مفهوم المعرفـــــة في الفكر الصوفي (محيي الدين ابن عربي أنموذجاً)
محمد عنبري
استهلال
يعد محيي الدين بن عربي، أحد أشهر المتصوفين في العالم الإسلامي، بل ومن الفلاسفة المسلمين على مر العصور، يلقب “بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر” أو “ابن أفلاطون”، وتُنسب إليه الطريقة الأكبرية الصوفية. ولد في مرسية في الأندلس في شهر رمضان عام 558 هـ الموافق 1164 م قبل عامين من وفاة الشيخ عبد القادر الجيلاني. وتوفي في دمشق عام 638هـ الموافق 1240م، ودفن في سفح جبل قاسيون.
كان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف. وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها، فنشأ ضمن جوّ ديني، انتقل والده إلى إشبيلية وكانت عاصمة من عواصم الحضارة والعلم في الأندلس. وما كاد لسانه يبين حتى دفع به والده إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فقرأ عليه القرآن الكريم، فما أتم العاشرة من عمره حتى كان ملماً بالقراءات والمعاني والإشارات، ثم سلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث والفقه تنتقل بين شمال افريقيا وشبه الجزيرة العربية والأناضول واستقر أخيراً في دمشق بقية حياته وكان واحداً من أعلامها حتى وفاته عام 1240 م.
وتعدّ نظرية المعرفة أهم ما يميز الفكر الصوفي عامة وفكر ابن عربي بشكل خاص، فهي أسمى وأشرف المعارف التي يصبو إليه الفكر الصوفي، فما دلالة المعرفة؟ وكيف يمكن تحصيلها؟ وما علاقتها بالعلم والعقل؟ وما مصدرها؟ وكيف يبنى موضوعها؟ وما أدواتها؟ وما الآفاق التي تفتحها؟
1- في دلالات المعرفة
يقال عَرَفَ بمعنى علم، وابن منظور يقول: (العِرفان بمعنى العلم …والعريف بمعنى عليم وعالم)[1]، وقد استعمل سيبويه المعرفة في مقابل النكرة، حيث يقول: (واعلم أنّ النكرة أخفّ عليهم من المعرفة…لأنّ النكرة أوّل، ثمّ يدخل عليها ما تعرّف به)[2].
لا ينفصل موقف الفيلسوف من المعرفة عن مذهبه في الوجود والطبيعة، فمثلا إذا كان الفيلسوف ماديا كان المعرفة الحسية هي المصدر الوحيد للمعرفة بالنسبة إليه، وهكذا فعندما يتحدث إنسان ما عن اتجاه أو مذهب معين كيفما كان، فإنه – في حقيقة الأمر- يتحدث عن نظرية في المعرفة، وتبعا لذلك تكون كل الكتابات الفلسفية مؤرخة لنظرية معرفية فــ (نظرية المعرفة عند فيلسوف هي رأيه في تفسير المعرفة أيا ما كانت الحقيقة المعروفة)[3]، كما يمكن أن نميز بين المعرفة والعلم، فالمعرفة تتعلق بذات الشيء والعلم يتعلق بأحواله، فنقول عرفت أباك وعلمته صالحا أديبا، ولفظ العلم أوسع اطلاقا.[4]
وقد حاول العديد من الفلاسفة والمفكرين وأهل التصوف[5] ضبط مفهومي العلم والمعرفة، وقد اتخذت المعرفة عند الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة معان متعددة من بينها:
- تقال المعرفة فلسفيا على عدة معاني (فهي الفعل العقلي الذي يتم به الحصول الشيء في الذهن)[6]؛
- تقال أيضا على (الفعل الذي يتخذه العقل للنفوذ إلى جوهر الموضوع لتفهم حقيقته)[7]على اعتبار أن العقل الأداة الوحيدة القادرة على ذلك، (وترتبط المعرفة بالاعتقاد، والاعتقاد اقتناع بصدق قضية لأسباب مقبولة لدى المعتقد بها حتى لو لم تكن مقبولة لدى الآخرين)[8]؛
- يرىدافيد هيوم[9](David Hume) أن الاعتقاد يبدأ بفكرة طاغية تسيطر على عقل المعتقد بها، حيث يقتنع بصدقها ويدافع عنها ويكون لديه أسباب وجيهة للاقتناع بها[10]؛
- كما أن المعرفة عند الفيلسوف هي رأيه في تفسير المعرفة أيا ما كانت الحقيقة المعروفة[11]، كما أن للمعرفة أدوات يتم تحصيلها بها وهي الحس والعقل والحدس، وهي وسائل تساعد في الوصول إلى المعرفة الحقة.
- بيّن أبي منصور الماتريدي[12]أنه لا تناقض بين الحس والعقل والحدس، فهذه الوسائل والقوى وإنما يؤيد بعضها بعضا[13]، وقد صنف القاضي عبد الجبار[14] مجلدا ضخما للمعرفة من موسوعته “المغني” سماه “النظر والمعارف“، تحدث فيه بالتفصيل عن حد المعرفة والنظر والعلم.
لقد كان الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين السباقين إلى إفراد بحث المعرفة بصورة مستقلة في كتبهم، هذا في وقت لم تشهد هذه العملية في الغرب إلى في القرن السابع عشر مع جون لوك (John Locke[15]) وغيره. أما عند المتصوفة، فقد ظهر المذهب المعرفي على شكل أقوال متناثرة مجردة عن الأدلة عارية عن الحجج[16]، غير أن نمو التصوف وتناقضه مع بعض المذاهب والاتجاهات المعرفية الأخرى دفع أهل التصوف إلى اتخاذ من الحجج النظرية والشرعية[17] وسيلة للمعرفة.
- يقال أيضا إن تصوف الكرخي[18]كان في جوهره وسيلة للمعرفة[19]، حتى قيل إن القرن الثالث الهجري هو عصر التصوف بصفته مذهبا مكتملا في المعرفة، وأن السابقين لم يتركوا للاحقين من الصوفية بعدهم إلا الإفاضة والتفسير.[20]
- فإذا كان الفكر الفلسفي والكلامي يقدم المعرفة من خلال وسائلها وموضوعاتها التي تتناسب مع نظرتهم الفلسفية والكلامية، فإن الفكر الصوفي يعرض المعرفة من خلال تجربة ذوقية روحية، وهو ما أشار إليه ابن عربي بقوله: (إن أصحابنا من أهل الله قد أطلقوا على العلماء بالله اسم العارفين، وعلى العلم بالله طريق الذوق معرفة، وحدوا هذا المقام بنتائجه ولوازمه التي تظهر عن هذه الصفة في أهلها)[21].
فالمعرفة يمكن أن تكتسب من خلال الفكر أو الكشف، وفي هذا يقول وليام شتيك في كتابه الموسوم بــ “طريق المعرفة الصوفي“:
(يمكن اكتساب المعرفة من خلال التفكير والكشف، فإذا كانت هناك طريقة لإدراك المعرفة، فهي التفكير والعقل، وهناك أيضا طريق آخر للوصول إلى المعرفة وهو “القلب”، والقلب يتناقض مع العقل. ومهما كانت الوسيلة التي تكتسب بها المعرفة، فإن موضوعها واحد، والمعرفة لها نمطان يستخدمهما الإنسان: نمط النظر العقلي والنمط القلبي، وهناك من يرى أن درجات المعرفة تتفاوت بين الناس، فهناك المعرفة الاستدلالية أو البرهانية التي تتأسس بالاستدلال المنطقي والبرهاني، ثم المعرفة الحدسية العقلية التي تكتسب دون إثبات، وهي معرفة مباشرة دون وسائط أو مقدمات، وواهم من يعتبر أن هذه أعلى درجات المعرفة، ثم المعرفة الحسية المشخصة، وهي المعرفة المباشرة للموضوع المحسوس) .[22]
لقد جاءت أبحاث المفكرين الإسلاميين من فلاسفة ومتكلمين ومتصوفة في المعرفة في مسائل متفرقة تدخل في صلب المعرفة كالشك واليقين. وتعريف المعرفة ودرجاتها ومقاصدها وأنواعها، فجاءت أبحاثهم متأثرة بفلاسفة الإغريق كأفلاطون وأرسطو، وقد كانت غايتهم هو التوفيق بين العقل والشرع. والمعرفة عند بعض المذاهب يمكن أن تعترضها بعض المشكلات، فنجد أنّ المعتزلة يمكن أن يتفقوا حول فكرة ما مع الأشاعرة والعكس، كما نجد الفلاسفة يتفقون مع المتكلمين في مسائل، والصوفية كذلك، إلا أن هذا الاتفاق لا ينفي أن هناك اختلافات متباينة، مثلا: (في نظرية الفيض نجد تداخلا بين الفكر الصوفي والاتجاه العقلاني).[23]
كما نجد دلالات مختلفة للمعرفة، اختلفت وتباينت حسب كل نحلة، فمثلا المتصوفة قصروا لفظ المعرفة والعرفان وقصدوا بها المعرفة الذوقية[24]، في حين يرى الفلاسفة والمتكلمون أن المعرفة تستخدم بمعنى التأمل والبحث والنظر.[25] فالعقل والحس مصدران أساسيان للمعرفة فــ (العلم أجمع، إنما هو للحس والعقل)[26]، ونجد المعرفة عند الفلاسفة وأهل الكلام تطلق على معنيين:
أولا: الفعل العقلي في إدراكه للظواهر ذات صفة موضوعية؛
ثانيا: حصول الشيء في الذهن أي أن تكون معطيات المعرفة حاصلة بالحواس والعقل؛
وقد اتفق الفلاسفة والمتكلمون المسلمون على أن تحسين المعرفة يتم عن طريق البرهان والاستدلال، لكن كل منهم فهم الاستدلال من منظوره الخاص، فقد فهمه الأشاعرة بمعنى القياس إلى الشاهد وفهمه المعتزلة بمعنى البدء بالأحكام العقلية واستنتاج ما يترتب عنها، وجاء فهم الفلاسفة للاستدلال على طريقة أرسطو؛ أي البرهان المنطقي والبدء بمقدمات صادقة يربط بينهما حد أوسط.[27]
لكن المعرفة عند الصوفية لها دلالة مغايرة، وهي تنقسم إلى أنواع:
ü معرفة نقلية لعامة المسلمين؛
ü معرفه نظرية خاصة بالفلاسفة والعلماء؛
ü معرفه خاصة بالمتصوفة الذين يرون الله تعالى بقلوبهم.[28]
إن للمتصوف طريق آخر يتمثل في القلب، لأن معرفتهم فوق العقل ولا تخضع للأحكام النقدية والمنطقية (إن طريق الكشف والشهود لا تحتمل المجادلة والرد على منكرها).[29]
فالمتصوفة يتجاهلون النقد الموجه إلى تجربتهم من قبل الفلاسفة وأهل الكلام، وحتى الأصوليين في نظرتهم نحو المعرفة وحقائقها، وقد استعمل أهل التصوف كلمتي المعرفة والعلم بالمعنى نفسه، وتارة بمعنيين مختلفين، فــ (لفظ المعرفة أخص من لفظ العلم، لأن المعرفة علم بعين الشيء مفصلا عما سواه، والعلم يكون مجملا ومفصلا) .[30] كما يميز المتصوفة بين المعرفة العادية وبين المعرفة الصوفية، فالأولى تخص المؤمن المتدين. أما الثانية، فهي مخصوصة بالعارف المتصوف.
2- موضوع المعرفة الصوفية عند ابن عربي
يوظف الصوفية بعض المفاهيم والمصطلحات الخاصة بهم، تختلف تماما عن تلك التي يوظفها الفلاسفة أو أهل العلم، وهذا الاختلاف ليس لفظيّا أو اصطلاحيا، بل هو اختلاف جذري ومن أبرز تلك المصطلحات المعرفة والعلم.
إنّ المعرفة -عند الصوفية – كشف روحي وإحساس وجداني، لذلك فهي ذات بعد قدسي، إنّ حقائق الوجود لا تدرك إلا بالباطن، الذي أطلق عليه ابن عربي اسم الإدراك النفسي أو العقل الإيماني أو القلبي، هذا العقل الذي يختلف تماما عن العقل الذهني أو الإدراك الحسي، يقول عنه ابن عربي: (فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود، لا عن نظر وفكر وظن وتخمين)[31]، ويعتقد ابن عربي أن المعرفة الصوفية هي المعرفة الحقة التي يتوصل إليها عن طريق الكشف، الذي تتوسل به الذات العارفة للوصول إلى الحقيقة كشفا أو تجليا أو مشاهدة، تحررها من كل الكادورات والشهوات التي التصقت بها.
لهذا، فالمعرفة الصوفية عند ابن عربي لها موضوع واحد هو الله الحق المطلق في كل تجلياته. أما أدوات تلك المعرفة، فهي القلب والنفس فقط، ولها طريق واحد هو الإلهام أو الكشف أو المشاهدة أو التجلي.[32]
إن موضوع المعرفة هو الله وتجلياته، وهذه الحقيقة أشرف الحقائق وأغلاها، وقد سمّى ابن عربي هذه المعرفة تارة بالإلهية وتارة أخرى بالنفس، لكن هذا ليس خلطا لديه، فهو يسمي الاثنين نعتا إلهيا، لكنه يميز بينهما، يقول ابن عربي: (اختلف أصحابنا في مقام المعرفة والعارف ومقام العلم والعَالِمِ، فطائفة قالت مقام المعرفة رباني ومقام العلم إلهي، وبه أقول وبه قال المحققون كسهل التستري وأبي يزيد البسطامي ابن العريف وأبي مدين. وطائفة قالت مقام المعرفة إلهي ومقام العلم دونه، وبه أقول أيضا: فإنهم أرادوا بالعلم ما أردناه بالمعرفة، وأرادوا بالمعرفة ما أردناه بالعلم، فالخلاف فيه لفظي وعمدتنا قوله تعالى: إذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق فسماهم عارفين وما سماهم علماء).[33]
وإذا كانت المعرفة هي ما يتعرف عليه إدراكنا[34]، فإن العلم يعني الإحاطة بظواهر المعرفة والقدرة على التفسير والتحليل والتعليل. يقول ابن عربي: (فكل معلوم معروف وليس كل معروف معلوم).[35]
وتطلق المعرفة أيضا على الإنسان بوصفه عارفا، وقد ينعت باسم عالم، لكن الله يبقى هو الأحق بلفظ العالم.
فإذا كانت المعرفة لها ظاهر وباطن، فإن الوجود له علاقة بالمعرفة، والوجود هو كذلك ينقسم عند ابن عربي إلى قسمين: وجود ظاهر ويختص بها أهل النظر[36] من الفلاسفة، وخلفه وجود باطن[37] ويختص به أهل العرفان.
وتعد الشريعة أحد مجالات المعرفة التي درسها ابن عربي، ويرى فيها أنها تفهم بوصفها خطابا إلهيا لها وجهان: ظاهر وآخر باطن، فمعرفة الظاهر تعليم البشر أمور دنياهم عن طريق الفكر والنظر العقلي، هذه المعرفة الظاهرة ضرورية للوصول إلى المعرفة الباطنة، التي لا يتوصل إليها بالعقل أو بالفكر، وهي ليست متاحة للعامة، وإنما هي خاصة للأنبياء والأولياء الذين يتلقونها عن طريق الوحي والإلهام[38].
إن موضوع المعرفة في الفكر العرفاني يتعلق بوحدانية الله وصفاته، ولا يصل إلى هذه الغاية إلا من صفى قلبه حتى أصبح مرآة تنعكس عليها أنوار التجلي. وقد ميز ابن عربي بين معرفة الوجود، وبين معرفة الأسماء الإلهية؛ فالأولى تحيل على الظاهر المنعكس في الكثرة والتعدد، والثانية فباطنية من حيث معقوليتها، والإنسان قادر على معرفة الظاهر في علاقته المتلازمة بالباطن، ولهذا فكل معرفة إلهية متجلية في الخلق، لكن تبقى العقول قاصرة عن إدراك الحقيقة الإلهية في جوهرها، وهذا ما أخطأ فيه الفلاسفة وأهل النظر، فمن المستحيل إدراك حقيقة الذات الإلهية حسب ابن عربي؛ لأنها لا متناهية ولا مجال بينها للمماثلة وبين العالم.
3- مصادر المعرفـة عند ابن عربي
استبعد ابن عربي الحواس الظاهرة والعقل البرهاني من مجال المعرفة الصوفية؛ فالمتصوفة يرون أن القلب هو الطريق الوحيد للتوصل إلى المعرفة، إن القلب أو الفؤاد لا يصبح مؤهلا لتلقي المعرفة إلا إذا توفرت فيه جملة من الشروط الضرورية أبرزها: سلامته من الأمراض والآفات التي تصيبه؛ انتفاء هذه الموانع شرط أساسي للإدراك، فإذا اعتل القلب، اختلت معرفته، أما إذا كان سليما فإنه يكون مؤهلا للإدراك المعرفي السّامي.
إذا كانت وسيلة المعرفة عند العقليين هي العقل، وعند التجريبيين هي الحواس، وعند النقديين هي الحواس والعقل معًا، فإن المتصوفة يرون خلاف ذلك إنما الوسيلة الوحيدة للإدراك هي القلب والحدس أو العيان المباشر أو البصيرة، فكل هذه ألفاظ تسمَّى بها وسيلة المعرفة حين يمتزج الشخص العارف بالشيء المعروف، بحيث تزول الحواجز والحدود بين الذات وبين الموضوع.
وإن شئنا تقديم مثال قريب ننظر إلى أنفسنا كيف تعرف أنها موجودة، إننا لا نعرف ذلك بعين أو أذن أو أنف؛ لأننا لو أغلقنا هذه الأبواب كلها فسنعرف أننا موجودين. وأنا كذلك لا أعرف وجود نفسي ببرهان أقيمه فتكون هناك مقدمات أستنتج منها نتائج؛ أي إنني لا أعرف وجود نفسي بالعقل بل أعرف أنني أدرك إدراكًا مباشرًا، وهذا الضرب من الإدراك هو الذي يُقال له في الفلسفة اصطلاحًا: إدراك بالحدس، وهو بعينه طريقة الإدراك التي ندرك بها الله.[39]
وقد شكك الغزالي في شهادة الحواس والعقل[40]؛ فهناك حقائق ما لا يمكن إدراكها بالحواس، ومن الأمثلة على ذلك أننا إذا وضعنا أمام عيوننا قطعة من النقود، حيث تقع بين العين وبين نجم في السماء، سنرى أن قطعة النقود تغطي النجم كله كأنها أكبر منه.
وإذن فلا يقتصر الأمر على عجز الحواس عن إدراك بعض الحقائق، بل إننا إذا اعتمدنا عليها لتوهمنا الخطأ أنه صواب، الأمر نفسه يسري على أحكام العقل نفسه، ومن الأمثلة على ذلك أن نأخذ مبدأً واحدًا من مبادئه الأولية التي يقال إنها قوانين الفكر العقلي، والتي نقبلها بالتسليم الذي لا يخالطه شك، وهو مبدأ عدم التناقض، فالعقل يؤكد أنه يستحيل على الشيء أن يكون وألا يكون في وقت واحد، ولكن أيستحيل حقًّا على الشيء أن يكون وألا يكون؟
وبعد أن شكك الغزالي في الحواس وفي العقل يتساءل قائلًا: (ألا تكون هنالك وسيلة فوق العقل تبين مواضع خطئه وتدل على بطلانه؟ ولأن العقل فوق الحواس أيضا، هل يستطيع العقل أن يبين خطأ الحواس ويدل على بطلانها؟)[41] يجيب بالإثبات “نعم وأكيد”، وأن تلك الوسيلة التي هي فوق العقل والحواس معًا هي الحدس.
ومن خلال ما تقدم يظهر جليا أن نظرية المعرفة ميزت التصوف الإسلامي على غرار آراء باقي المذاهب والفرق الإسلامية الأخرى حول إشكالية المعرفة، فالمعرفة الصوفية تتم عن طريق الإشارة القلبية والكشف؛ ذلك أن المعرفة تقذف في قلب الصوفي قذفا عن طريق الإلهام، فيعبر الصوفي عن معرفته بلغة تارة واضحة المعالم والمغزى، وتارة أخرى بطريقة رمزية. ولهذا تختلف المعرفة الصوفية عن المعرفة العقلية، فإذا كانت المعرفة الصوفية معرفة مباشرة إلهامية، فإن المعرفة العقلية غير مباشرة؛ لأنها مستمدة من الحواس.
ونجد أيضا أن المعرفة الصوفية مستمدة من الحق سبحانه، بينما المعرفة العقلية مصدرها العالم الخارجي وتلتقط عن طريق الحواس.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك انتفاء المنفعة في المعرفة الصوفية، في حين لا تخلو المعرفة العقلية من فكرة الحصول على منفعة.
كما يتم الوصول إلى المعرفة الصوفية عن طريق الكشف أو الإشراق أو المشاهدة … من خلال مجاهدة النفس وترويضها وتعويدها على تحمل الآلام وترك الملذات.
الهوامش:
[1] ابن منظور، لسان العرب، طبعة جديدة ومحققة ومشكولة ومذيلة بفهارس مفصلة، دار المعارف، تحقيق عبد الله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي، المجلد الرابع، ب ت، القاهرة، ص ص 2897-2898.
[2] عبد الرحمن ممدوح، من أصول التحويل في نحو العربية، دار المعرفة الجامعية للنشر والطبع، 1998، مصر، ص77.
[3] زكي نجيب محمود، نظرية المعرفة، مكتبة الانجلو المصرية، 1969، القاهرة، ص 8.
[4] ابن القيم الجوزية المعرفة والحقيقة، طبعة أولى، تحقيق أحمد شوحان، مكتبة التراث، 1995، دمشق ص 10- 14.
[5] منهم: الكندي في مؤلفه “رسالة في حدود الأشياء ورسومها”، وأبو نصر الفارابي عندما تحدث عن العلم وتقسيماته، وابن سينا في قضية الادراك والعلم واليقين من خلال كتابه “الاشارات والتنبيهات”، والغزالي عندما تناول “معيار العلم”، وابن رشد في “تهافت التهافت” عندما حاول التمييز بين العلم الحقيقي من غيره، أما المتصوفة فتحدثوا عن الحس والعقل والوحي والإلهام والكشف والحدس باعتبارها مصادر للمعرفة .
[6] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، دار الكتاب اللبناني، 1982، بيروت، ص 393.
[7] المرجع نفسه، ص 393.
[8] محمود زيدان، نظرية المعرفة عند مفكر الاسلام وفلاسفة الغرب المعاصرين، مكتبة المتنبي، 2012، الدمام، ص 14.
[9] دافيد هيوم (1711-1776م) فيلسوف اسكتلندي وشخصية مهمة في الفلسفة الغربية وتاريخ التنوير الأوروبي، قامت فلسفة هيوم على عدم الثقة بالتأمل الفلسفي. فتأثر بتجريبيين مثل جون لوك وجورج بركلي.
[10] محمود زيدان، نظرية المعرفة عند مفكر الاسلام وفلاسفة الغرب المعاصرين، مكتبة المتنبي، 2012، الدمام، ص 14.
[11] زكي نجيب محمود، نظرية المعرفة، الناشر مؤسسة هنداوي سي آي سي، 2017، المملكة المتحدة، ص9.
[12] الماتريدي أبو منصور (247-333هـ) من أبرز الشخصيات الإسلامية التي كان لها دور مهم في شرح عقيدة أهل السنة والجماعة وتوضيحها بالنقل والعقل، وهو مؤسس المدرسة الماتريدية التي يتبعها غالبية أتباع المذهب الحنفي في العقيدة، له عدة مؤلفات في علم الكلام والفقه.
[13] الماتريدي أبو منصور، كتاب التوحيد، تحقيق وتقديم فتح الله خليفة، دار الجامعات المصرية، د. ت، القاهرة، ص ص7-8.
[14] القاضي عبد الجبار (969 – 1025م) يلقبه المعتزلة بـ”قاضي القضاة” ولا يطلقون هذا اللقب على سواه، من أشهر كتبه “في مبادئ الاعتزال شرح الأصول الخمسة”.
[15] جون لوك (1632 – 1704م) فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي. من أعماله مقال عن الفهم الإنساني الذي يشرح فيه نظريته حول الوظائف التي يؤديها العقل (الذهن) عند التعرف على العالم.
[16] عرفان عبد الحميد متاح، نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، بيروت، المكتب الإسلامي، 1974 م. ص48.
[17] ناجي حسين جودة، المعرفة الصوفية، بيروت، دار الهادي، 2006 م.ص124.
[18] معروف بن فيروز الكرخي أحد رموز الصوفية الكبار في بغداد خلال القرن الثالث الهجري.
[19] رينولد نيكلسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة أبو العلاء عفيفي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1969، القاهرة، ص 104.
[20] إبراهيم بسيوني، نشأة التصوف الإسلامي، دار المعارف، 1969 م، القاهرة، ص274.
[21] الشعراني عبد الوهاب، لواقح الأنوار القدسية المنتقاة من الفتوحات المكية لمحيي الدين ابن عربي، تحقيق وتخريج وتعليق أحمد فريد المزيدي، ج2، كتاب ناشرون، بيروت، ص101
[22] Chittik(W); The Sufi Path Of Knouledge; State University Of New York, new York; 1989; pp 159
[23] محمود قاسم، نظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها عند توماس الأكويني، مكتبة الانجلو المصرية، ب ت، القاهرة، ص5. (بتصرف طفيف).
[24] هيفرو محمد علي ديركي، المعرفة وحدودها عند محي الدين ابن عربي، التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2006، دمشق، ص 17.
[25] القاضي عبد الجبار المعتزلي، شرح الأصول الخمسة، تحقيق عبد الكريم عثمان طه، طبعة أولى، 1965، القاهرة، ص 45 .بتصرُّف.
[26] الكندي، رسائل الكندي الفلسفية، حققها وأخرجها مع مقدمة تحليلية وتصدير واف محمد عبد الهادي أبو ريدة، الجزء الأول، دار الفكر العربي- مطبعة الاعتماد، 1950، مصر، ص 302
[27] هيفرو محمد علي ديركي، المعرفة وحدودها عند محي الدين ابن عربي، التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2006، دمشق، ص 121.
[28] رينولد نيلكسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه، نقلها إلى العربية وعلق عليها ابو العلا عفيفي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1947، ص7.
[29] ابن عربي محيي الدين، رسائل ابن عربي كتاب الفناء في المشاهدة، المجلد الخامس، تحقيق وتقديم سعيد عبد الفتاح، الانتشار العربي، طبعة أولى، 2005، بيروت، ص262.
[30] حسن إسماعيل يوسف ملك، التعريف وتبسيط العلوم، دار الفارابي، 2015، لبنان، ص83.
[31] ابن عربي محيي الدين، رسائل ابن عربي، ج2، دار إحياء التراث العربي، 1948، بيروت، ص18.
[32] هيفرو محمد علي ديركي، المعرفة وحدودها عند محي الدين ابن عربي، التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2006، دمشق، ص 126.
[33] ابن عربي محيي الدين، الفتوحات المكية، الجزء الثاني، دار صادر، ب ط، 2004، بيروت، ص 318.
[34] تطلق المعرفة على الإدراك الذي بعد الجهل إنّها مستوى التعرف اكتشاف الأشياء أو الأفكار. ينظر: قمبر محمود، المعرفة عند الصوفية، بحث غير منشور، كلية التربية، جامعة قطر، ص 18.
[35] قمبر محمود، المعرفة عند الصوفية، بحث غير منشور، كلية التربية، جامعة قطر، ص19.
[36] يقول ابن عربي: (…مقام الفكر لا يتعدى النظر في الإله من حيث كونه إلها). ينظر: ابن عربي محيي الدين، الفتوحات المكية، الجزء الثاني، دار صادر، بيروت، ص 230
[37] يقول ابن عربي: (اعلم أن العالم كله كتاب مسطور في رق منشور، وهو الوجود الظاهر، وبظهوره يعقل ما فيه وما يدل عليه). ينظر: ابن عربي محيي الدين، الفتوحات المكية، الجزء الثالث، دار صادر، بيروت، 2004، ص 455
[38] هيفرو محمد علي ديركي، المعرفة وحدودها عند محي الدين ابن عربي، التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2006 دمشق، ص 136
[39] زكي نجيب محمود، مصدر المعرفة عند المتصوفة، مؤسسة هنداوي سي آي سي، 2018، المملكة المتحدة، ص 59.
[40] يعتقد الغزالي أنّ الحواس لا تصلح أداةً يعتمد عليها لتحصيل المعرفة الصحيحة، ويتساءل: هل تستطيع العين أن تدرك حركة الظل؟
[41] زكي نجيب محمود، مصدر المعرفة عند المتصوفة، مؤسسة هنداوي سي آي سي، 2018، المملكة المتحدة، ص ص 60-61.
__________________________
*نقلًا عن موقع ” مؤمنون بلا حدود”.