فلسفة المكان القدسيّْ الميثاق الروحيُّ وتجلِّياته بين الزائر والحاضر
د. محمود حيدر
باحث في الفلسفة والإلهيَّات – لبنان
مقدِّمة:
مسعانا في هذا البحث، تبيين الماهيَّة المتعالية للمكان المقدَّس، واستظهار “الميثاق الروحيِّ” الذي ينعقد بين المزار والزائر، والآثار المعنويَّة المترتِّبة عليه.
ولقد بدا لي في خلال هذا المسعى، أنَّ كلَّ كلام على ماهيَّة المقدَّس يُحيل إلى المفارقة. فالمقدَّس بما هو مقدَّس مستقلٌّ بذاته، مُغايرٌ لكلِّ ما ليس من طبيعته. وفي سياق التعرُّف والمعاينة سيظهر المكان الذي له خاصِّيَّة التقديس، بما هو تحيُّزٌ منفردٌ في العالم الأرضيّْ. ولأنَّه كذلك، سينال حظُّه ممَّا أفاضه المتعالي عليه، من التكريم والتقديس، ثمَّ ليكون السبب الموصل إلى الحقِّ، فتتوجَّه الأفئدة إليه بالطلب، وتنعقد له النيَّة بالرَّجاء، والقلوب تميل شطرَه بالسؤال.
ولكي يُفهم القدسيُّ على ما هو عليه في حقيقته، لا بدَّ من أن يُعاش. ومقتضى عيشه أن تكونَه، كأنْ تنظر إلى قداسته بالرضا والتسليم، ثمَّ أن تتعقَّل ما أنت فيه ليكون فهمك له حاصلَ نظر وعمل.
و”الميثاق الروحيُّ” الذي ينبغي للزائر أن يُبرمه مع القدسيِّ يوجب، إلى ما تقدَّم، الاستعداد للقاءٍ لم يعهده من قبل. فسيكون على الزائر أن يتهيَّأ لحوار لا يدور إلَّا على نحو شخصيٍّ مع الحاضر في المقام. فلا يقبل القدسيُّ حواراً مع زائره حتى يجيئه فرداً على رغم كثرة الزائرين. فلكلِّ زائر سبيل إليه. ولا يبلغه – من أفلح ببلوغه – إلاَّ من وقف – وقوفاً ما – على سرِّه. فمن خلُصت نيَّتُه وصدَّق من في المقام انفتح له باب السرِّ، ودخل الحضرة بيُسْر. حتى إذا دنا من مقصوده راح يتوسَّلُه بلطف المحاورة.
فالوليُّ الراقد في المحراب – هو في ضمير الزائر المخلص – حيُّ بإذن ربِّه، وهو السبب بين الأرض والسماء، فإذا استقبل المرقد بسلامة الفؤاد قُبِل. وأمَّا علامة القبول فشعورٌ بالأمان، واستشعار بإجابة المطلوب. وإذَّاك يتحقَّق الوصل، ويكون ما ينبغي أن يكون بين الزائر والحاضر.
هذا ما يتَّفق عليه فقهاء الحكمة في ما سمُّوه “لحظة التجلِّي”. وهي اللَّحظة التي تُعرِبُ عن اختبار معنويٍّ، وانخطاف روحيٍّ لا يتوفَّر عليها سوى الذي يعيشها بالفعل. فالتجلِّي هو حاصل القبول المتبادَل بين قداسة الحاضر في المكان، وذاك القادم إلى حضرته. متى حصل القبول بالإقبال تنمحي الإثنينيَّة بين “الضيف” وصاحب الحضرة. كلاهما يتقابلان ويتحاوران على قاعدة ردِّ الجميل بالجميل، واستنزال اللُّطف باللُّطف. ومتى أدرك الزائر سرَّ المبادلة ازداد تلهُّفاً بالمعشوق؛ وما ذاك إلاَّ إشارة استقبال أُوتِيت من جناب القدُّوس بوساطة الحضرة المقدَّسة. فقد تواصل السرُّ مع السرِّ، وحلَّ حالٌ في الحال، حتى ليمسيَ الزائرُ مع الوليِّ معاً على صراط واحد، كأن يكتسبَ قَبَساً من نور المقام، فيأخذه النور إليه ليتَّخذا معاً صيغة المثنَّى.
والمثنَّى – على ما نعلم – لا ينفصل ولا يتشظَّى، فهو مركَّب أصيل من الأُنس والأُنس، فإذا اجتمعا في الرحمانيَّة صارا إنساناً كاملاً، ولو بات الزائر والحاضر معاً في عالم المثنَّى تأَنْسَن القدسيُّ تلطُّفاً بالمقبلِ إليه، وتقدَّس الزائر تطوُّعاً بالرَّجاء والخشوع. وحالئذٍ لا ينفصل الزائر عن المُزار، ولا المُزار عن الزائر، فأصبح الكلُّ في الكلّْ. ومثل هذا التجلِّي لا يُحصَّل إلاَّ في الفضاء الرَّحب للإيمان الأعلى الذي منه يولد المقدَّس، وعليه تشرق شمس الألوهيَّة.
في هذا السياق، كان عالِم الأنتروبولوجيا ومؤرِّخ الأديان ميرسيا إلياد، ينفي أن يكون المقدَّس مجرَّد مرحلة من مراحل الوعي البشريِّ، بل يعتبره عنصراً مكوِّناً لبنية هذا الوعي. وأكثر من هذا، كان يعتبر وجود العالم حصيلة جدليَّة لتجلِّي المقدَّس وظهوره، ويلاحظ أنَّ أقدم صورة لعلاقة الإنسان بعالمه هي تلك العلاقة المُشبَعة بالمقدَّس الذي يفيض بمعانيه على مكان الإنسان، حيث تكون ممارسته له في حدِّ ذاته عملاً دينيَّاً .
من هنا، فإنَّ هذا التأصيل الجوهريَّ لمكانة المقدَّس في الحياة البشريَّة، يفضي إلى حقيقة أنَّ الانسان – بوصفه إنساناً – هو كائن دينيّْ. والتنظير الفلسفيُّ منذ بداياته الأولى كان ممتلئاً بسيلٍ وافر من الدلالات والرموز والمعاني ذات المغزى الدينيّْ. وإذا كان الإنسان لا يستطيع العيش إلاَّ في عالم ذي معنى، فالإنسان المتديِّن على وجه الخصوص، هو الأكثر توقاً إلى العيش في محاريب القدسيِّ، أو إلى الهجرة نحوها بلا كلل. وما ذاك إلاَّ لأنَّ هذا العالم المتسامي، والذي يستمدُّ جاذبيَّته من الغيب، هو بالنسبة إلى المتديِّن عالمه الواقعيُّ والحقيقيُّ، وهو الذي يمنحه الأمل بالآتي، وبالسعادة التي لم تأتِه بعد. ولأنَّه لا يجد نفسه إلاَّ في محلٍّ ممتلئ بجلال المقدَّس وجماله، نراه يفتتح بهذه الإقامة “البرزخيَّة” سبيلاً إلى السكن في عالم الألوهيَّة الفائض باللُّطف والأمن ولذَّة القرب، أي أنَّه يرجو الخاتمة في المكان الأعلى طهراً وتقدُّساً، مثلما كان من قبل كائناً طهرانيَّاً في علم الله وحضرته المقدَّسة.
في السياق الرؤيويِّ نفسه، يلاحظ علماء اجتماع الأديان أنَّ تجربة الإحساس بالقداسة لدى الناس تأسَّست على عدم انفصال الرموز لديهم عن الحقيقة التي تدلُّ عليها تلك الرموز. من أجل ذلك، توفَّرت للرمز الدينيِّ القدرة على إدخال العابدين في عالم القداسة.. وما من أحد على مرِّ التاريخ استطاع أن يخبر عن كشوفات هذا المطرح المدهش بصورة مباشرة، أللَّهم سوى عدد بالغ الضآلة من الأفذاذ، فكان على الإنسان أن يدركها من خلال شيء آخر، وكان الناس مثلاً يخبِرون القداسة من خلال إنسان ما، أو أرض مقدَّسة، وكان المكان من رموز القداسة الأولى وأكثرها انتشاراً. ويشير هؤلاء إلى أنَّ الطقوس التي يؤدِّيها الناس في المكان المقدَّس، إنَّما هي صورة أخرى من صور محاكاة الألوهيَّة والدخول إلى عالم الوجود الأكمل. وهذه الصورة تكتسب أهميَّة أساسيَّة لفهم قداسة المزار أو أيِّ مدينة مقدَّسة، لأنَّه ينظر إليهما كنظير لأصل سماويٍّ؛ ولو قام الإنسان بمحاكاة الصورة السماويَّة القديمة للمعبد، فلربَّما استطاع أن يُحيل المعبد بيتاً للربِّ هنا على الأرض .
لا بدَّ من الإشارة هنا، إلى أنَّه في الجغرافيا الثقافيَّة الدينيَّة لحداثة الغرب، كانت ثنائيَّة المقدَّس والدنيويِّ تُعرَّف بأنَّها السِّمة الأساسيَّة للأديان، وأنَّ “الأديان نسقٌ موحَّدٌ من المعتقدات والممارسات ذات الصلة بأشياء مقدَّسة أو بأشياءٍ حُرُم أو مُحرَّمة”. وإذا رجعنا إلى لغتنا العربيَّة نجد أنَّ القداسة تعني الطُّهر والبركة، وإذا نُسِبت إلى الله فهي الكمال الإلهيُّ الكلِّيُّ والتنزُّه عن الموجودات، أي الانفصال عن عالم الطبيعة والمادَّة، ومن هنا مقابلتها بالدنيويِّ والدهريِّ والفاني، فيُقال إنَّ المقدَّس هو من الحرام الذي لا يمكن انتهاكه أو الخروج عليه. فالشيء المقدَّس يكتسب قداسته من ارتباطه أو صلته بمصدر القداسة، كما أنَّ درجة قداسته تتحدَّد بمدى القرب أو البعد عن المصدر القدسيّْ. فالله هو المقدَّس الصمديُّ والمطلَق، وهناك مقدَّسات نسبيَّة، تكتسب قداستها من صلتها به وليس من ذاتها.
1- جلالة المكان الحاوي للسرّْ:
أنَّى كانت مناحي التعرُّف على المكان القدسيِّ، سواء جرى ذلك على نصاب البحث النظري، أم من طريق الانخراط في مختبره المعنويِّ، فثمَّة إشكال معرفيٌّ ينبغي الوقوف عليه. والتساؤل الذي ما برح يشهد على استمرار الجدل الفلسفيِّ والكلاميِّ، هو الكيفيَّة التي يمكن عن طريقها إدراك المكان القدسيّْ. ولو نظرنا إلى مثل هذا التساؤل في سياق الجدل المشار إليه لظَهَر لنا نوعان من الإدراك:
الأوَّل: إدراكٌ افتراضيٌّ، وهو ما يُنجز في ميدان البحث الأنثرو – تاريخيّْ. وهو بالنسبة إلى المؤرِّخ لا يتعدَّى التوصيف أو التحليل النظريّْ. وبذلك يكون إدراك الباحث الأنثرويولوجيِّ للقدسيِّ إدراكاً افتراضيَّاً نظريَّاً، أي أنَّه حقيقة نسبيَّة لا تتعدَّى حدود إيمان صاحبها بها.
الثاني: إدراكٌ حقيقيٌّ، وهو مخصوص بالمؤمنين بما يعنيه المكان القدسيُّ من منزلة وجوديَّة في حيواتهم. فإنَّ صلتهم به تنطوي على عقد إيمانيٍّ باطنيٍّ لا يحتاج الأمر فيه إلى السؤال والجواب، بل إلى تشاعُر داخليٌّ لا تحكمه قوانين المعرفة النظريَّة ومناهجها المكتسبة. بهذا المعنى، فإنَّ إدراكاً كهذا هو بالنسبة إليهم حقيقة إيمانيَّة ذات آثار واقعيَّة في سلوكهم ووعيهم ورؤيتهم للوجود.
على أساسٍ من هذا التمييز بين الإدراكين الافتراضيِّ والواقعيِّ، تنشأ مفاهيم وقناعات لا يعود منهج النَّظر معها إلى المكان القدسيِّ على سويَّة واحدة. فهذا الأخير بالنسبة إلى الزائر المقبل إليه على سبيل التوسُّل لبلوغ القربى إلى الله، ليس كالنَّاظر إليه على سبيل النَّظرِ والتحقيق.
وإذا كان لنا أن نميِّز بكلمة مفصليَّة بين المنحيَين، جاز أن نعثر على “كلمة السرّْ”. ففي داخل المقام يحتجب المقدَّس إلاَّ أنَّه حيٌّ يُرزق وينادي زائره ليتعرَّف إلى كلماته. فمن تعرَّف إلى تلك الكلمات عن طريق معايشتها بالتعبُّد والتخلُّق والتدبير حقَّت له وكانت سبيله إلى حضرة القدُّوس. ففي حين يتعامل الزائر المؤمن مع المكان بما هو سرٌ يُستشعرُ بالاختبار الروحيِّ، لا يفلح الباحث الناظر من بُعد، في التعامل معه إلاَّ كموضوع للمقارَبة الافتراضيَّة، وشتَّان بين هذا وذاك.
حريٌّ القول أنَّ المؤمن، وإن لم يدرك كُنْهَ السرِّ الذي تنطوي عليه قدسيَّة المكان، فهو محمول على اليقين بالأثر المترتِّب على الإقبال عليه. بل إنَّه يمضي في التسليم بقداسة المكان المقصود إلى الحدِّ الذي يُعرِضُ فيه عن مشقَّة التساؤل عن سرِّ هذا المكان. فلو تمَّت الزيارة على النحوين معاً، – نحوِ التسليم المحض ونحوِ التسليم المسبوق بالمعرفة – تحقَّقت الإجابة، وانصرفت الحيرة، وحلَّت الطمأنينة.
فوق هذا، لا يعود للسؤال عن السرِّ آنئذٍ من نفع، إذ لا لزوم لإشغال الفكر بأسئلة قد تودي بصاحبها إلى الاغتمام وانصراف القلب عن غايته. فما دام الزائر مغموراً بالإيمان والتسليم والعشق فهو آمن، ذلك بأنَّ تقديس المكان يعني تقديس الزائر لتلك اللَّحظة الانجذابيَّة التي تحقَّق بها في ذلك المكان الذي لا يشبه المألوف من الأمكنة. والزائر الذي هذي حاله، يدرك سرَّ تلك اللَّحظة إدراك عيش ومعاينة، ولا يعبأ بما إذا كان قد تعقَّل ذلك السرَّ بالحجَّة والاستدلال أم لا. فإنَّ من عاش السرَّ لا يعود يهمُّه التعرُّف على صفاته وآثاره الخارجيَّة. فقد بلغ مقام التحقُّق، وبات يعرف ما لا يقدر على معرفته حتى بعض أولئك الذين أخذوا بناصية العلم، ورسموا له بيانات الرحلة وشروط الإقامة.
في رحاب المكان القدسيِّ، حيث يصَّاعدُ الدفقُ الوجدانيُ، تكفُّ أعمالٌ وشعائرٌ – كالصلاة والدعاء والذكر – عن أن تكون كمثيلاتها من قبل أن يحلَّ الزائر أرض المقام. حالذاك يصير دعاؤه غير الدُّعاء، وتتَّخذ صلاته نحواً ما كان ليألفه في سابق الأمكنة. فالدُّعاء ههُنا ليس مجرَّد لفظ عارض، وإنما تحاورٌ حميمٌ يسري من القدسيِّ إلى القدُّوس همساً أو جهراً أو من داخل القلب. وما التوسُّط الذي يوفِّره له المكان القدسيُّ إلاَّ وسيلة فاضلة توسَّلَها الزائر ليبلغ بتوسُّطها القرب من حضرة الحقّْ.
وأمَّا الصلاة فلها ما لها من تفرُّد وجلال، حتى لَيَشعُر المصلِّي كأنَّ الإقامة والبسملة والركوع والسجود والقيام، وكلَّ أثر معنويٍّ لاحق، هو من لدُن الرُّوح القدس وإلهامه. فلقد أضفى المقام على صلاة المصلِّي قسطاً من بهائه ورهبته، حتى لتغدو صلاته في المقام وبتأثير منه، مثابة تجديد لميثاق مبرم مع الربّْ. فحين تؤدَّى الصلاة في محراب القدسيِّ، وتبعاً لتجديد الميثاق، تتحوَّل إلى فعلٍ رحمانيٍّ مثلَّث الأبعاد:
– فعل من العبد نحو ربِّه عن طريق الذِّكر والثناء.
– وفعل بين العبد وربِّه عن طريق التحاور الخلاَّق.
– وفعل من الربِّ نحو عبده عن طريق الاستجابة.
بمثل هذه الرابطة الرحمانيَّة من الأفعال، يستيقن المصلِّي أنَّ صلاته في الحضرة محفوظة من أيِّ شوب، وأنَّها موصولة بالحقِّ من غير قطيعة، وأنَّها في هذه الحال، لا تتوجَّه إلى الحقِّ في ذاته الصمديَّة المنزَّهة، وإنَّما إلى التجلِّي الإلهيِّ الظاهر بالفعل في المكان القدسيّْ. ذلك بأنَّ الهجرة إلى المكان القدسيِّ هو طور روحانيٌّ لا مناص للزائر من المرور به ليتقرَّب إلى الربّْ. فالمكان القدسيُّ مثابة حجاب رحمانيٍّ- يكلِّم الزائر الله تعالى من ورائه، ويرجوه قضاء الحاجات خيرها وأدناها، وكلُّ هذا يجري على تمامه في إطار الميثاق المنعقد بين همَّة المتوسِّل وقابليَّة المتوسَّل به، واستجابة الحقِّ المتعالي للطالب بما يطلب.
ثمَّة، إذن، بين الزائر والحاضر في المقام، سرٌّ يُستشعرُ باللَّمح الباطنيِّ. سرٌّ يستحيل الوقوف على بواعثه عند من ينظرون إليه بالذِّهن ولم ينالوه بالاختبار والمعاينة. والسرُّ لو أُخِذ بمعناه الطبيعيِّ من دون سواه يعني الأمر المكتوم أو الخفيّْ. بمعنى الشيء الغريب، وغير المفهوم، وغير المفسَّر. ومن هذا القبيل، “ليس هذا السرُّ إلاَّ خاطرة قَبْسيَّة تُستمدُّ من الدائرة الطبيعيَّة لإيضاح المعنى الواقعيِّ عندنا، ولكنَّها عاجزة عن أن تفصح عنه إفصاحاً تامَّاً. إن ما هو سرِّيٌّ – حسب معناه الدينيِّ – إنما هو – حسب تعبير المتصوِّف والفيلسوف الألمانيِّ رودولف أوتو- “ذو الغيريَّة التامَّة”. أي ذاك الذي يوجد بتمامه خارج دائرة المعهود، والممكن إدراكه، والمُستَأنْسُ به، والذي يقع نتيجة لذلك، بالضَّبط، خلف حدود “المألوف”، ويناقضه، مالئاً الذِّهن دهشةً وذهولاً .
2- الإيمان الأعلى وإدراك القدسي:ّْ
دلّت الاختبارات الدينيَّة لدى المؤمنين، ولا سيَّما منهم طبقة العرفاء والقدِّيسين، على أنَّ فهم القدسيِّ وإدراك أسراره يمكث في المنطقة العليا من الإيمان. والمعنيُّ بهذا هو الدرجة التي يصل إليها المؤمنون بالسير والسلوك إلى معرفة أنفسهم، ومعرفة الموجودات وصولاً إلى معرفة الله. والذين يصلون إلى هذه الدرجة المتعالية هم الذين يُطلَق على كلِّ فرد منهم صفة العارف أو الإنسان السالك في طريق الكمال.
يجدر القول أنَّ الإيمان الأقصى هو الذي يوفِّر لصاحبه القدرة على التجاوز والتعالي والاستيعاب والإحاطة. ومن يبلغ تلك الدرجة القصوى يستطيع أن يعيش المجاز والحقيقة بالمقدار نفسه، وأن يعيش الغيب والشهود كما لو كان معهما في عالم واحد. فهو في حالة انسجام ووئام ولو ظنَّ الآخرون خلاف ذلك.
أمَّا إيمان المؤمن بما يؤمن فلا يمكن وصفه، بل لا يمكن تحديده، فهو ليس مجرَّد ظاهرة تُماثِل الظاهرات الطبيعيَّة الأخرى، بل إنَّه الظاهرة المركزيَّة في حياة الإنسان الشخصيَّة الجليَّة والخفيَّة في الوقت نفسه. فالإيمان في حده الأقصى هو إمكانيَّة جوهريَّة للإنسان، ولذلك فوجوده ضروريٌّ وكلِّيّْ، وهو ممكن وضروريٌّ أيضاً في كلِّ زمان ومكان. وإذا فُهِمَ الإيمان في جوهره على أنَّه همُّ أقصى، فلا يمكن إذّاك أن يثلمه العلم الحديث أو أيُّ نوع من الفلسفة. ثمَّ إنَّه يسوِّغ ذاته ضدَّ من يهاجمونه، لأنَّهم لا يستطيعون أن يهاجموه إلاَّ باسم إيمان آخر. ولعلَّ أبرز ما في واقعية الإيمان أن الذين يرفضونه إنما يعبِّرون، وهم يفعلون ذلك عن إيمان ما .
مع ذلك، فإنَّ جانباً مهمَّاً تستظهره منزلة المكان القدسيِّ في الاجتماع الإنسانيّْ. وهذا الجانب هو ما يفضي إليه التصوُّر الدنيويُّ المحض القائل بالتناظر الضدِّيِّ بين الإيمان والعقل. فعلى هذا الصعيد يجب أن يسأل المرء أولاً: بأيِّ معنى تُستعمل كلمة “عقل” حين تُواجَه بالإيمان؟ هل المقصود بها، كما هي الحالة في الغالب اليوم، أن تُطلَق بمعنى المنهج العلميِّ والصرامة المنطقيَّة والحساب التقنيِّ أم أنَّها تُستعَمل، كما كان الحال في كثير الحضارات البشريَّة ولا سيَّما الحضارة الغربيَّة، بمعنى منبع المعنى والبنية والمعايير والمبادئ؟
لو كان الإيمان نقيضاً للعقل ـ كما يقرِّر الفيلسوف واللاَّهوتيُّ الألمانيُّ بول تيليتش ـ لكان يميل إلى نزع الصفة الإنسانيَّة عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل يدمِّر في المقابل نفسه إنسانيَّة الإنسان، إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك بنية العقل على أن يكون لديه همٌّ أقصى، أي أن يكون شغوفاً بالله والإنسان في آن، وذلك إلى الدرجة التي يؤوَّل به هذا الشغف إلى تخطِّي الثنائيَّة السلبيَّة التي تصنع القطيعة بين طرفيها. وحده من يمتلك ملكة “العقل المتَّصل” ـ أي العقل الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسانيَّة ـ هو الذي يفلح بفتح البـاب العالي على الوصل بين الواقع الفيزيائيِّ للإنسان وحضـور المقـدَّس في حياته. وما نعنيــه بالعقل المتَّصل هـو العقــل الذي يشكِّل البنية المعنويـَّـة للذِّهن والواقع، لا العقل بوصفه أداة تقنيَّة بحتة. وبهذا المعنى، يصير العقل شرطاً تأسيسيَّاً للإيمان: ذلك لأنَّ الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الانجذابيَّة إلى ما وراء ذاته، أي إلى ما بعد أنانيَّته التي يتجاوزها بالإيثار والعطاء والجود والغيريَّة. بتوضيح آخر، أنَّ عقل الإنسان متناهٍ ومحدود، ويتحرَّك داخل علاقات متناهية ومحدَّدة حين يهتمُّ بالعالم وبالإنسان نفسه. ولجميع الفعاليَّات الثقافيَّة التي يتلقَّى فيها الإنسان عالمه هذه الخاصيَّة في التَّناهي والمحدوديَّة. لكن العقل ليس مقيَّداً بتناهيه، بل هو يعيه، وبهذا الوعي يرتفع فوقه، وعندها يجرِّب الإنسان انتماءً إلى اللاَّمتناهي الذي هو مع ذلك ليس جزءاً منه ولا يقع في متناوله، ولكن لا بدَّ له من الاستحواذ عليه. وحين يستحوذ العقل على الإنسان يصير بالنسبة إليه همَّاً لا متناهياً أي مقدَّساً ونبيلاً. وحين يكون ـ بهذه الصيرورة ـ مسلَّمة للإيمان، يكون بهذا المعنى تحقُّقاً للعقل. ومقام الإيمان بوصفه حالة همٍّ أقصى هو نفسه مقام العقل في طور نشوته الانجذابيَّة. والنتيجة أن لا تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل بل يقع كلٌّ منهما في داخل الآخر .
3- بين العقل والكشف:
إذا كانت هذه الرؤية التوحيديَّة هي ما توصَّلت إليها الفلسفة الغربيَّة ببُعدها الصوفيِّ، فسنجد ما يناظرها في العرفان النظريِّ الإسلاميّْ. في هذا الحقل المعرفيِّ المتسامي نقرأ الشيخ محيي الدين بن عربي وهو يضع العلوم والمعارف ضمن ثلاث مجموعات، هي: العلم العقليُّ، والعلم بالأحوال، والعلم بالأسرار.
– العلم العقليُّ: هذا النوع من العلوم يراه ابن عربي عرضة للإصابة والخطأ معاً . ورغم ما يتحدَّث به أحياناً عن البرهان الساطع والدليل القاطع في مجال العلوم النظريَّة، إلاَّ أنَّه لا يرى في العلوم العقليَّة رافعاً للشكِّ والتذبذُب، ما لم يقع العقل تحت إشراف القوَّة القدسيَّة وحمايتها وسلطانها. وهكذا تُحصَّل الحقائق والمعارف عن طريق تعلُّمها من معلِّمها الأساس وهو الحقُّ تعالى، لا بالتقليد والاتِّباع للقوَّة المفكِّرة.
في رسالته المعروفة إلى الفخر الرازي، يقول الشيخ الأكبر: “واعلم أنَّ أهل الأفكار، إذا بلغوا فيه الغاية القصوى، أدَّاهم فكرهم إلى حالة المقلَّد الصميم، فإنَّ الأمر أعظم من أن يفعله الفكر، فما دام الفكر، فمن المحال أن يطمئنَّ العقل ويسكن، وللعقول حدٌّ تقف عنده من حيث قوَّتها في التصريف الفكريِّ، ولها صفة القبول لما يهبه الله تعالى، فإذن: ينبغي للعاقل أن يتعرَّض لنفحات الجود، ولا يبقى ما هو في قيد نظره وكسبه، فإنَّه على شبهة في ذلك” .
ويذكر ابن عربي في هذا المقطع من كلامه جملة قضايا هامَّة على نحو الاختصار لكن مع صراحة هي:
أ- أنَّ أهل الفكر مقلّدون.
ب- أنَّه لا يمكن للإنسان الوصول إلى اليقين باعتماده الفكر وسيلةً ومنهجاً.
ج- أنَّ مجال المعرفة العقليَّة ذات الأداة الفكريَّة محدود، ولا يمكن تخطّي هذا المجال الضيِّق.
د- أنَّ للعقل قدرة على تحرير ذاته من أسر الفكر، ليضع نفسه في مهبِّ نسيم الجود، فيتعلَّم الحقائق من الحقِّ تعالى .
والنتيجة التي يخرج بها ابن عربي من هذا البحث، هو تقدُّم وأولويَّة المعرفة الحاصلة عن طريق المكاشفة الشهوديَّة للأنبياء والأولياء على تلك الحاصلة بوساطة التفكير والنظر في مجال الإلهيَّات.
– العلم بالأحوال: هذا العلم – كالعلم العقليِّ – هو الآخر في مدار الاشتباه والخطأ، إلاَّ أنَّ خطأه من نوعه، واشتباهه من صنفه، تماماً “كمن يغلب على محلِّ طعمه المرَّةُ الصفراء، فيجد العسل مرَّاً، وليس كذلك، فإنَّ الذي باشر محلَّ الطَّعم إنما هو المرَّة الصفراء” .
– العلم الأسرار: هذا النوع من العلوم ينقسم الى قسمين:
أ-القسم الأول: يشبه النوع الأول، يُدرَك بوساطة العقل، مع فارق أنَّ العالم في ذاك النوع يصل إلى مُدرَكاته عن طريق التفكير والنَّظر، أمَّا هنا، فلا تحصل المُدرَكات نتيجة عمليَّة تفكير ونظر وإنَّما بإفاضة الرُّوح القدس لها.
ب-القسم الثاني: ينحلُّ بدوره أيضاً إلى نوعين، أحدهما يرتبط بعلم الأحوال، بيد أنَّه أكثر شرفاً منه، وثانيهما من نوع الأخبار التي للصحَّة والخطأ سبيل إليها، إلاَّ إذا كان صدق مُخبِرها وعصمته أمراً ثابتاً مؤكَّداً، كأخبار الأنبياء والأوصياء .
نلفت إلى أنَّ علم الأسرار هو ما يسمِّيه ابن عربي في موضع آخر “العلم الإلهيَّ” ويراه، “أصل العلوم كلِّها، وإليه ترجع” ، وبناء عليه فـ “العالِم به يعلم العلوم كلّها ويستغرقها، وليس صاحب تلك العلوم (الأخرى) كذلك، فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط…” .
4- المكان القدسيُّ كمنزل للولاية:
ما من ريب في أنَّ هذا التنظير لمراتب العقل ومحدوديَّته في إدراك منازل القدسيِّ، يؤول في المحصِّلة إلى الولاية بما هي سُنَّة إلهيَّة ضروريَّة الحضور في عالم الخلق. ومع هذا التأويل سيأخذ المكان القدسيُّ تعريفه الأكمل حين يتحوَّل إلى منزل شرعيٍّ للولاية الإلهيَّة.
يقرِّر أهل التحقيق على نحو الإجماع أنَّ الولاية تظهير مستأنف لباطن النبوَّة. وبهذا التظهير تكتمل الهندسة المعرفيَّة التي تترجم الوصل الوطيد بين حلقتَيْ الحضور الإلهيِّ في الزمن البشريّْ. ولئن كان الاستئناف لغة واصطلاحاً، يدلُّ على حركة بعد توقُّف، فهو في جدليَّة العلاقة بين النبوَّة والولاية يتَّخذ معناه الخاص، ليشير إلى التواصل الباطنيِّ الذي لا ينفكُّ برهة عن الفعل. فَمَثلُ هذا التواصل كَمَثلِ حركة في الجوهر تنتظر من يدفعها إلى الظهور لتقوم بمهمَّة توصيل معارف الوحي ومقاصد الشريعة إلى الأفهام على امتداد الأزمنة المتعاقبة. ولمَّا ذهب الحكماء إلى التأسيس على هذه الحقيقة، كانوا على يقين لا شبهة فيه، من أنَّ حقيقة الإيمان بالتوحيد يعادل الإقرار بالولاية، وأنَّ التوحيد والولاية أمران لا ينفصلان، وأنَّ الولاية هي الدليل على تجلّي الأسماء والصفات والأفعال الإلهيَّة في كلِّ طور من أطوار التوحيد .
تبعاً لما ذُكِر، تكون الولاية عنصراً ذاتيَّاً من عناصر ختم النبوَّة. فالوليُّ هو خليفة النبيِّ، ومُبيِّن الشريعة من بعده، وهو الذي يتولَّى صيرورة الدين الخاتم بعد ارتحال نبيِّه إلى غاياته ومقاصده. بل إنَّه يؤكِّد بتبنِّيه لأحكام الدين، استمرار الصلة بعالم الغيب في عهد انقضاء النبوَّة. ولأجل ذلك، تحظى الوراثة النبويَّة التي للوليِّ الخاتم بدور حلقة الوصل بين الحق والخلق. ولذا، فمن الضروريِّ أن تدخل مهمَّته مقام الخاتميَّة من حيث تفرُّعها إلى ثلاثة أركان:
– ركن القيادة: كما كان النبيُّ يتولَّى الإمساك بزمام الأمور وقيادة الأمَّة في حياته، فإنَّ الوليَّ يخلفه في تحمُّل أعباء ذلك كلِّه إمَّا ظاهراً أو باطناً.
– ركن التبيين: النبيُّ مُتلقٍّ للوحي، ومُبلِّغ للرسالة ومُفسِّر لها في آن واحد؛ ومع ختم النبوَّة ينقطع التبليغ الوحيانيّْ. فالوليُّ إثر انقطاع التبليغ هو من يتولَّى مهمَّة تفسير الوحي وتبيينه، فيعمل باعتباره الشخص الذي يمتلك علماً ربانيَّاً على تلبية متطلِّبات الإنسانيَّة من خلال تبيينه لأحكام الدين.
– ركن الولاية: الوليُّ العارف الكامل الذي نال باللَّمح الباطنيِّ الذاتيِّ إجازة الخاتميَّة، وبلغ من العلم الإلهيِّ قدر سعته وهمَّته واستعداده، وبات يملك نحواً من الولاية على القلوب والنفوس والأشياء، هو الدليل على عدم انقطاع اتِّصال الإنسان بعالم الغيب بعد النبيّْ.
لا بدَّ من القول أنَّ التأسيس الرحمانيَّ للوليِّ بصفة عامَّة، والوليِّ الخاتم بصفة مخصوصة، حاضر بالمجمل في الخطاب الإلهيِّ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} . في التفسير أنَّ الولاية هي لله بالأصالة، وللرسول وللمؤمنين بالتَّبع. فيكون التقدير كما في التفسير: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ}. ليكون في الكلام أصل وتبع. ولا يخفى على المتأمِّل أنَّ المآل واحد” .
ولمَّا كانت الولاية واحدة ذات مراتب وفقاً لمبدأ التراتب الطوليِّ القرآنيِّ، فلسوف تكتسب منازلها المتعدِّدة صفة الأصالة المُفاضة عليها من لدُن الوليِّ الأعظم تعالى.
وتبعاً للإخبار الإلهيِّ في ما جاءت به آية الولاية، سنكون أمام هرم وجوديٍّ يتوقَّف على فهمه وإدراك معانيه، عرفان جميل صنع الله ولطفه بخلقه.
من هذا النحو تتمظهر منازل الولاية على ثلاث مراتب وجوديَّة هي: ولاية الله – ولاية النبيِّ – ولاية الوليّْ.
– المرتبة الأولى – ولاية الله: وهي الولاية الحقيقيَّة المطلَقة، وتكون بالأصالة للوليِّ الواحد الأحد على العالمين. وفي القرآن المجيد من الآيات البيِّنات ما يشير إلى الأصالة الإلهيَّة لولاية الله. وأنَّ الله تعالى سمَّى ذاته المقدَّسة بالوليِّ لأنَّه المهيمن بأسمائه وصفاته على كلِّ شيء كما في قوله تعالى: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} .
وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} . فالولاية له تعالى خاصَّة على الناس أجمعين، وهو الذي يعيِّن للناس من يتولَّى أمورهم.
-المرتبة الثانية – ولاية النبي: وهي من الله. أي أنَّها امتداد لولايته تعالى ومن أمره. ولأنَّ ولايته تعالى محيطة بكلِّ شيء، ومدبَّرة لنظام الخلق، وبسُنَنِها تنتظم هندسة الكون، فولاية النبيِّ الخاتم(ص) المستمدَّة من الرحمانيَّة هي – بهذه الصفة الاستمداديَّة – ولاية للعالمين. ولكونها كذلك، فهي ظهورٌ لمشيئة الله وإرادته في عالم الإنسان: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} . فهي إذن رسالة لجميع الناس وولاية الرسول حاكمة على العالمين، ومظهرِةٌ للدين القيِّم. كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} .
– المرتبة الثالثة – ولاية الوليّْ: فإنَّها متَّصلة بالولايتين الأولى والثانية. بها تتجلَّى الحقيقة المحمَّديَّة في عالمَيْ الغيب والواقع، ومن خلالها يكشف الحقَّ عن عنايته بشؤون الخلق. ذلك بأنَّ أولياءه هم المكلَّفون بالمعاينة والمتابعة وحفظ الكتاب. وولاية الوليِّ مصرَّح عنها في القرآن الكريم من خلال وجود شاهد على المسلمين يتلو رسول الله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}(18).
ومعنى “يتلوه” أي يخلفه، ومعنى “منه” أي من نفسه وروحه، ومعنى خلافته له، قيامه مقامه في كلِّ شيء ما خلا النبوَّة التي ختمت به(ص). ولقد عيَّن الله سبحانه هذا الشاهد بالإشارة والوصف، فوصفه تارةً بأنَّه من رسول الله كما في الآية، وتارةً أخرى بأنَّ عنده – من عند الله- علم الكتاب، كما في الآية: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(19). وبهذا التقدير الإلهيِّ سنجد كيف يحدِّد القرآن الكريم الإطار المعرفيِّ لحركة الإنسان في الزمان التاريخيّْ . وهو ما تظهره الآية:
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(20).
وحين يشير القرآن الكريم في سورة الأعراف إلى الرجال المعروفين بسيماهم فإنَّما يدعونا إلى النظر إليهم وهم يقيمون في أعالي السور، ذلك بأنَّ المكان القدسيَّ الذي أقامهم الله فيه يدلُّ على رفعة مقامهم وعلى كونهم أولياءه والعاملين بأمره. وفي تفسير المولى المحقِّق الكاشاني في كتابه “قرَّة العيون”: أنَّ كلمة الأعراف إن كان اشتقاقها من المعرفة، فالأنبياء والأولياء هم العارفون والمعروفون في هذه النشأة، وإن كان بمعنى العرف، أي المكان العالي المرتفع، فهم الذين من فرط معرفتهم وشدَّة بصيرتهم كأنَّهم في مكان عالٍ مرتفع ينظرون إلى سائر الناس في درجاتهم ويميِّزون السعداء من الأشقياء على معرفة منهم بهم وهم بعد في هذه النشأة .
وعن عليٍّ (ع) لمَّا سُئل عن معنى الآية قال: “نحن الأعراف الذين لا يُعرف الله إلاَّ بسبيل معرفتنا”. وعن الباقر(ع): “إنَّ هذه الآية أُنزِلت في هذه الأمَّة والرجال هم الأئمة من آل محمد(ص). وعلى هذا يكون التوسُّل بهم معراجاً للمؤمن لكي يبلغ درجات القرب من الله، ثمَّ لتتحقَّق له الاستجابة لخير الدنيا والآخرة. فالتوسُّل إذن، هو طلب منفعة أو دفع مَضرَّة بذكر اسم نبيٍّ أو زيارة قبر وليٍّ، فتكون الإجابة الرحمانيَّة إكراماً للمتوسِّل به، وشهادة لمكانته القدسيَّة.
5- بيت الله وبيت الوليِّ في القرآن:
إذا كانت سمة المكان القدسيِّ المفارقة والانفصال، فمن سمات الزائر الاقتراب والتواصل. ولكي تستوي علاقة القاصد بالمقصود على نصاب القبول والرِّضى، فلا مناص للزائر من بيِّنات يُضاء له بها السبيل إلى المُزار. فللزيارة – بوصفها سفراً جليلاً إلى عالم المعنى-، ترتيبات يفارق فيها الزائر أمكنته المألوفة، ثمَّ لينتهي إلى مقاربة القدسيّْ. ولهذه الترتيبات شروط وتوجيهات متَّصلة بمنظومة سير وسلوك لا بدَّ له منها ابتغاء القبول والوصول. فالزائر الذي عقد النيَّة على الدخول إلى المكان القدسيِّ، موقنٌ بأنَّه بذلك إنَّما يريد وجه القدُّوس الأعلى، وما المكان القدسيُّ إلاَّ الوسيلة إليه. ولذا سيكون عليه أن يتطهَّر بالتزكية والتأدُّب والتخلّق، ثمَّ ليتوسَّل الحقُّ بأوليائه وصدِّيقيه حتى يحصِّل ما شاء الله له من القرب إلى جنابه الأقدس.
ومبتدأ التطهُّر هو معرفة الزائر بمن في المقام. فإذا قصد زيارة الأئمَّة والصدِّيقين فعليه أن يعلم – كما ينبِّه العرفاء- أنَّ النفوس المقدَّسة الطيِّبة الطاهرة.. حين تفارق الأبدان الجسمانيَّة تتَّصل بعالم القدس والمجرَّدات.. فإنَّ غلبتها على هذا العالم وإحاطتها به تصبح أقوى.. وتغدو تصرُّفاتها في هذه النشأة أكثر من السابق.. كما أنَّ معرفتها بالزائرين أتمُّ وأكمل.. فهم “أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ”. ونسيم ألطافهم ورشحات أنوار أولئك العظماء تصل إلى زوَّارهم خصوصاً للخُلَّص من قاصديهم.. وعليه، فينبغي للزوَّار – كما يقول العارف الهمدانيُّ في “تذكِرة المتَّقين” – أن يتوجَّهوا إلى هؤلاء العظماء بقصد تجديد العهد بهم، وإعلاءِ كلمتهم، وعلى أمل طلب الشفاعة لغفران الذنوب، ورجاء الوصول إلى الفيوضات العظيمة، ويجب أن يعلم أنَّهم مطَّلعون على حركاته وسكناته.. بل هم مطَّلعون على خطرات قلبه، ولذلك يجب أن يبذل قصارى جهده في التضرُّع والتذلُّل والانكسار، خصوصاً عند الدخول إلى مراقدهم الشريفة.. وليكن بكامل التنبُّه واليقظة.. فإنَّ تشتُّت البال وتوزَّعت الحواسُّ، فذلك بمنزلة إدارة الظهر للإمام، وحذار أن يتكلَّم مع أحد بكلام خارج (عن جوِّ الزيارة)، فضلاً عن أن ـ يغتاب في الحرم المطهَّر، أو يستمع إلى الغيبة، أو يكذب، أو يرتكب شيئاً من سائر المعاصي، بل يلزم ألاَّ يرفع صوته أيضاً {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي}{الحجرات:2} ثمَّ ليقبِّل زوايا القبر الأركان المطهَّر الأربع، ويشرح وضعه (ويقدِّم شكواه) بلغته، وليطلب حاجاته من ذلك العظيم .
لا ريب في أنَّ الدلالة على المكان الإلهيِّ جليَّة في القرآن والسيرة المعصومة وتقريرات العرفاء. والخصوصيَّات المتعلِّقة بالكعبة المشرَّفة هي بالتعيُّن المكانيِّ بيت الله على الحقيقة. فقد عظَّمها تعالى تعظيماً خاصَّاً، وجعلها مثابة للتوحيد. وأمَّا تسميتها بيت الله الحرام فإنَّما هي لطف منه بالعالمين، وهداية لهم في نظام عالم الخلق والأمر. لكنَّه سبحانه يُجلُّ عن الإحاطة والسكن وما اتِّصافها وسواها من الأمكنة بكونها بيتاً لله، فإنَّما هي لتشريف مخصوص من حيث هي محلُّ للعبادة، أو لنزول فيض خاصٍّ بها يخلص معها القصد إلى الله. ولقد اجتمع ذلك كلُّه في مكَّة المكرَّمة، وتحقَّق بعض ذلك في المساجد وفي بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه. وهذه كلُّها بيوت الله ظاهراً، وأمَّا بيته الحقيقيُّ فهو في ما جاء في الحديث القدسيّْ: “لا تسعني أرضي ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن”. فكلُّ قلب لم تكن فيه سوى محبَّة الله فهو بيت الله حقَّاً، وقلب المؤمن الكامل بيت الله حقيقة، لأنَّه – كما يبيِّن العرفاء – خالٍ عن التعلُّق بالغير، فليس فيه فكرٌ ولا همٌّ ولا ذكرٌ إلاَّ الله. من هنا ينتهي الأمر عند من حلِّ الله تعالى في قلبه من الأنبياء والأولياء والصدِّيقين، أن يبصر بعين الله، ويسمع بسمعه، ويفعل بإرادته كما في الحديث القدسيّْ: “لا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، وبذلك يتحقَّق له الكمال والقرب ليكون قلبه بيتاً للرَّحمن.
في الأساس، يتحدَّث القرآن الكريم عن “المكان المطلق” الذي يتشكَّل منه الكون، إذ من دون النجوم والكواكب لا يمكن أن نشعر بوجود الكون، يقول تعالى: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” (الأنبياء:33)، ويقول تعالى “لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” (يس:40)، وكلُّها تشير إلى وجود المكان المطلَق الذي تسبح فيه النجوم والكواكب وتحدِّد وجوده. المكان المطلَق هنا “نسبيٌّ” ويتمُّ تحديده من خلال حركة الأشياء داخله “وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ”(يس:40)، وهي حركة تجعل من فكرة “التوجيه” orientation نسبيَّة، فالشمال يصبح جنوباً، والشرق يتحوَّل إلى غرب كلَّما تحرَّكنا في الفضاء الواسع. وبهذا المكان المطلَق في القرآن هو المكان الذي يتحدَّد بالأشياء التي يحتويها لكنه كذلك يحدد الأشياء التي يحتويها، أي أنَّ الفضاء الكونيَّ الواسع لو أنَّه دون نجوم وكواكب وأفلاك لن يكون له معنى وقيمة، وكذلك مواقع هذه النجوم والكواكب والأفلاك تصبح ذات قيمة ومعنى ضمن هذا الفضاء الكونيِّ الواسع(…)، و”الأفلاك” هنا تعني النظام الذي تسير فيه الأشياء (الكواكب والنجوم) في مداراتها الخاصَّة، فكلُّ فضاء يجب أن تكون له أفلاكه التي تنظِّم الأشياء بداخله حتى لا يتحوَّل هذا الفضاء إلى فوضى.
حريٌّ القول أنَّ المكان المطلَق، أو اللاَّمتناهي، هو البيت الذي ابتناه الخالق في عالم الخلق من أجل الخلق. ولذا فهو مكان مقدَّس لأنَّه من صنع الحقِّ. ولكونه حقَّاً فهو مُحكَم الإتقان وليس في صنعه من تفاوت. فالمهندس الأعظم تعالى نَظَمَ المكان الكونيَّ بحكمته، ومنحه شهادة التقديس، وجعله مسبِّحاً بحمده. وإذن فليس في الوجود إلاَّ ذاته تعالى وصفاته وأفعاله. فما كان من صفاته جليَّاً في عالم الشهود – كما يقول الحكماء الإلهيون – موجود ومشتمَلٌ عليه في القرآن تصريحاً وتفصيلاً، فمنها قَسمُه بمواقع النجوم المقرون بـ “اللاّ”: فلاِأقسم بمواقع النجوم وأنه لقسم لو تعلمون عظيم” .
سنلاحظ أنَّ هذا القسم القرآنيَّ جاء بمواقع النجوم وليس بالنجوم ذاتها، علماً بأنَّ النجوم هي من أعظم صور إبداع الله في الكون، وفي هذا القسم نلاحظ أنَّ (الفاء) حرف عطف يُعطف بها فتدلُّ على الترتيب والتعقيب مع الاشتراك، أو يكون ما قبلها علَّة لما بعدها، وتجري على العطف والتعقيب من دون الاشتراك، وقد تكون للابتداء، ويكون ما بعدها حينئذٍ كلاماً مستأنفاًًًً، وأغلب الظنِّ أنَّها هنا للابتداء.
وأمَّا (لا) فهي أحد حروف الهجاء، وقد اعتبرها النُحَّاة حرفاً زائداً في اللَّفظ لا في المعني، بينما اعتبرها نُحَّاة الكوفيين اسماً لوقوعها موقع الاسم، خصوصاً إذا سُبِقت بحرف من حروف الجرِِِّّّ، وهي تأتي نافية للجنس، أو ناهية عن أمر، أو جوابيَّة لسؤال، أو بمعنى: غير، أو زائدة، وتارة تعمل عمل إن، أو عمل ليس، أو غير ذلك من المعاني.
ومن أساليب اللُّغة العربيَّة إدخال لا النافية للجنس على فعل القسم: لا أقسم من أجل المبالغة في توكيد القسم، بمعنى أنَّه لا يقسم بالشيء إلاَّ تعظيماً له، كأنَّهم ينفون ما سوى المقسم عليه فيفيد تأكيد القسم به، وقيل: هي للنفي، بمعنى لا أقسم به إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أصلاً، فضلاً عن هذا القسم العظيم.
ومواقع النجوم هي الأماكن التي تمرُّ بها في جريها عبر السماء، وهي محتفظة بعلاقاتها المحدَّدة بغيرها من الأجرام في المجرَّة الواحدة، وبسرعات جريها ودورانها، وبالأبعاد الفاصلة بينها، وبقوى الجاذبيَّة الرابطة بينها، واللَّفظة: مواقع جمع موقع، يُقال: وقع الشيء موقعه، من الوقوع بمعنى السقوط .
وفي تقديرنا أنَّ دلالة اللاّ (القَسَميِّة) تشير إلى تعالي الخالق عن مخلوق متسامٍ هو النظام الذي ستحلُّ فيه مواقع الأكوان، وتموضع كثراتها اللاَّمتناهية. ومثل هذا الصنع الإلهيِّ لا يُنال بالاستقصاء لأنَّه مرتبط بذاته وصفاته وأفعاله. ولهذا لا يشتمل الكتاب الإلهيُّ من معرفة الذات إلاَّ على تقديسات محضة، وتنزيهات صرفة، كقوله تعالى: “لا إله إلا هو” و”سبحان ربك رب العزة عما يصفون” ، وقوله: “بديع السموات والأرض” .
وأمَّا صفاته سبحانه فالمجال للتفكُّر فيها أفسح، لأنَّها مفهومات عقليَّة كقوله: “وهو العزيز الحكيم” ، وقوله: “الملك القدُّوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبَّار المتكبِّر” .
على أرض هذا الفهم ينفتح باب التعرُّف على الخطاب القرآنيِّ لجهة تبيِّن تظهير الآيات لمراتب الأمكنة القدسيَّة، سواء كانت مادِّيَّة أم غير مادِّيَّة. فهناك – على سبيل المثال – المكان المركز وهناك المحيط، ففي قوله تعالى: “وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا”(الأنعام: 92)، والمركز هنا يعني المكان الذي يحتوي الأشياء، بينما المحيط يشير إلى المكان الذي تحتويه الأشياء. وهذا يُعدُّ ضمن أدبيَّات الحوار الفلسفيِّ في نظريَّة المكان نفسها، فمصطلح “المكان” Place هو المكان “المحدَّد” والمعرَّف بينما مصطلح “الفضاء” space فهو المكان غير المحدَّد وغير المعرَّف (…). ومن الواضح أنَّ الاتِّجاه له أهميَّة كبيرة في تحديد المكان ومفاهيمه، وفي القرآن الكريم إشارة إلى ذلك وإلى الإعجاز الإلهيِّ المرتبط به، كقوله تعالى: “قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” .
وإذا كان المحقِّقون يميلون إلى التمييز بين الدلالات التي تشير إليها آيات المكان في القرآن، إلاَّ أنَّهم لا يجدون تبايُناً أو تعارُضاً في ما بينهما. وحسب هؤلاء: “المكان القرآنيُّ” و”المكان العمرانيُّ”، مكانان مترابطان ويكمِّلان بعضهما بعضاً. فكما أنَّ القرآن يطرح مفهوم المكان بشكل عامٍّ ويقدِّمه كمفهوم وفكرة، كذلك العمارة تنظر إلى المكان كمجال مادِّيٍّ لممارسة الوظائف والأنشطة حيث يتقاطع فيها البشر ويتفاعلون ويبنون حضارتهم. والحجُّ – على سبيل المثال – تجربة مصغَّرة لالتقاء المكان القرآنيِّ “المفهوميِّ” بالمكان العمرانيِّ “المادِّيِّ” و”مواقيته” .
6- زيارة الله منتهى الزيارة:
لا ريب في أنَّ الغاية من زيارة المكان المقدَّس إنَّما هو البحث عن تجلِّيات الألوهيَّة في هذا المكان، ومنه يسعى الحاجُّ أو الزائر لتحقيق اتصال به، وذلك بأن يتعرَّف الإنسان على علاقته بالكون، فبقدر ما تتحقَّق له (الإنسان) معرفة علاقة البنائيَّة الكونيَّة به، بوصفه مركزها، تتحقَّق له معرفة علاقته بالله، فمفهوم علاقة الإنسان بالله تمرُّ عبر علاقة الإنسان بالكون. فأنَّى عرفنا علاقتنا مع كوننا عرفنا علاقتنا مع ربِّنا. فتحقَّقت عبوديَّتنا له. من أجل ذلك، يبيِّن أهل التوحيد أنَّ التعرُّف إلى الحقِّ يتَّخذ مساراً مركباً، من الموجود إلى الواجد، ثمَّ من الواجد إلى الموجود، من دون أن يشوب هذين المنحيين أيُّ تضادٍّ أو تبايُن.
كان ذلك مبتدأ البحث الإبراهيميِّ عن المكان حيث انتهى به عالم المشيئة إلى فلسفة القربان العظيمة كشكر لله على المكان الكونيِّ المتمحوِر بكلِّ ظواهره وفعاليَّات خلقه حول الإنسان، فالأنعام هي (قربان المكان) للإنسان. وعلى الإنسان أن يعطي الله قربانه، وهو الإنسان نفسه، فكما تكون الأنعام قربان وجودٍ للإنسان، يكون الإنسان قربان وجودٍ لله، غير أنَّ الله يجعل القربان البشريَّ قائماً بالعبوديَّة المطلَقة. وهذا هو معنى قوله تعالى:{وما خلقت الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبدون*ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*إنَّ الله هو الرزاق ذو القوة المتين} .
في إطار المكان، يمنُّ الله بإمامة (الناس) على إبراهيم الذي يؤذِّن فيهم كما أذَّن في الطير، فيأتون رجالاً وعلى كلِّ ضامر تأتي (الأفئدة) التي تمنَّى إبراهيم أن تهوي إلى الأرض المحرَّمة: {ربَّنا إنِّي أسكنتُ من ذريَّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرَّم ربَّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلَّهم يشكرون} . هكذا كُتِبَ وهكذا كان، فهوت الأفئدة إلى البيت المحرَّم، فالناس يأتون رجالاً وعلى كلِّ ضامرة تأتي أفئدتهم وتهوي إلى البيت الحرام {وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كلِّ ضامر يأتين من كلِّ فج عميق} .
إذن، من البيت المحرّم، الذي اصطفاه الله ليكون محجَّاً للموحِّدين في تاريخ الوحي الإلهيِّ، ستأخذ الأمكنة القدسيَّة امتدادها بالتبعيَّة للمكان القدسيِّ الأوَّل. ولكي نستدلَّ على التواصل بين الأمكنة القدسيَّة اللاَّحقة والبيت المحرَّم، علينا أن نشهد على حاضريَّة التوحيد في رحاب كلِّ مكان تهفو إليه أفئدة الناس توسُّلاً لرضا الله واستنزالاً لرزقه ولطفه ورحمته. فلقد شكَّل البيت المحرَّم الذي أوكل الله للنبيِّ إبراهيم رفع قواعده في الأرض المحرَّمة نقطة الجمع بين الوحي والعقل.
من هنا، فإنَّ التصوُّر المكانيَّ في الرؤية الإبراهيميَّة للوجود، هو بهذه الدالّة، مستهلُّ التشكُّل الحقيقيِّ للإيمان العقليِّ القائم على الفطرة. فإبراهيم قد وصل إلى الله بتأمُّله في (ملكوت السماوات والأرض) فاكتشف كوناً مسخَّراً للإنسان، وإلهاً فاطراً لهذا الكون المسخَّر، فجاء ربَّه بقلب سليم: {وإن من شيعته لإبراهيم*إذ جاء ربه بقلب سليم*إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون*أئفكاً آلهة دون الله تريدون*فما ظنُّكم برب العالمين} . وهكذا تبلورت مع إبراهيم صيغة العلاقة العقليَّة الفطريَّة السليمة بين الله والكون فاتَّخذه الله (خليلاً) من دون (حلول) فيه، أو (تجسيد)، وجعل من مقوِّمات تفكيره وتعبُّده موضوعاً لهذه (الخلَّة) التي يبتدئ عندها ولديها الإسلام وتأسيس الجمع بين فعل الغيب في الواقع، والعلاقة بين الغيب الإلهيِّ والواقع الكونيِّ بما فيه الإنسان. فالنبيُّ إبراهيم ليس (إمام الناس)، ولا أبا الأنبياء فحسب، وإنما هو أيضاً مؤسِّس الجمع بين وجهَيْ الغيب والشهادة اللَّذين تتمحور مراتبهما حول التأليف والتوحيد والدمج في مقاصد الكتاب الإلهيّْ .
انطلاقاً ممَّا تقدَّم، لا يمكن إنكار تعلُّق الزمان والمكان بقضيَّة الخلق، وإلاَّ لما اختار الله عزَّ وجلَّ كوكب الأرض ليكون أحد مواضع تبيان عظمته الوجوديَّة والتكوينيَّة، مع الاعتراف بأنَّ كلَّ موضع في مساحة هذا الكون اللاَّمتناهي هو موضع لعظمة الله، ولكنَّ سنَّة الاختصاص جعلت للأرض خصوصيَّة المكان. وكما اختار الله مواضع وأماكن وأزمنة لظهور رسالات أنبيائه ورسله، فقد اختار مكَّة – على سبيل بيان المصداق – لتكون موضعاً لولادة الرسول الخاتم (ص)، وسيِّد أوصيائه الإمام عليّْ(ع) .
وينبغي القول أنَّه إذا كان التفضيل الإلهيُّ يتناول الرُّسل والأنبياء (ع)، فهو أيضاً يشمل الذين يرثونهم من الأئمة والأوصياء. ومكانة الإمام عليٍّ (ع) في التقرير الإلهيِّ بيِّنة وواضحة على لسان الرسول الخاتم(ص): “ما عرفك إلاَّ الله وأنا، وما عرفني إلاَّ الله وأنت، وما عرف الله، إلاَّ أنا وأنت” .
من هنا تتحقَّق علاقة الإمام عليٍّ (ع) بالله كونها علاقة معرفيَّة، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أراد تبيان معاني هذه العلاقة من موقف وجوديٍّ ليكون ثمَّة ترابط تكوينيٌّ بين الروحيِّ والمادِّيِّ في ولادة الإمام فجعلها في البيت الحرام (الكعبة) المشرَّفة، ليؤكِّد لنا هذه الرابطة من خلال إيجاد التواصل المادِّيِّ والروحيّْ.
بيد أنَّ ولادة الإمام لم تكن لتتَّخذ هذا الترابط لو لم يكن لها غرضٌ غير مجرَّد الولادة والخروج إلى الحياة بالمفهوم (الفسيولوجيِّ)، فقد شاء الله أن تكون لهذه الولادة قيمة عليا تتجاوز المادِّيَّ، فجعل وجود الإمام عليٍّ (ع) إتماماً للنِّعمة الإلهيَّة التي أنزلها تعالى على نبيِّه الخاتم فقال: “ويتمُّ نعمته عليك” . وقال أيضاً في إكمال الدين بولاية الإمام التي نادى بها الرسول الخاتم في غدير خم: “أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي” .
وعليه، فالغاية من ولادة عليٍّ، إذن، ليست الحضور إلى الحياة والمشاركة في صناعة التاريخ فحسب، ولكن أيضاً ليكون نعمة إلهيَّة تتمُّ بها نعم الله وتكتمل بها أركان الرسالة الخاتم، وتتحقَّق من خلالها قضيَّة (الجعل الإلهيِّ) في خلافة الإنسان على الأرض.
تأسيساً على منظومة التراتُب التي يتَخذها المكان القدسيُّ في عَالمَيْ الأمر والخلق، يصير التوسُّل بما يختزنه من حضور إلهيٍّ، معراجاً متدرِّجاً إلى الحقِّ الأعلى، وتثبيتاً للمتوسِّل على صراط التوحيد. سوى أنَّ الوجه الأقدس في الهجرة إلى المكان القدسيِّ، يكمن في الغاية القصوى التي أرادها المهاجر إليه. حيث أنَّ حقيقة الزيارة ومنتهاها هي لله وإلى الله. وذلك على الحقيقة هو عين التوحيد. فمن زار وليَّ الله قاصداً الله صار في الموحِّدين، فحظي بتأييد الله وتسديده، ونجا من عتمة الشِّرك.