دور العقل في المنهج المعرفيِّ العرفانيّْ
د. فادي ناصر
أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلاميَّة في جامعة المعارف – لبنان.
1. العقل الفكري والقدسي عند العارف:
إذا كان العقل عاجزًا عن إدراك الكمال المطلق الإلهي وتجلّياته ومظاهره الوجوديّة؛ لأنّه طور فوق طور العقل، فهذا لا يعني عند العارف انتفاء دور العقل وعدم قدرته مطلقًا على المعرفة بالحقائق الوجودية، واقتصار دوره على المفاهيم الكليّة. بل للعقل دورٌ مهم وأساسيّ في المعرفة الشهوديّة والكشفيّة العرفانيّة. ولكن قبل الحديث عن دور العقل ووظيفته في المنهج المعرفي العرفاني، نشير إلى مسألة مهمّة في منظومة العارف المعرفيّة وأدواتها، وبالتحديد العقل، لما لهذه المعرفة التفصيليّة بالعقل من دور أساسيّ في اكتشاف هذه المنظومة المتكاملة للمعرفة العرفانيّة بكلّ أبعادها. فالعقل عند العارف له إطلاقان:
الأول: العقل الفكري، أو المقيّد: وهو القوّة المدركة للكليّات المفهومية، من خلال النظر والبرهان. وهو العقل المتعارف عند أهل النظر من الفلاسفة وغيرهم، والّذي من خلاله يستدلّون على وجود الله. وقد ورد بشأنه العديد من الروايات، منها على سبيل المثال لا الحصر هذه الرواية المرويّة عن الإمام الصادق (ع) يقول فيها:
“إِنَّ أَوَّلَ الْأُمُورِ وَمَبْدَأَهَا وَقُوَّتَهَا وَعِمَارَتَهَا الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ إِلَّا بِهِ الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ زِينَةً لِخَلْقِهِ وَنُورًا لَهُمْ فَبِالْعَقْلِ عَرَفَ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ لَهُمْ وَأَنَّهُمُ الْمُدَبَّرُونَ وَأَنَّهُ الْبَاقِي وَهُمُ الْفَانُونَ وَاسْتَدَلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ خَلْقِهِ مِنْ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ وَشَمْسِهِ وَقَمَرِهِ وَلَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَبِأَنَّ لَهُ وَلَهُمْ خَالِقًا وَمُدَبِّرًا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزُولُ وَعَرَفُوا بِهِ الْحَسَنَ مِنَ الْقَبِيحِ وَأَنَّ الظُّلْمَةَ فِي الْجَهْلِ وَأَنَّ النُّورَ فِي الْعِلْمِ فَهَذَا مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْعَقْلُ قِيلَ لَهُ فَهَلْ يَكْتَفِي الْعِبَادُ بِالْعَقْلِ دُونَ غَيْرِهِ قَالَ إِنَّ الْعَاقِلَ لِدَلَالَةِ عَقْلِهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ قِوَامَهُ وَزِينَتَهُ وَهِدَايَتَهُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّهُ وَعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِهِ مَحَبَّةً وَأَنَّ لَهُ كَرَاهِيَةً وَأَنَّ لَهُ طَاعَةً وَأَنَّ لَهُ مَعْصِيَةً فَلَمْ يَجِدْ عَقْلَهُ يَدُلُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَطَلَبِهِ وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ إِنْ لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ”[1].
الثاني: العقل القدسي: هو العقل المطلق المنوَّر بنور القدس. وهو العقل الّذي يدرك الحقائق الكليّة المطلقة بواسطة الكشف والشهود. وقد ورد الحديث عن هذه المرتبة من العقل في بعض الروايات الشريفة، كما في هذه الرواية المرويّة عن الإمام الصادق (ع)، حيث يبيّن فيها مراتب العقل وأنواعه، ثمّ يذكر مرتبة العقل المؤيّد والمنوَّر بالنور القدسي فيقول (ع): “دِعَامَةُ الْإِنْسَانِ الْعَقْلُ وَالْعَقْلُ مِنْهُ الْفِطْنَةُ وَالْفَهْمُ وَالْحِفْظُ وَالْعِلْمُ وَبِالْعَقْلِ يَكْمُلُ وَهُوَ دَلِيلُهُ وَمُبْصِرُهُ وَمِفْتَاحُ أَمْرِهِ فَإِذَا كَانَ تَأْيِيدُ عَقْلِهِ مِنَ النُّورِ كَانَ عَالِمًا حَافِظًا ذَاكِرًا فَطِنًا فَهِمًا فَعَلِمَ بِذَلِكَ كَيْفَ وَلِمَ وَحَيْثُ وَعَرَفَ مَنْ نَصَحَهُ وَمَنْ غَشَّهُ فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ عَرَفَ مَجْرَاهُ وَمَوْصُولَهُ وَمَفْصُولَهُ وَأَخْلَصَ الْوَحْدَانِيَّةَ لِلَّهِ وَالْإِقْرَارَ بِالطَّاعَةِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَدْرِكًا لِمَا فَاتَ وَوَارِدًا عَلَى مَا هُوَ آتٍ يَعْرِفُ مَا هُوَ فِيهِ وَلِأَيِّ شَيْءٍ هُوَ هَاهُنَا وَمِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ وَإِلَى مَا هُوَ صَائِرٌ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ تَأْيِيدِ الْعَقْل”[2].
العقل عند العارف حقيقة واحدة مشكّكة ولها مراتب، المرتبة العالية منها تُسمّى بالقوّة القدسيّة. والمرتبة المتوسطة منها تُسمّى القوّة المفكّرة المدركة للكليّات، وهي الّتي يصطلح عليها في العرف بالعقل، وهو العقل بحسب مفهوم طائفة الحكماء والفلاسفة. والمرتبة الدنيا هي القوّة المفكّرة المدركة للجزئيّات وتسمّى بالمفكّرة. والعارف إذا منع العقل من المعرفة الكشفيّة الشهوديّة بحقائق الأشياء، فمراده من العقل هنا العقل الفكري المدرك للكليّات والمقيّد بالحدود والرسوم لا العقل القدسي. وهو لا يسلّم بأنّ العقل لا يدرك المعارف والحقائق الّتي هي فوق طور العقل بشكل مطلق. بل للعقل من وجهة نظره مرتبة أسمى وأكمل من مرتبة إدراك المفاهيم الكليّة والذهنيّة الّتي تأخذ مبادئها بتوسّط الأقيسة المنطقيّة، ومن خلال هذه المرتبة الأرفع يدرك العارف الحقائق المخفيّة للوجود، كما يصرّح ابن تركة الأصفهاني في تمهيد القواعد:
“إنّا لا نسلم أنّ العقل لا يدرك تلك المكاشفات والمدركات التي في الطُّور الأعلى، الّذي هو فوق العقل أصلًا، نعم إنَّ من الأشياء الخفيَّة ما لا يصل إليه العقل بذاته، بل إنَّما يصل إليه ويدركه باستعانة قوَّة أخرى هي أشرف منه – أي القوة القدسية – واستبانة نور أضواء هو أتمّ منه، مقتبسًا من مشكاة الزجاجة الإنسانيَّة الّتي فيها المصباح؛ لكن بعد الوصول يدركه العقل مثل سائر مدركاته، كما في المدركات الجزئيّة، فإنّه في استحصالها يحتاج إلى قوّة أخرى، لكنّها أنزل وأخسّ منه، وبعد الوصول يدركها مثل سائر مدركاته على السواء. أمّا الأشياء الباقية فكلّ ما يدرَك ويوصَل إليها بتلك القوّة يدرَك ويوصل به إليها. على أنّا نقول: إنّ كل ما يدرِك معنى كلّيًا أو حقيقة كلّية، -سواء كان ذلك بالنظر والبرهان، أو بواسطة الكشف والوجدان- يصدق عليه حدّ العقل ورسمه. نعم منشأ هذه التفرقة، أنّ العقل بالمعنى الّذي يتداول بين الناس ويقولون به ويعبِّرون عن العلوم المنسوبة إليه بالعلوم الرسميَّة، سيَّما هذه الطائفة منهم، إنَّما يريدون به القوَّة الفكريَّة الّتي تأخذ العلوم من مباديها بتوسُّط استخراج الأوساط وتأليفها مع حدِّ المطلوب، ولا شكّ أنّ هذه من بعض قوى مطلق العقل ومراتبه”[3].
بمعنى آخر، إنّ العقل الّذي يعتمد عليه الفيلسوف في اكتساب المعرفة الحقيقيّة هو غير العقل الّذي يعتمد عليه العارف؛ لأنّ الّعقل الّذي يعتمد عليه أهل الرسوم كما يسمّيهم العارف لاعتمادهم على الرسوم والحدود في تحصيل معارفهم ومدركاتهم، عبارة عن القوة المفكّرة المدركة للكليّات، والّتي تأخذ العلوم من مبادئها التصوريّة والتصديقيّة بتوسط الحدود والرسوم، وتأليف القضايا وتشكيل الأقيسة. أمّا العقل الّذي يعتمد عليه العارف فهو العقل الّذي يأخذ معارفه وعلومه العالية من العقل المطلق أو ما يسميه بالقوّة القدسيّة. كما أنّه يأخذ علومه الدانية من القوى الحسيّة والخياليّة والفكريّة. ويصطلح عليه العارف أيضًا باللّب وهو “العقل المنوّر بنور القدس، الصافي عن قشور الأوهام والتخيّلات. ولبّ اللبّ هو مادّة النور الإلهي القدسي، الّذي يتأيّد به العقل، فيصفو عن القشور المذكورة ويدرك العلوم المتعالية عن إدراك القلب المتعلّق بالكون، المصون عن الفهم، والمحجوب بالعلم الرسمي”[4].
والعقل القدسي عند العارف هو نفسه العقل المستفاد عند الفيلسوف، أو العقل الفعّال “إذا اعتبرت فيه مشاهدة تلك المعقولات عند الاتّصال بالمبدأ الفعّال. وسُمّي به لاستفادة النفس إياه ممّا فوقها”[5]، والّذي من خلاله يدرك حقائق الملكوت وخبايا الجبروت بعد تحقّق العبوديّة التامّة للحقّ تعالى، وانتفاء الجهة السوائيّة والغيريّة بشكل مطلق بين الخالق والمخلوق فإنّ “الروح الإنسانيّة كمرآة؛ فإذا صقلت بصقالة العقل القدسي للعبوديّة التامّة، وزالت عنه غشاوة الطبيعة ورَيْن المعصية، لاح له حينئذ نور المعرفة والإيمان، وهو المسمّى عند الحكماء بالعقل المستفاد. وبهذا النور العقلي تتراءى فيه حقائق الملكوت وخبايا الجبروت، كما تتراءى بالنور الحسّي الأشباح المثالية في المرايا الصقيلة إذا لم يفسد صقالتها بطبع، ولم يكدّر صفاؤها برَيْن، ولم يمنعها حجاب عن ذلك”[6].
فالعقل عند العارف يمكن أن يدرك الحقائق الإلهيّة والمكاشفات الربانيّة ولكن لا بذاته، بل بالاستعانة بقوّة أشرف منه، واستبانة نور هو أضوأ وأتمّ منه، مقتبسًا من مشكاة الزجاجة الإنسانيّة الّتي فيها المصباح، فيدرك الحقائق بواسطتها، وبعد اتّصال العقل بالنور القدسي المطلق تتنزّل عليه المعارف والحقائق، فيدركها كما يدرك سائر المدركات الجزئيّة الّتي هي دونه، فهو يدرك ما دونه وما فوقه بالواسطة، ولكنّ دور العقل في كلا حالتَيْ الإدراك هو القبول فقط، وهذه مسألة بالغة الأهميّة في المعرفة العرفانيّة.
إنّ الوظيفة الأساس للعقل عند العارف، هي قبول الحقائق وتأييدها بعد تنزّلها عليه من عالم القدس. ولعمليّة القبول دور بالغ الأهميّة في المعرفة العقليّة، وهو ينسجم في الأصل مع خلقة العقل ووظيفته الوجوديّة، والّتي هي التقييد والضبط من وجهة نظر العارف، كما يقول ابن عربي: “ولكن ممّا هو عقل، حدّه أن يعقل ويضبط ما حصل عنده، فقد يهبه الحق المعرفة به فيعقلها، لأنّه عقل لا من طريق الفكر هذا ما لا نمنعه، فإنّ هذه المعرفة الّتي يهبها الحق تعالى لمن يشاء من عباده لا يستقلّ العقل بإدراكها ولكن يقبلها، فلا يقوم عليها دليل ولا برهان لأنّها وراء طور مدارك العقل”[7].
وفي مكان آخر من كتاب الفتوحات المكّية، يصرّح ابن عربي أنّ وظيفة العقل ودوره الحقيقيّ في هذا الوجود هو مجرّد القبول. فالعقل لديه القابليّة التكوينيّة لقبول الحقائق، سواء المتنزّلة عليه من العقل الكلي، إن كان من عالم الأنوار القدسيّة والجبروتيّة، أو الصاعد إليه إن كان عالم المدركات الحسيّة والخياليّة. فإذا كانت وظيفة العقل هي التحديد والضبط والقبول، فالأوْلى أن يكون قبوله من الحقّ تعالى لا من سواه؛ لأنّ “العقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وأنّ الّذي يكتسبه من العلوم إنّما هو من كونه عنده صفة القبول، فإذا كان بهذه المثابة، فقبوله من ربّه لما يخبر به عن نفسه تعالى أولى من قبوله من فكره”[8].
وفي النهاية، يجزم العارف بأنّ أداة معرفة الحقّ تعالى هي القلب، أمّا العقل فدوره قبول الحقائق المتجلّية عليه من القلب، لينسج بذلك خيوط العلاقة الخفيّة بين العقل والقلب، والّتي تعتبر من الأسرار التكوينيّة الّتي قلّما كشف اللّثام عنها. فالقلب هو الّذي يتّسع في الحقيقة للوجود الإلهي والرحمة الإلهيّة الّتي وسعت كلّ شيء، وهذا الوجود محتجب عن العقل غير أنّه يظهر له إذا صار هذا الأخير قابلًا لذلك. وفرق كبير ما بين اتّساع القلب للوجود، وظهور الوجود وتجلّيه للعقل من خلال خاصيّة القبول: “فلا تكون معرفة الحقّ من دون الحقّ إلّا بالقلب لا بالعقل، ثمّ يقبلها العقل من القلب كما يقبل من الفكر”[9].
وقابليّة العقل واستعداداته لقبول الفيوضات والمعارف الإلهيّة من وجهة نظر العارف ليس لها حدّ، بمعنى أنّه يدرك المعارف الإلهيّة ويتلقّاها كمواهب إلهيّة فيقبلها، ولكن دون أن يكون لقبوله حدّ أو منتهى، مع أنّ خاصيّة التفكير فيه والنظر محدودة. وصفوة القول أنّ محدوديّة العقل تقتصر على الفكر لا على قبول المواهب الإلهيّة والعطاءات الربانيّة غير المحدودة، بمعنى أنّ العقل وإن كان محدودًا من الجانب الفعلي، إلّا أنّه غير محدود من الجانب القبولي، أي من جانب قبول الحقائق، “فإنّ للعقول حدًّا تقف عنده من حيث ما هي مفكّرة، لا من حيث ما هي قابلة، فنقول في الأمر الّذي يستحيل عقلًا قد لا يستحيل نسبةً إلهيّة، كما نقول فيما يجوز عقلًا قد يستحيل نسبة إلهيّةً”[10].
فتحصّل أنّ العقل عند العارف عقلان: الأول العقل الفكري المقيّد الّذي يأخذ العلوم والمعارف عن طريق الأقيسة المنطقيّة والمعاني الكلّية، والأدلّة والبراهين. والثاني العقل المؤيّد بالأنوار القدسيّة والجبروتيّة، والّتي من خلالها يدرك حقائق الأمور ويكشف عن دقائقها وأسرارها العرفانيّة. وقول العارف بأنّ طور المكاشفات والكمالات الحقيقيّة هو فوق قدرات وطاقات العقل الفكري المتعارف عند الناس، لا يعني أنّ العقل ليس له دور في إدراك هذه المكاشفات والكمالات. بل العقل لديه قابليّة إدراك هذه الكمالات وقبولها من خلال اتّصاله بالعقل القدسي بعد وصوله إلى حدّ الكمال والاستعداد لتلقّي الفيوضات منه. وهو العقل المطلق المنوّر بنور عالم القدس، الّذي تنكشف له الحقائق والكمالات الوجوديّة فيشاهدها شهودًا عينيًّا. حتى إذا نال نصيبًا من المعرفة والعلم وكان اتّصال العقل الفكري والمتعارف فعّالًا بالعقل القدسي، يدرك عندها هذا العقل المقيّد ما شاهده العقل القدسي، ولكن ليس له من حدّ الإدراك سوى خاصيّتين: الأولى القبول والإذعان للحقائق المتنزلة عليه من قبل العقل المطلق، والثانية التعبير والإخبار عمّا أدركه بلسان الفكر والبرهان والاستدلال.
فوصول العقل الفكري أو المقيّد إلى مرتبة العقل المطلق أو القدسي أمر متاح، وذلك إذا كان هناك جامع أم مناسبة بين العقلين، ولا تحصل مثل هذه المناسبة الجامعة بينهما إلّا أن يترقّى العقل الفكري والمقيّد بقيود الحدود والرسوم في مراتب الأكمليّة حتّى يتمكّن من لقاء العقل الكلّي، فتتجلّى فيه حقائق الأشياء على نحو ما هي عليه في العقل المطلق الكلّي. وهذه المعرفة مختصّة بالكاملين من أهل الولاية والعرفاء.
ويكون دور العقل الفكري من جهة مقدّمة ضروريّة لتحصيل المعرفة الأوليّة بناءً على أمر الشارع المقدّس بوجوب تحصيل العلم، ومن ثمّ تمهيد الأرضيّة الصالحة للتكامل والوصول إلى حدّ الاعتراف الكامل بالعجز عن تحصيل المعرفة بالحقائق الوجوديّة والكمالات الإلهيّة، وهو يعدّ من أعلى مراتب الكمال المعرفي بالنسبة إليه. وقد أشار ابن عربي إلى هذه الحقيقة بالقول:
“فمن طلب الله بعقله عن طريق فكره ونظره فهو تائه، وإنّما حسبه التهيّؤ لقبول ما يهبه الله من ذلك فافهم. وأمّا القوّة الذاكرة فلا سبيل أن تدرك العلم بالله فإنّها إنّما تذكر ما كان العقل قبل علمه، ثمّ غفل أو نسي وهو لا يعلمه، فلا سبيل للقوّة الذاكرة إليه. وانحصرت مدارك الإنسان بما هو إنسان وما تعطيه ذاته وله فيه كسب، وما بقي إلّا تهيّؤ العقل لقبول ما يهبه الحقّ من معرفته جلّ وتعالى، فلا يعرف أبدًا من جهة الدليل إلّا معرفة الوجود، وأنّه الواحد المعبود لا غير. فإنّ الإنسان المدرك لا يتمكّن له أن يدرك شيئًا أبدًا إلّا ومثله موجود فيه، ولولا ذلك ما أدركه البتّة، ولا عرفه، فإذا لم يعرف شيئًا إلّا وفيه مثل ذلك الشيء المعروف، فما عرف إلّا ما يشبهه ويشاكله، والباري تعالى لا يشبه شيئًا، ولا في شيء مثله فلا يعرف أبدًا”[11].
وإذا ترسّخ هذا الاعتراف بالعجز في النفس وصاحبه الصدق والإخلاص من قبل العبد، والمشيئة والعناية من قبل الرب، تنفتح على العقل الفكري أبواب أعلى وأسمى من المعرفة من خلال اتّصاله بعالم الأنوار القدسيّة والجبروتيّة، فيرى ما يشاهده العقل المطلق القدسي، ويقبل بما يكشف له من الحقائق، ثمّ يبدأ من جديد بإعمال وظيفته الأساسيّة وهي تبليغ وبيان ما قبله وضبطه، والتعبير عنه بالألفاظ والعبارات المناسبة لمنهج أهل العقل الفكري البرهاني، أي من خلال الحدود والأقيسة والرسوم وما شاكل من وسائل عمله. كما يقول ابن تركة الأصفهاني:
“وإذا كان الأمر على هذا الوجه، فلا يلزم من قولهم: إنّ طور المكاشفات والكمالات الحقيقيَّة فوق العقل بالمعنى المتعارف، أن يكون ذلك الطُّور ممّا يمتنع إدراكه للعقل مطلقًا حتّى يمتنع التعبير عنها، فيلزم أن تكون معدومات صرفة. على أنّ الحافظة والمتوهِّمة والمتخيِّلة الّتي هي آلات تعبير المعاني المدركة بالألفاظ المعيَّنة، قد لا يطيع العقل الفكري، لضعفه وعدم تسلُّطه عليهم، وينقاد لتلك القوَّة؛ أي العقل المطلق المنوَّر بنور الإطلاق الذاتي القوي بالقوَّة الأصليَّة الإحاطيَّة حتّى يستخدمها في إرادتها. فلهذا تجد من عبارات أرباب هذه القوَّة ما بلغ في فنون البلاغة حدّ الإعجاز، بحيث لا يقدر من صرف الأعمار في تتبُّع قوانين الخطابة واستنباط قواعد الفصاحة أن يأتيَ بقريب منه”[12]. وعليه، فإنّ العارف ليس بصدد إنكار دور العقل ولا إسقاطه عن الحجيّة، بل هو بصدد نفي أن يكون العقل وإدراكاته الفكريّة هو الغاية القصوى في تحصيل المعرفة، لأنّ المرتبة الّتي وقف عندها أهل النظر وهي العقل الفكري، لا تعتبر أعلى مراتب العقل من وجهة نظر العارف، بل هناك مرتبة أعلى للعقل هي القوة القدسيّة، والّتي من خلالها يتمكّن العقل الفكري من معرفة الحقائق الكشفيّة بعد انكشافها للعقل القدسي وتنزّلها من لدنه على العقل الفكري، فيدركها بالقوالب والصور المناسبة لمقامه ومرتبته الوجوديّة ويقبلها بشكل قطعي ويقيني.
والوصول إلى مقام ومرتبة العقل القدسي يتوقّف على سلوك طريق التصفية والتجرّد النفسي حتّى يفنى وجود السالك في الله تعالى فتُستهلك الكثرة الإنسانيّة بالوحدة الإلهيّة، وربّما ارتقت أيضًا إلى مقام الفناء في الأحديّة، فيحصل الاتّحاد بين التجلّي الإمكاني والحقّ المطلق، فيحصل لدى العارف بهذا الاتّحاد نوع جديد من الإدراك ليس من نوع القوى الجسمانيّة المدركة للأمور الحسيّة، ولا العقليّة المدركة للأمور الكليّة، بل هو نوع أكمل وأشمل من الإدراك يلامس حدّ الكشف والشهود. فمقام الكشف والشهود عند العارف على مراتب ودرجات عديدة، تبدأ من آخر حدود العقل الكلّي عند تفتّح قابليّاته واستعداداته وورده حدود عالم الإطلاق، فيصل إلى مقام العقل المطلق الّذي يسمّيه العارف بالقوّة القدسيّة تارة وبالكشف أخرى، “فإنّه باعتبار نفس الإدراك يسمّى بالكشف، وباعتبار ما يدرك به أي أداة الإدراك يسمّى بالقوة القدسية”[13]، وهو من مراتب الكشف المعنوي كما بيّنا في أنواع الكشف. ويترقّى العارف في مكاشفاته إلى أن يصل إلى أعلى مراتب الكشف والشهود القلبيّة والسريّة. ويشرح ابن تركة كيفيّة حصول الإدراك العقلي القدسي فيقول:
“الإنسان إذا سلك مسلك أهل التحقيق من التجريد والتصفية وساير ما أرشده إليه السالك الخبير، واستهلك أحكام كثرته الإمكانيَّة في وحداته الكلّيَّة، واستهلك تلك الوحدات في أحديّة عينه الثابتة التي هي صورة المعلوميَّة المذكورة حال توجُّهه الحقيقي من حيثيّة التجلّي المذكور، وطلبه الاتّصال بالحق من تلك الحيثيَّة- شهودًا ومعرفة- ظهر حكم الاتّحاد بين هذا التجلّي المتعيَّن، وبين الحقّ المطلق، فاكتسبت القوى الظاهرة والباطنة من الروحانيَّة والجسمانيّة، وصف التجلّي المتعيّن، واستهلك أحكام كثرتها فيه آخرًا، كما استجَّن التجلّي المذكور والحجب بالملابس الإمكانيَّة وأحكامها أوّلًا، فيُجدَّد حينئذ للإنسان بحكم هذا الاتحاد نوعٌ آخر من الإدراك ليس من قبيل الإدراكات النفسانيَّة البطانيّة، ولا الطبيعة الجسمانيَّة الظاهريَّة، بل نسبته في شمول المعلومات وإحاطة أحكامها إلى القوى النفسانيّة، كنسبة شمول معلوماتها إلى القوى الجسمانيَّة، وهذا هو الإدراك الحاصل بالكسب والاختيار، المسمّى بالكشف تارة، وبالقوَّة القدسيَّة أخرى”[14].
وممّا استعرضناه من أنواع العقول ومراتبها حتّى الآن يمكن أن نستخلص الفرق بين أنواع العقول الثالثة؛ أي العقل الأوّل والعقل القدسي أو العقل الكلي، والعقل الفكري الّذي يصطلح عليه أيضًا بالعقل المعاش. فالفارق الأساسي بين هذه العقول أنّ العقل الأوّل هو التعيّن والظهور التفصيلي للعلم الإلهي المجمل في الحضرة الإلهيّة، وهو منزّه عن كلّ قيد وحدّ وهو محلّ صدور الوحي الإلهي. وإنّما سمّي بالعقل الأوّل لأنّه أوّل تنزل وظهور تفصيلي للعلم الإلهي في عالم المظاهر الخلقيّة. والعقل الكلّي أو القدسي هو القوى المدركة للحقائق من خلال تنوّره بنور الكشف والشهود بعد تنزّلها من العقل الأول، وهو الصراط المستقيم الّذي لا يحيف ولا يظلم على الإطلاق. أمّا العقل المعاش أو الفكري فهو العقل الّذي لا يدرك إلّا بآلة الفكر والعقل الأمور الكلّية والعامة.
يقول “عبد الكريم الجيلي” (ت 805ه) في كتابه “الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل”؛ في بيان الفرق بين أنواع العقول الثالث: “الفرق بين العقل الأوّل والعقل الكلّي وعقل المعاش؛ أنّ العقل الأوّل هو نور علم إلهي ظهر في أوّل تنزّلاته التعيينيّة الخلقيّة، وإن شئت قلت أوّل تفصيل الإجمال الإلهي، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: “إنّ أوّل ما خلق الله العقل”[15]، فهو أقرب الحقائق الخلقيّة إلى الحقائق الإلهيّة. ثمّ إنّ العقل الكلّي هو القسطاس المستقيم، فهو ميزان العدل في قبّة اللوح الفصل. وبالجملة، فالعقل الكلّي هو العاقلة أي المدركة النوريّة الّتي ظهرت بها صور العلوم المودعة في العقل الأول… ثمّ إنّ العقل المعاش هو النور الموزون بالقانون الفكري، فهو لا يدرك إلا بآلة الفكر، ثمّ إدراكه بوجه من وجوه العقل الكلّي فقط، لا طريق له إلى العقل الأوّل، لأنّ العقل الأوّل منزّه عن القيد بالقياس وعن الحصر بالقسطاط، بل هو محل صدور الوحي القدسي إلى مركز الروح النفسي…”[16].
2. جدليّة العلاقة بين العقل والقلب
على ضوء ما ذكرناه في المبحث السابق، والنتائج الّتي توصّلنا إليها من أنّ للعقل دورًا أساسيًّا ومفصليًّا في بناء المعرفة العرفانيّة، بل وله حظّ ونصيب من درجات الكشف والشهود بعد ترقّيه وتكامله وانتقاله إلى مرتبة العقل القدسي. وأنّ العارف عندما ينتقد العقل فإنّه يقصد بذلك العقل المشوب والناقص؛ أي العقل المشائي[17]. وهنا نسأل عن طبيعة العلاقة الّتي تربط العقل بكلا مرتبتيه الفكريّة والقدسيّة بالقلب الّذي هو أداة العارف الكشفيّة والمعرفيّة للحقائق. فالمنهج العرفاني كما نعرف هو منهج كشفي وشهودي يعتمد على القلب كأداة للمعرفة، وعلى التصفية والتهذيب الدائم للنفس كطريق لبلوغ المعرفة اللّدنيّة. وعليه، كيف نوفّق بين العقل والقلب، وبالتحديد العقل القدسي؟ وما هي حقيقة العلاقة الحاكمة بينهما؟
عندما نستقرئ مواقف العرفاء المختلفة والمتنوعة حول علاقة العقل بالقلب، نجد أنّهم ليسوا على رأي واحد وموقف واحد. فمنهم من تطرّف في مواقفه وذهب إلى إنكار ونفي أيّ دور أو صلة للعرفان بالعقل، وهم في الغالب أتباع المنهج الأخلاقي الصوفي، والسلوكي العملي المحض المبتني على الرياضات الروحيّة والمجاهدات النفسيّة من غير الحاجة إلي العقل بحسب وجهة نظرهم، لزعمهم أنّ الإنسان يمكن أن يصل إلى أعلى درجات الكشف والشهود والتجرّد من دون الاعتماد على العقل لمحدوديّته كما بيّنا سابقًا، ولكونه يشكّل عائقًا أمام التجرد الروحي التام. ومنهجهم في فهم النص الديني هو منهج التأويل، ففي تعاملهم مع النصوص الدينيّة يعتبرون أنّ باطن الشريعة والدين هو المقصد الحقيقي والنهائي، فلا يعيرون اهتمامًا بالظاهر، ويصنّفون العقل ويضعونه في حدود الظاهر. في المقابل، هناك مدرسة عرفانيّة ورؤية علميّة مغايرة تعترف بدور كبير وأساسي للعقل، وتعتبر العقل شرطًا لصحّة الوصول إلى المعرفة الكشفيّة الحقيقيّة؛ لأنّ الكشف مراتب ودرجات، فمنه الصحيح ومنه الفاسد، ومنه الإلهي الملائكي، ومنه النفسي الشيطاني كما ذكرنا سابقًا.
وبالتالي، فإنّ القلب عند أصحاب هذه الرؤية له دور في مجاله وحدوده، وللعقل دورٌ آخر أيضًا في حدوده ومجاله، دون أن يعني ذلك أنّ العقل يعطي المعرفة التامّة والكاملة، بل هو يعطي معرفة بحدود المساحة أو القابليّة الوجوديّة المتاحة له بحسب خلقته وأصل تكوينه. وهذه الفئة من العرفاء “لا تريد أن تقول إنّ ما سوى الكشف لا ينتج معرفة -بالمعنى العام-، سوى أنّ كلّ أداة من الأدوات المعرفيّة إنّما تنتج معرفة في مجالها وفي حدودها، لكنّ القضية الأساسيّة الّتي تشدّد عليها المدرسة العرفانيّة أنّ الوصول إلى حقيقة الوجود، والوصول إلى التوحيد الحقيقي، وإلى الله تعالى لا يتسنّى إلّا من خلال الكشف والبصيرة”[18].
فهذا الفريق يؤمن بنوع من التصوّف العقلي، ويولي العقل والفكر أهميّة فائقة من أجل البلوغ إلى المقصد الحقيقي. فاعتقادهم أنّ العقل الهيولاني الإنساني يصل إلى مقام الفعليّة، أي إلى مقام العقل الفكري والمعاش عن طريق العلم والتفكّر، ثمّ يصل بعد ذلك إلى مقام العقل الكلّي أو القدسي – والّذي يصطلح عليه العارف أيضًا بالبصيرة – عن طريق التعقّل والتأمّل، وهي مرحلة من الكمال يتحقّق فيها للإنسان اتصالٌ أو اتحادٌ بعالم القدس، فتتجلّى له من خلال هذا الاتصال والاتحاد الكثير من الحقائق؛ لأنّ العقل القدسي هو عقل مجرّد يحيط ويهيمن على العوالم الّتي دونه، وتنطوي فيه حقائق كلّ العوالم الّتي هي أدنى منه. لذلك عندما يتّصل الإنسان بهذا العقل الكلّي وعالمه، فإنّه يشاهد الحقائق الكامنة فيه، ولكن بحدود سعته الوجوديّة، وهو يعدّ بالنسبة إليهم نوعًا من أنواع الإشراق القلبي ودرجة من درجاته، في علاقته مع العقل واتصاله به.
فأصحاب هذه الرؤية المعرفيّة عندما يتحدّثون عن منهجهم التوافقي بين العقل والقلب، يعتبرون أنّ التفكّر العميق، والتأمّل الدائم، شرط أساسي للوصول إلى مقام العقل القدسي، بموازاة الزهد والرياضة الروحيّة والمعنويّة. من هنا، وفق هذا المنهج، تصبح لدى العقل القدسي علاقة وارتباط بالقلب. وهنا تحديدًا، ينفتح مبحث العلاقة بين العقل والقلب على مصراعيْه، ويصبح ضروريًّا وأساسيًّا، وكذلك هو الحال بالنسبة إلى مبحث حقيقة العقل، ومنزلته ودوره عند أتباع هذه المدرسة العرفانيّة التي تعرف بالتصوف العقلي أو ما يسمّى أيضًا بالعرفان النظري، وارتباط هذا العقل الوجودي بالقوى الإدراكيّة الأخرى وتحديدًا القلب.
في البداية، وكمنطلق أساسي لفهم حقيقة العلاقة بين العقل والقلب، لا بدّ أوّلًا من فهم حقيقة النفس الإنسانيّة، على اعتبار أنّ العقل والقلب كلاهما من مراتب وقوى هذه النفس بلحاظ ارتباطها واتّصالها بعالم المادّة والطبيعة، أو الحقيقة الإنسانيّة بلحاظ أصل نشأتها الوجوديّة. والحديث عن النفس أو الحقيقة الإنسانيّة هو حديث عن عالم التجرّد بعيدًا عن خواص المادّة، وحدودها، وتبيان أجزائها وتعارضها فيما بينها، ففي عالم التجّرد لا مكان لهذه الفواصل الزمانيّة والمكانيّة.
من هنا، عندما نريد أن ندخل لفهم النفس الإنسانيّة وارتباطها بقواها، لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار الفارق التكويني بين قوانين عالم التجرّد والمادّة. ففي عالم المادّة، تتركّب الأجسام وتنقسم انقسامًا ترتسم على أثره بين أجزاء هذا المركب الحدود والفواصل. بخلاف عالم التجرّد حيث ينعدم فيه التركيب والانقسام المادّي، فتنعدم الحدود والفواصل أيضًا، ولكن دون أن يعني ذلك انتفاء الكثرة الوجوديّة فيه بمراتبها ومظاهرها المختلفة، بل تتجلّى في ذلك العالم على نحو آخر. والمشكلة الأساسيّة في بناء التصوّرات المعرفيّة الصحيحة حول الوجود أنّها تصطدم دائمًا بعقبة كؤود؛ وهي إسقاط تصوّراتنا الحسيّة الماديّة على عوالم الغيب المجرّد عن شوائب الحس والمادّة. وبالتالي مقاربة عالم التجرّد من زاوية عالم المادّة مع أنّ لكل من العالمين قوانينه وأنظمته الخاصّة. وعندما نريد أن نفهم حقيقة العلاقة بين العقل والقلب، لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أنّهما من مراتب وقوى النفس الإنسانيّة المجرّدة عن المادة، وعليه فإنّ موازين وقوانين عالم المادة لا تنطبق عليهما.
النفس عند العارف حقيقة واحدة، وفي وحدتها تكمن كلّ القوى. بمعنى أنّها وجود واحد ذو مراتب ودرجات. وهذه المراتب والدرجات ليست متباينة لبعضها تباينًا كليًّا، ولا منفكّة عن بعضها انفكاكًا تركيبيًّا. بل علاقة هذه المراتب فيما بينها علاقة المحيط بالمحاط، فكلّ مرتبة عالية محيطة بالمرتبة الدانية ومشتملة على ما فيها وأزيد. وقد تحدّث العديد من العرفاء حول حقيقة النفس وارتباطها بقواها، خصوصًا ما أفاض به الحكيم الإلهي صدر الدين الشيرازي في كتابه “الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة”[19]، حيث يقول في الجزء الثامن من كتابه: “وأمّا الّذي استقرّ عليه اعتقادنا فهو أنّ النفس كلّ القوى وهي مجمعها الوحداني ومبدئها وغايتها، وهكذا الحال في كلّ قوى عالية بالنسبة إلى ما تحتها من القوى التي تستخدمها”[20]. ويشرح السيد حسن زاده الآملي في كتابه “سرح العيون في شرح العيون” أنّ هذا الرأي عليه إجماع المحقّقين من العرفاء، فيقول بكلام مختصر وبليغ، ينقل فيه آراء بعض العرفاء فيما يتعلّق بوحدة النفس وقواها المجرّدة يقول فيه:
“وهذ النكتة العليا الّتي هي من نسائم القدس ليست ممّا انفرد به صاحب الأسفار، بل وعليه قاطبة مشايخ أهل العرفان المرزوقين مع الإيمان بما جاء به الوحي وقام به البرهان، بالكشف والوجدان. وهي أصل أصيل من أصول مسائل النفس، والمتألّه السبزواري على هذه الدقيقة الأنيقة قال:
النفس في وحدته كلّ القوى
وفعلها في فعله قد انطوى
فتلك الكلمة الطيبة متكلّمة بأنّ قوى النفس ليست من معلولاتها، بل للنفس وحدة حقّة ظلّية ذات شؤون وأطوار وأسماء ومظاهر، فالنفس عالية في دنوّها، ودانية في علوّها. فكما تقول، تعقّلت، تقول أحسست وحرّكت وتحرّكت، وتنسب الكل إلى نفسك. فالنفس تقول مثلًا أيتّها المدركة تدرك بقوّتي، وأيتّها المحرّكة تحرّك بحولي، ولا حول ولا قوّة لكما ولغيركما إلّا بي. فلولا الاتّحاد بين النفس والقوى لمّا تألّمت بسوء مزاج أو تفرّق اتصال يحدث في البدن ألمًا حسيًّا، بل كان كمن يحبّ أحدًا والمحبوب يتألّم بتفرّق اتصال، والمحبّ يغتم لذلك، فالنفس لها وحدة جمعيّة هي ظلّ الوحدة الحقّة الحقيقيّة.
ثمّ هذا الحكم الحكيم ماض في غير النفس وقواها، أعني أنّ كلّ بسيط من الحقيقة هو كلّ الأشياء الّتي يحسب في بادئ النظر أنّها تحته، فإن ذلك البسيط ليس إلّا تلك الأشياء، وهي ليست إلّا ذلك البسيط، وهو محيط بها لا عليها؛ كإحاطة الهواء على الأرض، مثل ما قال سبحانه: ﴿وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحيطا﴾[21]، ونعم ما أفاد صاحب الفتوحات[22] من أنّ النفس الناطقة هي العاقلة والمفكّرة والمتخيّلة والحافظة والمصوّرة، والمغذّية والمنميّة، والجاذبة والدافعة، والهاضمة والماسكة، والسامعة والباصرة، والطاعمة والمستنشقة، واللامسة والمدركة لهذه الأمور. فاختلاف هذه القوى واختلاف الأسماء ليس بشيء زائد عليها، بل هي عين كلّ صورة”[23].
وعند شرحه لنظريّة الوحدة الشخصية للوجود، وبيانه لكيفيّة علاقة الحقيقة الوجوديّة الواحدة بصور العالم المتكثّرة والمتغايرة، قام ابن عربي بتشبيه هذا الوجود المطلق الواحد بالنفس الإنسانيّة. فكما أنّ النفس الإنسانيّة واحدة بشخصها متغايرة ومتكثّرة بقواها ومظاهرها الماديّة والروحيّة، فنفس زيد مثلًا حقيقة واحدة، ولكنّه مع وحدتها كثير أيضًا بصور أعضائه وقواه. فكلّ صورة من صور أعضائه الجسديّة وقواه الباطنيّة مختلفة ومتغايرة عن الصورة الأخرى. فاليد تختلف عن الرجل، وعن الرأس، والخيال يختلف عن الحسّ والعقل، ولكن على الرغم من هذا الاختلاف والتغاير فإنّ مجموع هذه القوى والأعضاء يؤلّف إنسانًا واحدًا حقيقة.
فالإنسان من وجهة نظر العارف هو كثرة في وحدة، وحدة في كثرة، مثل الوجود المطلق تمامًا، “فلا خلاف في اختلاف الصور، فهما صورتان بلا شكّ. وتلك الصور كلّها كالأعضاء لزيد: فمعلوم أنّ زيدًا حقيقة واحدة شخصيّة، وأنّ يده ليست صورة رجله، ولا رأسه، ولا عينه ولا حاجبه. فهو الكثير الواحد: الكثير بالصور، الواحد بالعين. وكالإنسان: واحد بالعين بلا شكّ. ولا نشكّ أنّ عَمْرًا ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر، وأنّ أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودًا. فهو وإن كان واحدًا بالعين، فهو كثير بالصور والأشخاص”[24].
وانطلاقًا من هذا الفهم العرفاني لحقيقة النفس الإنسانيّة، ندخل لنفهم حقيقة العلاقة الوجوديّة والرابطة التكوينيّة القائمة بين العقل والقلب، لنقول إنّ العلاقة بينهما هي مثل علاقة ورابطة أيّ قوّة من قوى النفس أو مرتبة من مراتبها مع قوّة ومرتبة أخرى؛ وهي علاقة الإحاطة والسعة، لا علاقة البينونة والعزلة.
بمعنى أنّ الأوسع وجودًا يكون دائمًا محيطًا بالأضيق وجودًا والأقلّ سعة. وأنّ التركيب بينهما ليس تركيبًا انضماميًّا بمعنى انضمام جزء إلى جزء آخر، بل إنّ التركيب بينهما تركيبٌ اتّحاديٌّ، حيث تختفي الأجزاء بذاتيّتها، وتجتمع في ذاتيّة جديدة. فلا هو العقل وحده، وبشكل مباين ومستقلّ بالكامل عن القلب، ولا هو القلب وحده وبشكل عزلي ومستقلّ بالكامل أيضًا عن العقل. ولا هو جمع يحافظ كلّ جزء فيه على شكله وحيثيّته القديمة، بل هو تركيب يشبه التركيب القائم بين المادة والصورة، وبين الجنس والفصل في الذهن، “فالتركيب بين المادّة وصورتها تركيب اتّحادي كالتركيب بين الجنس والفصل”[25].
أمّا ماهية التركيب الاتحادي فهي “الاتحاد بين شيئين لا يقتضي أن لا يكون أحدهما موجودًا، بل يقتضي أن يكون كلاهما موجودًا بوجود واحد، لا بوجودين متعدّدين حين التركيب”[26]. فالعقل عقل من حيثيّة، والعقل قلب من حيثيّة أخرى، والعكس صحيح أيضًا. فالقلب قلب من حيثيّة والقلب عقل من حيثيّة أخرى. ومن هنا، نفهم لماذا عرّف بعض اللّغويين العقل بأنّه القلب، كما قال ابن منظور في بعض تعاريفه للعقل:” والعَقْلُ: القَلْبُ، والقَلْبُ العَقْلُ”[27].
وقال الفيروزآبادي أيضًا في العقل إنّ من معانيه القلب[28]. وقال الجرجاني في تعريفاته: “العقل؛ ما يعقل به حقائق الأشياء، قيل محلّه الرأس، وقيل محلّه القلب”[29]. وعليه نلاحظ أنّ العقل والقلب عند اللّغوي يشتركان في المعنى مع العقل والقلب عند العارف، كما يظهر من بعض التعريفات اللّغوية.
والرجوع أيضًا إلى الآيات القرآنيّة الشريفة يكشف عن وقوع كلمة القلب مرادفة لكلمة العقل غالبًا. فالقرآن لا يعتبر مفهوم العقل محدودًا بالبعد الفكري والاستدلالي، كما لا يحصر وظيفة القلب بالمشاعر والأحساسيس والانفعالات النفسيّة. بل عندما ننظر إلى موارد استعمال كلمة القلب في الآيات القرآنيّة، نلاحظ أنه قد استعملت في نطاق أوسع من المفهوم المتعارف عليه لهذه الكلمة. فقد نسب الإدراك إلى القلب كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوه﴾[30]، كما نسب إليه أيضًا المشاعر والأحاسيس والانفعالات الباطنيّة كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك﴾[31]. كما نسب إلى القلب الإرادة والفعل أيضًا كما في قوله تعالى: ﴿وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾[32]. وهذا التوسّع في استعمال مفردة القلب يشير إلى أنّه لا يمكن حصر وحدّ هذا المفهوم في أحد هذه الموارد. كما أنّ القرآن قد توسّع في استعمال كلمة الفؤاد أيضًا، فتارة تأتي كلمة الفؤاد بمعنى الإدراك الشهودي كما في قوله تعالى: ﴿ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى﴾[33]، وأخرى بمعنى مركز العواطف والميول كما في قوله تعالى: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوي إِلَيْهِم﴾[34]، وثالثًا بمعنى العقل كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَليلًا ما تَشْكُرُونَ﴾[35].
وعليه، يمكن أن نستنتج من موارد استعمال كلمة القلب في القرآن الكريم أنّها ليست محصورة بالبعد العاطفي والإحساسي، ولا حتّى الشهودي والإشراقي، أو الإرادة على القيام بالفعل والعمل، بل توسّع القرآن في استعمال مفردة القلب ليطال أيضًا البعد الفكري، ليصبح القلب هنا بمعنى العقل، أو ما اصطلح عليه في بعض الروايات الشريفة بـ”القلب العقول”. وبذلك يصبح القلب محلًّا للشهود والكشف، والمشاعر والأحاسيس، والإرادة والفعل، بالإضافة إلى التعقّل. وعلى هذا الأساس، يغدو مفهوم القلب موازيًا للمفهوم الجامع للنفس الّتي في وحدتها كلّ القوى؛ لأنّ هذه الموارد والاستعمالات هي أيضًا من المظاهر الأساسيّة للنفس الإنسانيّة. فكما أنّ النفس مفهوم جامع لكلّ قواه، كذلك مفهوم القلب اسم جامع يقتضي المراتب الّتي هي أدنى منه؛ من عقل ومثال وحسّ مشترك؛ ” فأشبه اسم القلب اسم العين، إذ العين اسم جامع يجمع ما بين الشفريتين من البياض والسواد، والحدقة والنور الّذي في الحدقة. كلّ واحد من هذه الأشياء له حكم على حدة، ومعنى غير معنى صاحبه، إلّا أنّ بعضها معاونة لبعض، ومنافع بعضها متّصلة ببعض، وكلّ ما هو خارج فهو أساس الّذي يليه من الداخل، وقوام النور بقوامهنّ. وكذلك اسم الدار جامع لما يحفظ بحيطانها من الباب والدهليز، وصحنها في بيوتها، وما فيها من المخدع والخزانة، وكلّ مكان موضوع فيها له حكم غير حكم صاحبه”[36].
وبالعودة إلى الروايات الشريفة، نلاحظ أنّ الاتّحاد بين العقل والقلب قد تمّت الإشارة إليه في بعض الروايات، كما في هذه الرواية المنقولة عن الإمام علي (ع) الّتي يبيّن فيها حكم الاتّحاد بين القلب والعقل، ويصطلح على هذا الحكم بـ”القلب العقول” كما يقول عليه السلام: “وَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ إِنَّ رَبِّي وَهَبَ لِي قَلْبًا عَقُولًا وَلِسَانًا سؤولًا”[37]. إنّ مصطلح القلب العقول ربما لا سابقة له، وقد اعتبر عليه السلام القلب العقول موهبة من المواهب الإلهيّة. “وهذا الاصطلاح يزيح في الواقع الفاصل بين القلب والعقل، فيقوم القلب بذات العمل الّذي ينبغي للعقل أن يقوم به. طبعًا، حينما يقوم القلب بعلم العقل، لا بدّ للعقل أن يتحدّث بلغة القلب أيضًا، وفي ظلّ هذا التناسق بين القلب والعقل يتحقّق التصوّف عن طريق التأمّل”[38]. وفي رواية أخرى عن الإمام الكاظم (ع) يبيّن فيها أيضًا حكم الاتّحاد بين العقل والقلب عند تفسيره لبعض الآيات القرآنيّة فيقول عليه السلام: “يَا هِشَامُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾[39] يَعْنِي عَقْلٌ، وَقَالَ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ﴾[40] قَالَ: الْفَهْمَ وَالْعَقْلَ”[41]. وغيرها من الشواهد والنصوص الروائيّة الواردة في كتب الحديث.
وبالعودة إلى أقوال ومباني العرفاء الّذين اعتمدوا على العقل في عمليّة تحصيل المعرفة الكشفيّة والشهوديّة، واعتبروا أنّ للعقل دورًا حاسمًا وضروريًّا في الكشف والشهود العرفاني، على عكس بعض الآراء أو المدارس العرفانيّة التي لا تعطي العقل هذا الدور، بل تراه عائقًا ومانعًا من الوصول إلى الحقائق والأسرار الوجوديّة؛ نقف قليلًا عند ما قاله صاحب كتاب “منازل السائرين” وشارحه، لأهمّية الكتاب وموقعه في المدرسة العرفانيّة السلوكيّة والعمليّة. فكما هو معروف، يُعتبر كتاب “منازل السائرين” الكتاب التعليمي والنظري الأوّل على مستوى تدريس وتعليم علم العرفان العملي، بل من الأعمدة والركائز الأساسيّة لهذا العلم. ففي قسم البدايات، وهو القسم الأوّل من الكتاب، وتحديدًا في الباب الخامس منه المعنون بـ “التفكّر”، يعرّف عبد الله الأنصاري التفكّر مبيّنًا العلقة والرابطة بينه وبين العقل القدسي فيقول: “التفكّر تلمّس البصيرة لاستدراك البغيّة”[42]. ثمّ يستنبط عبد الرزاق الكاشاني من كلمة تلمّس؛ أنّ العقل بالنسبة إلى القلب كالعين بالنسبة إلى النفس، فيقول في شرحه لهذه العبارة: “أي تطلُّب العقلِ – الّذي هو للقلب بمنزلة البصر للنفس- مطلوبَه ليدرِكَه”[43].
ففي تعريفه للتفكّر، استخدم الأنصاري عبارة تلمّس البصيرة، وعدّ العلاقة بين العقل والقلب كالعلاقة بين العين والنفس. فكما أنّه لولا العين لحرم الإنسان من نعمة الرؤية، كذلك لولا العقل لحرم القلب من البصيرة، والبصيرة عند العارف هي نفسها العقل القدسي كما يعرّفه الكاشاني:” قد تقرّر أنّ البصيرة هي العقل المنوّر بنور القدس، المكحّل بضياء هداية الحق، فلا تخطئ في العيان، ولا تحتاج إلى الدليل والبرهان، بل تبصر الحقّ بيِّنًا مكشوفًا وتنفي الباطل زاهقًا مدحورًا، فتخلص عن الحيرة، ولا تطرق للشبهة”[44].
إذًا، التفكّر والتعقّل عند الأنصاري والكاشاني مقدّمة أساسيّة وضروريّة من أجل الوصول إلى العقل القدسي. فالأنصاري عندما يستخدم عبارة تلمّس البصيرة في تعريف التفكّر، والكاشاني عندما يعتبر أنّ العلاقة بين العقل والقلب هي كالعلاقة بين العين والنفس، وأنّ العقل بالنسبة إلى القلب بمنزلة العين بالنسبة إلى النفس؛ لأنّ النفس ترى وتبصر بواسطة العين، فهما في الواقع يعترفان بهذه الحقيقة؛ وهي أنّ القلب إنّما يشاهد بعين العقل وبواسطته، وأنّ العقل وفي ذات الوقت الّذي يتمتع بالقابليّة على الاستدلال، يتمتّع بقابليّة المشاهدة والكشف أيضًا. إذ “لولا العقل لما كان بمقدور القلب أن يشاهد أو أن يتحقّق له الكشف. وبتعبير آخر، الفكر أو التفكّر هو العمل الّذي ينهض به العقل، وإذا ما عدّ العقل عين القلب، لا بدّ أن يعدّ عمل العقل نوعًا من المشاهدة”[45].
فإذا تنوّر العقل بنور القدس واتّحد العقل بالقلب، وحصلت البصيرة في القلب، وصار العقل يرى بواسطة القلب، عندها تتفجّر المعرفة اللّدنيّة من الله، وتفاض المعارف والحقائق الإلهيّة على قلب السالك، فيشاهدها عيانًا بواسطة قلبه وعقله معًا لجهة الاتّحاد والوحدة الحاصلة بينهما، ولكن كلٌّ بحسب سعته ومرتبته الوجوديّة؛ لأنّ المعرفة العقليّة مهما ترقّت في مراتب الكشف، فإنّها تبقى محدودة إذا ما قيست بحدود المعرفة القلبيّة وسعتها والمقام الأسمى الّذي يمكن أن تصل إليه.
ولأنّ دور العقل يبقى في الأساس إعداد القلب وتهيئته لقبول المعارف الإلهيّة من الحضرة العلميّة. لذا يعتبر العقل مقدّمة وشرطًا أساسيًّا في هذه الرؤية العرفانيّة الخاصّة من أجل الوصول إلى مقام العلم بالأسماء والصفات الإلهيّة والتحقّق الوجودي بها ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها﴾[46]، والّذي يعني في عالم السير والسلوك العرفاني الوصول إلى مقام “الواحديّة”.
ويشرح الكاشاني هذه الحقيقة مبيّنًا دور العقل المركزي في المدرسة المعرفيّة العرفانيّة، خصوصًا بعد تنوّره بنور القدس وصيرورته بصيرة القلب وعينها، فيقول بشكل واضح وصريح: “والبصيرة[47] كاسبة لما في العالم العلوي بالعيان والشهود من الحقائق والمعارف، نافذة في الغيب إلى الأفق الأعلى، فتشهد ما هنالك ولا تنفذ في غيب الذات الأحديّة الّذي هو غيب الغيوب، فلا تفوز بمعرفة الحق، لكنّها تعدّ القلب لقبولها بالمعارف الأسمائيّة في الحضرة الواحدية، فتفجر معرفة الحقيقة من العين الأحديّة الّتي هي غيب الغيوب، فتجري إلى أرض القلب كما تتفجّر الماء في العيون من غيب البطون، وتجري معينًا على ظاهر الأرض بلا كلفة قنّاء ولا صنعة صانع، ولهذا شبهها بماء العيون وأورد التفجير”[48].
3. العلوم العقليّة منطق علم العرفان وميزانه
بالإضافة إلى الأدوار الّتي يؤدّيها العقل، والفوائد المهمّة التي يقدّمها لعلم العرفان، والّتي ذكرنا جانبًا منها في المباحث السابقة. يمكن أن نحصيَ المزيد من هذه الأدوار كلّما تعمّقنا في المعرفة العقليّة وفوائدها المباشرة وغير المباشرة على هذا العلم. منها على السبيل المثال الدور المهمّ الّذي يلعبه العقل في ترويض وتهذيب الخيال، الّذي يعدّ من أكبر العوائق الّتي تواجه العارف في سيره المعرفي وسلوكه العملي. فقوى الخيال كسائر قوى النفس يمكن أن يكون لها دورٌ سلبي على قلب العارف ما لم تهذّب من الصور الفاسدة والباطلة والتمثّلات الشيطانيّة. فإنّ أدنى وسوسة أو خاطر سيِّئ أو خيال فاسد يمكن أن يشوّش القلب ويشغله عمّا فيه من الحقائق والمعارف لسرعة تقلّبه، إذ ليس في قوى الإنسان الروحيّة أسرع تقلّبًا من القلب كما بيّنّا ذلك سابقًا.
وإذا لم يتقدّم العقل لتهذيب الخيال بالرياضة العقليّة والفكريّة من خلال العلم الكلّي بالحقائق، علمًا عقليًّا ونظريًّا؛ فإنّ الخيالات الفاسدة سوف تتسلّل إلى القلب، وتغرس بذورها الفاسدة فيه، وشيئًا فشيئًا إذا اطمئنّت النفس إلى هذه الواردات المثاليّة والخياليّة، فسوف يتكدّر حال القلب أيضًا، ويصاب عالمه بالظلمة، ومجال رؤيته بالعمى.
لذا يرى العارف أنّ اشتغال السالك بطريق الفكر والنظر من أجل استحصال المعارف العقليّة يشكّل ضمانة لصيانة قوّة الخيال حتّى لا تنحرف عن جادّة الحقّ والصواب، “إذ أدنى وسوسة وخاطر يشوّش القلب ويشغله وفي أثناء المجاهدة قد يفسد المزاج وتخلّط العقل ويمرض البدن، ومتى لم تتقدّم رياضة تهذيبه (الخيال) بحقائق العلوم، يتشبّث بالقلب خيالات فاسدة تطمئنّ النفس إليها مدَّة مديدة. فكم من سالك سلك هذه الطريق، ثمَّ بقي في خيال واحد حينئذ منذ- عشرين سنة- وأكثر من ذلك، ولو كان قد أتقن العلم من قبل، لاتضّح (لانفتح) له وجه التباس ذلك الخيال في الحال، وحينئذ كان الاشتغال بطريق النظر أسهل وأقرب إلى الغرض وأوفق”[49]. هذا جانب من الجوانب المهمّة والتأثيرات الإيجابيّة الّتي يتركها إعمال النظر على قوّة الخيال الّتي بدورها تؤثّر بشكل مباشر على القلب وحالاته.
وإذا أردنا أن نختصر دور العقل بالنسبة إلى القلب، يمكن أن نقول إنّ دوره يتمحور بشكل أساسي حول عمليّة الإعداد وتهيئة الأرضيّة الصالحة من أجل الواردات القلبيّة. فالعارف بعد التمرّس فترة بالعلوم الفكريّة والنظريّة المشفوعة بتهذيب النفس وتصفية القلب وتفريغه من الأغيار والجهات السوائيّة، يصبح القلب مهيّأً لقبول الفيوضات الإلهيّة. وهذه الإدراكات الفكريّة ليست باعتبار أنّها هي السبب المباشر الّذي يقود إلى المكاشفات القلبيّة، بل هذه المقدّمات النظرية من باب أنّها تهيِّئ المحلّ وتعدّه لاستقبال تلك المعارف.
وفرق كبير بين المقامين، فأهل النظر من الفلاسفة والمتكلّمين يجعلون المعارف النظريّة هي المقصودة بالأصل والمطلوبة بالذات، أمّا أهل التحقيق من العرفاء فإنّ المقدّمات النظريّة بالنسبة إليهم هي لتهيئة الأرضيّة والمحل للواردات القلبيّة ولتحصيل المعارف الحقيقيّة، وطريق النظر غايته أن لا يكون مانعًا أو يكون معدًّا إعدادًا ما، فإنّ “إعداد المحل القدسي بالحركات الفكريَّة الشوقيَّة غير مانع بل نافع مفيد في ظهور ما استجنّ فيه من المعارف والحكم عند استيلاء القوَّة القدسيَّة على القوى الجسمانيَّة، واستدامة قهرها وغلبتها على قوتَيّ الوهم والمتخيَّلة”[50].
وهذا المنهج ينسجم بشكل كامل مع رؤية العارف ونظرته للعلم وكيفيّة تحقّقه، حيث يرى العارف أنّ “العلوم كلّها موجودة فينا… لكنّها مخفيّة بالحجب المانعة من ظهورها”[51]. وما على الإنسان سوى أن يستخرج هذه العلوم المودعة بواسطة الحراك الفكري والعقلي، وعمليّة التخلية والتحلية القلبيّة والروحيّة. فمن الآثار الطيّبة والنورانيّة للنظر العقلي والعلم الحصولي أنّه يعدّ الإنسان من أجل ظهور ما استجنّ فيه من المعارف والعلوم الموجودة بالأصل في حقيقته وباطنه، ولكنّها مخفيّة ومستورة بالحجب المانعة الّتي تحول دون ظهورها. وإنّ “ظهورها تارة يكون بالحركات اللّطيفة الفكريّة الروحانيّة بعد تسليط القوة القدسيّة على قوتَيّ الوهميّة والمتخيّلة، وسائر القوى الجسمانيّة وتهذيب الأخلاق وتزيين النفس بالأخلاق الحسنة، وتارة أخرى بتسكين المتخيّلة والمتوهّمة وإلجامهما ومنعهما عن الحركات المضطربة المشوّشة بعد تسخير القوى الجسمانيّة بالتزكية والتصفية، وكلا الطريقين حق عند أكثر المحقّقين من أهل النظر وأصحاب المجاهدة”[52].
وهنا يتكشّف لنا بعد كلّ هذه المقدّمات الّتي ذكرناها في هذا الفصل الدور الأساس للفكر والعقل وعمليّة إعمال النظر العميق والتفصيلي بالنسبة إلى علم العرفان بشقَّيْه النظري والعملي. وهو دور بالغ الأهميّة في نظرية المعرفة العرفانيّة الأصيلة، والّتي تسعى نحو بناء منظومة معرفيّة كاملة وعميقة ومنسجمة فيما بينها. منظومة تصلح لتكون منهجًا عامًّا يمكن لأيّ سالك أن ينتهجه بشرط أن يراعيَ القواعد والضوابط العلميّة الأساسيّة الحاكمة على هذا المنهج. وهذا الدور هو ما يمكن أن نسمّيه بـ”ميزان علم العرفان” أو “منطق علم العرفان”.
ففي اعتقاد العارف أنّ المعارف الوجدانيّة والقلبيّة تحتاج إلى ميزان يضبط من خلاله الحقائق ويعرف الصحيح منها من الفاسد. فكما أنّ أصحاب النظر عند تحصيلهم لعلومهم لديهم آلة وميزانًا يزنون على أساسه علومهم، فيعرفون حقيقتها، وطريق تحصيلها، ويميّزون من خلاله الحقّ من الباطل كعلم المنطق مثلًا بالنسبة إلى الفلسفة، وعلم الأصول بالنسبة إلى الفقه. كذلك يرى أهل التحقيق من العرفاء أنّ العلوم الحاصلة للعارف بالكشف والشهود تحتاج بدورها إلى آلة وميزان، على أساسه توزن الأمور الوجدانيّة والقلبيّة من أجل رفع الأخطاء والمغالطات الّتي يمكن أن تتسلل إلى القلب وتفسده، خصوصًا عند وقوع الاختلافات والتناقضات الشديدة بين العرفاء. حيث نلاحظ أنّ بعض العرفاء يمكن أن يناقضوا بطريقتهم ومنهجهم عارفين آخرين بشكل جزئي أو كلّي أحيانًا. بمعنى آخر “إنّ وزان العرفان النظري بالقياس إلى المعارف الكشفيّة الذوقيّة، كوزان علم الكلام بالقياس إلى العقائد الدينيّة النقليّة. فكما أنّ المتكلّم يأخذ عقائده من طريق الظواهر الشرعيّة، ثم بعد ذلك يستخدم العقل والاستدلالات العقليّة لإثبات ما أخذه واعتقده، كذلك العارف يأخذ عقائده من طريق المكاشفات والمشاهدات، ثم بعد ذلك يستعمل العقل والأدلّة لإثبات ما كاشفه وشاهده”[53].
من هنا، قد ينكر بعضهم معارف وإدراكات غيرهم من العرفاء، كما هو حاصل في مسألة حقيقة الوحدة والكثرة والعلاقة بينهما. فإنّ طائفة من العرفاء ترى أنّ الوحدة حقيقيّة والكثرة وهميّة واعتباريّة. وطائفة ثانية منهم ترى أنّ الوحدة والكثرة كلاهما حقيقيّ. وطائفة ثالثة ترى أنّ الكثرة فقط حقيقيّة، أمّا الكثرة فهي عبارة عن ظهور الحقّ فيها، وأنه ليس هناك وجود بإزاء وجود الحقّ، ولكن دون أن يعني ذلك أنّها تصبح أمرًا وهميًّا أو اعتباريًّا كما يقول الرأي الأوّل.
فإنّ “لأهل الكشف في مكاشفاتهم ومشاهداتهم ووارداتهم أغلوطات شتّى لا يعرف كنهها ولا يسلم من غوائلها إلّا الكمّل والأفراد من أهل العناية”[54]. من هنا، مسّت الحاجة في العرفان إلى هذا الميزان بشكل ملحّ وضروري من أجل ضبط عمليّة الاختلاف الحاصل من خلال اتّباع منهج موحّد يمكن من خلاله أن يحصل التلاقي بين العرفاء لتكون نقطة التلاقي هذه منصّة انطلاق نحو اكتشاف الحقيقة بشكل أدقّ وأكثر واقعيّة. ويرى العارف أنّ هذا الميزان ليس سوى العلوم الفكريّة والنظريّة، المستندة إلى العقل والبرهان، ويطلق العارف على هذا العلم اسم “العرفان النظري”.
وهنا بالتحديد يأخذ علم العرفان النظري دوره ومحوريّته، وتصبح مصداقيّته ومقبوليّته بين العلوم على اختلاف مناهجها وموضوعاتها أقوى وأشدّ، لكونه علمًا يعتمد على قوانين فكريّة، وقواعد عقليّة، وأسس منطقيّة مشفوعة بالأدلّة القرآنيّة والروائيّة، يضعه في مصافّ العلوم الّتي لديها ميزانٌ علميّ متكامل، قويّ وواضح، وهو ما نلاحظه في أغلب كتب العرفان النظري الأساسيّة الّتي دوّنت على مرّ التاريخ؛ كالفتوحات المكيّة وفصوص الحكم لابن عربي، وكتب تلميذه القونوي، إلى القيصري، والسيد حيدر الآملي وغيرهم من أساطين علم العرفان. وبوجود هذا الميزان العقلي، يصبح علم العرفان قابلًا للتعميم على أكبر فئة ممكنة من الناس، فلا يبقى حبيس بعض العقول والقلوب، ومقتصرًا على تجارب فرديّة محدودة وخاصّة بفئة قليلة جدًّا من الخواص.
وبذلك يصبح علم العرفان طليقًا في عالم الفكر، ومحرّرًا من القيود الّتي كبلته طوال قرون طويلة وعزلته عن الواقع العلمي والمعرفي، وجعلته متّهمًا طوال الوقت وفي مورد الدفاع عن نفسه بسبب الخرافات والأوهام والمناهج المنحرفة والباطلة التي تسلّلت إليه بسبب غياب الميزان المنطقي الدقيق الّذي توزن على أساسه تعاليم ومسائل هذه المدرسة عند بعض من تلبّس وتسمّى باسم العرفان زورًا وبهتانًا، حاصرًا علم العرفان بالكرامات المعنويّة والمشاهدات المثاليّة والقلبيّة. وهو في منطق علم العرفان العملي يعدّ توجّهًا خطيرًا جدًّا لأنّه يمكن أن يعزّز الأنا بدل أن يقضيَ عليها، لأنّه من الممكن أن تتلبّس المسائل المعنويّة وحتى التوحيديّة بغلاف الأنا الغليظ؛ بحيث يقع صاحبه في الجهل المركّب وهو يظنّ أنّه يحسن صنعًا. وما السبب في ذلك إلّا لضياع هذا الميزان وفقده وإهماله عند هؤلاء. وهنا بالتحديد، يبرز مصطلحا “العرفان الكاذب” “والعرفان الصادق” في أدبيّات هذه المدرسة المعرفيّة، واللّذان أصبحا متداولين بقوّة في أروقتها ومحافلها العلميّة ومصنّفاتها؛ لينطلق علم العرفان بعدها بقوّة وجرأة نحو الساحات العلميّة المختلفة متسلّحًا بأدلّته العقليّة والقرآنيّة والروائيّة أسوة بجميع العلوم. فيدلو كلّ بدلوه، ويغدو الصراع والنقاش فكريًّا وعقليًّا، بعيدًا عن التشهير والمصادرة.
إذًا، يمكن أن نختصر في نهاية هذا الفصل الكلام فنقول؛ إنّ النتيجة التي توصل إليها المحقّقون من العرفاء؛ أنّه على السالكين إلى الله من أصحاب المجاهدة أن يحصّلوا العلوم الحقيقيّة الفكريّة والنظريّة بشكل عميق وقويّ، بموازاة تصفية القلب من العلائق، وتطهير النفس من الحجب المكدّرة والمظلمة، وتزيينها بالأخلاق الإلهيّة، حتّى تصبح هذه العلوم النظريّة والعقليّة بالنسبة إلى المعارف العرفانيّة كالعلم الآلي المنطقي والميزان الفكري. فلو أنّ العارف السالك تحيّر في بعض المطالب الّتي حصّلها عن طريق التصفية والتزكية لا عن طريق الفكر والنظر، فبإمكانه أن يدرك وجه الحقّ فيها مستعينًا بالعقل، وممّا تعلّمه من العلوم الحاصلة له بالفكر والنظر، كما يقول أبو حامد الأصفهاني:
“إنّ ما يجده بعض السالكين قد يكون مناقضًا لما يجده البعض الآخر منهم، و لهذا قد ينكر البعض منهم البعض الآخر في إدراكاتهم ومعارفهم، ومتى عرفت هذا، فنقول: لا بُدَّ للسالكين من أصحاب المجاهدة أن يحصِّلوا العلوم الحقيقيَّة الفكريّة النظريَّة أوّلًا بعد تصفية القلب بقطع العلائق المكدِّرة المظلمة وتهذيب الأخلاق وتزكيتها حتّى تصير هذه العلوم النظريَّة – التي تكون من جملتها الصناعة الاليَّة المميِّزة – بالنسبة إلى المعارف الذوقيَّة كالعلم الآليِّ المنطقي بالنسبة إلى العلوم النظريَّة غير المتّسقة المنتظمة، فلو تحيَّر الطالب السالك وتوقَّف في بعض المطالب – الّتي لا تحصل له بالفكر والنظر- حصَّله بالطريق الآخر، ويدرك وجه الحقّ فيه بالملكات المستفادة من هذه العلوم الحاصلة له بالفكر والنظر”[55].
وبذلك تصبح العلوم النظريّة والفكريّة، سواء أكانت فلسفةً أو عرفانًا نظريًّا – بمثابة العلم الآلي الّذي من خلاله يمكن أن يصل العارف السالك إلى الله إلى أعلى مراتب العرفان العملي. وهذا هو وجه الترابط والانسجام القويّ بين العقل والقلب، وبين العرفان النظري والعملي، وحتّى بين الفلسفة وعلم العرفان. فالعلوم النظريّة والعقليّة بشقّيها الفلسفي والعرفاني النظري هي عند العارف المحقّق بمثابة منطق علم العرفان، خصوصًا عند من يرى في مدرسة الحكمة المتعالية[56] أنّها امتداد لمدرسة العرفان النظري وليست شيئًا منفكًّا أو منفصلًا عنها.
فإذا اتّضحت منزلة العقل ودور الفكر والنظر بالنسبة إلى علم العرفان نفهم لماذا عدّ صاحب كتاب تمهيد القواعد وهو أحد أهم كتب العرفان النظري، كلّ من ينكر دور العقل وتأثيره على العرفان بمثابة المجنون والمنكر للضروريّات والمسائل البديهيّة: “ومن جعل المعارف العقليّة والعلوم اليقينيّة المستندة إلى البراهين القطعيَّة الحاصلة للإنسان المعتدل المزاج، الّذي لم تستول عليه الرذائل الطبيعيَّة البدنيَّة من الخيالات الفاسدة والحجب المانعة للكمالات الحقيقيّة لا نفسها ولا من الأسباب المعدَّة بالنسبة إلى ما هو من الكمالات الحقيقيَّة عنده، فمن الأولى، الأحقّ – الأخلق – أن تعدَّه من زمرة المجانين وأصحاب الماليخولياء ومنكري العلوم الضرورية”[57].
________________
[1]الكلينيّ، محمد بن يعقوب: الكافي، مرجع مذكور، ج1، ص29.[2] الكلينيّ، محمد بن يعقوب: الكافي، مرجع مذكور، ص25.
[3] الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع مذكور، ص384.
[4] الآملي، حيدر: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، مرجع مذكور، ص353.
[5] الشيرازي، محمد بن إبراهيم: مفاتيح الغيب، تحقيق: نجف قلى حبيبى، انتشارات بنياد حكمت اسلامى صدرا، طهران، 1386ش، ط1، ج2، ص841.
[6] الشيرازي، محمد بن إبراهيم: مفاتيح الغيب، مرجع مذكور، ج1، ص56.
[7] ابن عربي، محي الدين: الفتوحات المكيّة، مرجع مذكور، ج1، ص94.
[8] ابن عربي، محي الدين: الفتوحات المكيّة، مرجع مذكور، ج1، ص289.
[9] المرجع نفسه، ص94.
[10] المرجع نفسه، ص41.
[11] ابن عربي، محي الدين: الفتوحات المكيّة، مرجع مذكور، ج1، ص95.
[12] الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع مذكور، ص384-385.
[13] الأصفهاني، صائن الدين: التمهيد في شرح قواعد التوحيد، تعليق: حسن رمضاني، مرجع مذكور، الهامش رقم 358، ص438.
[14] الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع مذكور، ص316-317.
[15] المجلسيّ، محمد باقر: بحار الأنوار، مرجع مذكور، ج1، ص97.
[16] الجيلي، عبد الكريم: الإنسان الكامل: في معرفة الأواخر والأوائل، تعليق: فاتن فولادكار، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1420ق/2000م، ط1، ص162.
[17] نژاد، علي أمينى، حكمت عرفانى، انتشارات مؤسسه آموزشى وپژوهشى امام خميني، قم، 1390ش، چاب1، ص98.
[18] شقير، محمد: فلسفة العرفان، دار الهادي، بيروت، 1425ق/2004ه، ط1، ص66.
[19] راجع: الشيرازي، محمد بن إبراهيم: الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، مرجع مذكور، ج 6- 8- 9.
[20] المرجع نفسه، ج8، ص51.
[21] سورة النساء، الآية 127.
[22] ابن عربي، محي الدين: الفتوحات المكيّة، مرجع مذكور، ج2، ص459.
[23] الآملي، حسن زاده: سرح العيون في شرح شرح العيون، مرجع مذكور، ص404.
[24] ابن عربي، محي الدين: فصوص الحكم، مرجع مذكور، ص183.
[25] الشيرازي، محمد بن إبراهيم: الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، مرجع مذكور، ج9، ص222
[26] المرجع نفسه، ج5، ص307.
[27] ابن منظور، محمد: لسان العرب، مرجع مذكور، ج11، ص458.
[28] الفيروزآبادي، مجد الدين: القاموس المحيط، مرجع مذكور، ص1122.
[29] الجرجاني، علي بن محمد: معجم التعريفات، مرجع مذكور، ص128.
[30] سورة الإسراء، الآية 46.
[31] سورة آل عمران، الآية159.
[32] سورة البقرة، الآية 225.
[33] سورة النجم، الآية11.
[34] سورة إبراهيم، الآية37.
[35] سورة النحل، الآية 78.
[36] الترمذي، عبد الله: بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللبّ، تحقيق: يوسف وليد مرعي، مؤسسة آل البيت الملكيّة للفكر الإسلامي، الأردن، 2009م، لاط، ص 2.
[37] المجلسيّ، محمد باقر: بحار الأنوار، مرجع مذكور، ج40، ص178.
[38] الديناني، غلام حسين: العقل والعشق الإلهي، مرجع مذكور، ج1، ص119.
[39] سورة ق، الآية37.
[40] سورة لقمان، الآية12.
[41] الكلينيّ، محمد بن يعقوب: الكافي، مرجع مذكور، ج1، ص16.
[42] الكاشاني، عبد الرزاق: شرح منازل السائرين، مرجع مذكور، ص183.
[43] المرجع نفسه.
[44] المرجع نفسه، ص510.
[45] الديناني، غلام حسين: العقل والعشق الإلهي، مرجع مذكور، ج1، ص96.
[46] سورة البقرة، الآية31.
[47] البصيرة: هي العقل المنوّر بنور القدس، كما عرفها الكاشاني في شرح منازل السائرين، ص510، وقد مرّ تعريفها في الأعلى.
[48] الكاشاني، عبد الرزاق: شرح منازل السائرين، مرجع مذكور، ص513.
[49] الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع مذكور، ص392.
[50] المرجع نفسه، ص396.
[51] المرجع نفسه، ص399.
[52] الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع مذكور، ص399.
[53] الأصفهاني، صائن الدين: التمهيد في شرح قواعد التوحيد، تعليق: حسن رمضاني، مرجع مذكور، المقدمة، ص6.
[54] القونوي، صدر الدين: النفحات الإلهيّة، مرجع مذكور، ص113.
[55] الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع مذكور، ص403.
[56] أي مدرسة صدر الدين الشيرازي الفلسفيّة التي دوّن معالمها في كتابه الموسوم “الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة”.
[57] الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع سابق، ص387.