الدراسات والبحوث

ما العرفان؟

رزقي بن عومر

ما العرفان؟

رزقي بن عومر

أستاذ الفلسفة والتصوف الإسلامي في جامعة وهران 2- الجزائر .

المقدمة:
الغرض من هذا السؤال تحديد ماهية العرفان باعتباره مجالا معرفيا أو قل علما من العلوم، وهذا السؤال يفترض تمييزا لهذا العلم من علوم أخرى تشاركه في الموضوع وإن اختلفت معه في المنهج كالفلسفة وعلم الكلام، باختصار تمييزه من كل علم ينشد الكلية في شرف وشمول موضوعه مع وحدة الغاية أي طمأنه المتدين بتزويده المعارف التي تشبع عطشه المعرفي، والوجودي، والشعوري.
نميز في إنتاج الثقافة الإسلامية الكلاسيكية بين ثلاثة علوم؛ منها علوم نقلية كالفقه، وعلم الكلام، وعلم أصول الفقه، وعلوم النص كالتفسير وعلوم الحديث وغيرها، ثم علوم عقلية بحتة من فلسفة وطبيعيات ورياضيات وفلك، وموسيقى وغيرها ، وعلوم إلهامية كشفية كعلم التصوف.
هذه العلوم الثلاثة، منها ما كانت الأصالة في المرجعية للنص الديني ويأتي العقل مبينا لمفاهيمه، ومنها ما كان العقل فيها منتجا بشكل مستقل للمفاهيم، ومنها ما كان الأصل في الإنتاج لا يعود للعقل، بل يرجع أصل إنتاج مفاهيم العلم فيها إلى الإلهام والتلقي عن مصدر متعالي.
اعتبر الأستاذ محمد عابد الجابري أن المعارف الإسلامية كانت محكومة بثلاثة أنظمة معرفية تؤطر إنتاجها لمفاهيمها وتصوراتها: وهي البيان والبرهان والعرفان.
نحاول بداية أن نوجز في بحث مصطلح العرفان:

1- تأمل في لفظة العرفان.
في هذا المقام نفتش عن صدى كلمة العرفان وما تحدثه من معنى حين سماعها، أي البحث عن المعنى اللغوي الأولي. فإن كلمة العرفان فيها ثقل معنى الاعتراف أكثر من معنى المعرفة، لأن المعرفة أو العلم يتوهم منها التحكم وامتلاك المعنى والإحاطة به بما يكسب النفس نوعا من الإنية قد تبعدها عن مقاربة موضوعاتها المعرفية الخارجية بسبب ما تحدثه الإنية من انطواء وانحسار واستقلال في الوجود عن موضوع إدراكها، بينما معنى الاعتراف فيه إشارة إلى القبول أي القبول بالواقع كحقيقة سواء نتيجة العلم أو أن القبول نفسه يعبر عن العلم بالحقيقة من خلال نسيان الأنا وانشطار الحدود الفاصلة بينها وبين موضوعها، كأن القبول بالواقع هو ظهور الحقيقة بلا اشتباه وإلا ما الذي يدفع النفس إلى التخلي عن إنيتها.
2- الدلالة الاصطلاحية
لا بأس أن نستأنس ببعض التعريفات لعلها تساعدنا في ضبط مفهوم العرفان،
يعرّفه الشيخ عبد الرزاق القاشاني بقوله: “عرفه الشيخ أبو اسماعيل الأنصاري بأنه ينبت في الأسرار الطاهرة في الأبدان الزاكية بماء الرياضة الخالصة، ويظهر في الأنفاس الصادقة لأهل الهمم العالية في الأحايين الخالية في الأسماع الصاخبة” ، العرفان نوع من المعرفة الخاصة محلها سر العارف، ونحن إذا استطلعنا مفهوم السر فإننا سنلفيه مرتبة وجودية تعيم محلا إدراكيا للوجود وهو العمق السادس في مراتب ذات الإنسان؛ لأن العارفين بالله يرتبون مقامات الإنسان إلى سبعة مراتب أو سبعة أبطن: الجسد (الحس)، ثم النفس، ثم العقل، ثم القلب، ثم الروح، والسر الخفي والسر الأخفى، فمقام العرفان هو مقام السر أي الرتبة السادسة في عمق وجود الإنسان، مما يفضي إلى الحكم بأن مقام العرفان يتجاوز مقام التمييز النظري، بل العقل مستهلك فيه وليس له إلا التقليد والاتباع، مثلما على العقل أن يتعامل مع مقام النبوة.
ويرى الشيخ عبد الرزاق القاشاني أن أصل اعتماد مصطلح العرفان عند الصوفية راجع إلى أن مبنى علمهم وبابه معرفة النفس: “وقد يعني بالعارف من عرف نفسه فعرف ربه، لقوله (ص): ” من عرف نفسه فقد عرف ربه•” ، ومعنى هذا أن النفس الإنسانية هي صورة الحق تعالى، ونفخته التى لا واسطة فيها بين المخلوق والخالق، بحيث لم تتعلق بها يد التكوين لأنّها من عالم الأمر، وهو عالم البساطة التامّة، والتجلّي الكلّي، للحقّ، لأنّه تعالى قال في الحديث القدسي: “ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن”(أخرجه الديلمي في الفردوس3/ 174 برقم 4466 موقوفا على أنس بن مالك).
يرى الشيخ مصباح اليزدي أن العرفان “يطلق… اصطلاحا على لون خاص من الإدراك وهو الحاصل عن طريق تركيز الالتفات إلى باطن النفس (وليس من طريق التجربة الحسية ولا من طريق التحليل العقلي) فخلال السير والسلوك عادة تتم مكاشفات تشبه الرؤيا” ، هذه المكاشفات هي مادة العرفان الكاشفة عن حقائق الوجود بناء على شرائط سلوكية أو وضعيات وجودية فنائية (نسبة إلى فناء النفس بفعل الشهود).
يرى الأستاذ محمد عابد الجابري أن العرفان نظام معرفي مستقل قائم بذاته ” ينفصل عن سواه في نظرته واتجاهه وفي فضائه وميدانه الخاص، وبالتالي في أنه منهج وطريق في المعرفة… إلا أننا نلفت إلى أن هذا المصطلح (أي العرفان) على ما ينقل بعض المفكرين المعاصرين (في اللغات الأجنبية) يسمى الغنوص (gnose) ومعناها: “المعرفة”، وقد استعملت بمعنى العلم والحكمة” .
هذا العلم كاشف لحال العارف غير مستقل عنه كما هو الشأن مع العلوم التي أصلها الفكر والتعقل لجواز انفصال العالم عن المعلوم فيها؛ معلوم العارف مشهود غير متصور كما الشأن في بقية العلوم، لذا كان ضبط حد العرفان مستعصيا على من لم يكن له ذوق في هذا المجال، وكل توصيف للعرفان فهو إما ذوق كاشف عن مرتبة الواصف أو رواية عن متحقق بالعرفان.
يُعبَّر في العرفان عن الحقائق التوحيدية الساطعة على قلوب وأسرار أهل الشهود من الصوفية والعارفين بالله بعد قطع أشواط السلوك أو نتيجة جذب غيبي غير مسبوق بسلوك، وهو ما يصطلح عليه في التربية الصوفية بالسلوك والجذب كطريقين موصلين للوهب والفيض أو الإشراق الإلهي.
يظهر في هذا التعريف موضوع علم العرفان ومنهجه، فموضوعه التوحيد وحقائقه، كالعلم بالذات والصفات والأفعال وحتى الأثار من جهة انعكاس أشعة الأفعال الإلهية في عالم الأكوان، ومنهجه يتمثل في المشاهدة والمعاينة باعتبار ما يتوصل إليه العارف من الحقائق لم يكن نتيجة تفكير وتروّ، بمعنى أن معارف العرفان ليست صورا تسكن الأذهان أو أحاسيس تنفذ إلى القوة الواهمة، بل هي معارف واقعة تفجأ النفس وتمحوها وتمحو كل ملكاتها، بحيث لا يمكن الفصل في المسألة بين الذات والموضوع. ففي علم العرفان العالم والمعلوم واحد، كما يصطلح عليه في أدبيات الفلسفة الإسلامية بالعلم الحضوري، ومرات ينعت بالعلم الشهودي.
يرى العارفون بالله أنّ منهجهم وطريقهم أفضل المناهج وأرقى الطرق الموصلة إلى الحقيقة، وبالتالي فإن معرفتهم هي أشرف المعارف، ذلك أنها متوقفة على الوهب والفيض الإلهيين ليس للإنسان في ذلك من جهد سوى تحسين الاستعداد لتقبل هذا الفيض بل كما يقول الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي: “لا مدخل على الحق عز وجل إلا من جهة الفضل، ومتى أردت أن تدخل على الله بشيء من كواسبك، كان ذلك الشيء حاجزا بينك وبين ربك، لأنه لا دليل على الله سواه ولا وصول إليه بغيره” . فمعرفة الله ليست مكتسبة بالعمل، إنما هي تحفة إلهية يقذفها الله عز وجل في قلوب من يشاء من عباده، وحالة الفيض هذه تكون بتبدل صيغة الوجود لدى نفس العارف، فبعد الشعور بالنفس والاعتماد عليها، يصبح في حالة المعرفة مطالبا بالخروج من وهم وجوده ويتعامل مع نفسه تعامل العدو الذي يحجبه عن هذه المعرفة، فلا مجال لملكاته المقيدة كالعقل والمخيلة والإحساس، ما دام أصل هذه الملكات وهي النفس مستهدفة بالمحو الكلي، يعبر عنها بالفناء، لأن نظرية المعرفة في العرفان لا تقر بالثنائية بين الذات العارفة والموضوع المعروف، بل المعلوم هو عين العالم، وليس سوى الله تعالى وعلمه ولا مجال في هذا النوع من المعرفة لانتقال العلم “من وإلى”، كما هو الشأن في المعرفة العقلية، سواء الاستدلالية أو الحدسية، والحسية، كما لا مجال للتراكم المعرفي بحيث يزيد العلم بزيادة التحصيل، المعبر عنها بعلاقة التزايد الطردي بين الطلب والحصول، بل إن المعرفة العرفانية تقوم على رفع المسافة الفاصلة بين الذات والموضوع، من خلال الفناء عن الذات والسوى، فيتحقق العلم الذي هو كائن لأنه لم يكن غائبا إلا بسبب حجاب وهم الوجود ووهم الطلب، فالطلب هو عين الفناء، وبالتالي يتحقق العارف بحقيقة المرآة، بحيث تتجلي فيها الحقائق كما هي عليه، من دون تصرف. تتم عملية المعرفة بتفريغ المحل وهذا من شأنه تنمية الاستعداد لقبول المعارف، مثل عملية ملء الإناء بالماء فلا يتحقق إفاضة الماء إلا بتفريغ الكأس مما كان فيه، مع التغاضي عن التشبيه، لأن الكأس محدود ويعمُر، بينما الذات الإنسانية لا تتناهى في فقرها وقابليتها بما لا تتناهى الحقيقة الإلهية في الغنى والوجوب والإفاضة، ولعل قول الشيخ محيي الدين يؤكد ذلك: “من شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا ويقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه، وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال. وما بقي إلا قابل، والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس. فالأمر كله منه ابتداؤه وانتهاؤه” ، طبعا هذا الكلام قياس على حقيقة الوجود فكذلك مجال المعرفة يسري عليه القانون نفسه وهو قانون الإفاضة الوجودية المبينة في هذا النص.
الوصول إلى الله تعالى هو واقع هذا العرفان، والعرفان حكاية هذا الواقع المطلق الذي شرطه المحو والجمع ولا مجال للفصل بين الواقع والحكاية لأن المقام مقام حضور لا مقام حصول، “العارف يقول ولا يبالي بما يقول، لأنه يتكلم على لسان الحق ومعرب عن ذات الحق لا عن ذاته” ، لذلك كان طريق المعرفة عندهم لا يكون بتوسط جهود منطقية وعلمية أي من خلال الرويّة والتفكير وإعداد المقدمات النظرية، بل يكون عن ذوق ومشاهدة، فلا ينبغي أن يقيس ما عنده من الفكر السقيم على أهل المقام العظيم للأنبياء والأولياء العارفين بالله، “القائلين بمعرفتهم للإلهيات على سبيل التحقيق، فإنهم عرفوا الله بما أودعه فيهم، لا بقلم وقرطاس، أو تقول بمنطق وقياس” . والطائفة المختصة بهذا النوع من العلم هم العلماء بالله لا بملكاتهم وأنفسهم الناطقة، وقواها النظرية كما يرى الفلاسفة وأهل النظر العقلي، وهؤلاء العلماء بالله، “عرفوا الأشياء من أصلها ودخلوا البيوت من أبوابها، فكشف لهم عن حقائق الذات الجامعة لسائر الأسماء والصفات فعرفوه سبحانه وتعالى على الوجه اللائق بجلاله، وكانت معرفتهم ناشئة عن مكاشفة وعيان، لا عن دليل وبرهان” .
هناك مصطلحات تدل على خاصية العرفان، يستعملها العارفون والصوفية أنفسهم للدلالة على طبيعة معارفهم، منها العلم اللّدني، و”يراد به العلم الحاصل من غير كسب، ولا تعمل للعبد فيه” ، من جهة الأسباب، لأنه محض وهب وهذا من خرق العادات، لأن عادة المعرفة أن تكون معلولة لفعل العبد، بالطلب وبذل الجهد في إعداد المقدمات التي يلزم عنها ضرورة نتائجها العلمية.
كذلك هناك مصطلح آخر وهو العلم الذّوقي: “هو العلم الحاصل للعبد من جهة المشاهدة، والعين لا بطريق خبر ولا باستدلال برهان” ، ولا يشعر بهذا العلم إلا من قام فيه بمحو رسمه، ولا يملك صاحبه، إلا أن يقول على لسان الشيخ أبي حامد الغزالي:
كان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.
إذ لا إمكانية للإخبار عنه فلا اللغة يمكنها حمله، ولا تحصيل الآخرين يساعد في انتقاله إليهم، فهو محض ذوق، يشار إليه ولا يعبر عنه، لذلك لا يشارك فيه إلا من كان له نصيب بنفس الخاصية أي المشاهدة، فكما سبق ذكره، هذا العلم لا يمكن تعليمه بطرق التحصيل التي تعتمد على الحافظة والقوة المتصورة، بل كل ما في الأمر مساعدة الطالب في التربية بواسطة شيخ مربي، وتركه لمولاه، المعلم، “علم الإنسان ما لم يعلم” (العلق/ 5).
3- موضوع العرفان:
موضوع العرفان هو الذات العلية وما تستحقه من كمالات وما يستحيل عليها من نقائص، ومعرفة هذا الموضوع يكون تحققا ومعاينة لا تحصيلا مفهوميا كما هو الشأن في علم الكلام أو الفلسفة، بمعنى العلم الذوقي الذي يكون ثمرة شهود يعبر عنه الصوفية بالوصول، ونحن نطالع ذم العرفاء لأهل البرهان والنظر العقلي في مقاربتهم للتوحيد، هذا لا يعني أنهم يحرّمون تعاطي العقل مع هذا العلم، وإنما شرط تعقله الصحيح أن يكون مسندا إلى الذوق والمشاهدة، وهنا نتذكر ترتيب أهل العلم عند الإشراقي الشهيد السهروردي، للخلفاء بين متوغل في ذوق التأله عديم البحث وهم الصوفية كأبي يزيد البسطامي، وحكماء متوغلون في ذوق التأله ومتمكنون من الحكمة البحثية وهم قلائل، وحكماء عديمو ذوق التأله متمكنون من الحكمة البحثية، ويرى الشهيد السهروردي، أن عتبة الخلافة لا تعدو ذوق التأله لأنه ضامن لسعادة النوع الإنساني، ولا أدنى من ذلك، والأكمل من حصل الحكمتين الذوقية والبحثية، وبهذا يتفق الإشراق مع العرفان في ضرورة السلوك وذوق التأله الذي يعني فيما يعنيه المشاهدة والقرب الإلهي، ففي “العرفان المتداول، ينصب الاهتمام على السير والسلوك المعنويين وعلى الذوق والعيان من أجل بلوغ الحقيقة والوصول إلى مرحلة الكمال. ولا أهمية فيه للبحث والاستدلال، أو النظر والبرهان” ، لذا نجد ابن تركه الأصفهاني يعتبر التوحيد العرفاني منغلق على ذوي العقول أسيري البرهان، وشرطه التنور بنور الذوق والشهود، الذي يقي صاحبه من أن تأسره الصور النظرية في الوهم وتخرجه من العيان، وطريق هذا التوحيد سلوك الطريق الخاص الذي دعا إليه الأنبياء سيما صاحب الفضل عليهم الذي كمل معرفة ووجودا فكان بحق الصراط السوي وهو سيدنا محمد (ص)، مصداق الحقيقة المحمدية وبرزخ البرازخ، وباب الحضرة الإلهية: “أما بعد فإنّ مسألة التوحيد، مما لم يهتد إليه إلى الآن نظر ذوي العقول بمشاعل الحجج والبرهان، إلا من أيده الله بنور منه، ووفقه بهدايته إليه، من الحائزين منهم مرتبتي الاستدلال العقلي والشهود الذوقي، الفائزين بمنقبتي العلم العلي والكشف الإلّي• (الكشف الإلهي)” ، مصباح العقل والاستدلال لا يمكنه بمفرده أن يكشف عن صاحبه ظلمات الطريق وبالتالي لا يستطيع أن يكون له هاديا إلى التوحيد الحق، ما لم يؤيد ذلك بنور العلم الإلهي المفاض من قبله سبحانه وتعالى، لأنه لا دال على الوجود إلا الوجود الحق، ويعتبر ابن تركه الأصفهاني أن العرفاء هم ممن “خلصهم الله تعالى عن مضائق المقدمات من الخطابية والبرهانية، إلى أقضية الواردات الكشفية، والمخاطبات العيانية، بحسن متابعة الأنبياء ــــ صلوات الله عليهم أجمعين ــــ الذين هم روابط رقائق الحقائق من عين الجمع إلى محل التفصيل، ووسائط نزول المعاني عن سماء القدس إلى مقام التنزيل سيّما من تأسى منهم ـــــ أسوة حسنة ـــــ بالأول منهم وجودا ورتبة، والآخر منهم زمانا وبعثة”
4- أقسام العرفان:
يقسم العرفان الإسلامي كما يشاء للكثير أن يقسمه إلى قسمين، بالتقسيم نفسه الذي قسمت إليه الفلسفة؛ إلى حكمة نظرية وحكمة عملية، فكذلك العرفان الإسلامي قسم إلى عرفان عملي، وعرفان نظري، وهذا التقسيم والتمييز لاعتبار الموضوع المنعكس في كتابات العارفين بالله، وإلا فإن العارفين يعتبرون أن علمهم كله عمل ولا مجال لحقيقة دون أن يكون معها أدب لازم لها فإن هذا العلم هو حكاية عن حضور في حضرة القدس الإلهي لا يستند في صياغته إلى قواعد نظرية أو مبادئ عقلية أو حتى نفسية بل هو محض وهب، يظل العارف يتنكر لنسبته إلى قواه النظرية بل ينسبه إلى الفيض الإلهي على أثر سلفهم المذكور في القرآن الكريم وهو الخضر عليه السلام الذي ذكر مقدمتين تبطلان أي توجه نظري للعارف، الأولى في قوله تعالى: وما فعلته عن أمري(الكهف/ 82)، والثانية في قوله تعالى كذلك: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا. (الكهف/ 68). وهذا يعكس المصدر الإلهي لهذا الخطاب من غير تعمل، هذه المقدمات تعزز موقف العارفين من التقسيم الطارئ على كشوفاتهم ورقائقهم.
نعم، نجد في كلام العارفين بالله ما يثبت هذا التقسيم، وهو تمييزهم بين السلوك والحقائق، المقصود بالسلوك الجانب من الكتابات التي تعنى بالتربية الروحية من أحوال ومقامات النفس في سلوكها التقربي من الحق تعالى. أما الحقائق، فالمقصود بها الجانب الذي يعبر فيه عن مشاهداتهم ومكاشفاتهم التي أفيضت على قلوبهم عندما أُخذوا عن أنفسهم في حضرة القدس.
هذا التوجيه للعرفان بفعل تقسيمه وقع من قبل الدارسين الذين أرادوا أن يذللوا الهوة بين الحكمة والعرفان، فميزوا بين جانب عملي تمثل في المجاهدات والسلوكيات التي أبدعها العرفاء في تحديد صراط الوصول إلى الحقيقة المطلقة سمي كذلك بالطريقة، وجانب نظري يمثل المعارف الحاكية عن الوجود ومراتبه وعن الأنوار المجردة وتنزلاتها وصعودها فيما بين قوسي الوجود الصاعد والنازل، سمي هذا الجانب في الأدبيات العرفانية بالحقيقة.
فكأن العرفان النظري يمثل الحقيقة والعرفان العملي يمثل الطريقة، وهذه الثنائية لا يمكن التعامل معها منفصلة الواحدة عن الأخرى كما يجري الفصل بين الثنائيات في مجال الذهنيات.
5- بين العرفان والتصوف:
هل نسمي هذا النمط من العلم العرفان أم التصوف أم كلاهما لفظان لحقيقة واحدة بمعنى أن الاختلاف لفظي لا في المضمون والجوهر؟ نشير في هذا السياق أنه فعلا وقع خلاف داخل المنظومة الفكرية الإسلامية بين اتجاهين كل واحد يتبنى تسمية لهذا المجال من المعرفة ـ أي معرفة حقائق التوحيد بلحاظ الشهود والذوق ـ.
أ- الإتجاه الأول: يمثله الاتجاه الشيعي الذي بدوره يصطلح عليه العرفان بالنظر إلى نتائجه العلمية والسلوكية الصحيحة بحسبه فهم يعتمدون النصوص التي تتحدث عن نمط معرفي خاص المعبر عنه بالمعرفة فاعتمد اللفظ كتسمية خاصة لهذا الفن وهو العرفان، وكذلك هذه التسمية فيها موقف سياسي وعقائدي على أساس أن التصوف من وضع عربي وسني خصوصا لأن هذا الاتجاه يحرص حرصا شديدا على التأصيل للظواهر المعرفية والعلمية انطلاقا من مدرسة أهل البيت وبالتالي ظاهرة التصوف قد يكون لها حسناتها لكن لا يعول عليها ومنه انتزع العرفان للدلالة على الاتجاه العلمي والسلوكي الذي تأطر تحت إشراف أهل البيت فسلوكهم نهل من تعاليم أهل البيت ومعارفهم نبعت من معدنهم كذلك، وبهذا كل معرفة وسلوك وإن وافق ما تأصل فهو وفاق عرضي ما دام صاحبه ليس مواليا، ونلاحظ أنه بعد نشأة الدولة الصفوية ظهر هذا التمييز بشكل جلي بين التصوف والعرفان وقد أصلت له مدرسة الحكمة المتعالية خصوصا ولعل الملا صدرا له كتاب ينتقد فيه أهل التصوف ويعلي من شأن العرفان وأهله مع العلم أن هذه المدرسة تدخل الكثير من الصوفية في زمرة أهل العرفان وهذا يدل على أنها تعتبر بالمعارف المؤسسة على الشهود وتخرج الممارسات السلوكية التي لا تنتج معارف بما يسمى الطقوسية والفلكلور وهذا نمط حاربته هذه المدرسة أيما محاربة.
ب- الاتجاه الثاني: الاتجاه السني يتبنى تسمية التصوف لهذا النمط من السلوك والعلم، حتى يتحاشى اللقاء مع الشيعة لأنه يتهمهم بالباطنية الذين ينكرون العمل بظواهر النصوص الدينية لحساب الباطن، يتبنى هذا الاتجاه تسمية التصوف التزاما بالتسمية الأصيلة له كفن معرفي بدأ مع التابعين واستمر تبنيه من أهله وهم الصوفية والمربون.
ج- إعادة قراءة الموقفين: تسمية العرفان جاءت متأخرة عن مصطلح التصوف ذلك أن الدراسة المتأنية تظهر أن لا اختلاف بينهما فهما أمر واحد والعرفان كما اصطلح عليه أهله جاء من المعرفة الخاصة بالله التي طريقها معرفة النفس.
نعتبر ـ في ذيل هذا الاختلاف ـ أن أي تقسيم أو تفريق ينظر فيه الاعتبار الحاكم عليه، وبهذه المناسبة نميز اعتبارين؛ الاعتبار الأول نأخذ فيه حيثية المادة المعرفية والسلوكية، فإن تسمية نمط المعرفة القائم على الإلقاء في النفس والمبني على الذوق والمشاهدة بالتصوف والعرفان على السواء لأن المادة واحدة والنصوص نفسها فمثلا الشيخ الأكبر عند فئة هو رأس أهل العرفان وعند طائفة أخرى هو شيخ التصوف الأكبر، وهو هو عند الطائفتين. ما يدفع إلى رفع الاختلاف اللفظي بسبب ما أشحنه التاريخ من إيديولوجيات تستعين بكل سلطة لتستحوذ على ساحة المجتمع والمعرفة.
نعم قد نجد تباينا بين العرفان والتصوف في الاعتبار الثاني الذي نأخذ فيه التفريع على قيد الترتيب والمقام فإن مقام التصوف يأتي في الدرجة المتدنية في المقارنة مع العرفان، فالصوفي والعارف متمايزين في الرتبة لا في نفس النمط المعرفي.
6- الموقف من العرفان:
في تاريخ الفلسفة الإسلامية نلمس موقفين إزاء هذا العلم؛ موقف يعترف بهذا العلم ويشير إلى إمكانيته ولكن يستصعب طريقه ويعظم نتائجه، وهذا نلمسه خصوصا في الاتجاه المشائي الذي امتزج في تعاليمه الأرسطية والأفلاطونية المحدثة وهنا نخصص المدرسة السينوية سواء التي عبرت عنها أطروحات الشيخ الرئيس أو أطروحات أبي بكر بن طفيل، ما يسمى بالحكمة المشرقية.
أما الموقف الثاني من المشائية الإسلامية فاتخذ موقفا رافضا لقيام هذا العلم، وفق منهجه المرسوم أي استحالة الوصول إلى الحقائق بلا نظر ولا فكر، ويمثل هذا الاتجاه كل من ابن باجة وابن رشد.
أما المتكلمون فبدورهم انقسموا قسمين رئيسين، تمثل الأول في الاعتراف بهذا العلم، طبعا من خلال الاعتماد على النصوص الدينية المشيرة إلى هذه الأحوال، لكن طبيعة المنهج الكلامي كون تحفظا كبيرا على بعض نتائج العرفان، كوحدة الوجود، والولاية الباطنية وآثارها الكونية والوجودية، بينما القسم الثاني وقف موقف الرفض لصحة هذا العلم وإمكانيته، مُعْليا شأن العقل تارة أو ظاهر النصوص تارة.
لا يستغرب حكم الكثير ممن اصطدموا بهذا العلم، أي العرفان سواء ممن رفضوا نتائجه كما فعل الكثير من المتكلمين والفلاسفة وعلماء أهل الحديث، أو ممن احتجوا على طريقه من الفقهاء الذين بدّعوا سالكي سبيله، أو بعض الباحثين المعاصرين الذين حصروا طريق الخلاص المعرفي في العقل مقتفين في ذلك أثر سلف لهم من الفلاسفة كابن رشد وابن باجة؛ نخص بالذكر هنا الأستاذ محمد عابد الجابري الذي صنف نظام العرفان والتوجه الإشراقي في عمومه، ضمن توصيف العقل المستقيل.
يرى ابن رشد أن طريق الصوفية “في النظر ليست طرقا نظرية… وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية… هذه الطريقة وإن سلمنا وجودها فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس. ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر، ولكان وجودها في الإنسان عبثا. والقرآن كله دعاء إلى النظر والاعتبار، وتنبيه على طرق النظر… ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة، وحث عليها في جملتها حثا، أعني على العمل، لا على أنها كافية بنفسها كما ظن القوم” ، فابن رشد وإن سلم حصول العلم بطريق الإلقاء والفيض الإلهي من غير نظر وسعي فكري إلا أنه يراه حالة خاصة جدا وإن كان وجود هذا النمط العلمي ما يبطل الحكمة من إيداع العقل في الانسان ويدفع إلى تهمة النص الديني ورسالة الأنبياء بالعبثية ما دام طريق العلم الحق بالله تعالى والوجود عموما محصورا في طائفة أهل التصوف والعرفان•.
ونحن نلتمس شبه تأكيد على هذا الموقف الرشدي من خلال ما عرضه الشيخ الأكبر في فتوحاته عن اللقاء الذي تم بينه وبين ابن رشد وما جرى بينهما من حوار مستصعب كان سببه انكشاف حقيقة خارقة لعادة النظر والعلم الفكري وهي العلم من غير درس ولا نظر الذي انفتح على الصبي ابن العربي. فكان الحوار الصعب، الذي انتهى باعتراف ابن رشد بقيمة علم ابن عربي، بل كما نقل الشيخ الأكبر: “شكر الله تعالى(ابن رشد) الذي كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلا وخرج مثل هذا الخروج من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة… (وقال ابن رشد) هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابا فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها الفاتحين” ، فمعيار حجية المعرفة عند ابن رشد يجب أن تكون عامة لجميع النوع الإنساني وهنا نرى أن النمط الواسع للمعرفة بين بني البشر هو العقل والفكر، لكن هذا ما تبطله رؤى أخرى ترى أن نمط المعرفة الموحد بين البشر هو الفطرة لالتصاقها بخلقة الإنسان، كل ما هنالك أن فطر الناس تختلف في المرتبة بحسب الجهد المبذول في ترقيتها شأنها شأن النظر العقلي فالناس وإن تساووا في حجة العقل إلا أنهم يتفاوتون في النظر بحسب الجهد المبذول في طريق النظر العقلي.
ونجد في مقابل رؤية ابن رشد، موقف الأستاذ طه عبد الرحمن المتحمس للعرفان والذي يخالف رأي الجابري ومعه ابن رشد وابن باجة، إذ يقول: ” وفي هذا أخالف تماما ابن رشد ـــــ ومن قبله ابن باجة ـــــ إذ ظن أن التجربة الصوفية، لما كانت عملية، فإنها لا تنفع المعرفة النظرية في شيء، وذلك لتقريره ــــــ تقليدا لأرسطو ــــــ الفصل بين النظر والعمل، وهذا في غاية الفساد؛ إذ العمل، كائنا ما كان، لا ينفك يفعل ويؤثر في النظر، والنظر لا ينفك يوسع وسائله وينمي بنياته تحت التأثير العملي، بل إن هذا التأثير يتزايد قوة كلما تم الارتقاء في مراتب العمل” . رأي الأستاذ طه عبد الرحمن يقف على النقطة الحاسمة في نقاش ابن رشد لأهل العرفان، إذ يذهب إلى أبعد من ذلك في كتابه العمل الديني وتجديد العقل، وكذلك في كتابه سؤال الأخلاق، الذي يتهجم فيه على التوجه العقلاني للحضارة، واعتبر في كتابيه هذين أن الأصل في العقل هو الجانب العملي، بل ينفي أي تجوهر للعقل ويعتبر هذا المنحى أي المنحى العملي للعقل، وأن الإنسانية تتقوم بالأخلاقية لا بالعقلانية مخالفا تيارا كبيرا في الفلسفة بما فيها المفكرون العرب الحداثيون في أن المنحى العملي للمعرفة هو من تعاليم نصوص الإسلام قرآنا وسنة.

الخلاصة في هذا الموطن: نعني بالعرفان أو التصوف ما ينتجه شيوخه وعارفوه الذين تمكنوا من مقام الكمال على اعتبار أن معارفهم تشكل مرجعية وحجة في السلوك والحقائق لدى السالكين وغيرهم من أهل العلوم الأخرى، وهنا تستثنى بعض التعبيرات المشوشة إلا مع تأويل يؤخذ من الشيوخ وأهل المعرفة بالله. يخرج من دائرة العرفان الأدعياء أو المناقشون لطروحاته من باب الفكر والنظر.
7- العرفان والنظر الفكري:
لا يكاد يختلف إثنان في تمايز خطابي النظر الفكري والعرفان وإن اتفقا عرضيا في صور المعاني وهذا الموقف يكشفه الشيخ الأكبر في جوابه عن سؤال أبي الوليد ابن رشد عن إمكانية توافق الكشف والفيض الإلهي بقوله: “نعم، ثم لا، ثم نعم لا” في إشارة إلى توافق ولا توافق بمعنى اشتراك في طول الحقيقة وتباين في المرتبة كأن العقل والنظر الفكري حجاب يستقبل ما انكسر من أشعة الحقيقة على جدار القوة المتصورة.
يظهر اختلاف واضح، من حيث المنهج والهدف، بين الفلسفة والتصوف ذلك أن الفلسفة تعتمد على المنهج التأملي العقلي الذي يسعى وراء البرهنة على كل مطلب يراد إثباته وخصوصا القياس البرهاني كأكمل استدلال يتخذه الفيلسوف في سعيه من المعلوم إلى المجهول أما من حيث الهدف فإن غاية الفيلسوف تكوين رؤية نظرية عن الوجود بحيث تكون هذه الرؤية حاصلة علما في ذهنه تمكنه من التوافق مع الوجود والعيش فيه في إطار الحكمة. لذا جرى تعريف الفلسفة عند حكماء
الإسلام بأنها صيرورة الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني، فالفلسفة تهتم بالصورة النظرية للوجود، وتحافظ على المسافة النقدية بين الذات وموضوعها ما دامت الآلة المدركة هي الذهن والعقل بينما معارف الصوفي كلها وهب ولا تعُّمل له فيها، اللهم إلا وجود إرادة التطهير من البعد عن نور الوجود، لأن الجهل عند الصوفي لا يعني فقدان علم أو مواد معرفية من وعاء ذهنه وإنما الجهل هو الغفلة بالمعنى الذي يجعلها تلتفت عن إشعاعات الوجود وإفاضاته، بهذا لا تعدو المعرفة والعلم إلا أن تكون هي الحضور لا غير، لذا يميز الصوفية علمهم عن علوم
أهل النظر بأنه علم حضوري وعلم غيرهم علم حصولي وبينهما من التمايز وجود ثنائية بين العالم والمعلوم عند أهل النظر وارتفاع الواسطة بين العالم والمعلوم بتجلي المعلوم لفناء العالم عند أهل التصوف والعرفان.
يتلقى العارفون بالله علمهم عن طريق الفيض والفتح الإلهي من خلال عملهم بالشريعة والسماع الإلهي لا بتوسط الفكر والاستدلال العقلي من خلال اقتباسات حكمية أو بناءات فكرية نظرية. ينصح الشيخ الأكبر العلماء بعدم التعلق بنظرهم الفكري وضرورة فسح المجال للتعليم الإلهي من خلال الانفتاح على الوحي وعدم تأوله التأويل الذي يغلب النظر العقلي والذي في الغالب يؤدي إلى التحكم في النصوص الدينية لا الإحتكام إليها.
وفي مورد آخر، شبه مولانا جلال الدين الرومي الاستدلال العقلي بالقدم الخشبية التي لا يمكنها السير في جبال وأودية العشق والتجليات الإلهية التي لا تثبت لها قدم إلا من رحمه الله تعالى. وزلل العقول يقع بسبب طبيعة إدراكها للحقائق الإلهية، فهي لاتستطيع فهم التجليات الإلهية إلا على نحو الحلول والإتحاد فكما يذكر الأمير عبد القادر هذه الصعوبة في هذا النص: “والطائفة المرحومة أدركت تجليات الحق – تعالى – في الصور وما اشتبه عليهم بحلول ولا اتحاد ولا بغير ذلك، مما اشتبه على غيرهم من أصحاب العقول المعقولة بقيود الأكوان المسجونة بسجني الزمان والمكان.”
8- التصوف الفلسفي والتصوف السني:
يقصد بالتصوف الفلسفي مجموعة النصوص التي تتناول الحقائق الوجودية في بناء استدلالي أحيانا وإشاري أحيانا أخرى بما يصل في كثير من الأحيان إلى موافقة بعض الطروحات الفلسفية تارة أو ما يتشابه معها في عرض المفاهيم والاصطلاحات، وقد صنف أهله بالفلاسف الصوفية ومنهم ابن العربي والجيلي وابن سبعين ومن نحا نحوهم، بينما يقصد بالتصوف السني تلك النصوص التي تركز على السلوك والالتزام الديني الذي يوافق نصوص الدين فهو يظهر في خطاباته توافقا ظاهريا مع نصوص الدين وقد صنف أهله بالصوفية السنيين كالجنيد والمحاسبي والغزالي والقشيري وحتى أبي الحسن الشاذلي وعبد القادر الجيلاني، سبب هذا التقسيم راجع إلى الالتباس في التمييز بين الفلسفة والعرفان فالأولى كما سبق أساسها النظر الفكري والاستدلال والثاني أساسه السلوك والفتح والفيض الإلهي على قلوب السالكين أو المجذوبين. ولعل كذلك من أسباب التقسيم محاولة التأصيل للفكر الإسلامي من خلال تمييز علوم الأوائل منه كاليونان والثقافات الشرقية القديمة كالغنوصية والإشراقية، وبالتالي ما تشابهت طروحاته في الظاهر مع هذه الثقافات اعتُبر فلسفة أو وجهة فلسفية وما خلا منها اعتبر سنَّة واتباعا وإنتاجا أصيلا.
هذا التقسيم يخلق شرخا مفتعلا داخل التصوف والعرفان فكأن ابن العربي والجيلي وابن سبعين ليسوا بصوفية ولا ولاية لهم وأنهم لم يحصلوا ما حصلوه من المعارف من الفيض والوهب الإلهي وغيرهم كان لهم ذلك بسبب توافق خطابهم من حيث الظاهر مع النصوص الدينية.
في حين نجد تقسيما للتصوف والعرفان إلى قسمين قسم يعنى بالحقائق التوحيدية المجردة وقسم يعنى بالسلوك ومدارجه، ولعل هذا مدخل الالتباس الذي أوقع هؤلاء المشتبهين في تمييز التصوف السني من التصوف الفلسفي بينهما هما واحد لا غير.
خاتمة
نجد أن العرفان نمط علمي ومعرفي مجمع على تميزه فله نصوص وله تاريخ وله أعلام يمثلونه وما زال هذا النمط المعرفي يشكل حضورا متميزا في المعرفة البشرية وإن تعددت الملل، بل بالعكس فإن العرفان في مجال التدين ليس له حدود فاصلة لصفاء الحقيقة المتجلية على قلوب أهلها، وهذا نتيجة طهارة المجلى، ولعله عندما يصفو الإناء يظهر لون الماء الظاهر فيه وهذا سر تواطؤ معارف أهل هذا النمط المعرفي، ما جعل المفكرين يجمعون على وحدة التصوف والعرفان مع الأنماط الروحانية والمعرفية في الملل المتنوعة كالبوذية والفيثلغورية والأفلاطونية والزهد المسيحي والقبالة اليهودية والكونفوشيوسية..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى