرًا مرتبطًا بأوّل الطريق فقط، بل شرط اتّباع الشريعة من الشروط اللّازمة للوصول إلى مقام الفناء وما بعده أيضًا، فهو شرط مقارن ودائمًا.

العارف يعتقد أنّ الهدف الأساسي من التكاليف والأوامر والنواهي الإلهيّة الواردة في الشريعة الدينيّة هو تحقّق روح العبوديّة لله تعالى. وهذه الروح هي من أهمّ النتائج الّتي يصل إليها العرفاء في مقام التوحيد وأكثرها لذّة. ويرون أنّ الأحكام والقوانين الفقهيّة الظاهريّة كافّة تمتلك بعدًا روحيًّا وباطنيًّا عميقًا. ففي كلّ حكم شرعي تكمن روح التوحيد، ولا يمكن الوصول إليه إلّا من خلال التعمّق فيه. ولذا يرى العرفاء أنّ أتباع الحدود الإلهيّة هو من أعمق التكاليف والوظائف، وأكثرها نورانيّة وتأثيرًا على باطن الإنسان وسيره المعنوي والمعرفي.

ويشرح “الهجويري” في كتابه كشف المحجوب علاقة الشريعة بالطريقة والحقيقة، مؤكّدًا على محوريّة الشريعة ودورها الأساسي في الوصول إلى الحقيقة:

“يقول محمّد بن الفضل البلخي[xl] (رحمه الله) العلوم ثلاثة: “علم من الله، وعلم مع الله، وعلم بالله”. فالعلم بالله هو علم المعرفة الّذي عرفه به جميع أوليائه. ولو لم يكن تعريفه وتعرّفه لما عرفوه؛ لأنّ كل أسباب الاكتساب المطلق منقطعة عن الحقّ تعالى.

ولا يصير علم العبد علّة لمعرفة الحقّ؛ لأنّ علّة معرفته تعالى وتقدّس إنّما هي أيضًا هدايته وإعلامه. والعلم من الله هو علم الشريعة، وهو أمر وتكليف منه لنا. والعلم مع الله هو علم مقامات طريق الحقّ، وبيان درجات الأولياء. فالمعرفة إذًا لا تصحّ من دون قبول الشريعة، وممارسة الشريعة لا تستقيم بغير إظهار المقامات”[xli].

ويحدّد “محي الدين بن عربي” في كتابه “الفتوحات المكيّة” منزلة الشريعة وعلاقتها بالعرفان، ويؤكّد بدوره على محوريّة الشريعة الدينيّة في معرض ردّه على من عزلوا الشريعة عن منهج هذه الطائفة، ولم يأخذوا من الشريعة إلّا ما وافق نظرهم، وما عدا ذلك رموا به جانبًا، فيقول: “وطائفتنا لا ترمي من الشريعة شيئًا، بل تترك نظرها وحكم عقلها بعد ثبوت الشرع لحكم ما يأتي به الشرع إليها، ويقضي به فهم سادات العالم”[xlii].‏

ويشير في موضع آخر من الكتاب نفسه إلى أنّ الشريعة لا يمكن أن تخالف الحقيقة، وكذا الحقيقة أيضًا من المستحيل أن تخالف الشريعة؛ لأنّهما عين بعضهما البعض من جهة وغيرهما من حيثيّة أخرى.

فالشريعة من وجهة نظره ليست سوى ظاهر الحقيقة، والحقيقة ليست سوى باطن الشريعة، وهي أمرٌ صعب المنال، لا يدرك غورها إلّا الخواص من المؤمنين، ولهذا السبب فرّقوا بين الشريعة والحقيقة، لكونهما مظهريْن لاسمي الظاهر والباطن. قال: “إنّ الحقيقة تطلب الحقّ لا تخالفه، فما ثمّ حقيقة تخالف شريعة، لأنّ الشريعة من جملة الحقائق والحقائق أمثال وأشباه. فالشرع ينفي ويثبت فيقول ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ[xliii]، فنفى وأثبت معا كما يقول: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[xliv]، وهذا هو قول الحقيقة بعينه. فالشريعة هي الحقيقة”[xlv].

ويذهب ابن عربي إلى أبعد من ذلك، فيعتبر الشريعة مدخلًا وشرطًا أساسيًّا لمعرفة الله وحبّه أيضًا، وهو لا يرى حظوظًا لمعرفته، ومن ثمّ مشاهدته ومحبّته إلّا من خلال الالتزام بالشريعة الإلهيّة، وما نصّ عليه من أحكامها في الظاهر، والتقيّد برسومها وحدودها لأنّها الطريق الأصيلة والوحيدة للظفر بحبّ الجمال المطلق، بحب الله عزّ وجل:

“ومن أدب الشريعة أخذك لأحكامها المشروعة والوقوف عند رسومها وحدودها، واتّصافك بها لمجرّد الخدمة والاشتغال، لا لتحلية النفس بالعلم بها دون العمل‏. فوالله لولا الشريعة الّتي جاءت بالأخبار الإلهيّة ما عَرَف الله أحد. ولو بقينا مع الأدلّة العقليّة الّتي دلّت في زعم العقلاء على العلم بذاته بأنّه ليس كذا وليس كذا؛ ما أحبّه مخلوق”[xlvi].

وفي الختام، نذكر مؤشّرًا قد يكون مهمًّا على ما ذهب إليه العرفاء من أنّ منشأ العرفان منشأٌ إسلامي، ومصادره نابعة من صميم الدين. هذا المؤشر مرتبط بأئمّة هذه الطائفة وأعلامها الأساسيّين. فبالرجوع إلى ما ذكره العرفاء والمتصوّفة أنفسهم حول الأصول الرجاليّة لهذا العلم، نجدهم يجمعون على أنّ المصدر الأساسي لعلومهم هم أئمّة أهل بيت الرسول (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). وأنّ كلّ ما طرحوه من مباحث وأفكار، فإنّ مراجعه ومنابعه الأساسيّة مكنوزة في معادن عظمة هذا الدين؛ أي أئمّة أهل بيت العصمة والطهارة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا: ﴿إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا[xlvii]، وبالخصوص الإمام علي بن أبي طالب (ع) والإمام جعفر الصادق (ع). ويكفي أن نرجع إلى مصنّفات العرفاء والمتصوّفة حول التراجم والطبقات الرجاليّة لهذه الطائفة، لنلاحظ أنّ جلّهم يرجع إلى إمام أو أكثر من أئمّة أهل بيت النبي (ص).

فـ”الهجويري” مثلًا يذكر في كتابه “كشف المحجوب” أوصاف أئمّة أهل بيت النبي (ع) عند ذكره وبيانه لأئمّة وأعلام طائفة الصوفيّة، فيذكر أسماء وأوصاف أهل البيت بشكل مسهب ومفصّل، ويعدّدهم إمامًا بعد إمام. يقول في الفصل الثامن تحت عنوان “باب في ذكر أئمّتهم في أهل البيت” مبتدئًا بالإمام علي بن أبي طالب (ع):

“ومنهم ابن عم المصطفى، وغريق بحر البلاء، حريق نار الولاء، وقدرة الأولياء والأصفياء أبو الحسن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه. وله في هذه الطريقة شأن عظيم ودرجة رفيعة. وكان له حظّ تامّ في دقّة التعبير عن أصول الحقائق إلى حدّ أن قال “الجنيد” (رحمه الله): “شيخنا في الأصول والبلاء علي المرتضى رضي الله عنه”. أي أنّ عليًّا رضي الله عنه هو إمام هذه الطريقة في العلم والمعاملة، فأهل الطريقة يطلقون على علم الطريقة اسم الأصول، ويسمّون تحمّل البلاء فيها بالمعاملات”[xlviii].

ثمّ يبدأ بعد ذلك بذكر أئمّة أهل بيت النبي (ص) بعد الإمام علي (ع) فيقول:

“وأهل بيت النبي عليه السلام هم أولئك الذين اختصّوا بطهارة الأصل، ولكلّ منهم في هذه المعاني قدم راسخة، وكانوا كلّهم قدوة هذه الطائفة، الخواص منهم والعوام، وأبيّن طرفًا من أحوال طائفة منهم، إن شاء الله عزّ وجل. منهم فلذة كبد المصطفى، وريحانة قلب المرتضى، وقرّة عين الزهراء، أبو محمّد الحسن بن علي كرّم الله وجهه، كان ذا نظر صائب في هذه الطريقة، وحظّ وافر في دقائق العبارات، إلى حدّ أنّه عندما أوصى قال: “عليكم بحفظ السرائر، فإنّ الله تعالى مطّلع على الضمائر”. وحقيقة هذا أنّ العبد مخاطبٌ بحفظ الأسرار مع الحقّ، وحفظ الأظهار من مخالفة الجبّار…

ومنهم شمع آل محمّد، والمجرّد من العلائق، سيّد زمانه أبو عبد الله الحسين بن أبي طالب رضي الله عنهما. كان من الأولياء المحقّقين وقبلة أهل البلاء، وقتيل صحراء كربلاء. وجميع أهل الطريقة متّفقون على صحّة حاله؛ لأنّه كان متابعًا للحقّ ما دام الحقّ ظاهرًا، فلمّا فُقِد الحقّ، شهر سيفه، ولم يهدأ حتّى جعل روحه العزيزة فداء الشهادة لله عزّ وجل… ومنهم أيضًا وارث النبوّة، وسراج الأمّة، السيّد المظلوم، والإمام المحروم، زين العباد وشمع الأوتاد، أبو الحسن علي بن الحسين بن أبي طالب رضي الله عنه. كان أكرم وأعبد أهل زمانه، وهو مشهور بكشف الحقائق والمنطق بالدقائق… ومنهم الحجّة على أهل المعاملة وبرهان أهل المشاهدة، وإمام أولاد النبي، والمختار من نسل علي، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، ورضي عنه. ويقال أنّه كان يُكنّى بأبي عبد الله، ويلقّب بالباقر. كان مخصوصًا بدقائق العلوم، ولطائف الإشارات في كتاب الله عزّ وجلّ، وكانت له كرامات مشهورة، وآيات زاهرة، وبراهين نيّرة…

ومنهم سيف السنّة، وجمال الطريقة، ومعبر المعرفة، ومزيّن الصفوة أبو محمّد جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي الصادق، رضوان الله عليهم أجمعين. كان عالي الحال، وحسن السيرة، ومزيّن الظاهر وعامر السريرة. وله إشارات جميلة في كلّ العلوم. وهو مشهور بين المشايخ رضي الله عنهم أجمعين، بدقّة كلامه ووقوفه على المعاني. وله كتب معروفة في بيان الطريقة…”[xlix].

وبذلك، ظهر لنا على نحو مختصر، وسوف نفصّل الكلام أكثر في الفصل الثّاني عندما نتحدّث عن تاريخ العرفان النظري، والصلة والرابطة القويّة بين الدين الإسلامي وأئمّته، وبين العرفان النظري والتصوّف الفلسفي في الإسلام.

2.   أقسام العرفان الإسلامي وأنواعه

أشرنا في المبحث الأوّل إلى أنّ العرفان لغة يعني المعرفة، واصطلاحًا هو حركة علميّة وسلوكيّة معنويّة قائمة على أساس المعرفة بالله. وهي معرفة مباشرة به تعالى قائمة على انكشاف أو رؤية جذبيّة، وليست نتيجة بحث عقلي، بل هي متوقّفة أصالة على رضوان الله ومشيئته، يسبغها منحة من عنده على من لديه القابليّة والاستعداد الخاص لذلك، وبالتّبع على تصفية القلب وتزكية النفس، حتّى يشرق نور الجمال الرباني، ويشعّ في قلب العارف، فيفنيه عن كلّ ما سوى الخالق عزّ وجل، فيغلب كلّ قدرة إنسانيّة ويقهرها لتصبح قدرات الإنسان إلهيّة ربانيّة.

إذًا علم العرفان هدفه الأساس وغايته معرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته وأفعاله، وفق منهج وبناء أساسه الإشراق الباطني والكشف والشهود القلبي. فالعارف يسعى من خلال الكشف والشهود القلبي إلى الوصول إلى المعرفة بالحقّ تعالى وبأسمائه وصفاته وتجلّياته ومظاهره، وبحقائق الوجود الكوني والإنساني، ويسعى أيضًا إلى معرفة الطريق الّتي توصله إلى هذا النوع من المعرفة، ومنهجه في ذلك كما ذكرنا هو طهارة الباطن وتخليته من الحجب والموانع الأهوائيّة والدنيويّة، حتى يصبح هذا الباطن أهلًا للإشراقات والفيوضات الغيبيّة الإلهيّة.

يذكر “القيصري” حدّ علم العرفان في رسائله فيقول: “فحدّه هو العلم بالله سبحانه وتعالى من حيث أسمائه وصفاته، ومظاهره وأحوال المبدأ والمعاد. وبحقائق العالم وكيفيّة رجوعها إلى حقيقةٍ واحدةٍ، وهي الذات الأحديّة. ومعرفة طريق السلوك والمجاهدة، لتخليص النفس من مضائق القيود الجزئيّة، وأيضًا لها مبدؤها واتّصافها بنعت الإطلاق والكليّة”[l].

نستنتج من هذا التعريف لعلم العرفان أنّنا أمام نوعيْن من المعرفة العرفانيّة: معرفة بالله سبحانه، ومعرفة بالطريق الّتي يوصل إليها تعالى. وقد أطلقوا على النوع الأوّل من المعرفة اسم “العرفان النظري”، والنوع الثاني “العرفان العملي”.

‌أ.      العرفان العملي:

العرفان العملي هو العلم “الّذي يتعهّد تفسير وبيان مقامات العارفين ودرجات السالكين إلى القرب الإلهي، بقدم المجاهدة والتصفية والتزكية”[li]، وهو عبارة عن “القواعد والقوانين المرتبطة بأعمال القلب وحالاته (الرياضات) في قالب المنازل والمقامات التي يؤدّي اتّباعها للحصول على الكمال النهائي للإنسان؛ التوحيد أو مقام الفناء ومشاهدة الحقّ”[lii]. بمعنى آخر هو العلم بطريق السير والسلوك إلى الله، أي من أين يبدأ السالك وإلى أين ينتهي، وما هي المنازل والمقامات التي عليه عبورها للوصول إلى الله سبحانه وتعالى، والعلم بكيفيّة تهذيب النفس ومجاهدتها للتغلّب على الأهواء والشهوات والتحرّر من علائقها[liii]. وقد تصدّت شريحة من الكتب لبيان الأسس المعرفيّة لكيفيّة السلوك وطيّ المنازل والمقامات أهمها كتابا “منازل السائرين” لـ”عبد الله الأنصاري”، و”الرسالة القشيرية” لـ”عبد الكريم القشيري”.

وبالعودة إلى نصّ القيصري المتقدّم، يمكننا أن نستنتج أنّ حدود العرفان العملي تتمحور حول مبدأ أساسي هو المعرفة بطريق السير والسلوك العرفاني الّذي يوصل النفس إلى كمالها النهائي، وكيفيّة التحرّر من القيود والموانع الّتي تحول دون اتّصال النفس الإنسانيّة بمبدئها واتّصافها وتحلّيها بصفاته المطلقة. بمعنى آخر، أصول العرفان العملي هي:

  • الأصل الأوّل: معرفة طريق السلوك إلى المبدأ.
  • الأصل الثّاني: معرفة سبيل المجاهدة لتخليص النفس من قيود الشهوات والأهواء والتعلّقات الدنيويّة، وهي قيود تنشأ من ابتعاد الإنسان عن مصدر الوجود، أي عن الذات الإلهيّة المقدّسة. فكلّما ابتعد الإنسان عن معدن العظمة والحضور الإلهي تضاعفت هذه القيود وتكثّرت، والعكس صحيح. وهدف العارف هو التحرّر من جميع القيود للاتصال بالذات الإلهيّة المقدّسة، المطلقة من جميع القيود والاعتبارات.
  • الأصل الثّالث: السعي من أجل الاتّصال بالذات الإلهيّة المقدّسة، وهي الغاية الأصليّة والقصوى للعارف، وهذا الاتّصال هو المعبّر عنه بلغة العرفاء، بعبارة “الفناء” في ذات الله، والبقاء بعد الفناء.

‌ب.   العرفان النظري:

قالوا في بيان معنى العرفان النظري؛ أنّه معرفة و”رؤية كونية عن المحاور الأساسيّة في عالم الوجود، وهي “الله” و”الإنسان” و”العالم”. ولكنّ العارف يستند في تأسيس هذه الرؤية على المكاشفة والشهود”[liv]. وأنّه “التعبير عن الحقائق والمعارف التوحيديّة، أي الوحدة الشخصيّة للوجود ولوازمها، والّتي يصل إليها العارف عن طريق الشهود في آخر مراحله، والّتي تحصل بسبب الرياضة والعشق”[lv]. وقد تكفّلت شريحة كبيرة من الكتب لبيان هذه الرؤية؛ ككتاب “تمهيد القواعد” لـ”ابن تركة الأصفهاني”، و”فصوص الحكم والفتوحات المكيّة” لـ”محي الدين بن عربي”، وكتاب “مصباح الأنس” لـ”حمزة الفناري”.

وبالعودة إلى ما ذكره “القيصري” بشأن معنى العرفان، يتّضح لدينا أكثر معنى العرفان النظري، فحدهّ بناء لتعريفه:

أوّلًا: معرفة الله: وليس المقصود منه الإحاطة بكنه الذات لأنّه محال، بل المقصود منه معرفة تجلّياته ومظاهره الأسمائيّة والصفاتيّة والأفعاليّة.

ثانيًا: معرفة المبدأ: بمعنى كيفيّة صدور الكثرات من مقام أحديّة الذات.

ثالثًا: معرفة حقائق عالم الوجود التكويني والإنساني، وكيفيّة انتساب كلّ حقيقة منها إلى الذات الإلهيّة المقدّسة، وكيفيّة وجودها.

رابعًا: معرفة المعاد: بمعنى كيفيّة رجوع الكثرات الوجوديّة إلى الوحدة الحقّة الحقيقيّة.

بمعنى آخر، يمكن أن نختصر فنقول إنّ مباحث العرفان النظري تتمحور في ثلاثة أصول هي:

  • معرفة الوحدة الحقيقيّة الّتي صدر عنها الوجود.
  • معرفة الكثرة الصادرة من تلك الوحدة.
  • معرفة النسبة بين تلك الوحدة وهذه الكثرة.

وهذه الأصول الثلاثة تشكّل أساس العرفان النظري، وما قاله العرفاء بشأنها هو في حقيقته (ودائمًا بحسب وجهة نظر العارف)؛ إنّما هو في حقيقته شرح وتفسير لما ورد في القرآن الكريم، وأحاديث رسول الله وأئمّة الهدى (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

3.   علاقة العرفان النظري بالعرفان العملي

اتّضح لنا حتى الآن أنّ علم العرفان من بين سائر العلوم هو الذّي اعتنى بالمعرفة الإلهيّة موضوعًا وغايةً. وينقسم إلى نظريّ وعمليّ. يقوم العرفان النّظري، أو ما يُعرف بعلم الإلهيّات، على البحث والدّراسة الفكريّة المعمّقة، ويعمل على تفعيل وعي الإنسان؛ بحيث يُحصِّل معرفةً واقعيّةً بالله وصفاته وأفعاله، فيتنوّر قلبه بعلم حقيقيّ بمبدئه ومعاده، مستعينًا بالقوة العقليّة الّتي منحه الله إيّاها، سالكًا الأسلوب العقلي البرهاني المؤدّي إلى اليقين. فبالنسبة إلى العرفان النظري كما سوف يظهر لنا في الباب الثاني من هذا البحث؛ أنّ عمليّة الإشراق والوصول إلى كنه الأشياء وحقائق الأمور، إحدى أهم وسائلها هي الرياضة العقليّة، الّتي تهدف إلى منع الشواغل عن الحواس وتجاوز حدود العالم المحسوس، وذلك من أجل التصديق بمعطى الوحي والإيقان به، مع تفاعل قلبي وشهود وجداني تحت مِظلّة الوحي ورعاية الكلام الإلهي، فيتفاعل عقل العارف مع قلبه، وحقيقته وسرّه لمشاهدة الواقع كما هو من أعلى مراتبه إلى أدناها.

أمّا العرفان العملي فيبحث في طريق السّفر إلى الله تعالى، وكيفيّة طيّ المراتب والمقامات المعنويّة، ومعاينة منازل السلوك بواسطة الكشف والشهود، ولكن بإطار معرفيّ أيضًا، من خلال بيانه للقواعد والأسس النظريّة للسلوك المعنوي. فهو علم يعمل على قيادة الإنسان وسَوقه نحو الواقع المُشاهَد والمكشوف، فيتمحور موضوعه حول المنازل الّتي يقطعها الإنسان في سيره وسلوكه نحو ربّه وكيفيّة تحصيلها، ويحذّر من العقبات الّتي تواجهه في رحلته تلك وكيفيّة تخطّيها وإزالتها. كما يكشف عن أسرار العبادات والحقائق المبتغاة من ورائها. والغاية من ذلك كلّه هو الوصول إلى الكمال الإنساني النهائي. وهو علم منوطٌ بالالتزام بمجموعة القواعد والرسوم الّتي اصطلحوا عليها بالطريقة والسير والسلوك، وربطوا بين الطريقة ورسوم الشريعة وأحكامها، وجعلوا انكشاف الحقائق بواسطة القلب ثمرة توافق بين الشريعة والطريقة، والالتزام بحسن سياسة الشرع وصدق المتابعة لرسول الله (ص).

فمحور الاهتمام في العرفان العملي هو الأعمال القلبيّة والباطنيّة. و”للقلب باعتباره أهمّ ما في وجود الإنسان، حالات وملكات تأثير وتأثّر، وفعل وانفعال مع سائر عالم الوجود الإنساني. ولذا كان الهدف الأساس للعرفان العملي هداية هذا الفعل والانفعال وتطهير القلب من الأمور الّتي يطلق عليها المهلكات، وتزيينه بحالات وملكات أخرى يطلق عليها اسم المنجيات، والغاية من ذلك كلّه هي الوصول بالإنسان إلى كماله النهائي. وبناء عليه، فالأساس الّذي يقوم عليه العرفان العملي هو كيفيّة مراقبة القلب لأجل الابتعاد به عن المهلكات، وتزيينه بالمنجيات، والغرض من ذلك كلّه وصال الإنسان بالحقّ تعالى”[lvi].

والعرفان لكونه نوعًا من المعرفة، عندما يقسّم إلى نظري وعملي، ولأنّ المقسّم يسري ويتجلّى في أقسامه دائمًا، لذا فإنّ المعرفة سارية في كلا القسمين، وليست مقتصرة على البعد النظري من العرفان، بل “ينبغي عدّ العمل في هذا التقسيم من أنواع المعرفة. وفي مثل هذه الحال، قد يخطئ البعض فيتصوّر العمل نفسه – من دون المعرفة – جزءًا من أقسام العرفان، في حين لا يمكن أن يعدّ العمل من أقسام العرفان إذا كان مجرّد حركة وسكون، وخاليًا من أيّة معرفة. العمل العرفاني عمل قائم على أساس نوع من العلم، ويؤدّي القيام به إلى حصول نوع من المعرفة أيضًا. ويمكن القول بتعبير آخر، إنّ العمل – مضافًا إلى أنّه مسبوغ بنوع من العلم – يقود إلى نمط من المعرفة. إذًا، فحينما يدور الحديث عن العرفان العملي، فالمراد به هو أنّ السالك يقوم بتطهير نفسه من الأهواء والنزعات النفسانيّة، من خلال الورع والزهد والعمل بالأحكام الباطنيّة، ويعدّها للإشراقات الربانيّة والتّجلّيات الإلهيّة”[lvii].

وبالرجوع إلى معنى “العرفان النظري”، وإلى بعض التعاريف الّتي ذكرت بشأنه، والّتي ذكرنا بعضًا منها؛ حيث قلنا ما ملخّصه إنّ العرفان النظري هو نوعٌ من التعبير والبيان عن الحقائق والمعارف التوحيديّة الّتي يصل إليها العارف عن طريق الكشف والشهود القلبي، والّتي تحصل للسالك بواسطة الرياضة والمجاهدة القلبيّة المبتنية على أسس المحبّة والعشق للذات الإلهيّة المقدّسة. ومن خلال هذا التعريف وغيره، يمكننا بشكل أولي أن نفهم طبيعة العلاقة الّتي تربط العرفان النظري بالعرفان العملي.

فالعارف في العرفان النظري، لكونه “يتعامل مع الحقائق والمعارف المتحقّقة بواسطة الشهود، وهذا الشهود يتحقّق بواسطة السلوك في طريق العرفان والوصول إلى نهاية المطلوب، أي طيّ المسير المرسوم في العرفان العملي، فمضمون هذا الشهود أي ما يشاهده العارف بعين الباطن يشكّل الأساس في قيام ما يسمّى بالعرفان النظري. فالعرفان النظري هو ترجمة للحقائق الّتي يشاهدها العارف. إذًا، الطريق الموصلة إلى مقام الفناء والمشاهدة هي الطريقة والتجربة السلوكيّة المبيّنة في علم العرفان العملي. أمّا التعابير الّتي تحكي هذه الحقائق المشاهدة فهي العرفان النظري”[lviii].

وعليه، يمكن أن نستنتج أنّ هنالك ارتباطًا وثيقًا بين العرفانيْن النظري والعملي، حيث يعدّ العرفان النظري النتيجة الطبيعيّة المترتّبة على الظاهرة المعقّدة للعرفان العملي، والعرفان العملي أو السير والسلوك المعنوي بمثابة المقدّمة والأساس الّذي يبتني عليه علم العرفان النظري؛ لأنّه من دون الكشف والشهود القلبي والتحقّق بمقام الفناء الّذي يحصل للسالك بواسطة السير والسلوك العملي، لا معنى للحديث عن العرفان النظري.

وهذا لا يقلّل من قيمة العرفان النظري وأهمّيته، بل هذا بالتحديد ما يعطي العرفان النظري قيمته ويحدّد دوره؛ لأنّه كما سوف يتبيّن معنا، أنّ للعرفان النظري دورًا أساسيًّا ومحوريًّا في فهم علم العرفان بشكل عام، وترجمة مقرّراته العمليّة بشكل خاص.

[i]– الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، 1411ق/1991م، ط1، ج3، ص139.

[ii]– سورة آل عمران، الآية 19.

[iii]– الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، مرجع مذكور، ج3، ص139.

[iv]– مطهري، مرتضى: الإسلام وإيران، ترجمة: محمد هادي اليوسفي، دار التعارف، بيروت، لاتا، لاط، ص 436-437.

[v]– للمزيد من التوسعة والتفصيل، راجع: التفتازاني، أبو الوفا الغنيمي: مدخل إلى التصوّف الإسلامي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1399ق/1979م، ط3، ص22. مطهري، مرتضى: الإسلام وإيران، مرجع سابق، ص4.

[vi]– مطهري، مرتضى: الإسلام وإيران، مرجع مذكور، ص 437.

[vii]– الطوسّي، أبو نصر السرّاج: اللّمع، مرجع مذكور، ص144.

[viii]– المرجع نفسه، ص146.

[ix]– المرجع نفسه.

[x]– العطّار، فريد الدين: تذكرة الأولياء، مرجع مذكور، ص432.

[xi]– القشيري، أبو القاسم: الرسالة القشيريّة، مرجع مذكور، ص28.

[xii]– الطوسّي، أبو نصر السرّاج: اللّمع، مرجع مذكور، ص6.

[xiii]– المرجع نفسه، ص22.

[xiv]– الطوسّي، أبو نصر السرّاج: اللّمع، مرجع مذكور، ص 32.

[xv]– المرجع نفسه، ص147.

[xvi]– مطهري، مرتضى: الإسلام وإيران، مرجع مذكور، ص437.

[xvii]– سورة البقرة، الآية115.

[xviii]– سورة الواقعة، الآية85.

[xix]– سورة الحديد، الآية3.

[xx]– سورة الشمس، الآيتان 9 و10.

[xxi]– سورة العنكبوت، الآية69.

[xxii]– مطهري، مرتضى: الإسلام وإيران، مرجع مذكور، ص 438.

[xxiii]– سورة النور، الآية 35.

[xxiv]– سورة الحديد، الآية 3.

[xxv]– سورة البقرة، الآية 163.

[xxvi]– سورة الرحمن، الآية 26.

[xxvii]– سورة الحجر، الآية 29.

[xxviii]– سورة ق، الآية 16.

[xxix]– سورة البقرة، الآية 115.

[xxx]– سورة النور، الآية 40.

[xxxi]– ابن أبي جمهور، محمد: عوالي اللئالي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة، تحقيق: مجتبى العراقي، دار سيد الشهداء للنشر، قم، 1405ق، ط1، ج4، ص103.

[xxxii]– مطهري، مرتضى: الإسلام وإيران، مرجع مذكور، ص 441.

[xxxiii]– انظر: الطباطبائي، محمد حسين: رسالة الولاية، دار التعارف، بيروت، 1987م، ص17، ط1، ص14 إلى 21.

[xxxiv]– سورة آل عمران،17.

[xxxv]– الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، مرجع مذكور، ج6، ص192.

[xxxvi]– حيدر الآمليّ: تكاد تجمع المصادر التي بين أيدينا على أنّ اسم الآملي هو “حيدر بن علي بن حيدر”، وذكره الآمليّ أيضًا بهذه الصورة في كتبه بلا اختلاف… ولد شيخ آمل سنة 719ه في بلدة آمل نفسها، من أعمال طبرستان أو مازندران، وترعرع في كنف أسرته، ودرس مبادئ العلوم وأصول العقائد في بلدته أوّلًا، ثم في مدن الجوار كخراسان واستراباد، ولم تقف همّته عند هذا الحدّ، بل توجّه جنوبًا قاصدًا أصفهان، وقد كانت في تلك الآونة مركزًا فكريًّا وسياسيًّا كبيرًا، تقوده رغبة جامحة لتحصيل المعرفة وكسب العلم… وتشكّل هذه الفترة الطور الأوّل أو الحقبة الأولى من حياة الآملي، وتمتدّ من ولادته إلى سنّ الثلاثين، وتمتدّ الحقبة الثانية من خروجه من آمل حتّى انقطاع أخباره  سنة 782ه، والحقبة الأولى هي حقبة التحصيل العلمي، واكتساب العلوم الظاهريّة، والاشتغال بالسياسة، بينما الحقبة الثانية هي حقبة النضوج الروحي، والاشتغال بالعلوم الإرثيّة، والسلوك، وهي الفترة التي أنجز فيها الآملي كل إنتاجه الفكري”. حميّة، خنجر: العرفان الشيعي، دراسة في الحياة الروحيّة  والفكريّة لحيدر  الآملي، دار الهادي، بيروت، 1425ه/2004م، ط1، ص27-34.

[xxxvii]– الآملي، حيدر: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، تصحيح وتقديم: هنري كربان وعثمان يحي، شركت انتشارات علمي وفرهنگى، طهران، 1368ش، ط2، ص 344.

[xxxviii]– المرجع نفسه، ص350.

[xxxix]– المرجع نفسه، ص367.

[xl]– شقيق البلخيّ:” أبو علي شقيق بن إبراهيم من أهل بلخ، توفي سنة 194ه، أوّل من تكلّم في علوم الأحوال، أي علوم الصوفيّة، من أهل خراسان، ولسانه يغلب عليه التوكّل والزهد، أي إنّ كلامه ينصرف أغلبه فيهما”. الحنفي، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص247.

[xli]– الهجويري، أبو الحسن: كشف المحجوب، مرجع مذكور، ص211.

[xlii]– ابن عربي، محي الدين: الفتوحات المكيّة، مرجع مذكور، ج4، ص94.

[xliii]– سورة الشورى، الآية11.

[xliv]– سورة الشورى، الآية11.

[xlv]– ابن عربي، محي الدين: الفتوحات المكيّة، مرجع مذكور، ج2، ص563.

[xlvi]– المرجع نفسه، ص133.

[xlvii]– سورة الأحزاب، الآية33.

[xlviii]– الهجويري، أبو الحسن: كشف المحجوب، مرجع مذكور، ص273.

[xlix]– الهجويري، أبو الحسن: كشف المحجوب، مرجع مذكور، ص 275.

[l]– القيصريّ، داود: رسائل القيصريّ، رسالة التوحيد والنبوّة والولاية، تحقيق: جلال الدين الآشتياني، پژوهشی حکمت وفلسفه إيران، طهران، 1381ش، ط2، ص7.

[li]– الحيدري، كمال: دروس في الحكمة المتعالية؛ شرح كتاب بداية الحكمة، دار الصادقين للطباعة والنشر، قم، 1420ق/1999م، ط1، ج1، ص65.

[lii]– پناه، يد الله يزدان: العرفان النظري مبادئه وأصوله، ترجمة: عباس الموسوي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2014م، ط1، ص82.

[liii]– رحيميان، سعيد: مبانى عرفان نظرى، مرجع مذكور، ص4.

[liv]– الحيدري، كمال: دروس في الحكمة المتعالية، مرجع مذكور، ج1، ص55.

[lv]– پناه، يد الله يزدان: العرفان النظري مبادئه وأصوله، مرجع مذكور، ص 83.

[lvi]– پناه، يد الله يزدان: العرفان النظري مبادئه وأصوله، مرجع مذكور، ص70 و71.

[lvii]–  الديناني، غلام حسين: العقل والعشق الإلهي، مرجع مذكور، ج1، ص78.

[lviii]– پناه، يد الله يزدان: العرفان النظري مبادئه وأصوله، مرجع مذكور، ص74.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى