الدراسات والبحوث

الأمير عبد القادر الجزائري قارئاً لفصوص الحكم لابن عربي

بكري علاء الدين

الأمير عبد القادر الجزائري قارئاً لفصوص الحكم لابن عربي

بكري علاء الدين

مقدمة:

بدأ الأمير عبد القادر تأليف كتابه الشهير المواقف في مكة على الأرجح1 بدءاً من 1279هـ /1862م2. وتابع كتابته في دمشق حتى أواخر حياته.

وهو في ذلك يسير على خطى ابن عربي الذي بدأ بتأليف الفتوحات في مكة عام 598هـ وأنهاه في دمشق، ثم أعاد كتابته مرة ثانية فيها قبل وفاته بعدة سنوات. ولا تقتصر العلاقة بين الأمير عبد القادر وابن عربي على هذا الشبه في مجال التأليف. إنما تتعداها إلى تفاصيل صوفية عديدة. أولها أن الاثنين كانا من أصحاب « الجذب » (الموقف 18 ص57).

وثانيهما هو أنهما اعتمدا على الإلهام و « الإلقاء الرباني » في كتاباتهما.

ولا يخلو موقف من مواقفه من الإشارة إلى حالة وجد أو رؤيا تحمل معها بشارة مطَمْئِنة أو تهديه سلوكاً جديداً. ونقرأ مثلاً ما جاء في المواقف 4 و 14 و 38 وفيها على التوالي :

 

« كنت ليلة بالمسجد الحرام قرب المطاف، أخذني الحق عن العالم وعن نفسي »،
« أُلقي علي وأنا في صلاة الصبح »،
« أخذني الحق عني وقربني مني، فزالت السماء بزوال الأرض… »3،أو تعتريه « واقعة » بين النائم واليقطان (موقف 29).

وبالإضافة إلى ذلك فإن كثيراً من المبشرات والمنامات تشكل دعماً معنوياً وفكرياً له تربطه مباشرة بابن عربي وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بفهم كتاباته في الفتوحات المكية وفصوص الحكم. يقول الأمير عبد القادر بعد شرح أبيات لابن عربي وردت في فصوص الحكم (فص لقمان) :

 

« وهذا الذي ذكرناه في حل هذه الأبيات هو من أنفاس سيدنا (رض) وإمداده لهذا الحقير بالإلقاء في « الواقعة ». وإن كان مرمى سيدنا (رض) عزّ أن يصل إليه رام. وقد كنت رأيته (رض) في مبشرة من المبشرات، فذاكرته في مسائل من فصوص الحكم. فقال لي : « إن الشرّاح كلهم ما فهموا مراده، ولا ابن شاهنشاه ». فجعلت أتفكر في نفسي لم قال : « مراده » بضمير الغائب؟ ثم ظهر لي في الحال أنه يريد بذلك رسول الله (صلعم) فإنه هو الذي جاءه بكتاب فصوص الحكم. وقال له : « اخرج به إلى الناس ينتفعون به… وفي صبيحة تقييدي لهذا الموقف رأيت مبشرة عَبَّرتُها على أني قاربت المراد فيما كتبت. »4

مؤلفات ابن عربي في كتاب المواقف

 

يُعدُّ كتاب فصوص الحكم من أصعب مؤلفات ابن عربي وأشدها رمزية وتعقيداً. ونظراً لقدرة الأمير على فهم ما كتبه ابن عربي فقد التف حوله عدد من علماء دمشق يطلبون منه شرح آراء الشيخ الأكبر وخاصة ما ورد في فصوص الحكم، وأشهر هؤلاء الأصدقاء ـ الأتباع نذكر الشيخ محمد الخاني5، الذي اجتمع بالأمير في مكة، وصار من المقربين إليه في دمشق.

ويخبرنا عبد المجيد الخاني (ابن محمد الخاني)، في ترجمة الأمير بأن كتاب المواقف :

« كتاب جليل من توفيقات توقيفاته الإلهية وواردات مشاهداته الربانية وتفسير الآيات الكريمة والأحاديث النبوية، وأجوبة الأسئلة الإخوانية التي كانت ترد إليه من كل ذائق في علم الحقائق، مثل الوالد الماجد، فإنه كثيراً ما كان يراجعه في بعض المسائل الخفية، ويسأله حل محالّ من الفصوص والفتوحات المكية وغيرهما. »

فلكثرة حبه للخير وبذله ـ مع وفرة موانعه وشغله ـ كان يقيد ما ظهر له بالكشف ويوضحه ويرسل به إليه. فكان من فرط حرصه عليه يلحقه في المواقف بإذنه كما يشير إلى ذلك قوله في بعضهما :

 

« سألني بعض الإخوان، والتصريح باسمه في المواقف : شرح فص شعيب وفص إسماعيل وفص آدم… وخطبة الفتوحات وغيرها. فمازال [الوالد] يضم كل مسألة إلى أخدانها… حتى اجتمع من ذلك ثلاث مجلدات ضخمة. وقد ذيل الوالد الماجد بعد وفاته الجزء الثالث بما وجده في كناشه بخطه من مبشرات وإلقاءات روحية… » 6

ويمكن أن نضيف إلى ما سبق شرح 4 أبيات من فص لقمان. يتضمن المجلد الثالث من المواقف شرحاً وعرضاً لأفكار ابن عربي وأفكار تلاميذه مثل القونوي والنابلسي والشعراني. (مثل المواقف 394 : فص لقمان، 355 : فص إسماعيل،مقدمة الفتوحات المكية،367 : فص آدم؛ 369 : شرح « ليس في الإمكان أبدع مما كان للغزالي. والموقف 371 : شرح آراء أبي مدين كما أوردها النابلسي…).

 

شرح الفص السابع من كتاب ابن عربي فصوص الحكم

وسنحاول فيما يلي التركيز على شرح الأمير لفص إسماعيل، أكثر من سواه. وكما مرّ سابقاً فإن شرح هذا الفص جاء بناء على طلب بعض أصدقائه وهو الشيخ محمد الخاني النقشبندي الدمشقي. يقول الأمير :

 

« إن أحد إخواني، بل أعزهم، أخبرني أنه طالع عدة شروح من شرّاح الفصوص لسيدنا الشيخ الأكبر (رض) في فص إسماعيل عليه السلام، ولا أحد منهم أبرأ عليله وأزال غليله. وأراد مني حل ألفاظ هذا الفص بما يفتح الله. فأجبته مستعيناً بالله تعالى ومستمداً مما أفاضه علينا سيدنا وشيخنا محيي الدين (رض) في حياته وبعد موته، فإنه (رض) بضاعتنا التي منها نمير أهلنا…. »7

يقع شرح الأمير للفص الإسماعيلي بحدود الـ 35 صفحة (وهو في 4 صفحات في فصوص الحكم)، ويقع في 27 ص في شرح صائن الدين تركه علماً بأن صفحة المواقف تعادل ضعف صفحة نشرة شرح صائن الدين تركة). ويستهل الأمير الشرح بفكرتين هامتين :

 

الأولى : وهي التي عبر عنها بعد « مبشرة » طويلة أخبره ابن عربي على إثرها : « أنه لا أحد في شرّاح الفصوص فهم مراده »8. وعلينا أن نتذكر هنا أن ثمة أكثر من 100 شرح على فصوص الحكم ومنذ أن كتب الأمير شرحه على هذا الفص ارتفع العدد وما يزال في ازدياد.

 

الثانية : يؤكدها لنا الأمير نفسه، ومفادها : عدم التوصل في يوم من الأيام إلى النفاذ إلى المعنى الحقيقي الذي أراده ابن عربي في كتابه (أو النفاذ إلى فهم ما أراده النبي محمد (صلعم) الذي أعطى الكتاب لابن عربي سنة 627هـ)، ويعبر الأمير عن ذلك قائلاً : « ونحن موقنون أنه لا أحد يصل إلى مرماه (رض) ممن جاء بعده، ولكن ـ كما قيل ـ مالا يدرك (جله) لا يترك كله. وإن لم تكن شاة فمعزى »9.

ويمكننا أن نفهم من الفكرتين معاً أن نص فصوص الحكم، ليس من النصوص العادية المتاحة لكل الناس، وأن معناه النهائي أمر يستحيل إدراكه. وعلى كل شارح أن يجتهد بحسب رأيه أو على أساس تجربته الصوفية، دون الزعم بأنه حلّ ألغاز هذا الكتاب جميعها، أو أنه استنفذ كافة معانيه.

 

ومن هنا ندرك أن شرح الأمير محاولة سوف تتبعها محاولات كثيرة. وكما ازدهرت الشروح على الفصوص في الدولة العثمانية فإن جهوداً مماثلة تبذل لفهمه في الجمهورية الإسلامية بإيران. وسنحاول هنا تتبع آراء ابن عربي في الفص الاسماعيلي وشرح الأمير عليها دون التوسع في المقارنات مع الشروح الأخرى وذلك لضيق المجال. ويمكن تعديد الموضوعات التي يعالجها هذا الفص دون التمكن من التحدث عنها جميعاً10 :

  1. التمييز بين مرتبتي الأحدية والواحدية، وهو أمر أساسي في مذهب ابن عربي
  2. فهم الرضا والغضب النازلين بالناس
  3. أن الكل مرضي ومحبوب عند ربه
  4. العلاقة بين الرب والعبد
  5. العلاقة بين الوحدة والكثرة
  6. التوحيد
  7. الوعد والوعيد عند الصوفية

يبدأ هذا الفص بقول ابن عربي : « اعلم أن مسمى الله أحدي بالذات كلٌّ بالأسماء » (الموقف 355 ، ص1162).

ويعقب الأمير عبد القادر على هذه الجملة بقوله : « مُسمى الله من حيث ذاته، له أحدية « الأحد ». ومن حيث أسماؤه له أحدية « الكثرة ». كما أن الإنسان واحد في ذاته، وهو يشهد الكثرةُ من نفسهِ ووجودهِ الذي جعله الله الحق دليلاً عليه في قوله : « من عرف نفسه عرف ربه ». (المرجع السابق).

ويترتب على هذه القسمة نتائج عديدة في مذهب ابن عربي لا نستطيع الاستطراد في عرضها. وسوف نركز على ما جاء عند ابن عربي والجزائري هنا. يقول ابن عربي : « وأما الأحدية فما لأحد فيها قدم… لأنها لا تقبل التبعيض… » (م.س،ص 1163) وهذا شرح الجزائري :

« إن الأحدية التي هي اسم لصرافة الذات المجردة عن الاعتبارات الحقية والخلقية، فهي مجلًى ذاتي ليس للأسماء ولا للصفات ولا لشيء من مؤثراتها فيها ظهور، ولا قدم لأحد فيها… والكثرة المتنوعة الحقية والخلقية، الجميع موجود فيها بحكم البطون، لا بحكم الظهور. فهي في المثل تقريباً ـ ولله المثل الأعلى ـ كجدار بني من طين وآجر وجصّ وخشب، فمن ينظر إلى الجدار يرى أحدية ذلك الجدار، وهو مجموع ما بني به، لا أن الجدار اسم لما بني به ». (ص1163).

يقول ابن عربي : « والسعيد من كان عند ربه مرضياً، وما ثم إلا من هو مرضيٌ عند ربه لأنه الذي يبقى عليه ربوبيته… » وهذا شرح الأمير عبد القادر الجزائري : « الرب والمربوب منتسبان، أو أقل متضايقان، لا ظهور لأحدهما بدون الآخر، كسائر الأمور النسبية والإضافية، وإنما كان كل مربوب مرْضياً عند ربه الخاص به، لأن المربوب هو الذي يبقى على الرب ربوبيته، فلو انعدم المربوب وجوداً أو تقديراً انعدم الاسم الذي يربّه ».

وقبل أن ننتقل إلى المواضيع الأخرى علينا أن نذكّر بأن نظرية التوحيد عند ابن عربي تقضي هذا الفصل بين الذات الغنية عن العالمين وهي ما يطلق عليه اسم « الأحدية » وبين عالم الأسماء الذي يطلق عليه اسم « الواحدية » أو مرتبة الألوهية، حيث يمكن هنا في هذا المستوى فقط تصور ثنائية الإله والمألوه، الحق والخلق، الرب والمربوب. وتلعب الأسماء الإلهية التي تنقسم إلى أسماء جمال وأسماء جلال دوراً في فهم السعادة والشقاء، والغضب والرضا، وذلك ضمن العلاقة الجدلية لكل اسم أو رب مع مربوبه.

إذ لولا الإنسان لما ظهر سر الربوبية الذي تحدث عنه سهل التستري (ت 283هـ). فالبشر رضوان عن أنفسهم من خلال هذه العلاقة التكاملية بين الرب والمربوب.

يقول ابن عربي : « فكان إسماعيل ـ عليه السلام ـ بعثوره على ما ذكرناه عند ربه مرضياً ». ويتابع الأمير عبد القادر شرحه : « إن كل موجود ليس له إلا ربه خاصة، يستحيل أن يكون له الكل… ».

يقول ابن عربي : « ولهذا منع أهل الله التجلي في الأحدية… » ويشرح لنا الأمير عبد القادر أنواع التجليات وعلاقة الصوفي مع الذات الإلهية في مقطع خاص وضع له عنوان« تنبيه نبيه » :

« إن أهل هذا اللسان… قسموا التجليات إلى : تجلٍ فعلي، وتجلٍ أسمائي، وتجلٍ صفاتي وتجل أسمائي. أما التجلي الفعلي فمعلوم. وكذا… الأسمائي… والصفاتي. أما التجلي الذاتي فإنما يعنون به تجلي الحق تعالى للعبد من حيث أنه لا يظهر لذلك التجلي نسبة إلى اسم… فالتجلي الذاتي عند الطائفة العلية هو تجلي الذات من حيث الذات الإلهية لا من حيث « الأحدية »، فإنه محل المحال… » (ص1169).

ويتابع شرح أبيات الفصوص : « فأنت عبد وأنت رب لمن له فيه أنت عبد »

وفي موضع آخر يقسم هذه التجليات بحسب مقامي التنزيه والتشبيه، يقول :

« فمن شهد التنزيه فقط كالمنزهة من المتكلمين أخطأ، ومن قال بالتشبيه فقط، كالحلولية والاتحادية، أخطأ.
ومن قال بالجمع بين التشبيه والتنزيه أصاب… إذ للحق تعالى تجليان : تجل في مرتبة الإطلاق حيث لا مخلوق، وتجل في مرتبة التقييد بعد خلق المخلوقات. فما ورد في الكتب الإلهية والأخبار النبوية من التنزيه فهو راجع إلى مرتبة الإطلاق. وما ورد فيهما مما يوهم ظاهره عند من لا معرفة له فهو راجع إلى مرتبة التقييد. ومنذ خلق الله تعالى الخلق ما تجلى في مرتبة الإطلاق لمخلوق، لأن تجلي الإطلاق هو تجليه تعالى في ذاته لذاته على الدوام. » (ص1185).

وكما هو معلوم يطلق ابن عربي على هذا التجلي الذاتي اسم « التجلي الأقدس ». أما في مرتبة التقييد فيطلق عليه اسم « التجلي المقدس »، وهو حسب ما يقول الجزائري :

« كل ما أشعر بوجود الخلق مع الرب تعالى فهو تجليه في الأسماء الإلهية التي تطلب المخلوقات وتطلبها المخلوقات ». (ص1186).

إذا ما عدنا إلى الأبيات الثلاثة المشكلة في الفص الإسماعيلي وهي هذه [من مخلع البسيط] :

فإنت عبد وإنت رب لمن فيه إنت عبد
وإنت رب وإنت عبد لمن له في الخطاب عهد
فكل عقد عليه شخص يحله من سواه عقد

 

 

يرى الأمير عبد القادر بأن معنى العبد في بداية البيت الأول هو الإنسان المكلَّف الخاضع للأمر والنهي. ويقال في الإنسان كذلك بأنه : « رب » لكونه مخلوقاً « على الصورة » (خلق الله آدم على صورته). ومن هنا يلتحق بالرب « التحاقاً معنوياً » (المواقف، ص1175). كذلك فإن « الخلافة » عن الرب : ربوبية. ويؤكد الأمير عبد القادر في البيت الثاني بأن « النسبة الربية » هي النسبة الحقيقية الأصلية المتقدمة على نسبة العبودية : « إذ الحقيقة الإنسانية قديمة، مقدسة عن الحدوث ونقائصه، وإنما الحادث ظهورها ». ويضيف بصدد البيت الثالث : « كل مخلوق له رب يعتقده، يخالفه غيره من سائر المخلوقات في اعتقاده بربه، وذلك لاختلاف أمزجة الخلائق » (المواقف، ص1176). ويمكننا القول بأن الأمير عبد القادر وعلى الرغم من تأثره بشرحي القاشاني (ت 730هـ) والقيصري (ت 751) فإن له تفريعاته الخاصة به. تلك التفريعات تجعل من عبارته في الشرح أقرب إلى عصرنا مما هو عليه التعبير في شروح القرن الثامن للهجرة11.

إن الشروح اللاحقة تركز على العلاقة المتبادلة بين العبد والرب على صعيد الأسماء الإلهية، دون أن يكون لهذه العلاقة أي صلة بعالم « الأحدية » التي تنفرد الذات المطلقة بها. ويقترب توصيف هذه العلاقة المتبادلة بين العبد والرب عند الأمير عبد القادر من فكرة « الجدلية » بالمعنى الهيغلي (نسبة إلى هيغل Hegel). وهذه عبارة الأمير عبد القادر حول هذه العلاقة المتبادلة : « الرب والمربوب منتسبان، أو قُلْ : متضايفان، لا ظهور لأحدهما بدون الآخر »_ كما مر سابقاً.

وفيما يتعلق بمسألة الوعد والوعيد نقرأ في الفص الإسماعيلي ما يقول ابن عربي : « الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد. والحضرة الإلهية تطلب الثناء بالذات، فيثنى عليه بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز ».

ويشرح الجزائري هذه الفكرة بقوله : « وما تمدّح أحد قط بصدق الوعيد وإنجازه، لهذا كان الثناء المحمود على الله بصدق الوعد، لا بصدق الوعيد. فإن الحضرة الإلهية من حيث تعلقها بالعالم، تطلب الثناء المحمود بالذات طلباً ذاتياً لا عرضياً ». (ص1191 ـ 1192).

ويتابع الجزائري شرح أبياتٍ للشيخ الأكبر بهذا الصدد يقول في مطلعها :

فلم يبق إلا صادق الوعد نفسه ومالوعيد الحق عين يعاين…

يقول الجزائري :

« إن الأشقياء الذين توعدهم الله تعالى بأنهم لا يخرجون من جهنم أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا هي تفنى ولا هم يخرجون منها، وليس أهل النار الذين هم أهلها لا يخرجون بشفاعة ولا غيرها، فهم وإن دخلوا دار الشقاء وهي غير أن نعيم جهنم، وكانوا من غير غاية ولا نهاية فإنهم يقيمون فيها على لذة ونعيم… لا يقدر قدره إلا الله تعالى الذي رحمهم. كما هم أهل الجنة في جنتهم.
غير أن نعيم أهل النار مباين لنعيم أهل جنان الخلد. وإن كان الأمر واحداً في الالتذاذ » ! (ص1193).

ويتابع الجزائري شارحاً فكرة ابن عربي المشهورة التي يشتق فيها العذاب من العذوبة بقوله : « يسمى عذاباً من عذوبة طعمه… » يتابع فكرته انطلاقاً من مبدأ « عموم الرحمة ». وعلى الرغم من أن جهنم « لا تتبدل ولا ينقصها شيء من أسباب الانتقام » فإن الرحمة هي التي تسود.

يقول الأمير :

« ولكن التألم ومنافرة الطبع قد ارتفعا، فما سمي عذاباً إلا لكونهم يستعذبونه آخر الأمر ويتلذذون به ويتنعمون، هذا بعد عموم الرحمة ». (ص1194) ويختم الجزائري شرحه للفص الإسماعيلي بقوله : « فالكل تحت قبضة الأسماء الإلهية الربية. فمن لم يوافق الأمر وافق الإرادة، فيجوز أن يكون أهل النار الذين هم أهلها مرحومون آخر الأمر بعد نفوذ الوعيد… وقد أخبرت الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بأن الغضب الإلهية له نهاية. » (ص1194).

 

خاتمة:

يتميز شرح الأمير عبد القادر بالأصالة والفهم الجديد لفكر ابن عربي وذلك على الرغم من قراءته للشروح السابقة على عصره. ذلك أننا نكتشف فيها نبرة سادت « عصر النهضة » العربية في نهايات القرن التاسع عشر. وتستند أهمية شرحه للفص الإسماعيلي من كونه قد تضمن تأويلاً لبعض مشكلات ابن عربي المذهبية والفلسفية. وقد تراكمت هذه « المشكلات » بعد ابن تيمية. مما زاد في تعقيدها بين أتباع ابن عربي وخصومه الذين بالغوا في تكفيره.

وقد حاول السلطان سليم العثماني بعد فتحه لسورية ومصر استجلاء حقيقة هذه المشكلات، فطلب من محمد الكازروني المعروف بالشيخ المكي الحضور إلى القاهرة سنة 922 هـ، وكلفه بتأليف كتاب حول هذا الموضوع. وألف الشيخ المكي كتابه المشهور باللغة الفارسية، بعنوان « الجانب الغربي في حل مشكلات الشيخ محيي الدين ابن العربي » لأن السلطان سليم كان يجيد اللغة الفارسية أكثر من العربية.

وقام بترجمته إلى العربية الشيخ محمد بن رسول البرزنجي، وأنجزه في يوم السبت 22 شوال سنة 1096هـ (21 أيلول 1985) مع زيادات وتوسع في الموضوع. والذي يهمنا هنا هو أن الفص الإسماعيلي ينطوي على مشكلتين اثنتين من أصل أربع وعشرين مشكلة تناولها كتاب البرزنجي الذي صار عنوانه بعد تعريبه « الجاذب الغيبي إلى الجانب الغربي في حل مشكلات الشيخ محيي الدين ابن العربي ».

لقد ميز كتاب « الجاذب الغيبي » بين نوعين من المشكلات التي اعترض عليها الفقهاء في كتابات ابن عربي. النوع الأول : « ما لا يتعلق بوحدة الوجود » وهو في 8 اعتراضات. والنوع الثاني : « ما يتعلق بوحدة الوجود » وقد ضم 16 اعتراضاً. وقد عالج المؤلف مشكلة العلاقة بين « العذاب والعذوبة » (التي سلف أن عالجها الأمير عبد القادر في الفص الاسماعيلي أعلاه في عدة صفحات) ضمن سياق النوع الأول، تحت عنوان : « الاعتراض السادس »والذي استغرق ربع كتاب الجاذب الغيبي تقريباً. لأن المؤلف ربطها بنصوص ابن عربي المتعددة حول العلاقة بين مشكلة الشر والرحمة الإلهية12.

أما المشكلة الثانية التي وردت في الفص الاسماعيلي والتي تناولها الأمير عبد القادر في شرحه فهي مشكلة التنزيه والتشبيه، وهي تنتمي بحسب تصنيف مؤلف الجاذب الغيبي إلى النوع الثاني من الاعتراضات الخاصة بوحدة الوجود. وجاءت تحت عنوان :  « الاعتراض الثاني »13.

إن الغرض من هذه المقارنة بين شرح الأمير عبد القادر للفص الإسماعيلي في كتاب المواقف، وما ورد من اعتراضات لما يحتويه كتاب الجاذب الغيبي هو إظهار الدرجة العالية والخطيرة من المشكلات التي اعترض عليها الفقهاء في الفصّ الاسماعيلي، ولسنا ندري إن كان الشيخ محمد الخاني (الذي طلب من الأمير عبد القادر شرح هذا الفص) قد اطلع على كتاب الجاذب الغيبي الذي ألفه البرزنجي قبل مائة وخمسين عام من تواجد الأمير عبد القادر وصديقه محمد الخاني في المدينة المنورة مكان تأليف الجاذب الغيبي. وليس لدينا ما يدل على نفي أو إثبات هذه الإمكانية. علماً بأننا نميل إلى ترجيح اطلاع الأمير وصديقه على هذا الكتاب، لأن المدينة المنورة كانت ماتزال حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر مركزاً هاماً لاتباع مدرسة الشيخ الأكبر ابن عربي.

 

BIBLIOGRAPHIE

Sources

Abd el-Kader, Kitab al-Mawâqif, (le livre de Haltes), éd. Damas, Dâr al-yaqaza, 1966 (en trois volumes).

Ibn ‘Arabî, Fusûs al-hikam, éd. Abou al-‘Ula ‘Afîfî, Alexandrie 1946.

al-Barazanjî Muhammad Ibn Rasûl, al-Jâdhib al-ghaybî, manuscrit Bibliothèque Sulaymaniyya Istanbul, collection Lâlelî, n°1352.

Études

Chodkiewicz Michel, Émir Abd el-Kader, Écrits spirituels, Paris, 1982.

al-Jandî Mu’ayyid al-Dîn, Commentaire des Fusûs al-hikam, édition Sayyid Jalâl-Dîn Ashtiyânî, Mashhad, 1985.

al-Khânî ‘Abd al-Majîd, al-Hadâ’iq al-wardiyya fî haqâ’iq ajillâ’ al-naqshabandiyya, édition ‘Abd al-Wakîl al-Durûbî, Jâmi‘ al-Darwishiyya, Damas (reproduction de l’édition de 1306h.).

Qayçarî Muhammad Dâwûd, Commentaire des Fusûs al-hikam,

édition Sayyid Jalâl-Dîn Ashtiyânî, Téhéran 1386h.

 

NOTES

1 مواد الكتاب تراكمت بدمشق منذ1856م ، ر.
Michel Chodkiewicz, Émir Abd el- Kader, Écrits spirituels, Paris 1982, p. 26.

2 جاء في الموقف (4) قوله : « كنت ليلة بالمسجد الحرام، قرب المطاف، أخذني الحق عن العالم وعن نفسي »، المواقف، ص26.

وفي الموقف (83) يقول : « لما بلغت المدينة : طيبة، وقفت تجاه الوجه الشريف » م. س. ص160.

وفي الموقف 248، م.س ص580. يقول بأنه توقف عن الكتابة لمدة سنتين، ولسنا ندري إن كان توقف عن الكتابة في هذا الموقف وهو الأطول في كل كتابه (ونشر مستقلاً حسب توجيه الأمير في آخره لأنه اعتبره رسالة مستقلة). أم أنه انتقل إلى كتابة غيره. ولسنا ندري إذا ما توافق توقفه مع سفره إلى أوروبا سنة 1867م.

3 الموقف 27، 29، 30.

4 المواقف، 294، ص918. وقد أورد النص أيضاً محمد فالسان في مقاله :
« Introduction à l’étude des Fusûs », in Science sacrée, n° 1-2, Sélongey (France), p. 127.

5 ر. عبد المجيد الخاني، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية، الناشر عبد الوكيل الدروبي جامع الدرويشية، دمشق تصوير عن طبعة 1306 هـ، ص 280، حيث يذكر اجتماع محمد الخاني مع الأمير عبد القادر عندما كان مجاوراً بمكة سنة 1279هـ ويضيف عبد المجيد الخاني، وهو ابن محمد الخاني تلميذ الأمير وصديقه، بأن معلوماته عن الأمير مأخوذة من « كناشه »، أي كناش الأمير بخطه.

6 المرجع السابق، ص282.

7 المواقف : الموقف 355، جـ3، ص1161، وهو يذكر في موقف آخر (367) اسم محمد الخاني بالنص عليه في جواب سؤاله عن فص آدم،المرجع السابق، ص1337.

8 المواقف، ص1161. والضمير في « مراده » ـ كما يقول الأمير ـ يعود على النبي (ص) الذي أعطى كتاب فصوص الحكم لابن عربي

9 المرجع السابق، ص1161 ـ 1162.

10 هنالك تشابه بين الشروح الكثيرة لفصوص الحكم وذلك في عرض الأفكار الأساسية لابن عربي. ومن أجل عرض متماسك لأساسيات مذهبه الصوفي ـ الفلسفي يمكننا التنويه هنا بالمقدمة المطولة التي كتبها داوود القيصري (ت 751هـ) تلميذ عبد الرزاق القاشاني (ت 730هـ) لتشكل تلخيصاً لـ « الحقائق الصوفية » أو ميتافيزيقا التجربة الصوفية لابن عربي وأتباعه.

11 يمكن التنويه هنا بأن شرح مؤيِّد الدين الجَندْي (ت 690هـ) يظل أقرب إلى عبارة القونوي وابن عربي. يقول الجندي في شرحه للبيتين الأولين : « أنت عبد له من حيث ظهور سلطانه عليك. وأنت رب من حيث ظهور سلطانك : 1 ـ على من دونك 2 ـ وعليه أيضاً من حيث إجابته لسؤالك… وأنت رب أيضاً من حيث ظهور الربوبية بك وفيك ». ر. شرح فصوص الحكم، تحقيق سيد جلال الدين آشتياني، مشهد 1985، ص385 ـ 386.

12 ر. الجاذب الغيبي، مخطوط المكتبة السليمانية باستنبول، مجموعة لا له لي Laleli رقم 1352، (الأوراق 94أ ـ 138ب).

13 . من أصل 16 اعتراضاً، ر. الجاذب الغيبي، مخطوط لا له لي، (الأوراق 224أ ـ 233أ).

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى