دور حاضريَّة العرفان والحكمة الصوفيَّة في بناء حضارة التوحيد
د. غيضان السيد علي
أستاذ الفلسفة الحديثة المساعد بكليَّة الآداب، جامعة بني سويف، جمهوريَّة مصر العربيَّة.
في ظل الضغوط النفسية والمادية التي بات يلقيها العصر الراهن من نزاعات دولية واضطرابات أهلية وخاصة في العديد من الأقطار الإسلامية بات المسلم في هذه الأقطار يبحث عن طوق النجاة الذي يسير به إلى بر الأمان النفسي أولًا والمادي ثانيًا الذي يتغيا التقدم المادي والحضاري، والتخلص من أسر التبعية للغرب الذي ألقت به حضارته المادية العلمانية التي استندت إلى العلم المادي وحده، الذي رأى فيه الإنسان الغربي خلاصه واهمًا حتى صار عبدًا لوثن التقنية الذي أغراه بتحقيق الفردوس الأرضي، ولم يجد بعد أن ولج فيه إلا الشقاء الذي لا قِبل له به.
لا تعني حاضرية العرفان والحكمة الصوفية ترك العالم والانعزال عنه والتقوقع والانغلاق على الذات كما قد يفهم البعض مخطئًا، إنما الحقيقة هي على العكس تمامًا، دون الوقوع في الخطأ الذي وقعت فيه الحضارة العلمانية الغربية التي حاولت اعتمادًا على العلم الحديث تغذية كل الجوانب المادية في الجسم الإنساني، دون الاهتمام بتغذية الجوانب الروحية والشعورية، فكانت حصيلة ذلك جسمًا طويل القامة، عريض المنكبين… لكنه في الوقت ذاته يعاني أزمات نفسية لا حد لها نتيجة الحياة المحرومة من الإيمان بالله. فكان الشقي التعيس، مهما بدا غارقًا في الملذات الدنيوية الزائفة .
إن الحياة الروحية في واحة الإيمان بالله الواحد هي سر مخزن الصحة الموفورة التي يتمتع بها أصحابها، وكل نفسية بعيدة عن هذه الحياة لن تنتهي إلا بالأمراض أقساها وأعتاها. ولذلك فالذي يعيش بعيدًا عن واحة الإيمان بالله الواحد الأحد هو إنسان شقي محروم. إنه في نظر نفسه مخلوق حيواني لا يختلف كثيرا عن الدواب والأنعام التي تدب من حوله على الأرض، التي تعيش لتأكل وتشرب وتتكاثر ثم تموت وتنفق، بدون أن تعرف لها هدفًا، أو تدرك لحياتها سرًا . فدائمًا يشعر إنه مخلوق ضعيف صغير تافه لا وزن له ولا قيمة، وُجِد ولا يعرف كيف وِجد، ولا من أوجده؟ ويعيش ولا يدري لماذا يعيش؟ ويموت ولا يعلم ما بعد الموت، يعيش جحيم الشك والحيرة، إنه في عمى من أمر دينه ودنياه، حياته وآخرته. ولذلك تعصف به دائمًا الأزمات النفسية والروحية.
تكشف حاضرية العرفان والحكمة الصوفية لمن يعايش تجربتها حق المعايشة مدى الزيف التي تعيش فيه حضارة الحداثة التي دارت مدار العقل المقيد . تلك الحضارة التي انتهت في جانبها الفكري إلى ما يمكن تسميته بـ«حضارة الموات العام»؛ فقد أماتت الإله مع نيتشه كي يحيا الإنسان ، وما لبثت أن أماتت الإنسان في نظرية «موت المؤلف» و«موت الناقد» كي تحافظ على المعنى الذي مات بدوره مع نظريات ما بعد الحداثة والتفكيكية والهرمنيوطيقا التي لا تعترف بمعنى واحد نهائي، وإنما بمعان لا حصر لها. إنها النسبية السوفسطائية القديمة تعود من جديد بكل شكوكها وحيرتها.
ولذلك ترى حاضرية العرفان أن ما يعانيه العالم اليوم من أزمات نفسية وأخلاقية مردها إلى ثلاثة: الغرور بما أنجزه العلم، والفردية والأنانية والآلية والعلمانية، والاستعمار الفكري. كما ترى أن ركائز الحضارة الإنسانية تنحصر في أربعة أمور هي: أن يكتشف الإنسان حقيقته، ويؤكد إنسانيته، ويحقق خلافته(لله على الأرض)، ويخلص لربه عبادته.
تتبلور حقيقة حاضرية العرفان في تأصيل عقيدة التوحيد، والتأكيد على مركزية الإنسان في الوجود المعيش، والسعي إلى تجاوز واقع الأمة الإسلامية وبناء حضارة تنطلق من ما يمتلك من مقومات روحية ومادية وليس على غرار الحضارة الغربية التي تعتمد على جانب واحد فقط هو الجانب المادي. وبلورة نظرية عرفانية تجيب على أسئلة الإنسان الحائر التي تؤرقه وتقض مضجعه حتى ينعم بالصحة النفسية ويواصل بناء حضارته.
وفي الختام تستحث هذه الورقة العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه الالتفات إلى ما يوفره ويقدمه التراث الصوفي بوجهيه النظري والعملي، وهو بلا شك به من الإمكانات ما يمكن الإنسان الراهن من تجاوز المأزق الراهن للحضارة الإسلامية.