الدراسات والبحوث

لغة القرآن: تجلي المطلق في النسبي

د. بتول قاسم

لغة القرآن: تجلي المطلق في النسبي

د. بتول قاسم

باحثة وأستاذة جامعية من العراق

التجلي هو رفع الحجب بين الخلق والله المطلق غير المتعين وظهور أفعاله وصفاته بالآثار والظواهر الكونية . ولا يكون التجلي إلا بعد الخلق ، ولا يكون التجلي إلا لغاية : (خلقت الخلق لكي أعرف ) فما الخلق إلا ليعرف الخالق حتى تكون له الحجة على من خلق بعد أن يعرفهم بنفسه ويهديهم بنوره اليه . والقرآن الكريم مظهر من مظاهر تجلي الحق المطلق بالكلام ليعرف وليكشف للقلوب والعقول من أسرار الغيوب ويريها أنوار عظمته ويعرفها بنفسه فالقرآن دليل عليه وهو الدال بالدليل عليه ، يقول الإمام علي (ع) : (فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه ) – نهج البلاغة ، الخطبة 147 – إن معنى تجليه في القرآن الكريم ظهور آياته بالكلام العربي المبين . ويقال أن ثمة علاقة بين المتجلي والمتجلى له أو فيه فالحق يتجلى على قدر استعداد الخلق وعلى قدر استحقاق الشيء الذي يتجلى فيه وهذا يعني أن اختيار الله للغة العربية لتكون لغة القرآن إنما كان لما فيها من قدرة وإمكانات وخصائص تتجاوز ما لدى غيرها من اللغات فتستطيع لذلك أن تستوعب بنسبيتها اللامحدود واللانسبي . ولقد اهتم علماء اللغة العربية بدراستها على المستوى النظري والإجرائي على ألسن الناطقين بها وبيان صفاتها وفاعليتها وبذلوا في ذلك من الجهود ما لم يبذله الدارسون للغات الأخرى ، ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ ابن جني الذي قدم مباحث متميزة لاسيما في كتابه الخصائص فأظهرها بأنها لا تدانيها لغة أخرى وقد بهر بها حتى داخله الاعتقاد بأنها ليست من وضع البشر إنما هي وحي إلهي . وقد خالف بهذا رأيه الذي يذهب الى أن اللغة تواضع واصطلاح ، يقول في الخصائص ج1 ص40 : ( إنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر ، فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وآماده صحة ما وفقوا لتقديمه منه ولطف ما أسعدوا به وفرق لهم عنه وانضاف الى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله جل وعز فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفا من الله سبحانه وأنها وحي . ) وعندما يعترض فريق من أهل اللغة على فكرة التوقيف لما في العربية من ظواهر تجعل هذا الاعتقاد ضعيفا لا ينصرف ابن جني عن قوله بالتوقيف بل يقف موقفا وسطا بينه وبين القول بالتواضع والاصطلاح : (فأقف بين تين الخلتين الإلهام والعرف حسيرا وأكاثرهما فأنكفىء مكثورا وان خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها أو يفكها عن صاحبتها قلنا به ) الخصائص ج1 ص 47 . وهكذا يتأكد لعلماء العربية دواعي تميزها وأسباب اصطفاء الله لها لتكون لغة قرآنه . لقد ضمن الله تعالى حفظ العربية بحفظ القرآن وأعطاها من أسرارعظمته وكشف بجمالها عن جماله حتى سحر جمالها العقول . إن اللغة العربية ليست فقط أصواتا يعبر بها كل قوم عن أغراضهم وليست فقط أداة للتواصل المحكي والمقروء كسائر اللغات إنما هي صورة للجمال الإلهي ومظهر للقدرة الإلهية بما وهبها الله من طاقات على التعبير غير محدودة وبما احتوت عليه من أسرار لانفاد لها ، وهي بما تحتوي عليه مصدر هداية يخرق بها البشر حجب النور ليصلوا الى معنى عظمة الخالق .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى