الدراسات والبحوث

العالم وفق النظرة العرفانيَّة

د. فادي ناصر

العالم وفق النظرة العرفانيَّة

د. فادي ناصر

أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلامية في جامعة المعارف – لبنان.

إذا كان الوجود الموسوم بالمطلق هو الحق، وأنّه ليس في وجود غيره، وهو واحد لا ندّ له ولا شريك، وهو ما يصطلح عليه العارف بوحدة الوجود، فكيف إذاً يفسّر لنا هذه الكثرة، وهذه التعيّنات الموجودة في العالم؟!

وكيف ينفي الوجود لغيره تعالى مع أنّنا نرى أموراً ممكنة وتعينات أخرى موجودة في الخارج ؟!

إن للعارف منظومته وتفسيره الخاص للوجود وللكثرة أيضاً الموجودة في هذا العالم، فهو وإن كان يؤمن بالوحدة الشخصية للوجود إلا إن هذه الوحدة عنده تنفي الكثرة الوجودية لا الكثرة الاعتبارية. فالكثرة عنده اعتبارية ولكن حقيقيّة أيضاً، بمعنى أنها ليست وهماً وسراباً، بل لها منشأ انتزاع من الخارج، ومنشأ انتزاعها هو الموجود الحقيقي. فهي من شؤونات الحق وأحواله، يعني أنها بذاتها لا تستحقّ الوجود والعدم ولكن عند مقارنة الوجود إياها تصبح موجودة، فالكثرة والتعيّنات الوجودية ليست موجودة بإزاء وجود الحقّ بل وجودها إنما هو بوجود الحق تعالى.

بمعنى آخر إن التعيّنات إنما تكون معدومة من حيث هي تعيّنات، أما إذا اعتبرت من حيث هي أحوال للوجود، ومظاهر يظهر من خلالها فلا تكون معدومة. فالحق في هذه المرتبة يظهر بهذا الوجود وفي تلك المرتبة يظهر بوجود آخر. لذا قالوا أنّه هو الظاهر والعالم مَظهَرُه، فهذه التعيّنات ليست سوى مظاهِرُه التي ظَهَر من خلالها في هذا العالم.

يقول السيد حيدر الاملي:

“العالم ليس (هو) إلا وجود الحق الظاهر بصور الممكنات كلّها. فلظهوره تعالى بتعيّناتها (أي الممكنات) سُمّي باسم «السوى» و«الغير» (أي) باعتبار إضافته الى الممكنات، إذ لا وجود للممكن إلا بمجرّد هذه النسبة. وإلا فالوجود عين الحق، والممكنات ثابتة على عدمها في علم الحق، وهي شؤونه الذاتية. فالعالم صورة الحق، والحق هويّة العالم وروحه. وهذه التعيّنات في الوجود الواحد (هي) أحكام اسمه «الظاهر» الذي هو مجلى لاسمه «الباطن». والحق هو الظاهر والباطن والأوّل والآخر، وليس لغيره وجود أصلا. وحيث أنّ العالم عند التحقيق لم يكن إلا كذلك، وليس له وجود حقيقي، قال الشيخ (ابن العربي) في المقام نكتة هي في غاية اللطف، وهي قوله:«العالم غيب لم يظهر قطّ، والحق تعالى هو الظاهر ما غاب قطّ. والناس في هذه المسألة على عكس الصواب، فيقولون: العالم ظاهر والحق تعالى غيب»”([i]).

ويقول ابن تركه في تمهيد القواعد مبيّناً حقيقة الكثرة والتعيّنات وأنها أمور اعتبارية :

“إن تلك التعيُّنات -التي هي المعلومات- إنَّما هي أحوال الوجود وصفاته التي لا يدرك الوجود إلا بحسبها، إذ الإدراك إنّما وقع من الوجود على صفاته وأحواله اللاحقة له في مراتبه المستهلكة أحكامُ إطلاقه ووحدتهِ فيها، ولا شك إنها من حيث هي أحوال وأعراض وعوارض للوجود تستدعي المقارنة، فكيف يقال: أنّها غير قابلة للوجود مطلقا؟ فإنها عند مقارنتها للوجود ومقارنة الوجود ايّاها ضروريَّة الوجود.

نعم إنها من حيث أنفسها بقطع النظر عن معروضها ومقارنتها له، لا تستحق الوجود، ولا العدم أيضاً، بل إنما تقتضي بهذا الاعتبار عدم الاستحقاق لشي‏ء منهما، وهذا هو مفهوم الإمكان. فالتعيُّنات النسبيَّة التي هي موضوعات بالطبع لهذا المفهوم، لا نسلّم انّها غير قابلة للوجود، فإنَّ مقتضى طبائعها عدم استحقاقيَّة الوجود لا استحقاقيَّة العدم. وذلك لأنّ تلك الأحوال عند مقارنة الوجود إيّاها ومقارنتها للوجود، تصير موجودة بالضرورة، فلو كان استحقاقيَّة العدم مطلقا مقتضى طبائعها، للزم صيرورة الممتنع الذاتي موجوداً بضرورة الوصف، وذلك بَيِّن الإستحالة، فظهر أنّ عدم استحقاقيَّة الوجود والعدم، هو مقتضى طبائع التعيُّنات”([ii]).

إذاً فالوجود وإن كان أمراً واحداً لا تعدّد فيه وما عداه عدم محض إلا أن لهذا الوجود أحوال عندما يقع الإدراك العقلي عليها فإن هذا الإدراك يكون سبباً لهذه التعيًنات والماهيات، ولا يقع الإدراك إلا على تلك الأحوال، أما الوجود الواحد من حيث هو واحد فلا يعقل ولا يدرك. والقيصري يؤكد في شرح الفصوص على أنّ الوجود واحد لا شريك له ولا تعدد فيه وأنّ التغاير منشؤه فقط الاعتبار العقلي ليس إلا:

“الوجود، من حيث هو واحد، لا يمكن أن يتحقّق في مقابله وجود آخر، وبه يتحقّق الضدان ويتقوّم المثلان، بل هو الذي يظهر بصورة الضدين وغيرهما ويلزم منه الجمع بين النقيضين إذ كل منهما يستلزم سلب الآخر. واختلاف الجهتين إنما هو باعتبار العقل وأما في الوجود فتتّحد الجهات كلّها، فإن الظهور والبطون وجميع الصفات الوجودية المتقابلة مستهلكة في عين الوجود فلا مغايرة إلا في اعتبار العقل”([iii]).

والتعيّنات الممكنة عنده لا تعدم بل تدخل في الباطن بعد الخضوع لحيطة الإسم الباطن وبعد زوال الإضافات التي تعرض الوجود والتي هي أمور اعتبارية:

“وفي الحقيقة الممكن أيضاً لا ينعدم بل يختفي ويدخل في الباطن الذي ظهر منه، والمحجوب يزعم أنّه ينعدم. وتوهم انعدام وجود الممكن أيضاً، إنّما ينشأ من فرض الأفراد للوجود كأفراد الخارجية التي للإنسان، مثلًا، وليس كذلك. فإن الوجود حقيقة واحدة لا تكثّر فيها، وأفرادها باعتبار إضافتها إلى الماهيّات، والإضافة أمر اعتباري، فليس لها أفراد موجودة ليعدم ويزول، بل الزائل إضافتها إليها، ولا يلزم من زوالها انعدام الوجود وزواله ليلزم انقلاب حقيقة الوجود بحقيقة العدم، إذ زوال الوجود بالأصالة هو العدم ضرورة وبطلانه ظاهر”([iv]).

معنى الظهور

 

إنّ كنه الذات الإلهية، والتي يصطلح عليها العارف بالهوية الغيبية، غير معروفة لأحد، ولا مشاهدة من قبل أحد، ولا ظاهرة لأحد، ولا معبودة من أحد، ولا مقصودة من قبل أحد،لأنها بطون وخفاء مطلق، فلا إسم ولا رسم لها حتى تُعرف أو تظهر، كما يقول الإمام الخميني(قده) :

“إنّ الهويّة الغيبيّة الأحديّة والعنقاء المغرب المستكنّ في غيب الهويّة والحقيقة الكامنة تحت السرادقات النوريّة والحجب الظلمانيّة في «عماء» وبطون وغيب وكمون لا إسم لها في عوالم الذكر الحكيم، ولا رسم، ولا أثر لحقيقتها المقدّسة في الملك والملكوت ولا وسم، منقطع عنها آمال العارفين، تزلّ لدى سرادقات جلالها أقدام السالكين، محجوب عن ساحة قدسها قلوب الأولياء الكاملين، غير معروفة لأحد من الأنبياء والمرسلين، ولا معبودة لأحد من العابدين والسالكين الراشدين، ولا مقصودة لأصحاب المعرفة من المكاشفين، حتّى قال أشرف الخليقة أجمعين: «ما عرفناك حقّ معرفتك، وما عبدناك حقّ عبادتك».

(و)هذه الحقيقة الغيبيّة لا تنظر نظر لطف أو قهر ولا تتوجّه توجّه رحمة أو غضب إلى العوالم الغيبيّة، والشهادتيّة، من الروحانيّين القاطنين في الحضرة الملكوت والملائكة المقرّبين الساكنين في عالم الجبروت بل هي بذاتها بلا توسّط شي‏ء، لا تنظر إلى الأسماء والصفات ولا تتجلّى في صورة أو مرآة غيب مصون من الظهور، مستور غير مكشوف عن وجهها حجاب النور فهو الباطن المطلق والغيب الغير المبدأ للمشتق…

(و)هذه الحقيقة الغيبيّة غير مربوطة بالخلق، متباينة الحقيقة عنهم، ولا سنخيّة بينها وبينهم أصلاً ولا اشتراك أبداً. فإذا قرع سمعك في مطاوي كلمات الأولياء الكاملين نفي الارتباط وعدم الاشتراك والتباين بالذات، فكلامهم محمول على ذلك. وإذا سمعت الحكم بالاشتراك والارتباط، بل رفع التغاير والغيريّة من العرفاء المكاشفين، فمحمول على غير تلك المرتبة الأحديّة الغيبيّة”([v]).

وينبّه الامام (قده) الى أن البطون المطلق الذي هو سمة الهوية الغيبية، لا يقابله شيء حتى الظهور والبطون اللذين هما في الحقيقة من صفات مقام الواحدية والأحدية التي هي من تجليات ذلك البطون المطلق، فكنه الذات عندما تتنزّل عن مقام إطلاقها وخفائها تظهر في مقام الأحدية التي هي تجلي اسم الباطن، والواحدية التي هي تجلي اسم الظاهر. إذاً هناك نوعان من البطون، بطون يقابله ظهور وهو مقام الأحدية، وبطون لا يقابله ظهور وهو كنه الذات الإلهية وغيب الهوية.

يقول (قده):

“البطون والغيب اللّذان نسبناهما إلى هذه الحقيقة الغيبيّة ليسا مقابلين للظهور الّذي (هو) من الصفات في مقام الواحديّة والحضرة الجمعيّة، ولا الباطن الّذي هو من الأسماء الإلهيّة… وهما متأخّران عن تلك الحضرة (الهوية الغيبية والبطون المطلق). بل التعبير بمثل هذه الأوصاف والأسماء لضيق المجال في المقال”([vi]).

والذات الإلهية لما أرادت أن تخرج من مقام الغيب والبطون وحضرة الخفاء والكمون، قامت وتنزّلت عن مقام إطلاقها الذاتي، وهذا التنزّل هو ما يصطلحون عليه بالظهور. حيث عرّفوا الظهور أنّه:”صيرورة المطلق متعينا بشيء من التعيّنات”([vii]).

وأنّه:” توجّه الذات من كُنه غيب هويَّتها وعدم تناهيها إلى حضرة الإحاطة والتناهي، وهو الظهور والتجلّي المعبّر بالنسبة العلميَّة”([viii]).

ومقصودهم أنّ الهويّة المطلقة لما كانت غير قابلة للنّسب والإضافات لأنّها غير قابلة للتعيّن بسبب إطلاقها وبطونها والنّسب إنّما تأتي بعد التّعين، لذا كان لا بد ان تتنزّل الذات المقدسة أولاً عن مقام إطلاقها حتى تتعيّن، وإذا تعيّنت فقد ظهرت. وليس مرادهم بالظهور أنّ الشيء يكون معدوماً ثم يوجد، أو أن يكون مخفياً ثم يظهر، بل مقصودهم أنّ:

“ظهورها إنما يكون بتنزُّلها عن صرافة إطلاقها ووحدتها، إلى الانتساب بالتقييدات والانصباغ بكثرة تعيُّناتها، فإن الحقائق إنّما تظهر بمقابلاتها وذلك لأن الظهور عند التحقيق هو أن يتصوَّر الظاهر بصورة أثره، فلا بدَّ هاهنا من متأثِّر قابل في مقابلته حتى يؤثر فيه ويتأثر منه، فيظهر بصورته ويجعله مظهراً له”([ix]).

ثمَّ إنّ التعيُّنات وإن كانت من حيث نسبتها الى ذاتها معدومة وغير موجودة فلا تصلح لأن تكون في مقابل الوجود المطلق حتى تتأثر منه وتظهر بصورتها، إلا أنها من حيث أنها أحوال الوجود ومظاهره التي يظهر من خلالها لا تتصف بأنها معدومة، وعندها يصحّ أن ينسب إليها الظهور كما يقول صاحب تمهيد القواعد:

“إنّما تكون(التعيّنات) كذلك(معدومة)، لو اعتبرت التعيُّنات من حيث أنّها هي تعيّنات فقط، وأما إذا اعتبرت من حيث أنها أحوال للوجود مقارنة له ومظاهر يظهر بها فلا، فإن تلك التعيُّنات مأخوذة تارة من حيث إنها كثرة حقيقيَّة وحينئذ تكون معدومات صرفة، ومعتبرةٌ أخرى من حيث أنّها معروضة للوحدة وبهذا الاعتبار موجودة، وحينئذ تصلح لأن ينسب إليها الظهور وغيره من المعاني الوجوديَّة المقتضية لأن يكون لها محالّ موجودة، كالإيجاب والاقتضاء وغيرهما”([x]).

 

ظهور الحق ضروري

 

الظهور والتعيّن أمران ضروريان لأنّ الذات الإلهية لو لم تتعيّن لبقيت على إطلاقها ووحدتها الصرفة، ولبقيت في مقام الغيب والخفاء، ولما تحققت بذلك الألوهية والربوبية التي هي من شؤون الحق الذاتية. والألوهيّة والربوبيّة لا تتحققان إلا بالمألوه والمربوب، فلا بدّ إذاً من الظهور لتحقيق المألوه والمربوب.

وليس المألوه والمربوب، الا الأعيان الثابتة والماهيات غير المجعولة، المحتاجة إلى الوجود والظهور في الخارج، لأنّها معلومات الحق الذاتية، الطالبة للوجود من‏ الموجد أزلاً وأبداً، على قدر القابلية والاستعداد والاستحقاق. فوجب حينئذ ظهور الحق تعالى بصورهم، لاعطاء كل ذى حقّ حقّه، كظهور النواة بالصورة الشجرية وإعطاء كل غصن من أغصانها ما تستوجبه من ثمار.

ومن هنا يقول ابن عربي:” فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً… ومعناه: نحن أظهرنا بعبوديتنا معبوديته، وبأعياننا إلهيته، إذ لو لم يوجد موجود قطُّ، ما كان يظهر أنه تعالى إله. بل العلة الغائية من إيجادنا ظهور إلهيته، كما نطق به:(كنت كنزاً مخفياً(…”([xi]).

 

ولأجل ذلك قال ابن عربي :”فلا يُعرف(الحق) حتى نَعرِف، قال عليه السلام: «من عرف نفسه، فقد عرف ربه». أي فلا يُعرف الحق من حيث أنّه إله حتى نَعرف، لتوقّف تعقّل هذه الحيثيّة التي هي النسبة إلى تعقّل المنتسبين…أي أوقف معرفة الربّ على معرفة النفس التي هي المربوب. فإن الربّ من حيث هو ربّ يقتضي المربوب”([xii]).

ويشير السيد حيدر الآملي إلى مسألة توقّف تحقّق الألوهية والربوبية على المظاهر أي على المألوه والمربوب فيقول:

“الألوهيّة والربوبيّة لا يمكن ولا تتصوّر إلا بوجود المألوه والمربوب. وإليه أشاروا أيضاً بقولهم: «إنّ للربوبيّة سرّا، لو ظهر لبطلت الربوبيّة» ومعناه : أنّ الربوبيّة موقوفة على المربوب الذي هو (كناية عن) المظاهر الإلهيّة مطلقا.

أعني أنّ الفاعليّة موقوفة على القابليّة، لأنّ الفاعل ما لم يكن له قابل لم يكن له أيّ أثر ولا فعل. فلو ظهر هذا السرّ، أي لو بطل وارتفع، لبطلت الربوبيّة. وإبطال المظاهر وإزالتها عن الوجود مستحيل ممتنع، لأنّها شؤون ذاتيّة وخصوصيّات إلهيّة. فإبطال الربوبيّة وإزالتها يكون مستحيلاً ممتنعاً. فيكون كلّ واحد منهما، أي من الربّ والمربوب، والظاهر والمظاهر، مربوطا بالآخر…

وبالحقيقة عن هذا السرّ أخبر (الحقّ) بنفسه في قوله (بالحديث القدسي) المذكور: «كنت كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرَف فخلقت الخلق» لأنّ معناه هو أنّه: كنت ذاتاً أو وجوداً باطناً مجرّداً مخفيّاً، بلا مألوه ولا مربوب، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: « ربّ إذ لا مربوب، وخالق إذ لا مخلوق، وقادر إذ لا مقدور». «فأحببت أن أُعرَف» أي أردت أن أكون ظاهراً، بمقتضى ذاتي وكمالاتي، في مظاهر أسمائي وصفاتي، حتّى لا يكون كمال في الوجود إلا لي. «فخلقت الخلق» أي ظهرت بصورهم وتعيّناتهم، بل بأعيانهم وماهيّاتهم، وليس في الوجود إلا أنا وأسمائي وصفاتي وكمالاتي. وليس من هذا في ذاتي نقصٌ، ولا في وحدتي قدحٌ، بل هذا عين كمالي ومحض عظمتي وجلالي”([xiii]).

هذا ولا يوجب ظهور الحق واحتياجه إلى المظاهر أي نقص في ذاته، فالعارف يشبّه ظهور الحق بصور الموجودات بظهور العدد “واحد” في صور الأعداد. فكما أنّ العدد “واحد” من حيث ذاته غنيٌ عن وجود الأعداد الأخرى وعن ظهوره بصورها، كذلك الحقّ تعالى هو غني عن الموجودات من حيث ذاته وعن ظهوره بصورها.

لكن ظهور الحقّ والعدد “واحد” إنما يكون من حيث كمالاتهما المندرجة في ذاتهما. فكما أنّ العدد “واحد” محتاج من حيث كمالاته لا ذاته إلى الأعداد ومظاهرها غير المتناهية لكي يظهر من خلالها كمالاته غير المتناهية، كذلك الحقّ تعالى محتاج بحسب كمالاته لا ذاته إلى الموجودات ومظاهرها غير المتناهية، ليظهر من خلالها كمالاته غير المتناهية.

ويقول السيد حيدر الآملي نافياً هذا النقص:

“وهذا الاحتياج ليس موجباً للنقص في ذاته المقدّسة، لأنّ الاحتياج إذا لم يكن ذاتيّاً، لم يكن نقصاً، لأنّ الاحتياج الذي هو سبب النقص، هو الاحتياج الذاتي وهذا ليس بذلك فلا يكون نقصاً.

فحينئذ كما لا يلزم النقص والكمال من وجود الأعداد وعدمها في ذات الواحد، فكذلك لا يلزم النقص والكمال من وجود الموجودات وعدمها في ذات الحقّ. وكما أنّ كمال الأعداد ونقصها يكون راجعاً إليها لا إلى الواحد الظاهر بصورها ومراتبها، فكذلك كمال الموجودات ونقصها يكون راجعاً إليها، لا الى الحقّ الظاهر بصورها ومراتبها”([xiv]).

كما أن ظهور الحق في صور المظاهر لا ينافي وحدته ولا يوجب التَكَثُّر في ذاته،لأن الوحدة نوعان: وحدة لا يقابلها كثرة وهي الوحدة الحقّة الحقيقية التي لا يقابلها شيء، ووحدة أخرى يقابلها كثرة وهي الوحدة الأسمائية التي ترجع إليها جميع الكثرات.

والحق إذا كان واحداً لا مقابل له، فيكون تعيّنه إذا وتميّزه بنفس ذاته لا بتعيّن آخر زائد عليه، لأنه لا ثاني له حتى يتميّز عنه. والمراد بالتميّز هنا التشخّص لأنه بلحاظ هذه الوحدة الحقيقية لا مقابل له حتى يتميّز عنه. ولكن هذا لا ينافي ظهور الحقيقة الواحدة في مراتبها المتعيّنة، والمراد بالتعيّن هنا التميّز لا التشخّص لأنه مرتبط بمقام الظهور.

إذا فالتعيّن نوعان: تعيّن شخصي مرتبط بمقام الواحد الشخصي، وتعيّن بمعنى التميّز وهو مرتبط بمقام الظهور والمراتب التي له. وعليه يكون الحق من جهة عين هذه التعيّنات والأمور المتكثّرة ومن جهة أخرى غيرها. فهو عينها من ناحية الوجود والحقيقة وغيرها من ناحية التقييد والتعيّن. بمعنى آخر هو عين الأشياء بظهوره فيها بملابس أسمائه وصفاته، وغيرها من خلال احتجابه عنها بذاته ووجوده المطلق. يقول القيصري في مقدمة الفصوص :

“وهو حقيقة واحدة لا تكثّر فيها، وكثرة ظهوراتها وصورها لا تقدح في وحدة ذاتها، وتعيّنها (أي تشخّصها) وامتيازها بذاتها لا بتعيّن زايد، عليها إذ ليس في الوجود ما يغايره ليشترك معه في شي‏ء ويتميّز عنه بشي‏ء، وذلك لا ينافي ظهورها في مراتبها المتعيّنة، بل هو أصل جميع التعيّنات الصفاتية والأسمائية والمظاهر العلمية والعينيّة.

ولها وحدة لا تقابل الكثرة هي أصل الوحدة المقابلة لها، وهي عين ذاتها الأحدية، والوحدة الأسمائية المقابلة للكثرة -التي هي ظل تلك الوحدة الأصلية الذاتية- أيضاً عينها من وجه”([xv]).

ويضيف: “فكونه عين الأشياء بظهوره في ملابس أسمائه وصفاته في عالمي العلم والعين، وكونه غيرها باختفائه في ذاته واستعلائه بصفاته عما يوجب النقص والشين، وتنزّهه عن الحصر والتعيين، وتقدُّسه عن سمات الحدوث والتكوين”([xvi]).

ويقول أيضا في مكان آخر: “والقول باستحالة أن تكون ذاته تعالى وعلمه -الذي هو عين ذاته- محلاًّ للأمور المتكثّرة إنما يصحّ إذا كانت غيره تعالى، كما عند المحجوبين عن الحق، أما إذا كانت عينه من حيث الوجود والحقيقة، وغيره باعتبار التعيّن والتقيّد فلا يلزم ذلك. وفي الحقيقة ليس حالاً ولا محلاًّ بل شي‏ء واحد، ظهر بصورة المحلّية تارة، والحاليّة أخرى. فنفس الأمر عبارة عن العلم الذاتي الحاوي لصور الأشياء كلها، كلّيّها وجزئيّها، صغيرها وكبيرها، جمعاً وتفصيلاً، عينيّة كانت أو علميّة: ﴿ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء﴾”([xvii]).

ومن هنا يقول العارف إن ظهور الحق إنما كان من حيث كلّيّته لا من حيث وحدته وذاته. لأن مقام الذات ليس له اسم ولا رسم، وليس قابلاً للظهور كما ذكرنا بل هو في كمون وخفاء مطلق. وعليه فلا تكون الكثرة والأمور المتعيّنة قادحة في وحدته كما يقول السيد حيدر الآملي في جامع الأسرار:

” فظهوره تعالى في الكلّ أو بصورة الكلّ، (هو) من حيث كلّيّته ومجموعيّته، لا من حيث وحدته وذاته، لأنّ الكلّ من حيث الكلّ لا يظهر إلا في الكلّ. والكلّ (هو) اسم له باعتبار الحضرة الواحديّة الأسمائيّة، لا باعتبار الحضرة الأحديّة الذاتيّة، كما قيل «أحد بالذات، كلّ بالأسماء». وإذا كان كذلك فلا يلزم من ظهوره تعالى بصورة الكلّ كثرة في ذاته‏ ووجوده أصلاً. ويكون تعالى هو الكلّ من غير تغيير فيه، ويكون العارف صادقاً في قوله «ليس في الوجود سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله». فالكلّ هو وبه ومنه وإليه. وأيضا لا يصدق من هذا على كلّ واحد من مظاهره أنّه هو، كما لا يصدق على كلّ واحد من أفراد الكلّ أنّه الكلّ”([xviii]).

إذا فللحق تعالى الذي ثبت إطلاقه ووحدته، ظهور وكثرة في صور المظاهر، من حيث  أسمائه وكمالاته وشؤونات ذاته، وإن كان تعالى من حيث ذاته، منزّه عن ذلك لغناه الذاتي كما يقول السيد حيدر الآملي في نقد النقود:

“اعلم أنّ هذا الوجود أو الحقّ تعالى الذي ثبت إطلاقه وبداهته ووجوبه ووحدته، نقلاً وعقلاً وكشفاً، له ظهور وكثرة في صور المظاهر والمجالي، اعتباراً وحقيقةً، اجمالاً وتفصيلاً، وإن كان لا كثرة له لا اعتباراً ولا حقيقةً، لا اجمالاً ولا تفصيلاً، لانّه تعالى من حيث ذاته، منزّه عن جميع ذلك، مستغنٍ عمّا عداه وإن كان، من حيث صفاته وأسمائه وكمالاته وخصوصيّاته، عين كلّ واحد منها، غير مستغن عنها”([xix]).

 

 

شواهد وأمثلة على ظهور الحق

 

من كلام أمير المؤمنين (ع):

“إلى مجموع ظهوره وبطونه وكثرته ووحدته والجمع بينهما، والظهور بصور التضادّ والقيام بالمتباينات والأضداد، وغير ذلك من الغرائب والعجائب في ظهوره بصور المظاهر المختلفة مع اتّحاده بها أشار قطب أقطاب أرباب التوحيد سلطان الأولياء والوصيّين وارث علوم الأنبياء والمرسلين علي بن أبى طالب -عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيّات- في مواضع شتّى، منها قوله: «وَلَا يُجِنُّهُ الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ، وَلَا يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ، قَرُبَ فَنَأَى، وَعَلَا فَدَنَا، وَظَهَرَ فَبَطَنَ، وَبَطَنَ فَعَلَنَ، وَدَانَ وَلَمْ يُدَن‏...»([xx]).

فمعنى قوله الأوّل: « وَلَا يُجِنُّهُ الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ، وَلَا يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ» هو أنّه ليس هناك شيئان متغايران، حتّى يمنعه الأوّل عن الثاني كما لغيره، لأنّ غيره بالضرورة ظهوره يمنعه عن البطون، وبطونه عن الظهور، بل ليس هناك في الحقيقة إلا شي‏ء واحد وهو وجوده. فإذا اعتبرته إلى الظهور فهو ظاهرٌ، وإذا اعتبرته إلى البطون فهو باطنٌ. وكذلك (الشأن) بالنسبة إلى”الأوّل” و”الآخر” وبالنسبة إلى جميع الصفات أيضا كذلك. فيكون (الحقّ تعالى) أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً، بلا تغيير شي‏ء في ذاته ووجوده.

وأكّد ذلك بقوله عقيبه «وَظَهَرَ فَبَطَنَ، وَبَطَنَ فَعَلَنَ، وَدَانَ وَلَمْ يُدَن»

ليعلم أنّ ذلك من كمالاته المذكورة ومن خصوصيّاته المعلومة، أي ظهوره في نفس بطونه، وبطونه في نفس ظهوره، ودنوّه في عين علوّه، وعلوّه في عين دنوّه. وكذلك (الأمر) بالنسبة إلى جميع الاعتبارات المختلفة والمراتب المتضادّة.

ومنها قوله «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالًا فَيَكُونَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً وَيَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيل‏-إلى قوله- وكلّ ظاهر غيره غير باطن. وكلّ باطن غيره غير ظاهر» الى قوله «لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن »([xxi]).

ومعنى قوله الثاني «الذي لم يسبق له حال حالا» الى آخره، هو أنّه يشير الى عدم الزمان واعتباره في أوّليّته وآخريّته وظاهريّته وباطنيّته، وعدم التكيّف في ذاته ووجوده، وعدم تقدّم كلّ واحد من هذه الاعتبارات على الآخر بالزمان. و(يشير هذا القول أيضا) الى أنّه تعالى واحد في عين الكثرة، كثير في عين الوحدة، لقوله«وكلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل» الى آخره، لانّ كلّ مسمّى غيره بأنّه واحد، يكون قليلا، لانّه لا يكون الا واحدا من العدد، أي‏ فردا من الافراد، لانّه إذا تعدّى الوحدة دخل في الاثنينيّة، فلا يكون واحدا بل يكون اثنين، والواحد قليل لانّه أقلّ العدد. فيكون تقديره:

أنّ كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل الا هو تعالى، فانّه واحد كثير، لقوله أيضا «الأحد لا بتأويل عدد». وأكّد هذا القول بقوله «وكلّ ظاهر غيره غير باطن، وكلّ باطن غيره غير ظاهر» ليعلم أيضا أنّه تعالى في جميع الاعتبارات كذلك، لا في الوحدة والكثرة فقط.

وأكّد هذا القول بقول آخر «لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو فيها بائن» ليعلم أنّه ليس هذا بحلوله في الأشياء ولا بتباعده عنها حقيقة، بل بأنّه ظهر بصور كمالاته وخصوصيّاته المسمّاة بالمظاهر، وليس غيره فيها حقيقة واعتبارا. فحينئذ يكون هو الاوّل والآخر والظاهر والباطن والواحد والكثير والقريب والبعيد. أي (هو) الاوّل من حيث الذات، الآخر من حيث الأسماء والصفات، الظاهر من حيث الكمالات والخصوصيّات الباطن من حيث الوجود والذات. وكذلك الواحد والكثير والقريب والبعيد”([xxii]).

 

 

  1. مثال الشجرة والنواة:

“انّ مثال الحق أو الوجود، مثال شجرة كاملة في ظهورها ، لقوله تعالى: ﴿ يُوقَدُ من شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ([xxiii]). فكما أنّ الشجرة بأغصانها وأوراقها وأثمارها وأزهارها، وما يتعلّق بها من الكمالات الشجرية، هي هي لا غيرها، مع أنّها بأجمعها كانت في النواة كالكمالات الإلهية في الذات، فكما أنّ الكمالات ليست هي الذات ولا الذات هي الكمالات، مع أنّ كل واحدة منهما هي عين الاخرى، فكذلك الشجرة فانّها ليست هي النواة ولا النواة هي الشجرة، مع أنّ كل واحدة منهما عين الاخرى. فقس على هذا الحق تعالى والوجود، فانّ العالم وما فيه من العوالم المعبّر عنها بالمظاهر، هي كالاغصان والأوراق والازهار والاثمار بالنسبة الى الحق والوجود المطلق، مع أن هذه المظاهر ليست هي الحق ولا الوجود، كالنواة بالنسبة الى الشجرة، و من‏ هذا اتصف الوجود بالشجرة التي هي ﴿لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ﴾ اعني لا روحانية ولا جسمانية، ولا كلية ولا جزئيّة، ولا مطلقة ولا مقيّدة، بل جامعة للطرفين وحاوية للصفتين.

فكما أنّ ظهور الشجرة بالصورة الشجرية لا يخرجها عن الشجرية مطلقا، فكذلك ظهور الحق تعالى بصور العالم والإنسان لا يخرجه عن الحقية مطلقا. فان العالم والإنسان والحق، في هذا المقام، عند التحقيق، في حكم واحد، لقولهم: «العالم انسان كبير، والإنسان عالم كبير» ولقولهم: وليس على الله بمستنكر ان يجمع العالم في واحد.

(وقولهم) «احد بالذات، كلّ بالأسماء» يحلّ عقدة هذه الشبهة عند العارف، فيصحّ حينئذ قول من قال: «خلق الله تعالى آدم على صورته» بالنسبة الى الصورتين، اعني صورة الإنسان الكبير وصورة الإنسان الصغير…

وبالجملة فالذات في هذا المثال هي كالنواة بالنسبة الى الشجرة، والمظاهر هي كالاغصان والأوراق والازهار والاثمار بالنسبة إليها. فكما انّه لا يقال: انّ في صورة الشجرة الحسّيّة (يوجد شي‏ء) غير الشجرة، كذلك لا يقال: انّ في صورة الشجرة العالمية الآدمية (يوجد شي‏ء) غير الحق او غير الذات، فانّه ليس هناك غيره. فظهوره تعالى في صورة كمالاته، وظهور كمالاته في صورة ذاته، لا يخرجه عن الوحدة الذاتية والكمالات الوجوبية الوجودية، فانّه ليس في الوجود الا ذاته وكمالاته ومظاهره ومجاليه. فانّ شئت، هذه الصورة سمّها بالخلق، وان شئت سمّها بالحقّ، وان شئت (سمّها) بالجمع بينهما، اعني بالخلق والحق، والظاهر والمظهر، والعبد والربّ، وامثال ذلك…”([xxiv]).

 

 

  1. مثال النفس الإنسانية والعالم:

“انّ ظهور الحق تعالى في مظاهره، او الوجود المطلق في مقيداته، ليس يوجب الكثرة في ذاته، ولا القدح في إطلاقه. فإنه واحد بوجه، كثير بوجه آخر، (وهو) مطلق بوجه، مقيّد بوجه آخر، كالعالم والإنسان مثلا، فانّ كل واحد منهما واحد بالحقيقة، كثير بالاعتبار. امّا العالم فانّه حقيقة واحدة، وهي النفس المخصوصة به، المعبّر عنها بالنفس الكلية، وامّا الإنسان فلأنّ حقيقته ايضا واحدة، وهي نفسه المخصوصة به، المعبّر عنها بالنفس الجزئية. وليس للخلق غير هذين المظهرين اجمالا، المعبّر عنهما بالآفاق والأنفس، والإنسان الكبير والإنسان الصغير. فكما انّ ظهور هذين المظهرين، بمظاهرهما الآفاقية والانفسية، لا يقدح في وحدتهما الذاتية، فكذلك ظهور الحق تعالى بصورهما وصور ما يتعلق بهما من الموجودات والمخلوقات، فإنّه لا يقدح في وحدته الذاتية، لأنّه باق على صرافة وحدته الذاتيّة كما كان.

 

 

علة ظهور الحق ومراتبه

 

عرفنا مما سبق أن ظهور الحق ضروري ولكن ظهوره ليس من حيث ذاته المقدسة ووجوده المطلق وهويته الغيبية، لأنه من حيث ذاته غني عن الظهور والبطون. فالذات الإلهية من حيث وجودها المطلق في خفاء وكمون ولا يقع أي بحث بشأنها وهي باطنة بطونا مطلقا، وهو بطون ليس في مقابله ظهور وهو الذي يشار اليه بضمير “هو” في القران الكريم والاحاديث الشريفة.

وعليه فإن الذات لا يمكن أن تكون مبدأ لأي ظهور وتعين لأنه لا توجد فيها حيثية غالبة واخرى مغلوبة حتى يكون هناك مبدأ للظهور، فلا يوجد في مقام الذات اسم غالب واخر مغلوب بل كل الاسماء موجودة بوجود واحد من غير غلبة اسم على اخر. ففي مقام الذات تكون الذات عالمة وقادرة ورازقة وموجدة و… في وقت واحد وعلى نحو الأندماج والبساطة، وهذا معنى أن الأسماء في مقام الذات موجودة على السوية أي لا توجد فيها حيثية غالبة واخرى مغلوبة، لأنه إذا صار هناك هناك حيثية غالبة واخرى مغلوبة فهذا يعني ان هناك تعيّن، والمفروض ان الذات وغيب الهوية مقام اللاتعين.

فما الذي حصل حتى صارت الذات الإلهية التي هي مقام اللاتعين منشأ للتعين؟ هنا يجمع العرفاء على الحاجة الى الواسطة لأجل الانتقال من مقام الذات الى ما وراء الذات وهو مقام التعين. وقالوا أن هذا الوسيط هو العلم، أي علم الحق بذاته في ذاته لذاته، فعلمه بنفسه هو الذي أوجد التعين الأول، والصفة التي اوجدت هذا التعين هي الوحدة الحقيقية، فمن خلال علم الذات بالوحدة الحقيقية يحصل التعين الأول.

بمعنى أخر ان الذات الإلهية من حيث إتصافها بالوحدة الحقيقية تكون منشأ للتعين الأول، ومن ثم سببا لحصول التعين الثاني. ففي مقام الذات لا يوجد صفة غالبة أما في مقام التعين الأول فنجد أن هناك صفة غالبة وهي صفة الوحدة الحقيقية. كما يقول ابن تركه في تمهيد القواعد:

“اعلم أن تلك الهوية المطلقة الواحدة بالوحدة الحقيقية تلزمها النسبة العلمية أولا بحصول نفسها في نفسها لنفسها (وهو التعين الأول)، وتلزمها بتوسط هذا اللازم(النسبة العلمية) الواجبية بالذات والموجبية والمفيضية وغيرها من الصفات المترتبة وغير المترتبة اللازمة لذاتها (وهو التعين الثاني)”([xxv]).

 

 

ويقول السيد حيدر الآملي في نص النصوص:

“انّ ظهوره تعالى وبروزه كان في الحقيقة من علمه بذاته، لانّه إذ صار عالما بذاته صارت ذاته معلومة له، وكل معلوم معيّن، فيكون اول تعيّن له من علمه بذاته والتعيّن بعد اللاتعيّن ظهور”([xxvi]).

ويقول السيد حيدر ايضا في نقد النقود:

“أوّل تعيّن تعيّنت به الذات كان من علمه تعالى بذاته، لانّه إذا صار عالما بذاته صارت ذاته معلومة له. وكلّ معلوم لا بدّ أن يكون معيّنا، فيكون أوّل تعيّنه علمه بذاته. وإذا صارت ذاته تعالى معلومة له، وصار هو عالما بها، فلا بدّ أن يكون العلم واسطة بينهما (أي بين الله من حيث هو عالم، وبين ذاته المقدّسة من حيث هي معلومة له). فيكون هناك ثلاثة اعتبارات: اعتبار العلم واعتبار المعلوم واعتبار العالم، وهذا عين الكثرة. وإذا كان كذلك، فيكون علمه تعالى بذاته سبب تعيّنه، وسبب تعيّن كلّ واحد من معلوماته التي هي الأعيان والحقائق المسمّاة بالشؤون الذاتيّة. ويكون تعالى هو الفاعل والقابل حقيقة واعتبارا لا غيره”([xxvii]).

وإذا تحقق التعين الأول يصبح عندنا ظهور وبطون اما قبل هذا التعين أي في مقام الذات والهوية الغيبية المطلقة فلا يوجد إلا البطون المحض الذي لا مقابل له على الإطلاق. ويطلق العرفاء على باطن التعين الأول اسم الاحدية وعلى ظاهر التعين الأول الواحدية. فالتعين الأول عندهم له بطون وظهور باطنه هو مقام الأحدية وظاهره هو مقام الواحدية. والفرق بينهما ان العلم في مقام الأحدية علم إجمالي وفي مقام الواحدية علم تفصيلي، وفي مقام الأحدية لا يوجد الا وصف واحد وهو الوحدة الحقيقية أما في مقام الواحدية فيوجد أسماء وصفات متعددة ومتمايزة، وان مقام الأحدية هو مقام اسقاط النسب  والإضافات اما مقام الواحدية فهو مقام اثبات النسب والإضافات. ففي مقام الاحدية لا توجد كثرة على الإطلاق اما في مقام الواحدية فيوجد كثرة وهي كثرة اسمائية.

يقول ابن تركه في تمهيد القواعد:

“ان الذات باعتبار اللاتعيُّن المسمّاة بغيب الغيب، تارة والهويَّة المطلقة اخرى، يمتنع ان يعتبر فيها امر يستلزم التعين والتقيد ويستدعي التكثُّر والتعدُّد، فأول ما اعتبر فيها من المعاني الوصفيَّة هي الوحدة الحقيقيَّة التي لا يتصور اعتبار الكثرة والمغايرة فيها بوجه من الوجوه حتى ان الكثرة لا تغاير الوحدة بالنسبة إليها وكذلك الوحدة لا تغاير الذات.

وتحقيق هذا الكلام انّ الوحدة تطلق باعتبارين: أحدهما وهو الوحدة الذاتيّة المطلقة التي لا يعتبر في مفهومها ما يشعر بتعدَّد الوجوه والاثنينيَّة أصلاً حتى ان عدم اعتبار الكثرة -لما فيه من الاشعار بمقابلتها للكثرة المستلزمة للاثنينيَّة- غير معتبر في مفهومها.

والثاني الوحدة الإضافيَّة النسبيَّة التي هي عبارة عن كون الشي‏ء بحيث لا ينقسم إلى الأمور المشاركة من حيث هو كذلك وهذا هو الذي يقابله الكثرة بالعرض أو بالذات.

والمعتبر ها هنا هو الوحدة بالمعنى الأول، والهويَّة المطلقة عبارة عن الواحد بها(الوحدة الذاتية)، فتكون الذات بهذا الاعتبار، لها الاحاطة العامة التي لا يشذُّ عنها شي‏ء من المراتب حتى المحسوسات، فتلزمها بهذا الاعتبار النسبة العلميَّة بحصول نفسها في نفسها.

ثمَّ ان هاهنا نكتة تتضمّن فوائد لا بدَّ  من الوقوف عليها، وهي انَّ للوحدة (الحقيقية) المعتبرة هاهنا  اعتبارين: أحدهما متعلّقه طرف بطون الذات‏ وخفائها وهو اعتبار اسقاط ساير النسب والإضافات عنها، ويسمّى الذات به احداً. وثانيهما متعلِّقه طرف ظهور الذّات وانبساطها واعتبار إثبات النسب والإضافات كلّها، ويسمّى الذات به واحداً، وبهذا الاعتبار يصير الذات منشأ الأسماء والصفات”([xxviii]).

إذا الوحدة بالنسبة الى مقام الذات لا تمايز بين اعتباريها فلا يتميز مسمى الواحد فيها عن الأحد، نعم الذات بإعتبار إتصافها بالوحدة الحقيقية تستلزم تعينا يسمى بإصطلاح القوم التعين الأول، والموجد للتعين الأول هو العلم أي علم الحق بذاته، وعلم الحق بذاته واحد ولكنه في مقام الأحدية علم إجمالي وفي مقام الواحدية تفصيلي.

وعلم الحق بذاته يستلزم ايضا العلم بسائر كمالات ذاته المقدسة وشؤوناتها من أسماء وصفات، وبلوازم هذه الاسماء والصفات ايضا. كما يقول الامام الخميني (قده) في شرح دعاء السحر:

“ان علمه بذاته هو العلم بكمالات ذاته ولوازم أسمائه وصفاته لا بعلم متأخر أو علم آخر بل بالعلم المتعلق بالذات في حضرة الذات. ولولا هذا العلم البسيط في حضرة الذات لم تتحقق الحضرة الواحدية الأسمائية والصفاتية ولا الأعيان الثابتة المتحققة في الحضرة العلمية بالمحبّة الذاتية ولا الأعيان الموجودة”([xxix]).

وهذا الشعور والعلم بكمالات الذات وشؤوناتها تارة يكون على نحو اجمالي واخر على نحو تفصيلي. ويسمي العرفاء العلم والشعور بكمالات الذات على نحو الإجمالي بالكمال الذاتي وعلى نحو التفصيلي بالكمال الأسمائي. فعلم الحق بذاته الجامعة لكل الكمالات والشؤونات إذا كان بنحو كلي واجمالي ومن غير ملاحظة هذه الكمالات على وجه التفصيل فهذا العلم عندهم يسمى بالكمال الذاتي وهو الذي تغلب عليه احكام إطلاق الذات وبطونها. واما إذا كان علم الحق بذاته الجامعة من حيث ملاحظة هذه الكمالات على نحو تفصيلي فيسمى هذا العلم عندهم بالكمال الأسمائي وهو الذي تغلب عليه احكام تعينات الاسماء وظهورها كما يقول ابن تركه الأصفهاني في تمهيد القواعد:

“ان الظهورالمذكور لمّا كان مستلزماً للشعور بسائر الشؤون والأحوال والاعتبارات للذات بمراتبها وأحوالها وأحكامها ولوازمها كلّها حتى المحسوسات على وجه كلي جملي، فمتعلّق الشعور المذكور:

– اما ان يكون الذات في بطونها بحيث يكون الكلّ ثابتاً مشاهداً كثبوت سائر المراتب العدديَّة في الواحد مثلاً فحينئذ يسمى هذا الشعور في عرفهم بالكمال الذاتي المستلزم للغنى المطلق الذي هو عبارة عن ظهور الذات في بطونها على نفسها بالوجه المذكور بدون الاحتياج إلى التّطوُّر بالاطوار الغيريَّة والأدوار السوائيَّة أصلاً.

– وامّا ان يكون متعلّق الشعور المذكور، نفس الشؤون الذاتيَّة باظهار ذواتها لأنفسها أو باظهار بعضها للبعض في المراتب، وحينئذ يسمى هذا الشعور بالكمال الأسمائي”([xxx]).

ويقسم ابن فنار في مصباح الأنس الكمال الى قسمين:

“كمال ذاتي هنا يكون في مبدأ الرتبة الثانية حيوة يلازمه الغنى الذاتي، وهو شهود الذات نفسه من حيث وحدته بجميع شؤونها-نزولا وعروجاً دنياً وآخرةً- شهود مُفصَّل في مُجمَل دفعة واحدة، كشهود المكاشف في النواة نخلاً وثماراً لا يحصى.

ثم كمال أسمائي، هو ظهور الذات لنفسها من حيث تفصيل اعتباراتها، اما ظهوراً مفصلا أو مجملا بعد التفصيل من حيث مظهر شأن كلي جامع هو الإنسان الكامل الحقيقي، والفرق بينهما ان هذا (الكمال الأسمائي) بشرط شي‏ء بل أشياء، وتحقق الكمال الذاتي بلا شرط أصلاً”([xxxi]).

أي بشرط الكثرة في الكمال الأسمائي ولا بشرط الكثرة اصلا في الكمال الذاتي.

وهذا الشعور والعلم بكمالات الذات يستلزم تعين هذه الكمالات ايضا كما ان علم الذات بنفسها يستلزم تعينها كما ذكرنا سابقا، فكل معلوم متعين والظهورهو نفس العلم. وتعين كمالات الذات وشؤوناتها مرة يكون من خلال الكمال الذاتي اي في مقام البطون والإجمال فتظهر بذلك الاعيان الثابتة (أي الكثرة العلمية) في حضرة العلم من خلال التجلي بالفيض الأقدس بسبب الحركة الحبية والعشقية وهذه هي مرتبة الجلاء عندهم، واخرى من خلال الكمال الاسمائي أي في مقام الظهور والتفصيل فتظهر بذلك الاعيان الخارجية(أي الكثرة الخلقية) في حضرة الشهادة من خلال الفيض المقدس، وتسمى هذه المرتبة عندهم بالإستجلاء، ومن هنا يبدأ التعين الثاني لانه مرتبط بالمظاهر الخلقية اما ما قبل هذا التعين فكله مرتبط بالتعين الاول وبالتحديد بظاهر التعين الاول اي مقام الواحدية لأنه لا تمايز ولا تغاير في مقام الأحدية.يقول الميرزا الأصفهاني في الحاشية على تمهيد القواعد:

“ان الكثرات كانت بوحداتها الحقيقيَّة مندمجة ومستجنّة في غيب الهوية واحدية الجمع المشار إليها في قوله تعالى:﴿الله الصَّمَدُ﴾ وفي ذلك الموطن لم يكن لها تمايز وتكاثر أصلاً، بل كانت عين ذاته الأحدية…

ثمَّ بحكم «كنت كنزاً مخفياً، فأحببت ان اعرف» تحركت بالحركة الغيبيَّة الحُبِّية العشقيَّة، فان غاية المحبة العشق، وصفاته تعالى في غاية الكمال والتمام، وتنزّلت من موطن الإجمال ومرتبة الاستجنان إلى مرتبة الظهور والبروز والتكاثر والتمايز العلمي، من غير تغيير في ذاته تعالى، بل بالتجلي والفيضان، المسمى بالفيض الأقدس، فتكثَّرت وتمايزت بعضها عن بعض في علمه تعالى، وهذا مرتبة الجلاء عندهم لظهورها مفصَّلة متمايزة، وليس ذلك على الله بعزيز، فان العلوم الكثيرة والمعلومات المختلفة مندمجة ومستجنّة بوحدتها الحقيقيَّة في عقلك الإجمال إلى موطن التفصيل، متكثِّرة متمايزة بعضها عن بعض، منجلية بذلك في كمال الانجلاء، من غير تغيُّر في عقلك الإجمالي. فإذا كان حالك هكذا، فما ظنُّك بربك العليم القدير.

ثم تطلب ظهورها لنفسها وبعضها لبعض، واستدعاء ترتب آثارها عليها، وسعة رحمة بارئها تنزّلت من ذلك الموطن الغيبي بالحركة الغيبيَّة ايضاً إلى موطن العين والشهادة، و ذلك بنزول الفيض الأقدس من الأقدسيَّة عن السوائيَّة إلى المقدسيَّة المستلزمة للسوائية، لظهور احكام الإِمكان، وترتُّب آثار الممكنات عليها. وهذا مرتبة الاستجلاء في عرفهم، وإلى ذلك النزول أشير في قوله تعالى:

﴿أَلَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ فإن الظلَّ هو الفيض، ومدّه نزوله وانبساطه طولاً وعرضاً، علما وعيناً، في الغيب والشهادة”([xxxii]).

الفيض الإلهي عند العارف ينقسم إذا الى قسمين: الفيض الأقدس وهو التجلي بحسب باطن الذات وبه تظهر الأعيان الثابتة وإستعداداتها في حضرة العلم، والفيض المقدس وهو التجلي بحسب ظاهر الذات وبه تظهر الأعيان الخارجية والمظاهر الخلقية في حضرة العين والشهادة. فالفيض المقدّس مترتّب على الفيض الأقدس والأقدس مترتّب على الأسماء الإلهيّة والأسماء الإلهيّة مرتتّبة على الكمالات الذاتيّة الازليّة القدسية. والمراد بالأقدس أي الأقدس من شوائب الكثرة الأسمائية والنقائص الإمكانية.

يقول القيصري في مقدمة الفصوص:

“إن الفيض الإلهي ينقسم بالفيض الأقدس والفيض المقدس وبالأول: تحصل الأعيان الثابتة وإستعداداتها الأصلية في العلم، وبالثاني تحصل تلك الأعيان في الخارج مع لوازمها وتوابعها … فبالفيض الأقدس-الذي هو التجلي بحسب أولية الذات وباطنيتها- يصل الفيض من حضرة الذات إليها والى الأعيان دائما. ثم بالفيض المقدس- الذي هو التجلي بحسب ظاهريتها وآخريتها وقابلية الأعيان واستعداداتها- يصل الفيض من الحضرة الإلهية الى الأعيان الخارجية”([xxxiii]).

وسر ظهورالكمالات الذاتية للحق بشكل عام والمعّبر عنها بالشؤون هو طلب هذه الشؤون الظهور في الخارج على قدر استعداداتها وقابليتها، وطلب هذه الكمالات الذاتية للظهور هو من إقتضاء ذات الحق تعالى ووجوده، لذا وجب عليه تعالى ان يظهر هذه الكمالات الطالبة للوجود بلسان حالها واستعدادها كما يقول السيد حيدر الآملي في جامع الاسرار:

“ان لهذا الوجود، أو الحقّ تعالى، الذي ثبتت وحدته وإطلاقه وبداهته، كمالات وخصوصيّات ذاتيّة لا الى نهاية، (وهي) المسمّاة بلسان القوم بالشؤون الذاتيّة، وهي دائما تطلب منه بلسان الحال الظهور في الخارج بحكم اسمه «الظاهر»، كما أنّ ذاته دائما تطلب منه الخفاء بلسان الحال بحكم اسمه «الباطن». فظهوره وكثرته وتقييده من اقتضاء اسمه «الظاهر»، وخفاؤه ووحدته وإطلاقه من اقتضاء اسمه «الباطن»، وهو «الاوّل» بحسب «الباطن»، و«الآخر» بحسب «الظاهر»…

وأنّ طلب كمالاته وخصوصيّاته الظهور في الخارج بلسان الحال ازلا وأبدا، هو من اقتضاء ذاته ووجوده. واقتضاء الذات لا ينفكّ عن الذات‏ أزلا وأبدا. وكذلك ظهوره بصور الكثرة الخلقيّة، فانّه أيضا من كمالاته الذاتيّة وخصوصيّاته الغير المتناهية الوجوديّة الازليّة الغير القادحة في كمال وحدته وصرافة ذاته. وليس في هذا نقص أصلا، كما تصوّر المحجوب عنه، بل هو كمال في كمال وشرف في شرف. والذي أشار اليه تعالى في قوله :«كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق»”([xxxiv]).

واما سر ظهور التعين الثاني بشكل خاص وهو التعين الحاصل بالمرتبة الإستجلائية والكمال الأسمائي، فمرجعه الى ان الذات الإلهية لما كانت ترى ذاتها وكمالاتها في ذاتها ومن خلال ذاتها بالعلم الذاتي على نحو كلي وإندماجي(وهو الجلاء)، ارادت ان ترى ذاتها وكمالاتها ولكن هذه المرة من خلال الغير وعلى نحو تفصيلي كرؤية الإنسان نفسه من خلال المرآة، وهذا الغير ليس سوى مظاهره وتعيناته. لأنه وكما يقول القيصري في الفصوص:

“ليس رؤية الشيئ نفسه بنفسه في نفسه كرؤية نفسه في شيء آخر يكون له ذلك الشيئ مثل المرآة”([xxxv]).

فالتعين الثاني او ما يسميه العرفاء بالنفس الرحماني يظهر بالتجلي بالفيض المقدس المترتب على الفيض الأقدس كما ذكرنا والذي هو بدوره مرتّب على الأسماء الإلهيّة، والأسماء الإلهيّة مرتّبة على الكمالات الذاتيّة ، فتظهر بذلك التعينات في حضرة الشهادة المعبر عنها بالعين والخارج، بمقتضى الحركة الحبية للذات بان تظهر في الاعيان الخارجية على قدر استعداد هذه الاعيان وقابليتها وعلى قدر سؤالها وطلبها، بعد ان كانت باطنة ومختفية في التعين الأول الذي تغلب فيه احكام الوحدة والبطون على احكام الكثرة والظهور، والكثرة وان وجدت فيه فهي لا تخرج عن الكثرة المفهومية بخلاف التعين الثاني حيث الكثرة فيه عينية. يقول ابن تركة في التمهيد:

“لما كان التعين الاول -الجامع يبن الواحدية والاحدية والمعبرعنه بالوحدة الذاتيَّة، تارة وبالهويَّة المطلقة اخرى- لغلبة احكام البطون والوجود على احكام الظهور والأظهار، لا تمايز بين ما يعبَّر فيه من المعاني الأسمائيَّة والتعيُّنات، إذ لا تغاير هاهنا أصلاً، حتى ان الكثرة المعتبرة فيها(التعين الاول) هي عين الوحدة. فلا مجال فيه حينئذ ان تظهر تلك التعيُّنات على ما هو مقتضى الكمال الأسمائي، بان تظهر تلك الهويَّة في التعيُّنات الأسمائيَّة بحسبها، لأنَّ المراتب -التي هي محال ظهورها ومجالى تفاصيلها- مخفيَّة مندمجة هاهنا، مستهلكة الحكم استهلاك اعيان الحروف واندماجها في نفس المتنفِّس ما دام في مبدأ صدورها وباطن صدره وقبضة قلبه قبل بروزها في مراتب المخارج وظهورها بتعيُّنات أحكامها المتكثرة. فحينئذ اقتضت تلك الهويَّة الظهور والبروز، لكن لا من حيث ذاتها، بل من حيث اعتباراتها وشئونها، على مقتضى أسئلتهم بألسنة الاستعدادات والقابليّات الاقدسيَّة، فانبعث من ذلك التجلي وكنه بطونه، ميل إرادي وحركة حُبيَّة وشوق عشقي بحسبه تجلى بتعيُّن آخر وبنوع  اظهر على مثال نفس منبثّ يصلح لأن تحصل به تلك الصفات والأعيان متمايزة بالفعل تمايز الحروف في النَفَس، عند انبثاثه إلى المخارج. فيمكن تعقُّلها على سبيل التفصيل حسبما ذكر في مراتب الكمال الأسمائى، ويسمى هذا التجلي باصطلاحهم «النفس الرحمانى»”([xxxvi]).

ولهذا التعين الثاني او النفس الرحماني مراتب وتجليات مختلفة، فالحق يتجلى بالفيض المقدس وهو التجلي بحسب ظاهرية الذات فيصل الفيض من الحضرة الإلهية الجامعة للاحدية والواحدية الى الاعيان الخارجية وحضرة الشهادة، فتظهر تلك الاعيان في الخارج. والمقصود من الخارج عالم المظاهر الخلقية، حيث يقسّم العرفاء العالم الى عالمين: عالم الصقع الربوبي وهو مقام الاحدية والواحدية او التعين الاول، وعالم المظاهر الخلقية وهو عالم الشهادة والظاهر، حيث تظهر فيه التعينات الخلقية على قدر استعداداتها. ولهذا النفس الرحماني مراتب مختلفة في عالم الظاهر والشهادة:

اولها:عالم العقل.

ثانيها:عالم الخيال.

ثالثها:عالم الطبيعة والأجسام.

فهذه ثلاثة عوالم اذا اضفنا اليها عالم الغيب او ما يسمى بالتعين الاول الجامع للأحدية والواحدية فيصبح عندنا اربعة عوالم او حضرات، والعرفاء يضيفون اليها حضرة الانسان الكامل الجامع لكل الحضرات وهو الكون الجامع لكل المراتب فيتطابق عندهم العالم الكبير(وهو عالم الكوني او ما يسمى بعوالم الوجود)  مع العالم الصغير الانساني(وهو عالم الانسان الكامل) فتصبح بذلك الحضرات خمسة. يقول الامام الخميني (قده) في شرح دعاء السحر:

“اعلم يا حبيبي أن العوالم الكلية الخمسة ظل الحضرات الخمس الإلهية، فتجلى اللّه تعالى باسمه الجامع للحضرات، فظهر في مرآت الإنسان، فإن اللّه خلق آدم على صورته… وهو الإسم الأعظم والظل الأرفع وخليفة اللّه في العالمين. وتجلى بفيضه الأقدس وظله الأرفع، فظهر في ملابس الأعيان الثابتة من الغيب المطلق والحضرة العمائية، ثم تجلى بالفيض المقدس والرحمة الواسعة والنفس الرحماني من الغيب المضاف والكنز المخفي والمرتبة العمائية على طريقة شيخنا العارف مد ظله في مظاهر الأرواح الجبروتية والملكوتية أي عالم العقول المجردة والنفوس الكلية، ثم في مرائي عالم المثال والخيال المطلق أي عالم المُثل المعلّقة ثم في عالم الشهادة المطلقة أي عالم الملك والطبيعة”([xxxvii]).

ويقول ابن تركة في تمهيد القواعد:

“ان الموجودات التي في العوالم أقربها نسبة وابسطها ذاتا انما هو العقل الأول، إذ له ضرب واحد من التركيب لا غير، وهو أنّ له ماهيَّة متّصفة بالوجود، وهو أول مراتب الإمكان، وهو من عالم الأرواح. فاقرب العوالم نسبة إلى المرتبة الإلهيَّة انما هو عالم الأرواح، فأول الموجودات المبدعة هو عالم الأرواح دون عالم المعاني، لإستقلاله في الوجود وظهوره بحسب تعيُّنه، وما يلزمه من افاضة الأحكام وصدور الآثار دون العالم المعاني…

ثم عالم المثال لظهور المعاني فيه بصور الأشكال، وذلك معنى زائد حصل به ضرب آخر من التركيب.

ثمَّ عالم الأجسام لعروض هذا كلّه مع لحوقه التمكُّن وشغله للحيِّز، وهذا انهى الغاية في التركيب، و به تمَّ ظهور الوجود، إذ لا مرتبة في الظهور اشدَّ من المحسوسات…

فهذه ثلاثة عوالم، والمرتبة الجلائيَّة المشتملة على التعيّنين المذكورين، فيكون المراتب حينئذ أربعاً، وخامسها هو الجامع للكلِّ، وهو المرتبة الانسانيَّة”([xxxviii]).

 

قصة الظهور

 

ينقل الامام الخميني(قده) في مصباح الهداية عن القاضي سعيد القمي ملخصا يذكر فيه كيفية ظهور الاعيان وتجليها في الخارج بأسلوب جميل، حيث يشير الى ان حقيقة الظهور مردّها الى العلم الإلهي الأزلي بهذه الأعيان الطالبة للوجود والتي افاض عليها الحق الوجود بحسب قابلياتها واستعداداها الذاتية، يقول (قده):

“بالحري أن نذكر ما لخّصه الشيخ العارف الكامل القاضي سعيد الشريف القمي رضي الله عنه ممّا فصّله بعض أهل المعرفة، قال في البوارق الملكوتية:

إنّ الحقائق الخارجية في حال غيبتها تحت أستار الأسماء الّتي وسائط مشهودها، سألت تلك الأسماء سؤال افتقار وقالت: إنّ العدم قد أعمانا عن إدراك بعضنا بعضا، وعن معرفة ما يجب لكم من الحقّ علينا. فلو أنّكم أظهرتم أعياننا، لكنتم أنعمتم علينا، وأمكن لنا أن نقوم بحقوقكم ولكانت سلطنتكم متحقّقة واليوم أنتم سلاطين علينا بالقوّة من دون جنود ولا عدّة، فهذا الّذي نطلبه منكم أكثر نفعا لكم ممّا في حقّنا.

فلمّا سمعت الأسماء الإلهيّة مقالة الحقائق الغيبيّة، نظرت في ذوات أنفسها، وصدقت الممكنات وطلبت ظهور أحكامها حتّى يتميّز أعيانها بآثارها. فإنّ “الخلاّق” و”المدبّر”وغيرهما نظروا في ذواتهم، فلم يروا خلاّقاً ولا مدبّرا ولا غير ذلك.

فجاءت تلك الأسماء إلى حضرة الاسم “الباري” فقالوا له: عسى أن توجد أنت هذه الأحكام الّتي اقتضت حقائقها. فقال “البارئ”: ذلك راجع إلى الاسم”القادر” فإنّي تحت حيطته فالتجئوا إليه. فقال “القادر”: أنا تحت حكم “المريد” فلا أوجد عينا منكم إلا باختصاص وليس ذلك إلا بتخصّصه وأن يأتيه أمر من ربّه، فحينئذ أتعلّق أنا بالإيجاد.

ففزعوا إلى “المريد” وذكروا له مقالة “القادر”. فقال “المريد”:

صدق “القادر” ولكنّي أنظر إلى أنّه هل سبق العلم من الاسم “العليم” بظهور آثاركم، فأخصّص أنا ما شاء الله من أحكامكم فإنّي تحت حكمه. فصاروا إلى الاسم “العليم”. فقال “العالم”: قد سبق العلم بإيجادكم، ولكنّ الأدب أولى  ليس الأمر هنا بمحض الافتقار، بل لا بدّ من الإذن مرّة بعد أخرى، وإنّ لنا كلّنا حضرة مهيمنة علينا وهي الاسم “الله”.

فاجتمعت الأسماء إلى الحضرة الإلهيّة، فذكروا له قصّتهم، وأظهروا له ما اقتضت حقائقهم. فقال: حقّا أقول أنا اسم جامع لحقائقكم،

مشتمل على مراتبكم، وإنّي دليل على ذات المقدّسة وحضرة الأحديّة. فمكانكم أنتم ورفقائكم حتّى أعرض عليه مقاصدكم فقال: يا من هو، يا من لا هو إلّا هو، قد اختصم الملأ الأعلى وقالت الأعيان هكذا. فنودي من سرّه أن: أخرج عليهم، وقل لكلّ واحد من الأسماء ما يتعلّق بما يقتضيه حقائقها. فخرج الاسم “الله”، ومعه الاسم “المتكلّم” يترجم عنه الممكنات والأسماء الإلهيّة، وذكر لهم ما أمره المسمّى. فتعلّق “العالم” بظهور الممكن الأوّل و”القادر” بظهور الممكن الثاني و”المريد” بسائر الأعيان. فظهرت الأدبار والأكوان.

وأدّى الأمر إلى المنازعة والمخالفة كما هو مقتضى الأسماء الجماليّة والجلاليّة. فقالت الأعيان: إنّا نخاف أن يفسد نظامنا، أو يطغى بعضنا على بعضنا، ونلحق بالعدم الّذي كنّا فيه. فالتجئوا تارة أخرى، إلى الأسماء بتعليم الأسم “العليم” و”المدبّر”، وقالوا: أيّها الأسماء التي لكم السلطنة علينا، إن كان أمركم على ميزان معلوم وحدّ مرسوم بأن يكون فيكم إمام يخفضنا ويخفض تأثيراتكم فينا، لكان أصلح لنا ولكم. فسمعوا ذلك والتجئوا إلى الاسم “المدبّر”.

فدخل “المدبّر” إلى المسمّى، وخرج بأمر الحقّ إلى الاسم “الربّ” فقال له: صدر الأمر بأن تفعل أنت ما يقتضيه المصلحة في بقاء الممكنات. فقال: سمعا وطاعة. وأخذ وزيرين يعينانه على مصالحه، وهما “المدبّر” و”المفصّل”. قال الله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ أي ربّكم الّذي هو الإمام. فانظر ما أحكم كلام الله و أتقن صنع الله”([xxxix]).

[i] – المقدمات من كتاب نص النصوص،ص361

[ii] – تمهيد القواعد:ص 301.

[iii] – شرح فصوص الحكم: ج  1،ص 26.

[iv] – المصدر السابق،ص 42.

[v] – الإمام الخميني(قده): مصباح الهداية الى الخلافة والولاية، مقدمة السيد جلال الدين الأشتياني، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني، الطبعة الثالثة، ص 13 و 14.

[vi] – المصدر السابق:ص 14.

[vii] – تمهيد القواعد:ص 304.

[viii] – المصدر السابق:ص 272.

[ix] – المصدر السابق:ص 304.

[x] – المصدر السابق:ص 306.

[xi] – شرح فصوص الحكم:ج1،ص 526.

[xii] – المصدر السابق.

[xiii] – السيد حيدر الآملي :رسالة نقد النقود في معرفةالوجود(المطبوعة مع جامع الأسرار)، تحقيق هنري كربين وعثمان يحيي، شركت انتشارات علمى وفرهنكى، الطبعة الثانية،1368 ش، ص665.

[xiv] – جامع الأسرار ومنبع الانوار:ص 191.

[xv] – شرح فصوص الحكم:ج1،ص31.

[xvi] – المصدر السابق:ج1،ص34.

[xvii] – المصدر السابق:ج1،ص 78.

[xviii] – جامع الاسرار ومنبع الانوار:ص195.

[xix] – رسالة نقد النقود في معرفةالوجود: ص 659.

[xx] – نهج البلاغة: نسخة المعجم المفهرس، قم، خطبة 195.

[xxi] – نهج البلاغة: خطبة 65.

[xxii] – راجع كتاب جامع الأسرار ومنبع الأنوار:ص 167.

[xxiii] – سورة النور:آية 35.

[xxiv] – راجع المقدمات من كتاب نص النصوص:ص 448.

[xxv] – تمهيد القواعد: ص 269.

[xxvi] – المقدمات من كتاب نص النصوص: ص 454.

[xxvii] – رسالة نقد النقود في معرفةالوجود: ص685.

[xxviii] – تمهيد القواعد :ص 270.

[xxix] – الامام الخميني: شرح دعاء السحر،مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني،الطبعة الاولى،رمضان 1416،ص 119.

[xxx] – تمهيد القواعد :ص 273.

[xxxi] – مصباح الأنس: ص 321.

[xxxii] – تمهيد القواعد:ص 283.

[xxxiii] – شرح فصوص الحکم:ج1،ص 89.

[xxxiv] – جامع الأسرار ومنبع الأنوار:ص158.

[xxxv] – شرح فصوص الحكم:ج1،ص 217.

[xxxvi] – تمهيد القواعد: ص 288.

[xxxvii] – شرح دعاء السحر: ص 120.

[xxxviii] – تمهيد القواعد: ص 292.

[xxxix] – مصباح الهداية الى الخلافة والولاية :ص 48

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى