الصوفيَّة في ليبيا .. جغرافيَّة المكان والطريقة
شريف الزيتوني
لا اتفاق حول مفهوم موحّد للتصّوف، وليس هناك اتفاق بين الدارسين حول نسبته لدين معيّن، حيث يعتبره كثيرون حالة فرديّة من التعبّد أو التصوّر الحياتي موجودة في كل الديانات ولدى كل الشعوب، وقد نسبت له فلسفات خاصة وكتبت عنه مؤلفات عديدة. لكنه في كل الأحوال عند المسلمين نوع من التديّن الخاص الذي اختلفت حوله المواقف واختارت بعض التيارات المتشددة أن تصنفه ضمن الممارسات الخارجة عن الإسلام الواجب مواجهتها، وعلى ذلك الأساس بقيت النظرة نحو “معتنقيه” في تاريخنا الإسلامي، في عمومه، سلبية رغم أنه أقرب إلى الحالة الروحانية والعاطفية الرافضة للعنف والقائمة على الزهد والإفراط في العبادة.
التصوّف في الإسلام لم يتحدّد بمكان أو بمدرسة واحدة منذ ظهوره حسب بعض المصادر في القرن الثالث الهجري. كل المناطق في العالم الإسلامي عرفت الظاهرة ومرّت عليها مختلف المدارس منذ كانت في ممارستها الفردية الأولى إلى لحظة تشكل ما يعرف بالمدارس الصوفية وهي كثيرة، وليبيا من بين الدول التي عرفت الظاهرة بشكل مبكّر، حيث تذكر بعض المصادر أن ظهورها الأول في البلاد كان خلال القرن السابع الهجري أين ساهم القرب الجغرافي من تونس في انتشار التصّوف على الطريقة الشاذلية نسبة إلى الفقيه إبي الحسن الشاذلي صاحب المقام الراسخ إلى اليوم في قلب العاصمة التونسية تخليدا لذكراه وتأثرا بطريقته ثم كان الانتشار التدريجي لبقية الطرق.
التصوّف في ليبيا جغرافيتان؛ جغرافية مكانية أين انتشر في مناطق البلاد دون استثناء، وجغرافية طرقية حيث عرفت البلاد أغلب الطرق وهي عديدة ومتداخلة وغير منضبطة.
جغرافية المكان: التصوف وانتشاره في ليبيا
من يتحدّث عن التصوّف في ليبيا، بالتأكيد سيتذكر مدينة زليتن، منطقة أشهر شيوخ الصوفية في العالم الإسلامي عبد السلام الأسمر الذي عاش في القرن التاسع الهجري، وبفضل رمزيتها أسست فيها في تسعينات القرن الماضي جامعة لتعلّم أغلب المناهج الدينية سميت الجامعة الأسمرية. كانت المدينة مزارا للكثير من الليبيين والأجانب المرتبطين روحيا بالطرق الصوفية. وقد تعرّضت الجامعة في 2013 إلى أخطر هجوم من طرف التنظيمات الإرهابية بهدف فرض رؤيتها الخاصة للدين والمجتمع.
طرابلس أيضا تحتوي على أضرحة معروفة للصوفيّة، أشهرها زاوية الشيخ عبدالله الشعاب التي يزورها عدد كبير من سكان طرابلس ويعود تأسيسها إلى 1200 عام خلت، وهي من الزوايا التي تعرّضت للتحطيم من طرف المجموعات المتطرفة بعد العام 2011. وتوجد قرب طرابلس أيضا زاوية الشيخ محمد الأندلسي التي تعتبر من أقدم الزوايا ويعود تأسيسها إلى سنة 870 هجريا. كما هناك زاوية الصحابي المنيذر الأفريقي المعروف بحلاق الرسول وهي ذات رمزية هامة. بالإضافة إلى زوايا أخرى في مختلف مناطق طرابلس.
جنوب البلاد أيضا فيه عدد من الزوايا، وفي الوقت الذي انتشر المد الصوفي في إفريقيا كان الجنوب الليبي أيضا محطة هامة كشكل من أشكال نشر الدعوة المتزامنة مع الدعوة الكبرى للإسلام في تلك المناطق. ومن بين الزوايا المعروفة في جنوب ليبيا توجد زاوية الشيخ حامد الحضيري بسبها التي تقول بعض المصادر أنها تعود إلى حوالي 500 عام. والشيخ الحضيري هو شخص يعتقد الناس في بركته وله بئر مازال الناس يعرفونها إلى اليوم.
الشرق الليبي ووسطه بدورهما حافلان بالمنارات الصوفية مختلفة الطرق، حيث توجد زوايا بسرت ودرنة وببنغازي والبيضاء والجغبوب غالبيتها سنوسية الطريقة، وكلها تعتبر مدارس لاستقبال الناس أساسا من أجل تحفيظ القرآن لكن أيضا من أجل الحفاظ على عادة الولاء من خلال تلقي بعض الدروس الخاصة أو الاحتفال بمناسبات دينية وفق رؤية “المؤمنين بها”.
جغرافية الطرق الصوفية في ليبيا
بالنسبة إلى الليبيين في العصر الحديث بالتأكيد تبقى الطريقتان السنوسية والسلامية هما المعروفتان عندهم، لارتباط الأولى بالملك إدريس السنوسي أول حاكم لليبيا بعد الاستقلال عن إيطاليا وللصورة المرسومة عند الليبيين بأنها كانت حركة تحرر ومقاومة في وجه الإيطاليين ومن أبرز رموزها شيخ المجاهدين عمر المختار. ظهورها في ليبيا كان في منتصف القرن التاسع عشر عبر الشيخ محمد بن علي السنوسي ويعود أصلها إلى سلالة الأدارسة بالمغرب الأقصى وهي سلالة علم دين. ولارتباط الثانية بالشيخ عبدالسلام الأسمر أحد أشهر المتصوفة في شمال إفريقيا ومازال الليبيون والتونسيون يحافظون على طقوسها إلى اليوم في مختلف المناسبات.
لكن عرفت ليبيا طرقا صوفية مختلفة حيث تذكر المصادر ظهور الزروقية في مصراتة في القرن التاسع عبر الشيخ أحمد زروق البرنسي وقد توارثت أجيال بعض عاداتها من بينها الأدعية التي مازالت تذكر في بعض الجلسات الدينية إلى اليوم وهي رغم عدم وجود زوايا باسمها لكن لها مريدوها الذين مازالوا أوفياء لها.
وهناك الطرق الشاذلية والعيساوية والعروسية والقادرية والتيجانية وهي منتشرة ليس في ليبيا فحسب، بل على كامل المنطقة من المغرب إلى حدود السودان ومصر ولها أتباعها وزواياها الخاصة التي يعرف كل مريد ميزاتها وشروط الدخول إليها وأدعيتها التي ينسبها كل طرف إلى عهد النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
كما توجد أيضا الزوايا الشعبية ذات نوع من التصوّف التقليدي غير الخاضع لأي أساس علمي وهي أقرب إلى العيساوية في لحظات تخمّرها، وهي عبارة عن زوايا يزورها البسطاء من الناس بشكل سنوي أو أسبوعي أين تقام ولائم لولي صالح يعتقد الناس أن لديه بركة يمكن أن تحدد مصائرهم وتشفيهم من الأمراض وهي زوايا منتشرة على كامل التراب الليبي إلى حدود التراب التونسي أين توجد مزارات سنوية مشتركة يحضرها الزوار من البلدين.
ليبيا لم تكن استثناء في علاقة بانتشار الصوفية كحالة روحانية ورؤية فلسفية للعالم ولله، فالبلاد كانت جزءا من منطقة انتشار الإسلام فيها كان مقترنا بانتشار أشكال مختلفة من التدّين، لكن هذه الرؤية الروحانية المختلفة أصبحت مهددة في ظل الوضع العربي الجديد بعد 2011 بصعود تيارات متطرّفة إلى واجهة الصراع اختارت أن تشنّ حملتها على ما تسمّيه البدع فكانت معادية لكل أشكال الاختلاف حتى من داخل المنظومة الدينية، لهذه كانت الزوايا والمزارات هدفا لتلك الجماعات بالتحطيم والحرق دون أدنى مراعاة لقيمتها الروحية والثقافية لدى الناس.
____________________________________
*نقلاً عن موقع ” بوابة أفريقيا الإخبارية”.