فنون و آداب

سعدي الشيرازي وقصيدته الرائيَّة في رثاء بغداد

سعدي الشيرازي وقصيدته الرائيَّة في رثاء بغداد

إن اكتشاف شخصية سعدي الشيرازي الأدبية و معرفة مسيرته الكاملة للأثر العربي في أدبه لا يتحققان بصورة كلية عند دراسة آثاره الأدبية في اللغة الفارسية فحسب، بل لا يتمانِ إلاّ بدراسة نتاجِه العربي المتمثّلِ في أشعاره العربية جنباً إلى جنب دراسة نتاجه الفارسي. ولسعدي في لغة الضاد أغراض شتّى كالمدحِ والوعظ والتوحيد والمناجاة والرجاء والرثاء. وله في الغرض الأخير قصيدةٌ فريدةٌ من بين أشعاره العربية، تستحق إفراد مساحةٍ خاصةٍ بها وهي قصيدته الرائية ومرثيته التي قالها في خراب بغداد ومقتل الخليفة وضياع الخلافة العباسية. وقصيدتُه الرائعةُ هذه التي أنشأها بعد خراب بغداد على أيدي التتار، هي من أروع أشعاره العربية، فنياً أوشعرياً أو عاطفياً أو بكل المقاييس. ومن ناحيةٍ أخرى هي أطولُ قصائده، سواء الفارسية منها أم العربية، والتي نرى أنها لم تأخذ حقّها من الذكر والإشارة أو التدقيق والتمحيص.

لم يكن سعدي في صف الحكماء، بل هو أديب شاعر له درجة من الفضل والتأمل الفكري، والمصدر الأساسي لحكمته هو تجربته و الإلهام. والحقيقة أنّ شأنه هنا شأن غيره من شعراء إيران من ذوي اللسانين على مدى العصور الأدبية الإسلامية التي عرفت بالتمازج الشديد والتداخل المستمر بين الثقافتين الإسلاميتين العربية والفارسية، لا سيما العصر العباسي، عصر الترجمة، وعصر البرامكة، وعصر أصحاب الألسن المتعددة، ومن بينها العربية والفارسية. وهكذا نجد أنّ غاياته من الشعر كثيرة، وهو جدير بلقب ( شاعر الإنسانية )، فقد عبر عن الإنسان بكل ما يحمل من متناقضات، وجرّب الحياة وعمر فيها طويلاً، وراح يسجل لنا تجربة الأعوام الطويلة، وقد تاه في دروب الحب والهوى، كما جلس يلقن الملوك والسلاطين دروساً في الحكم والحياة، ورحل تاركاً لنا كنزاً هائلاً بين غزل ومديح ومواعظ وحكايات راجت واشتهرت على مدى التاريخ، وبالنهاية ترك لأخيه الإنسان رسالته الإنسانية، فحواها عصارة تجاربه. رحل هذا الشاعر الكبير عن هذه الدنيا في شيراز عام 691 هجرية وقد جاوز المائة من عمره .

 

القصيدة الرائية

 

حبست بجفني المدامع لا تجري               فلما طغى الماء استطال على السكر

نسيم صبا بغداد بعد خرابها                    تمنيت لو كانت تمر على قبري

لان هلاك النفس عند أولى النهى                أحب له من عيش منقبض الصدر

زجرت طبيباً جس نبضي مداوياٌ                اليك، فما شكواي من مرض تبري

لزمت اصطباراً حيث كنت مفارقاً                و هذا فراق لايعالج بالصبر

تسائلني عما يجري يوم حصرهم                و ذلك مما ليس يدخل في الحصر

أديرت كوؤس الموت حتي كأنه                  رؤس الأسارى ترجحن من السكر

لقد ثكلت ام القرى و لكعبة                        مدامع في الميزاب تسكب في الحجر

نوائب دهر ليتني مت قبلها                        و لم ارعدوان السفيه على الحبر

محابر تبكي بعدهم بسوادها                       و بعض قلوب الناس احلك من حبر

لحى الله من يسدي إليه بنعمة                      وعند هجوم الناس يألف بالغدر

مررت بصم الراسيات اجوبها                     كخنساء من فرط البكاء على صخر

أيا ناصحي بالصبر دعني و زفرتي              أموضع صبر و الكبود على الجمر؟

تهدم شخصي من مداومة البكا                     ويندم الجرف الدوارس بالمخر

وقفت بآبادان ارقب دجلة                           كمثل دم قان يسيل إلى البحر

وفائض دمعي في مصيبة واسط                   يزيد على مد البحيرة و الجزر

 

يصور الشاعر في هذه القصيدة مدى حزنه وأسفه على ما حاق بالخلافة الإسلامية، مما جعله يتمنى الموت لنفسه، صور ما حلّ بالبلاد من نار الفتنة. وهي من أطول قصائده على الإطلاق، فقد بلغت اثنين وتسعين بيتاً، بينما جاءت القصيدة التي نظمها بالفارسية في رثاء الخليفة في ثمانية وعشرين بيتاً.

اشتمل النص على التعبير الصادق عن مشاعر الحزن الشديد والجزع المؤلم على ما حلّ بديار المسلمين من كارثة مرعبة، كما تضمن الشكوى من غدر الزمان وتقلّب الأحوال والتحذير من تحول الدنيا وانقلابها. وهنا نلاحظ تفاعل العلاقات الأدبية بين الثقافتين العربية والفارسية.

يرثي الشاعر بغداد في قصيدته الرائية لما أصابها من القتل والسفك والتخريب والدمار، وهي التي أمضى فيها شطراً من عمره ليس بالقصير، ونهل من منبع علومها المقدار الكثير. وإذا ما سلّطنا الضوء على القصيدة وتتبعنا مسار روافدها الثقافية، سنجد أنها تعتمد بشكل عام على الثقافة الإسلامية كما في سائر موروثه الأدبي من شعر ونثر. فقد ازدحمت بألفاظ قرآنية، وملامح مستوحاة من الذكر الحكيم وأحاديث نبوية شريفة، وكلّ ذلك يعبر عن شخصيته الإسلامية ونشأته الدينية.

هذا التنوع في الكتابة هو أكبر دليل على أن سعدي الشيرازي كان واسع الأفق والخيال، موسوعي الثقافة والفكر. فقد صب أفكاره في قالب شعري مبتكر يتّصف بالحيوية والإنسانية، وبالقوة والرصانة. وهو في هذا الصدد اعتمد على ثقافتين عريقتين من روافد الثقافة الإسلامية الأولى: ثقافته الإيرانية المتمثّلة في لغته الأم الفارسية، والثانية: ثقافته العربية التي تجلّت في شعره الفارسي والعربي معاً، فمثّل أغراض شعرها وألوان أدبها، واستعان بصور بلاغتها وأساليب تعبيراتها، وتأثّر بأدقّ خصائصها.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى