فلسفة العرفان : قراءةٌ تحليليَّة
د. هادي وكيلي
أستاذٌ مساعد، وعضو الهيئة العلمية في مركز دراسات العلوم الإنسانية، وعضو لجنة العرفان الإسلامي في إيران. متخصِّصٌ في العرفان والتصوُّف. له دراساتٌ عديدة.
ترجمة: حسن مطر
تمهيد:
تشتمل جميع المسالك المعنوية في كافّة أنحاء العالم النامي على طرقٍ لنجاة الإنسانية، وتعاليم خاصة للدفاع عن معتقداتها وتعاليمها.
تقوم «فلسفة العرفان» على مسألة تدعو إلى التأمّل، مفادها أن التجربة اللاهوتية المباشرة ممكنة، وقابلة للحصول والتحقُّق بالنسبة إلى كلّ شخص.
تعيش جميع الأديان على عتبات ثقافية مفعمة ومشحونة بمفاهيم «الجهاد»، بوصفه أمراً وسيطاً بين البشرية والألوهية. وهذا الأمر لا يقوم على الأسس الفردية، وإنما يقوم على القواعد الاجتماعية. إن كل واحد من الأديان يعمل على صبّ التجربة العرفانية الأصيلة للفرد في قالب الأدبيات والمصطلحات السائدة في تراثها الثقافي الخاص. إن فلسفة الدين ـ التي تسعى إلى فهم طبيعة وماهية الألوهية ـ تتجاهل هذه الفوارق الثقافية.
أما فلسفة العرفان فتخطو خطوة متقدّمة، حيث تسعى للوصول إلى تجربة بشرية عن الألوهية، من طريق إدراك الارتباط المحوري فيما بينها.
وللبدء لا بُدَّ أوّلاً من دراسة معنى ومفهوم العرفان والتجربة العرفانية.
إن مصطلح «العرفان» مأخوذٌ من أصل إغريقي بمعنى «الغموض والخفاء». وفي عالم العدمية يعود تعبير السلوك «العرفاني» إلى السلوكيات الدينية السرّية. وفي المسيحية الأولى كان هذا المصطلح يعود إلى التفاسير الملغزة والرمزية «الباطنية» للنصوص المقدّسة أو الحضور الباطني، من قبيل: الحضور الباطني للسيد المسيح في مراسم العشاء الربّاني. ولم يطلق هذا المصطلح على معنى «الإلهيات العرفانية»، التي يُقصد بها التجربة الإلهية المباشرة، إلاّ في الآونة الأخيرة([1]). إن عامّة العرفاء ـ الموحِّدين منهم وغير الموحِّدين ـ يلاحظون تجاربهم العرفانية بوصفها جزءاً من تعهُّدهم الكبير تجاه تغيير البشرية، وليس بلوغ الغاية من مجاهداتهم([2]). وعلى هذا الأساس فإن العرفان بشكلٍ عام عبارةٌ عن التفكير الخالص والشامل لمجموعة من الأفعال والأقوال والنصوص والآراء والسنن والتجارب المختلفة، التي تهدف إلى تغيير الإنسان، الذي يتمّ تعريفه في الأعراف المتنوّعة بطرقٍ مختلفة.
لقد عمد الكثير من الفلاسفة المولعين بالعرفان ـ حتى الآن ـ؛ بتأثيرٍ من كتاب وليم جيمز القيّم تحت عنوان «أنواع التجربة الدينية»، إلى طرح الكثير من الأبحاث الفلسفية التفصيلية والموسّعة في خصوص التعريف بالتجارب العرفانية. تركز هذه المجموعة من الفلاسفة غالباً على موضوعات من قبيل: تبويب التجارب العرفانية، وماهية هذه التجارب في الأديان المتنوّعة والسنن العرفانية المختلفة، وتأثير لغة وثقافة العرفاء في هذا النوع من التجارب، وحجم تمسّك التجارب العرفانية بالأدلّة والشواهد على أحقّية المدَّعيات العرفانية. وقد عمد بعض الفلاسفة إلى بحث التأكيد على التجربة العرفانية؛ من أجل الدفاع عن التركيبة العرفانية المنسجمة([3]).
ونحن نسعى في هذه المقالة بشكلٍ خاص إلى بحث الموضوعات والمسائل التي تهتمّ بها فلسفة العرفان في مسار البحث الفلسفي، في ما يتعلّق بخصوص التجربة العرفانية.
1ـ التجربة العرفانية:
إن أيّ تعريف للتجربة العرفانية ـ بسبب المعاني المتنوّعة التي يمكن أن تُراد منها ـ يجب أن تكون في الحدّ الأدنى مقيّدة ومشروطة إلى حدٍّ ما. ويمكن هنا طرح مفهومين مترابطين عن التجربة العرفانية على طاولة البحث:
الأوّل: يتعلّق بتعريف عام، يبيِّن الاستعمال الأعمّ لهذا المصطلح.
والثاني: يتعلّق بتعريف محدود، ينظر في الغالب إلى السلوكيات الخاصة، ويعتبر العرفان جديراً بالبحث والدراسة من الزاوية الفلسفية.
أـ المفهوم الواسع للتجربة العرفانية:
إن التجربة العرفانية في هذا المفهوم عبارة عن التجربة المعرفية ما فوق الحسية ـ الإدراكية، أو ما دون الحسية ـ الإدراكية، التي هي حصيلة إدراك الواقع أو القضايا المعبّرة عن الواقع الذي لا يمكن عادةً أن يدرك بأدوات الإدراك الحسّي أو الكيفيات الحسيّة ـ الجسدية أو الباطنية العادية.
ويمكن تفصيل خصائص هذا المفهوم من التجربة العرفانية على النحو التالي:
1ـ إنما يتمّ أخذ قيد «المعرفي» في هذا التعريف؛ ليكون مقبولاً حتّى من دون الإقرار بأن العرفاء في الحقيقة يتوصّلون إلى تجربة الحقائق أو القضايا التي تعكس الواقع، بالشكل الذي تقدَّم ذكره.
2ـ إن التجربة ما فوق الحسيّة ـ الإدراكية تشتمل على إدراكٍ من النوع الذي لا يمكن الوصول إليه من خلال الإدراك الحسّي، والكيفيات الحسّية ـ الجسدية (من قبيل: الإحساس بالألم، أو الحرارة في الجسم، والحسّ الداخلي من الجسم والمخّ والأعضاء والمواضع والأحشاء)، والرؤية الباطنية العادية. وقد تحدَّث بعض العرفاء عن حسٍّ معنويّ خاص يتناسب مع الحواس الإدراكية، وينسجم مع المساحة غير الفيزيائية. ويمكن لأغلب التجارب ما فوق الحسيّة ـ الإدراكية أن تكون مقرونة بالإدراك الحسّي أيضاً. فعلى سبيل المثال: يمكن لشخصٍ أن يعيش تجربةً ما فوق حسيّة ـ إدراكية في الوقت الذي ينهمك فيه بالنظر إلى الشمس. إنّ قيد «ما فوق الحسيّة» هو الذي يجعل التجربة عرفانية.
3ـ إن التجربة ما دون الحسيّة ـ الإدراكية عبارةٌ ناضجة عن الخلأ التامّ لمحتوى الفينومينولوجيا أو شيء من هذا القبيل، مثل: حالات اليقظة الخالصة، أو المشتملة على مضمون فينومينولوجي، الذي يفتقر ـ رغم عدم تناسبه مع الإدراك الحسّي ـ إلى خصلة صناعة المفهوم الموجودة في الإدراك الحسّي الدقيق.
4ـ إن «إدراك» الواقعيات يعني إدراك الفرد لحضور واقعية أو عدد من الواقعيات.
5ـ إن «القضايا المعبّرة عن الواقع» على سبيل المثال تشتمل على عنصرين: الأوّل: عدم وجود واقعية ثابتة ودائمة؛ والثاني: إن الله هو جوهر وباطن النفس.
يمكن تفسير إدراك «القضايا المعبّرة عن الواقع» على نحوين:
الأوّل: أن يدرك الفرد حضور واقعية أو عدد من الواقعيات، بحيث يكون هناك ظهورٌ فجائي لقضيةٍ أو عدد من القضايا المعبّرة عن الواقع. مثال ذلك: إمكان أن يكون إدراك وجود الله (واقعية)، وعلى أساس ذلك يوفّر إدراك تبعية الفرد العميقة لله (قضية معبّرة عن الواقع).
والثاني: هو أن إدراك القضايا المعبّرة عن الواقع يتضمّن إشراقاً مباشراً ومن دون وسيط لإدراك الواقعية. ومثالُ هذا الوعي هو عدم ثبات جميع الواقعيات التي تحصل إثر تجربة المحو المضموني لجميع الظواهر.
إن التجربة العرفانية ـ كما ادّعى وليم جيمز ـ تجربة «معرفية» (Noetic)، تشمل العلم بذلك الشيء الذي حصل عليه الفرد. وأما حجم ما ينشأ من هذا العلم عن ذات التجربة فهو ما سنخضعه للبحث لاحقاً.
إن التجارب ما فوق الحسيّة ـ من قبيل: المشهودات، أو المسموعات الدينية ـ غير قادرة على تحصيل التجربة العرفانية. إن التعريف المتقدّم يشمل التجارب الاستثنائية، من قبيل: التجارب الخارجية، والتليباثي([4])، والتكهُّن والتبصير أيضاً.
إن جميع هذه التجارب عبارةٌ عن إدراك أعيان أو كيفيات من النوع الذي يمكن أن تناله الحواس أو الرؤية الباطنية العادية، من قبيل: الأفكار البشرية، والحواث الفيزيائية المستقبلية.
لا مناص من اشتمال تعريف التجربة العرفانية هنا على شيء من الإبهام والغموض؛ لأنه يشتمل على مجموعة من الأشياء التي تقع عرضةً لتجربة غير عرفانية.
إن الآثار العرفانية الموجودة لا تؤيِّد ما ذهب إليه وليم جيمز، من القول بأن التجربة العرفانية مجرّد حادثة عابرة، تبقى مدّة قصيرة، وسرعان ما تضمحلّ وتزول. إن هذه التجربة يجب أن تمثل الوعي الثابت للشخص، بحيث تستمرّ ليوم واحد أو لجزءٍ من اليوم. وعليه من الأفضل الحديث عن وعيٍ عرفاني ثابت، أو قابل للتحقُّق.
لقد تحقّقت التجربة العرفانية بمفهومها العام في الأعراف الدينية للإسلام، واليهودية، والمسيحية، والبوذية، وحتّى الأديان البدائية أيضاً. وقد تمّ الادّعاء في بعض هذه الأعراف أن هذا النوع من التجارب قد تعلّق بالواقعية ما فوق الحسية، مثل: الله، أو البراهما([5])، أو النرفانا([6])([7]). وعلى الرغم من ذلك هناك الكثير من الأعراف البوذية التي لا تدّعي التجربة الواقعية ما فوق الحسية. وبدلاً من ذلك يذهب البعض منها إلى القول بتجربة «الإدراك المفتقر إلى البنية»، والذي يشمل إدراك العالم على المستوى غير المفهومي المطلق أو النسبي([8]). إن التجربة المفتقرة إلى البنية هي ثمرة وحصيلة الإشراق على الماهية غير الثابتة لجميع الأشياء. يتحدّث البوذيون عن تجربة الـ «تات هاتا»، أو «صيرورة» الحقيقة، والتي لا يمكن بلوغها إلاّ من خلال غياب المعرفة الحسية ـ الإدراكية العادية. إن تجارب هذه المجموعة من البوذيين هي دون الحسّية ـ الإدراكية، وإن الاطّلاع عليها يستوجب التعرّف على الماهية الحقيقية للواقعية. وعلى الرغم من ذلك فإن بعض التجارب البوذية، مثل: تجارب (ذين ميند)، تعتبر ـ طبقاً للتعريف السابق ـ من قبيل: التجارب العرفانية؛ إذ لا ربط لها بإدراك الواقعية أو القضايا المعبّرة عن الواقع([9]).
ب ـ المفهوم المحدود للتجربة العرفانية:
إن التجربة العرفانية في مفهومها المحدود ـ الذي يحظى باهتمام الفلاسفة ـ ترتبط بغصنٍ متفرّع من التجربة العرفانية في مفهومها الواسع. إن هذه التجربة ترتبط بشكلٍ خاصّ بالتجربة التوحيدية ما فوق الحسية ـ الإدراكية، أو ما دون الحسية ـ الإدراكية، التي هي نتيجة لإدراك الواقعيات أو القضايا المعبّرة عن الواقع، الذي لا يتمّ الحصول عليه من طرق مثل: الإدراك الحسي، والكيفيات الحسّية ـ الجسدية، أو الرؤية الباطنية العادية.
إن التجربة التوحيدية تشتمل على تردّد واضطراب فينومينولوجي، أو ذوبان للتكثُّرات؛ إذ يفترض فيها أن المفاد المعرفي للتجربة المذكورة يبقى صريحاً في تلك الصفة الفينومينولوجية. إن الأمثلة والنماذج على مثل هذه التجربة عبارةٌ عن تجربة اعتبار وحدة الطبيعة بأكملها، والاتّحاد مع الله في العرفان المسيحي، والاتّحاد بين الأتمن([10]) والبراهما([11]) في التجربة الهندوسية، التي تتحقّق فيها النفس وذات الفرد بالرغم من أبديتها المطلقة، وفناء جميع التكثُّرات، والتجربة البوذية الفاقدة للبنية، والتجارب التوحيدية([12]). وعليه فإن التجارب الثنوية ـ بطبيعة الحال ـ، والتي يبقى فيها الشخص والإله متمايزين من بعضهما بشكلٍ كامل؛ وتجربة القبّالة([13]) عند اليهود، منذ سفيروت السماوي المنفرد؛ والتجارب الشخصية للأرواح، بناءً على التجربة العرفانية المحدودة، لن تكون من التجارب العرفانية؛ لعدم كونها من التجارب التوحيدية.
من هنا سوف تستعمل «التجربة العرفانية» في هذا المفهوم الخاص، إلاّ إذا تمّ التصريح بالخلاف. وعلى هذا الأساس فإن مصطلح «العرفان» يُطلق على الأفعال والأقوال والنصوص والآراء والأعراف المرتبطة بالتجارب التوحيدية.
ولا بُدَّ من الحذر وعدم الخلط بين التجربة العرفانية والتجربة الدينية. فالمراد من التجربة الدينية هي التجربة المشتملة على مضمونٍ أو محتوى متناسب مع الخلفية الدينية، أو مصطبغة بالصبغة الدينية. إن هذه التجربة رغم اشتمالها على الكثير من التجارب العرفانية، إلاّ أنها تشمل المشهورات والمسموعات الدينية والتجارب غير العرفانية لـ (ذين ميند)، ومختلف المشاعر والأحاسيس الدينية، مثل: الهيبة والعلوّ الديني أيضاً. كما تشمل هذه التجربة التجربة الدينية الجوهرية (وهو المصطلح الذي يُطلقه شلايرماخر عليها)، بمعنى الشعور بـ «الارتباط المطلق» أيضاً([14]).
يمكن لنا تسمية التجربة الإلهية أو القدسية (الخارقة للطبيعة)([15]) تجربة غير توحيدية؛ حيث تنشأ عن إدراك الواقعيات أو القضايا المعبّرة عن الواقع، والتي لا تحصل في الغالب من طرق، من قبيل: الإدراك الحسي، والكيفيات الحسّية ـ الجسدية، أو الرؤية الباطنية العادية. ويمكن عدّ الشعور الدافئ بحضور الله تجربة قدسيّة.
إن التجارب القدسية تقع في مقابل تلك الطائفة من التجارب الدينية التي تشمل المشاعر والأحاسيس ـ على سبيل المثال ـ، بَيْدَ أنها لا تشمل إدراك الواقعيات غير الحسّية أو القضايا المعبّرة عن الواقع.
يعمد رودولف أوتو إلى استعمال مصطلح «التجربة القدسية» للتعبير عن التجارب المتعلقة بواقعيات من قبيل: الأمر «المغاير تماماً» للشخص المتلقّي، وتعدّ الأرضية المهيبة والجذّابة بالتزامن مع حضور سرٍّ لا يمكن إدراكه وسبر أغواره([16]). طبقاً لهذا المفهوم لا يمكن لتجربة أوتو «العرفانية» أن تكون شيئاً آخر غير نوعٍ من التجربة المقدّسة.
2ـ مقولات التجارب العرفانية:
يمكن تقسيم التجارب العرفانية الدينية بطرق مختلفة. هذا، ولا بُدَّ من القول بأن هناك تفاوتاً واختلافاً جذرياً بين التجارب العرفانية ما فوق الحسيّة ـ الإدراكية والتجارب العرفانية ما دون الحسيّة ـ الإدراكية. وفي ما يلي نشير إلى بعض التقسيمات:
أـ الآفاقي والأنفسي:
كلّما كانت التجربة مشتملة على مضمون حسّي ـ إدراكي، أو حسي ـ جسدي، أو رؤية باطنية، أمكن تسميتها تجربة آفاقية. وعليه فإن التجارب الآفاقية العرفانية موجودة على أشكال متنوّعة. فعلى سبيل المثال: إن يقظة الشخص العرفانية لاتّحاد الطبيعة، الذي يفرض نفسه على إدراك الشخص الحسّي للعالم، وكذلك التجارب الآفاقية القدسية غير التوحيدية، من قبيل: تجربة حضور الله أثناء إمعان النظر في حبيبات الثلج، تعتبر من وجهة نظرنا تجارب أنفسية غير آفاقية. كما يمكن لتجربة «الخلأ» أو «الفراغ» في بعض التعاليم العرفانية، وتجربة الله الحاصلة من التحرُّر من قيود التجربة الحسيّة، أن تمثِّل نماذج من التجارب الأنفسية.
ب ـ الإلهي وغير الإلهي:
يمكن القول بوجود تمايز ذوقي بين التجارب الإيمانية المرتبطة بتجربة إدراك الله وبين التجارب غير الإيمانية. فالتجارب من القسم الثاني يمكن أن تشمل طيفاً من إدراك الواقعية الغائية إلى عدم إدراك أيّ واقعية. وأما التجارب الإيمانية القدسية فهي تجارب ثنوية يمتاز فيها الله من الشخص الآخر تمايزاً واضحاً، في حين أن العرفان الإيماني يتعلّق بالاتّحاد أو العينية مع الله.
1ـ الاتّحاد مع الله:
إن الاتحاد مع الله لا يشتمل على تجربةٍ واحدة يتيمة فقط، بل يشتمل على طيف واسع من التجارب. إن «الاتحاد» يتضمن نفي التمايز بين الشخص والخالق، ويمثِّل نوعاً من العينية بينهما.
وقد تحدّث العرفاء المسلمون حول هذا الاتحاد بأشكال مختلفة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك قولُ الحلاّج: «أنا الحق»، أو تعابير من قبيل: «ليس في جبّتي إلاّ الله»، أو «أنا مَنْ أهوى، ومَنْ أهوى أنا».
وقد بيّن العرفاء من المسيحيين الاتحاد مع الألوهية بأشكال مختلفة أيضاً. ومن هؤلاء العرفاء: (برنارد كلروو(1090 ـ 1153م)، حيث تحدّث عن هذا الاتحاد تحت عنوان «تناظر الحبّ».
وقد شبّه هنري سوسو(1295 ـ 1366م) الاتحاد مع الله بقطرة الماء التي تسقط في كأس يحتوي على شراب؛ إذ إن هذه القطرة ستكتسب طعم ولون ذلك الشراب([17]).
وهكذا يان فان رويسبروك(1293 ـ 1381م)، الذي يشبّه هذا الاتحاد بـ «الحديد المنصهر في النار، والنار في الحديد»([18]).
لقد اجتاز العرفان المسيحي في العصور الوسطى ـ في الحدّ الأدنى ـ بشكلٍ عام ثلاث مراحل وصفت في إطار اليقظة التوحيدية. وهذه المراحل الثلاث عبارةٌ عن: مرحلة الصمت التي تعدّ في حدّ ذاتها مقدّمة للاتّحاد مع الله؛ ومرحلة الاتحاد الكامل؛ ومرحلة الانفصال عن الذات. وهذه المرحلة الأخيرة تتضمّن الشعور بالاستلاب من وراء نفس الشخص([19]).
2ـ العينية مع الله:
يتحدّث العرفاء المؤمنون بالله أحياناً وكأنّهم يتمتّعون بنوعٍ من اليقظة تجاه الاستغراق أو العينية مع الله. ومن الأمثلة على ذلك: الكلمة الشهيرة لحسين بن منصور الحلاّج(858 ـ 922م)، وهي قولُه عند صلبه: «أنا الحقّ»([20])؛ والصوفي اليهودي إسحاق آكر(؟ ـ 1291م)، حيث تحدّث عن الاستغراق في الله من خلال عبارته القائلة: «غليان الماء في عينٍ حمئة»([21])؛ والعارف المسيحي مايستر إكْهَرت(1326 ـ 1327م)، حيث تحدّث عن نوعٍ من ادّعاء العينية([22]).
والسؤال المطروح هنا: متى ظهرت هذه الادّعاءات العرفانية بوصفها ادعاءات عينية متناغمة مع مقاصد القول بـ (ألوهية الجميع)، أو المعرفة الكونية؟ ومتى ظهرت هذه المتغيّرات المتطرّفة على الأوصاف المرتبطة بالتجارب التوحيدية؟
ج ـ العرفان السلوكي والعرفان الجذبي:
في العرفان السلوكي يعتبر العرفاء الجَذْبة الإلهية نتيجة للسلوك والمجاهدة، في حين يذهب العرفان الجذبي إلى القول بأن السلوك ليس هو الذي يؤدّي إلى الجذبة الإلهية، بل إن الجذبة الإلهية هي التي تدفع العرفاء المنتشين بالشراب الإلهي، وتدعوهم إلى السلوك والمجاهدة. وإن استعمال مصطلحي (السالك المجذوب) و(المجذوب السالك) في مقابل بعضهما يشير في الحقيقة إلى هذا التقسيم.
تعتبر القبّالة اليهودية من أشهر صور العرفان السلوكي، التي يهدف العارف فيها إلى إدخال صيغة ربّ الأنواع في الحياة الباطنية لأتباعها([23]). وعلى أيّ حال ـ سواء أكانت القبّالة في حالتها السلوكية، وحتّى في تعريف العرفان الواسع، عرفاناً أم لا ـ هناك موضع للشكّ في كونها من العرفان، وإنْ أمكن اعتبارها من العرفان بلحاظ مفهوم الاتحاد مع ربّ الأنواع أو المطلق واللامتناهي([24]).
د ـ العرفان الصامت والعرفان الناطق:
إن العرفان الصامت المشتقّ من اللفظ اليوناني (Apophasis) يعني السلب والسكوت، في مقابل العرفان الناطق المشتق من اللفظ اليوناني (Cataphasis)، بمعنى الإيجاب والتكلُّم.
يذهب العرفان من النوع الأول إلى القول باستحالة الحديث عن الموضوعات أو القضايا المعبّرة عن الواقع المرتبط بالتجربة العرفانية، فهذه الأمور بأجمعها من الأمور التي لا يمكن أن توصف. وفي المقابل يذهب العرفان من النوع الثاني إلى الخوض في بيان مدّعيات خاصة في صلب التجارب العرفانية.
ويمكن مشاهدة نموذج للعرفان من النوع الأول في النصّ القديم لتاو باسم (تاووته)، الذي هو من تأليف (لاووتسه)، والذي يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، حيث يبدأ بهذه الكلمات: «حتّى أسمى التعاليم لا تمثل التاو، وحتّى أرقى الأسماء لا يكفي للتعريف به. يمكن وصف التاو بلا كلمات، ويمكن أن يُعرف دون تسميته»([25]).
في التقابل الحاصل بين هذين النوعين من الإدراك الصامت والإدراك الناطق يقول توماس كيتينج: إن العرفان المسيحي يصرّ بشدّةٍ على القول باستحالة التعرّف على وجود الله. وفي المقابل فإن التمايز بين هذين النوعين من العرفان يعود بشكلٍ واضح إلى الاختلاف القائم في منظومة إعداد «الطريقة العرفانية»؛ إذ يعمد أحدهما إلى توظيف الأدوات الإيجابية، في حين يقتصر الآخر على مجرَّد توظيف الأدوات السلبية للوصول إلى الطريقة العرفانية.
في ما يتعلّق بالإعداد من النوع الناطق يؤخذ التوضيح الكلامي وإقامة الدليل والتصوير والذاكرة والمشاهدة بنظر الاعتبار لإدراك موقع اليقظة العرفاني. أما الإعداد من النوع الصامت فيتضمّن عمل «التخلية» من أيّ مضمون توعوي لغاية «ترتيب البيت» لاستقبال مجيء الله، الذي يعتبر وراء ماهياتنا الاستدلالية والحسيّة([26]).
3ـ أوصاف التجربة العرفانية:
أـ استحالة التفسير :
ذهب وليم جيمز إلى اعتبار عدم إمكانية تفسير أو توصيف التجربة العرفانية صفة ذاتية في هذا النوع من التجارب([27]). وبطبيعة الحال ليس من الواضح ما إذا كان الذي يستحيل بيانه وتفسيره هو ذات التجربة، أو الموضوع مورد التجربة، أم كلاهما. وقد سبق لأوغسطين أن ذكر المسألة المنطقية لعدم الإمكانية، من خلال عبارته التي قال فيها: «يجب عدم اعتبار الله مستحيل التوصيف؛ لأنك عندما تقول هذا الشيء تكون قد وصفته، وبذلك يكون كلامك متناقضاً؛ لأنك إذا قلت: إن الله يستحيل وصفه، تكون قد جعلته بهذ الكلام قابلاً للوصف»([28]). لو قلنا إن (X) غير قابل للتفسير نكون في الحقيقة قد كشفنا عن جانبٍ من حقيقة (X)، وهذا يتناقض مع استحالة بيانه والكشف عنه. وقد أعيدت صياغة هذه المسألة مؤخَّراً من قبل آلفين بلانتينغا([29])، وكيث يندل([30]).
وهناك عدّة إجابات لحلّ هذه المسألة، نجملها في ما يلي:
الجواب الأوّل: الامتناع الكامل عن الكلام والتزام الصمت في خصوص ما يحدث في التجربة العرفانية.
إلاّ أن العرفاء لا يوافقون هذا الحلّ.
الجواب الثاني: أن نميّز بين الأوصاف من الدرجة الأولى والأوصاف من الدرجة الثانية، وذلك باعتبار عدم قابلية البيان والتفسير مصطلحاً من الدرجة الثانية، وجعله منحصراً بالمصطلحات من الدرجة الأولى.
الجواب الثالث: أن نقول مثلاً: «إن (X) غير قابل للشرح والتفسير» هي في الحقيقة قضية في خصوص مصطلح (X)، القائم على استحالة بيانه وتفسيره بأيّ نوع من أنواع الجوهر.
الجواب الرابع: عبارة عن سلب متكرّر ومتسلسل لما قيل بشأن (X)، وإن النفي المؤبّد لما أطلق عليه (مايكل سلز) اسم «الصمت» اللامتناهي، أو سحب الكلام الذي قيل([31]).
يمكن لنا العثور على جذور هذا الصمت في النفي اللامتناهي الموجود في بعض حالات اليقظة في الفناء لدى (ذين ميند) في الديانة البوذية، حيث إن بيان الحقيقة عن الواقع ـ كما هو ـ خارجٌ عن نطاق صياغتنا المفهومية بهذا الشأن، لذلك فإننا لا نستطيع بيان تلك الحقيقة، وإنما نستطيع تجربتها فقط. وعلى هذا فإننا عندما نقول: «إن الواقعية ليست واقعية» نعني بذلك أن الواقعية كما هي تختلف عن ذلك الشيء الذي نعمل على صياغة مفهومه، فعلينا أن نقول أيضاً: «إن الواقعية ليست غير واقعية»، وعلى هذا الأساس يجب علينا بعد قولنا شيئاً حول الواقعية أن نقوم مباشرة بنفي ذلك القول، وذلك بأن نقول: «إن الواقعية ليست غير واقعية، ولا ليست غير واقعية». وعلى هذا المنوال دواليك([32]).
أما النموذج الثاني لهذا النوع من الرؤية فهو اتجاه (ديونيسيوس) في لاهوته السلبي، الذي تحدّث فيه عن الله بوصفه «السرّ المطلق الأكثر غموضاً واستعصاءً على الفهم»، والذي نتحدّث بشأنه عن أشياء لا توجد فيه. إن مثل هذا السلب المتواصل يجعل التجربة العرفانية فوق مستوى البيان والتفسير.
الجواب الخامس لحلّ مفارقة «استحالة التفسير» يطرحه (وليم ألستون)، حيث قال: إن العرفاء الذين يعترفون بعدم إمكان التعرّف على ذات الحق لديهم الكثير مما يقولونه بشأن الله، وبشأن تجاربهم الخاصة([33]). وعلى هذا الأساس عندما يتحدّث العرفاء عن «استحالة البيان والتفسير» يسعَوْن إلى التذكير بصعوبة توصيف التجربة في إطار المصطلحات السائدة والمتداولة، دون الاستعارة والتمثيل والرمز. يذهب أليستون إلى الاعتقاد بأن هذا الأمر لا يمثِّل الخصوصية الاستثنائية للعرفان، بل يمثّل خصوصيةً لعموم العلوم والفلسفة والدين أيضاً. ومع هذا فإن رؤية ألستون قد لا تنسجم مع الاتجاهات الصريحة في القول بـ «استحالة البيان والتفسير».
أما طريقة الحلّ السادسة لمسألة مفارقة استحالة البيان والتفسير فهي التي تقدّم بها كلٌّ من: ريتشارد غيل(1960م) ونينيان سمارت(1958 ـ 1969م). يقول هؤلاء إن التعبير بـ «استحالة البيان والتفسير» يرمي في الغالب إلى بيان عنوان ينطوي على توقير وتقديس يهدف إلى التعبير عن قيمة تجربة العارف وتعزيزها. وهكذا عمد (واين براودفوت) إلى القول بأن العرفاء؛ حيث لا يعرفون شيئاً عن تجربتهم، فإنهم بطبيعة الحال لا يستطيعون تفسير تجربتهم بأيّ لغة من اللغات؛ لأنهم لا يعرفون جميع اللغات الممكنة. وقد استنتج أن القول باستحالة التفسير والبيان إنما يهدف إلى إثبات عدم وجود أيّ منظومة لغوية تنسجم مع التجربة العرفانية، إلاّ أن هذه التجربة ليست ادّعاء لا يقبل الوصف والتفسير. إن عبارة «استحالة البيان والتفسير» تبيّن وتعرّف مفهوم السرّ([34]).
لقد أثار هذا الرأي أسئلةً بشأن إمكان وجود تجربة عرفانية بهذا الاختلاف الفاحش بالنسبة إلى سائر أنواع التجارب البشرية الأخرى التي تقبل التوصيف. ويمكن القول في مواجهة براودفوت: إن عجز العرفاء عن فهم الموضوع العرفاني، وعدم تمكنهم من فهمها بأيّ لغةٍ ممكنة، لا يعني أنهم كانوا في ذروة ابتهاجهم العرفاني يطرحون ادّعاءات تفوق معرفتهم. وعلى أيّ حال يجب على العرفاء أن يؤمنوا بشكلٍ معقول؛ حيث إن اللغات التي يعرفونها لا تستطيع توصيف وبيان الشيء الذي جرَّبوه، فهذا يعني في الحقيقة أنه لا توجد لغةٌ بشرية قادرة على وصف هذه التجربة.
هناك من الفلاسفة مَنْ يرى أن التأكيد على عدم إمكان بيان التجربة العرفانية يعبّر عن سعي يهدف إلى إثبات «اللامعقولية»، وبالتالي فصل العرفان عن دائرة العلوم والمعارف البشرية الأكثر حسيّة. لقد أبدى (غريس يانتسن) انتقادات واسعة النطاق تجاه التأكيد على عدم إمكان بيان التجربة العرفانية، بوصفه سعياً يرمي إلى إخراج التجربة العرفانية من دائرة التعابير المعقولة، وبدلاً من ذلك إدخالها في دائرة الهيجان والمشاعر والأحاسيس الجيّاشة([35]). وقام آخرون بالدفاع عن «معقولية» العرفان في مواجهات هجمات نزعة اللامعقولية([36]).
وعلى أيّ حال فإن مسألة عدم إمكان بيان التجربة العرفانية تواجه أسئلةً تتعلّق بالقيمة المعرفية للتجارب العرفانية، وهذا ما سوف نتناوله بالبحث في القسم الخامس.
ب ـ المفارقة:
يؤكّد الباحثون في الشأن العرفاني أحياناً على طبيعة «المفارقة» القائمة في التجارب العرفانية، إلاّ أنه لا يتّضح دائماً ما إذا كانت المفارقة تكمن في هذه التجربة، أم في موضوعها، أم فيهما معاً.
ويمكن لنا التمييز بين أربعة مفاهيم في ما يتعلق بـ «المفارقة»، على النحو التالي:
1ـ إن مفردة «المفارقة» ـ طبقاً لـ «الأتيمولوجيا»([37]) ـ عبارةٌ عن الشيء غير المتوقّع، أو الذي يصعب أو يتعذّر توقّعه.
2ـ يمكن في استعمال الشكل غير المناسب منطقياً للألفاظ؛ بغية بيان مفهومٍ لا نريد له أن يكون فاقداً للمعنى، أن يُشكِّل ذلك «مفارقة» مقصودة. يمكن لهذا الأمر أن يحدث عند التلاعب بالألفاظ، أو بسبب صعوبة بيان معلومةٍ دون اللجوء إلى الحيل اللغوية.
3ـ يمكن لـ «المفارقة» ـ كما تمّ التصريح به في الفلسفة ـ أن تشمل التناقض المنطقي غير المتوقّع، من قبيل: ما قيل في «المفارقة الكاذبة».
4ـ يعتبر (فالتير إسْتس) المفارقة بمنزلة خصوصية عالمية للتجارب العرفانية، ومساوية لنوع منطقي من التناقض المقصود([38]).
حيث تكون التجارب العرفانية غير عادية، وتكون كيفية اتحاد النفس عجيبة ومذهلة، فإن تقارير العرفاء ستكون؛ تبعاً لذلك، غير متوقّعة، وغير قابلة للتصديق إلى حدٍّ بعيد. وعليه لن يكون هناك مناصٌ من اشتمال هذه التقارير على مفارقة. كما ستبدو التقارير المتعلقة بالتجارب العرفانية متناقضة، وتحتوي على مفارقة من الناحية المفهومية؛ إذ تستعمل اللغة العرفانية أحياناً أشكالاً غير مناسبة على المستوى المنطقي؛ كي لا يحصل خواء واقعي مقصود. وعلى الرغم من ذلك فإن نتائج المفارقة في هذا المفهوم سوف تكون في التقارير من المجموعة الأولى للتجارب العرفانية أقلّ منها في المنظومات العرفانية من المجموعة الثانية([39]).
ومع ذلك لا نمتلك دليلاً واضحاً يبيِّن لنا لماذا يجب أن تشتمل التجارب العرفانية أو الموضوعات ذات الصلة بها في ما يتعلق بالمفاهيم من الدرجة الثالثة والرابعة على مفارقةٍ. وبشكلٍ عامّ لا يوجد هناك دليلٌ على أن تقرير التجربة العرفانية يجب أن يشتمل على خواء منطقي. وكما شاهدنا في الفقرة السابقة عندما يحدث إشكالٌ في توضيح ما يبدو متناقضاً يتمّ غالباً رفع هذا التناقض من خلال الاستناد إلى «الصمت»، أو الإلغاء والإبطال الذي يسوق الكلام إلى ناحية الصمت.
إن السعي إلى إظهار التجارب العرفانية بوصفها من الأمور التي تنطوي على مفارقة في المفاهيم من المجموعة الثالثة والرابعة من «المتناقضات» يمكن أن ينشأ من وجود الرغبة العارمة في إعادة اللغة ـ التي خرجت عن مسارها الأصلي من الناحية المنطقية ـ إلى مسارها السابق في حدود الإمكان. فعلى سبيل المثال: يتحدث (ذين ميند) في البوذية عن الوصول إلى مرحلة ذهنية تفوق الفكر واللافكر. وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الدعوى تعود في الغالب إلى المراحل الوسيطة، لا إلى التفكير واللاتفكير، وتميل الأمور في الغالب إلى الحديث عن مرحلة من المراحل الذهنية التي يغيب فيها الجهد الذهني، ويقف فيها تبويب الأنشطة الذهنية عن العمل. إن القول بأن الذهن «غير الناشط» لا يكون ساعياً إلى التفكير، ولا إلى عدم التفكير، ولا إلى الخواء المنطقي، يضرّ بالوصف المذكور، ويجعله مشوّشاً. ومن ناحيةٍ أخرى يذهب (فريتس شتال) إلى القول بأن اللغة العرفانية التي تنطوي على المفارقة تدخل بشكلٍ منهجي ومنظَّم في خدمة بيان الدعاوى المتينة منطقياً([40]). في حين أن العرفاء يستعملون اللغة الشائعة لبيان تجاربهم([41]). إن التطابق اللفظي يجعلهم بحاجةٍ إلى نقل اللغة إلى المستوى المتناقض في المفهوم الثالث والرابع.
4ـ الاستمرارية:
لقد سعى بعض الفلاسفة ـ الذي يُعْرَفون أحياناً بذوي النزعة الاستمرارية ـ إلى التعريف بالتجارب العرفانية المشتركة بين كافة الثقافات والأعراف([42]). لقد أثارت الرؤية الاستمرارية لـ (فالتير إستس) الكثير من المسائل والأبحاث([43]). يفترض (فالتير إستس) حدوث نوعين من التجارب العرفانية في جميع الثقافات والمراحل والظروف الاجتماعية:
الأوّل: التجربة الآفاقية الكونية، التي «تنظر إلى تلك الناحية من المفاهيم»؛ كي تصل إلى الواحد أو توحيد الكثرة أو إلى الكثرة الكونية من طريق بلوغ «الواحد» بوصفه حياة أو يقظة داخلية تجاه الكون والعالم. الوحدة التي يتمّ تجربتها بوصفها واقعية عينية مقدّسة مقرونة بالمباركة والتيمُّن. إن تجربة (إستس) الآفاقية الكونية تنطوي على مفارقة، كما أن هذه التجربة يتعذَّر شرحها وتفسيرها([44]).
الثاني: الوحدة الأنفسية الكونية التي «تنظر إلى هذه الناحية من الذهن»؛ كي تصل إلى «اليقظة البحتة»، أي التجربة التي تعتبر من الناحية الظواهرية تجربة اللاشيء([45]). وقد أطلق (إستس) على هذه التجربة مصطلح «يقظة التوحيد»؛ بينما أطلق آخرون عليها مصطلح «الواقع التوعوية الخالصة» أو (Pure Concious Event PCE)([46]). إن هذه التجربة تشتمل على «تفريغ» الفرد من أيّ مضمون تجريبي، ومن جميع أنواع الكيفيات الظواهرية الشاملة للمفاهيم والأفكار والإدراكات الحسّية والتخيُّلات التي تنشد اللذّة الحسّية. وهنا يحصل الفرد على يقظةٍ واعية خالصة. يذهب (إستس) إلى اعتبار هذا النوع من التجربة ـ على غرار التجربة الآفاقية ـ متضمّناً لشعور المباركة والتيمّن تجاه عينية مقدّسة، تنطوي على مفارقةٍ، كما يحتمل استحالة القدرة على بيانها وشرحها وتفسيرها. يصف (إستس) هذه التجربة كساحلٍ للوعي العرفاني يقع في منزل في منتصف اليقظة الآفاقية الكونية.
يتنزّل (إستس) بالتجارب العرفاني التي تؤمن بالله من طريق التمييز بين التجربة والتفسير إلى مستوى التجربة الأنفسية الكونية. وقد ذهب إلى الاعتقاد بأن التجربة الأنفسية في جميع الثقافات متشابهة، والذي يختلف هو تفسيرها فقط. وقد وصف (نينيان سمارت) كونية التجربة التوحيدية قائلاً: إن وصف التجارب العرفانية يُعبِّر عن غطاء تفسيري يُشكِّل أساساً مشتركاً بين تجارب المؤمن وغير المؤمن([47]).
لقد تعرّض (إستس) للنقد الشديد؛ بسبب تبسيط أو تحريف التقارير العرفانية. فعلى سبيل المثال: ها هو (نيلسون بايك) ينتقد رؤية (إستس ـ سمارت)؛ لأن الاتحاد مع الله في العرفان المسيحي ينقسم إلى قطبين قابلين للتشخيص، لا أساس لهما في الإلهيات المسيحية. وعليه فإن هذين القطبين يبيِّنان التجربة بشكلٍ مبرَّر، إلاّ أنهما لا يعملان على تقوية التفسير([48]).
هذا وقد ذهب تزيهنر ـ خلافاً لإستس ـ إلى التمييز بين ثلاثة أنواع من اليقظة العرفانية:
1ـ التجربة الآفاقية (Panenhenic)، حيث تشمل التجربة التوحيدية للطبيعة نفس الفرد.
2ـ التجربة التوحيدية للوحدة الثابتة، التي تفوق الزمان والمكان.
3ـ تجربة المؤمن بالله، التي تشتمل على نوعين من الثنائية بين المجرِّب (بالكسر) والمجرَّب (بالفتح)([49]). يذهب تزيهنر إلى القول بأن تجربة المؤمن مرتبة أعلى من تجربة الموحّد؛ إذ يرى أن تجربة الموحّد تعبّر عن علاقة العارف المحورية بالاستغراق في الحقيقة الغائية.
يصف (وليم فين رايت) أربعة شواخص للتجربة العرفانية الآفاقية، وهي:
1ـ مفهوم توحيد الطبيعة.
2ـ مفهوم الطبيعة بمثابة الحضور الحيّ.
3ـ مفهوم أنّ كلّ ما يفترض في الطبيعة يندرج ضمن دائرة الحضور الطبيعي.
4ـ التجربة البوذية غير البنيوية.
يذهب (فين رايت) ـ مثل تزيهنر ـ إلى القول بالتمييز بين تجربتين عرفانيتين أنفسيتين: الأولى: تجربة اليقظة الخالصة للخلأ؛ والأخرى: التجربة الإيمانية المقرونة بإدراك «العشق المتبادل» بين العارف ومتعلّق العشق([50]).
5ـ معرفة التجربة العرفانية:
لقد طرح (وليم جيمز) في كتابه الشهير «أنواع التجربة الدينية»([51]) سؤالاً مفاده: «هل يمكن للأحوال العرفانية أن تثبت أحقّية تلك المجموعة من العواطف والأحاسيس الإلهية التي تعود إليها جذور الحياة الدينية؟ يمكن تقسيم هذا السؤال إلى قسمين:
الأوّل: هل يجوز للفرد أن يفكِّر في كون تجاربه مطابقة للواقع أو للقيمة المدعومة بالدليل؟
الثاني: هل يجوز لنا ـ نحن الذين لا نمتلك تجارب عرفانية ـ أن نحكم من طريق اختبار الأدلّة باعتبار مثل هذه التجارب مطابقة للواقع، أو مشتملة على قيمة ثابتة بالدليل؟
ورغم الصلة الوثيقة بين هذين السؤالين يمكن بحثهما والإجابة عنهما بشكلٍ مستقلّ.
يمكن لنا تسمية الإجابة الفلسفية الرئيسة على نحو الإيجاب عن السؤال الأول بـ «اتجاه السلوك الثنائي»، وتسمية الدفاع الرئيس عن الجواب الإيجابي عن السؤال الثاني بـ «برهان الإدراك الحسّي».
أـ اتّجاه السلوك الثنائي:
دافع (وليم ألستون) عن المعتقدات التي يتبنّاها الفرد استناداً إلى التجربة العرفانية والقدسية، ولا سيَّما تلك التي تتبلور عنده على أساس الإيمان بالله([52]). وقد ذهب إلى تعريف «السلوك الثنائي» بوصفه أمراً شاملاً للأساليب التي تعمل من الناحية الاجتماعية على قولبة العقائد (الداخلية)، ومن الناحية المعرفية على تقييمها من حيث المحتوى (الداخلي) على أنحاء معرفية وحسّية متنوّعة([53]). إن السلوك الذي يقولب العقائد الفيزيقية ـ العينية التي تنشأ عن الإدراك الحسّي يشكِّل نموذجاً من «السلوك الثنائي»، أما السلوك الذي يصوِّر النتائج الحاصلة من خلال أسلوب معيَّن من القضايا فهو نموذجٌ آخر.
وهنا يستدلّ (ألستون) قائلاً: إن تبرير أيّ سلوكٍ ثنائي من الناحية المعرفية يستلزم الدَّوْر؛ لأن وثاقته من أيّ طريق غير ذي صلةٍ كانت لا يكتب لها البقاء والاستمرار. وعلى الرغم من أن هذا الأمر يشمل «سلوك الإدراك الحسّي» أيضاً، إلاّ أننا لا نستطيع أن نجتنب السلوكيات الثنائية.
وعلى هذا الأساس فإن (ألستون) يجادل قائلاً: إن الخوض في السلوكيات الثنائية إنما يأتي في سياق إثبات وجود دليل مناسب للتفكير في هذا الشأن، وإن مثل هذه السلوكيات «غير الموثوقة» تبدو معقولة. وحالياً هناك سلوكيات ثنائية تتضمّن بلورة العقائد بشأن الله وأهدافه بالنسبة لنا، والأرضية التي تعدّ التجارب العرفانية، من قبيل: «قد تجلّى الله لي في الوقت الراهن».
نستنتج من برهان (ألستون) أنه من المعقول لكلّ شخصٍ في مثل هذا السلوك أن يعتبر نتائج عقائده حقيقية، إلاّ إذا كان هذا السلوك يبدو غير موثوق. وعليه فإننا نجيب عن السؤال الأول بالإيجاب.
ب ـ برهان الإدراك الحسّي:
قام مختلف الفلاسفة بالدفاع عن القيمة المستدلّة لبعض التجارب الدينية والعرفانية، ولا سيَّما تلك التجارب المرتبطة بالتجربة الإلهية([54]). لقد عمد هؤلاء الفلاسفة إلى التأكيد على طبيعة «المدرك بالحسّ» بالنسبة إلى التجارب المرتبطة بالله، والتي أطلق عليها اسم «برهان الإدراك الحسّي».
ويمكن تبويب هذا الاتجاه ضمن الفقرات التالية:
1ـ إن التجارب الإلهية تشتمل على بنية ذهنية ـ عينية مقرونة بمضمون معرفي يحتوي على ادّعاء عينية التجربة. كما أن للأذهان نزعة إلى الاشتمال على المدّعيات الحقيقية القائمة على مثل هذه التجارب. وبالإضافة إلى ذلك هناك مستويات عرفانية للوصول إلى رؤية لصالح التجربة العرفانية الإلهية([55])، ويمكن للآخرين السعي للوصول إلى صحّة ادّعاءات الأفراد من الطرق العرفانية المناسبة([56]). في جميع هذه الأساليب تكون جميع التجارب الإلهية في حدّ ذاتها مدركة بالحسّ.
2ـ إن التجارب شبه الحسّية تحتوي على بعض الشواهد لصالح اعتبارها. إن ما يبدو من أن شخصاً قد عاش تجربة شيءٍ دليلٌ على هذا التصوّر القائل: إنه قد عاش تجربة الاحتكاك بذلك الشيء حقيقةً. وعليه فإن التجربة الإلهية تحتوي على شواهد لصالح اعتبارها.
3ـ إن توافق المدركات الحسّية للناس في مختلف الأمكنة والأزمنة والسنن تعتبر سنداً لصالح تعزيزها([57]). وعلى هذا الأساس فإن التوافق بشأن التجارب الإلهية في الحالات المختلفة والمتنوّعة يشكِّل سنداً لصالح تعزيزها وتقويتها.
4ـ يمكن للمزيد من تعزيز ودعم اعتبار التجربة الدينية أو العرفانية أن يكون ناشئاً عن تأثيرات مناسبة، من قبيل: التقديس الذي يشعر به الشخص في حياته إثر تجربته([58]).
5ـ إن الفقرة الأولى والرابعة توفِّر شواهد أصلية لصالح اعتبار بعض التجارب المرتبطة بالله.
إن السؤال عن مطابقة التجارب المتعلِّقة بالله في الحسابات النهائية أو عدم مطابقتها رهنٌ باستحكام المورد الأصلي المستدلّ للشواهد المفيدة الأخرى، وقوّة الملاحظات التي تقع مورداً للمعادلة الحسابية في مقابل الاعتبار. يختلف المدافعون عن برهان الإدراك الحسّي في ما يتعلّق باستحكام المورد الأصلي المستدلّ، ودافعوا عن القدرة الثابتة لبرهان الإدراك الحسي في مقابل الشواهد المتضادّة بدرجات مختلفة. وعلى الرغم من ذلك فقد اتّفقوا بأجمعهم على الوصول إلى جواب إيجابيّ عن السؤال الثاني.
ج ـ النقد المعرفي: إمكان مقاربة التجربة الحسّية:
هناك أيضاً عددٌ من الفلاسفة الذين استدلوا على الضدّ من العمل الثنائي، أو برهان الإدراك الحسّي، أو كلاهما([59]). وهنا سيتمّ التركيز على بعض الموضوعات، ولا سيَّما المرتبطة بالتجربة القدسية والعرفانية بالنسبة إلى المعطيات المعرفية العامة.
لقد احتدم الجدال بين الفلاسفة من خلال برهان الإدراك الحسّي على أساس خلفية استحالة المقارنة المدّعاة بين التجارب الإلهية والإدراك الحسّي. ولا بُدَّ من دراسة مسألتين، وهما:
أـ هل هناك وجودٌ للمقارنات المستحيلة؟
ب ـ وإذا كان هناك وجودٌ لها فهل هي موجودةٌ من الناحية المعرفية المفهومية؟
1ـ فقدان إمكانية التقييم:
إن القدرة على المقارنة ـ طبقاً للمدّعى ـ ترفع فقدان الطبقات المناسبة للتقييم المتبادل للتجربة الإلهية. يمكن لنا من خلال الإدراك الحسّي، من خلال توظيف الأساليب والمناهج الاستنتاجية، أن نعمل على تعيين الشرائط السابقة باللحاظ العلّي المناسب، وأن نعمل من خلال ربط واقعة بسائر معلولات تلك العلّة المفهومة إلى صياغة العديد من الجهات، وأن نعمل من خلال ربط علّة بمعلولاتها على اكتشاف الآليات العلية.
إن هذه الأمور لا يمكن بلوغها لتقييم التجربة الإلهية.
يذهب (إيفان فيلز) إلى الاستدلال بأن «إمكانية التقييم المتبادل» جزءٌ لا ينفكّ عن كلّ نوعٍ من أنواع السلوك المعرفي الحسّي الناجح. وعليه فإن السلوك المعرفي الحسّي الذي تتبلور فيه التجارب العرفانية عن الله تعاني نقصاً وضعفاً شديداً([60]).
هذا، وإن (ريتشارد غيل) يذهب إلى الاستدلال بأن الاتفاق الواحد بين المتلقين في التجربة الإلهية غير ممكن، سواء أكان المتلقي في موقف نفسي وجسدي صحيح وصادق بالنسبة إلى التجربة المطابقة للواقع أم لم يكن.
من هنا يذهب (سي. بي. مارتين)؛ لأسباب مماثلة، إلى الاستنتاج قائلاً: إن الادّعاءات المتعلقة بالتجربة الإلهية أقرب بكثير إلى الادّعاءات الذهنية التي هي من قبيل: «أنا أتصوّر أني أرى ورقة»، منها إلى الادعاءات العينية التي هي من قبيل: «أنا أرى ورقة»([61]).
وقد ذهب (وليم راو) إلى القول بإمكان أن يظهر الله لشخصٍ، ولا يظهر لشخص آخر. وعليه ـ خلافاً للإدراك الحسّي ـ فإن حرمان الآخرين من امتلاك التجربة الإلهية في ظلّ ظروف مشابهة للظروف التي عاشها الشخص لا يستوجب تكذيب اعتبار تلك التجربة. وعليه فإننا لا نمتلك طريقاً إلى تعيين الوقت والحالة التي لا تكون فيها التجربة الإلهية معتبرة أو ذات قيمة. وفي هذه الحالة لا نستطيع تقييم تجربة واعتبارها موثوقة([62]).
2ـ فقدان الظرف المكاني ـ الزمني لله:
هناك من الفلاسفة مَنْ قال باستحالة العثور على دليلٍ قاطع يثبت أن شخصاً قد عاش التجربة الإلهية، أو أنه قد حصل لقاء بينه وبين الله([63])؛ إذ لكي يدلّ دليلٌ على أن شخصاً ما قد عاش تجربة الحالة (X)، لا أنه قد ظنّها أو توهّمها أو تصوّرها في ذهنه فقط، يجب أن يكون من الممكن له أن يشكِّل موضوعاً مشتركاً للمدركات الحسيّة المتنوّعة (والتي لا ضرورة لحصولها بشكلٍ متزامن وفي وقت واحد). وبعكس ذلك فإن هذا الشيء إنما يكون ممكناً إذا كان تمايز المدركات المتعلقة بـ (X) ـ ولا سيَّما الإدراكات الحسّية الممكنة ـ من سائر الموضوعات المشابهة لـ (X) من الناحية الإدراكية أمراً ممكناً. وإن هذه الحاجة الثانية إنما تكون ممكنة إذا كان (X) موجوداً في المكان وفي الزمان أيضاً. إن الظروف المكانية ـ الزمانية تجعل تميّز (X) من الموضوعات المشتملة على ظهورٍ مشابه للظروف المكانية ـ الزمانية الأخرى أمراً ممكناً ومقدوراً.
وإن الله لا يحتويه مكانٌ ولا زمان. وعليه لن يكون بالإمكان العثور على دليلٍ يدل على أن شخصاً ما قد عاش أو خاض تجربةً إلهية.
د ـ تقييم البراهين غير القياسية:
على الرغم من أن ألستون يدافع عن الخصائص الإدراكية ـ الحسّية للتجربة العرفانية الإلهية؛ بسبب اتجاهه السلوكي الثنائي، إلاّ أنه لا وجود للقيود في خصوص الإدراك المتعلّق بالمعطى الداخلي للسلوك الثنائي. يمكن لكلّ نوعٍ من أنواع المعطيات الداخلية المعرفية أن تكون موجودةً. وعلى هذا الأساس فإن عدم القابلية على المقارنة بين التجارب الإلهية والإدراك الحسّي ـ وإنْ كان كبيراً ـ لا يمكن أن يضرّ بهذا الاتّجاه بشكلٍ مباشر([64]).
في خصوص تحمُّل عدم إمكان مقارنة مورد الادّعاء في مورد برهان الإدراك الحسّي، تتمتّع المقارنات المستحيلة بثبات مستدلّ عن الإدراكات الحسيّة بوصفها نموذجاً للمعرفة. إنها تساوي بين المدارك المؤيدة وغير المؤيدة وبين المدرك القابل للمقارنة بشدّة وبين النوع الذي يمكن الوصول إليه من خلال الإدراك الحسّي. وعلى الرغم من ذلك فإن الحاجة المستدلة ـ أيّاً كانت ـ يجب أن تكون مجرّد «مدرك تجربة ومؤيدة». فإنْ كان لقاء الله يتمتّع بمدرك مؤيد فإنه سوف يتعزّز بهذا المدرك حتى إذا كان مختلفاً عن نوعٍ يمكن الوصول إليه من الإدراك الحسّي. وأما إذا لم يتمتّع بمدرك يؤيّد التجربة ـ مهما كان هذا المدرك ـ فإنه لن يكون قابلاً للتوجيه والإثبات؛ لهذا السبب بالذات، وليس لأنه يفتقر إلى قابلية التقييم المقابلة والمتناسبة مع الإدراك الحسّي.
ربما ذهب القائلون باستحالة المقارنة إلى الاعتقاد بأننا نقصد تبرير وتوجيه الادّعاءات العينية الفيزيائية المستدلّة؛ لأننا لا نمتلك تبريراً أو توجيهاً كافياً إلاّ حيث تكون القدرة على التقييم المتبادل للنوع العيني والفيزيائي في المتناول.
وعلى الرغم من ذلك فإن الاعتقاد المذكور لا يبدو مقنعاً. فقد تمّ دعم معتقداتنا العينية الفيزيائية العادية بالمستندات المؤيّدة أكثر من اللازم. فنحن نواجه هناك شبكات عنقودية مفعمة بالمؤيدات. ومع ذلك فإن هذا لا يعني تبرير الادّعاءات العرفانية بدرجةٍ دونها، أو ليس بالطبقات المماثلة التي تغدو بواسطتها غير قابلة للتوجيه والتبرير.
إن المشكلة التي نواجهها في برهان استحالة اشتمال الله على الأبعاد هي أن تحديد هوية الأعيان الفيزيائية إنما يأتي من طريق التوسّط بين الخصائص الكيفية والآراء النسبية لتعيين المكان والهويّة. إن الأحكام التي نصدرها تعبِّر عن السلوك العامّ الذي يوحّد بين المكان والهوية. ليس هناك من دليلٍ واضح يبيِّن سبب عدم إمكان تعيين هويّة الله في السلوك العامّ المرتبط به، وبمعيار تعيين هويّته، ودون أن يكون رهناً بالسلوك العام المرتبط بتعيين هوية الأعيان الفيزيائية([65]). علينا أن نسيء الظنّ بسلوك تحديد هويّة الأعيان الفيزيائية بوصفه نموذجاً لمجموع المعرفة بشكلٍ عامّ.
هـ ـ برهان الإدراك الحسّي بوصفه أمراً تابعاً للاتّجاه الثنائي:
في الختام يجب أن يؤدّي برهان الإدراك الحسّي إلى الاتجاه الثنائي. ومن الأدلة على ذلك أننا إذا حصرنا الكثير من التجارب الإلهية على أساس التجارب العرفانية بطرح الادّعاءات الصادقة، دون الاتجاه الثنائي، كان هناك مجالٌ للشك.
فعلى سبيل المثال: كما قال (وليمز) بشأن (تيريزا آفيلاي): إنها لم تعتقد أبداً أن تجاربها لوحدها تشكّل مستنداً كافياً لإثبات أيّ نوع من أنواع الحقيقة. إن المعيار في وثاقة تجاربها يقوم على كيفية ارتباط هذه التجارب بسلوكها العيني المتأخّر، بالشكل الذي يتمّ فيه التصديق بها ضمن سلوكها الديني، بل وفي صميم سلوكها الديني. إن التجربة العرفانية لا تتمتّع بالقدرة الخاصّة على نحوٍ دقيق.
أما السبب الثاني الذي يجعل برهان الإدراك الحسّي مؤدّياً إلى الاتجاه الثنائي فهو أن الهوية الإلهية ـ كما تقدّم في القسم 4 و 5 ـ تتبلور ضمن السلوك العام، وهذا سلوكٌ اجتماعي واضح تماماً، يقوم فيه الفرد بتصديق تجارب عرفانية لشخصٍ آخر بوصفها تجارب مرتبطة بالله. ففي المثال المتعلِّق بتيريزا لا تمثِّل تجاربها في حدّ ذاتها بالنسبة إليها مصدراً موثوقاً في الدلالة على أنها تعيش تجربة إلهية، لا تجربة شيطانية، وإنما عمدت في ذلك إلى الحكم بشأن تجاربها على أساس تعاليم الكنيسة. وبالتالي يبقى هذا السؤال قائماً: ما هي حدود اشتمال التجارب الإلهية على الجزئيات التي تمهِّد الأرضية الكافية لإثبات أنها تجارب إلهية؟ لذلك فإن إذعان الشخص بحصول تجربة إلهية خاصة يمكن له أن يكون ثمرة تشبيه وتحليل الوضع الراهن بسلوكٍ اجتماعي أوسع.
6ـ العرفان، التجربة الدينية والجنسية:
لقد جعل الفلاسفة من أنصار الحركة النسوية الاتجاهات الذكورية في العرفان والرؤية الفلسفية هَدَفاً لسهام نقدهم. وفي ما يلي هناك ثلاث مسائل رئيسة:
1ـ يرى الفلاسفة المعاصرون من الذكور العرفان موضوعاً محورياً للمضامين النفسية الخاصة للشخص الانعزالي. يعتقد هؤلاء الفلاسفة أن هذا النوع من التجارب يعكس مفهوم العرفان وقيمته([66]). وفي المقابل يجب على هؤلاء الفلاسفة أن يدرسوا التبعات السياسية ـ الاجتماعية للعرفان، بما في ذلك إخفاقات السطوة والهيمنة الأبوية.
2ـ إن الباحثين في الشأن العرفاني قد تجاهلوا بشكلٍ منهجي الجانب الرئيس من العرفان النسوي، أو قاموا بتحجيمه، وجعله أمراً هامشياً. يمكن للمزيد من الاهتمام بالنساء أن يبيِّن الاتجاه الذكوري المحوري في العرفان الذكوري([67]).
3ـ إن التركيبة التقليدية الذكورية عن الله هي التي تحدِّد الأسلوب الذي على أساسه يبحث الفلاسفة الذكور بشأن التجارب الإلهية. من هنا فإن التجربة الإيمانية منذ البداية مشروطةٌ بصياغة المفاهيم والقِيَم الذكورية والاختلافات الجنسية في السلوك الديني([68]). إن هذه الرؤية تظهر أن الرجال يدركون التجربة الإلهية بوصفها مواجهة للبشر مع موجود متميِّز تماماً، وبعيد عن المتناول، ومُفْعَم بالقدرة. إن نموذج هذا الاتجاه عبارةٌ عن التجربة القدسية لـ (رودولف أوتو) عن الحقيقة، وهو «مغاير بالكامل» للمستحيل على الفهم، والمقتدر الذي يؤدّي إلى الشعور بالانجذاب المهول، حيث «يتخبّط ويستغرق» العارف في خوائه([69]). يذهب (أوتو) إلى القول بأن هذه الأمر يمثِّل جوهر التجربة الدينية.
وعلى الرغم من ذلك يبدي المفكِّرون من أنصار الحركة النسوية ميلاً إلى إنكار الثنائية بين الأمر القدسي والأمر الذي يجعل من تحليل (أوتو) من الناحية التكوينية أمراً ممكناً([70]). يقوم المتألِّهون من أنصار الحركة النسوية بالتأكيد على الماهية المتشابهة لمتعلّق التجربة الإلهية، ويعملون على التذكير بالتجارب التي خاضتها المشهورات من النساء في ما يتعلق بالأمر القدسي في مظهرهنّ الجسماني المحتقر من قبل الرؤية الذكورية.
لقد وضع نقد الحركة النسوية منظومةً إصلاحية تدعو إلى التفاؤل بالنسبة إلى النزعة الذكورية، التي لا يرقى إليها الشكّ في العرفان والدراسات العرفانية.
وفي ما يتعلّق بالبحث الأول، في الوقت الذي تكون فيه دراسة التبعات السياسية ـ الاجتماعية للعرفان إلزامية، ولا يمكن التخلُّص منها بشكلٍ من الأشكال، ويجب أن يكون لها دورٌ في الأحكام الاجتماعية المقبلة، إلاّ أنها في الوقت نفسه ليست وظيفة الفلاسفة بالضرورة، ولا هي وظيفة جميع الفلاسفة بشكلٍ معيّن. يجب لتقسيم العمل أن يحرّر الفلاسفة في ما يتعلّق بدراسة النواحي الهامّة للظواهر ومعرفة العرفان، رغم العلم الثابت بالعصبية الذكورية المحتملة.
من هنا يقال: إن نقد الحركة النسوية يجب أن يساعد على تطبيع مفهوم الطبيعة الخصوصية للعرفان والتجربة الدينية التي قام (وليم جيمز) بسحبها إلى ساحة الفلسفة.
وقد أدّى البحث الثاني إلى تحوُّل إيجابي في البحوث المتعلِّقة بالعرفان النسوي، وأهمّية هذا العرفان ومحتواه.
وفي خصوص البحث الثالث علينا أن نميِّز بين المدّعى الذكوري لـ (أوتو)، القائم على أن نمط تجربته القدسية يتضمّن التجربة الدينية في أعمق وجوهها، وبين التنوّع الهائل للتجربة الدينية والعرفانية للرجال على طول التاريخ. وهذا الأمر يشمل تجارب الذكور للقرب التشبيهي من الله؛ ويشمل الاتحاد العرفاني مع الله، المخالف تماماً لإشراقات الحركة النسوية؛ كما يشمل التجربة القدسية لـ (أوتو).
وعلى أيّ حال لا بُدَّ من الأخذ بنظر الاعتبار أن الدراسات الجنسية في التجربة الجنسية والعرفان قد بدأت حديثاً وبصعوبة، وقد فتحت أمام فهمنا آراءً ورؤى جديدة لهذه الظواهر البشرية ـ الإلهية.
([1]) Bouper, Louis, 1981, “Mysticism, Richard Woods (ed), O. P. Garden City: Doubleday.
([2]) Teresa of Avila, 1957, The Life of Saint Teresa of Avila, translated with an introduction by J. M. Cohen, New York: Penguin Books.
([3]) Jantzen, Grace M, 1994, “Feminists, Philosophers, and Mystics”, Hypatia 9: 186 – 206.
([4]) (telepathy): التخاطب عن بعد، أو التخاطر: اتصال عقل بآخر من غير طريق الكلام أو الكتابة أو الإشارة، أو من غير طريق الحواس الخمسة.
([5]) البراهما (Brahma): الذات العليا الموجدة للكون، وروحه العليا وجوهره في الفلسفة الهندوسية.
([6]) النرفانا (nirvana): السعادة القصوى التي تتخطّى الألم، وتلتمس في البوذية من طريق قتل شهوات النفس.
([7]) Takeuchi, Yoshinori, 1983, The Heart of Buddhism, James W. Heisig (trans.), New York: Crossroad.
([8]) Griffiths, Paul J, 1993, “Pure Consciousness and Indian Buddhism”, In The Problem of Pure Consciousness, Mysticism and Philosophy, Robert Forman (ed), 121 – 159, New York and London: Oxford University Press.
([9]) Suzuki, Shunryu, 1970, Zen Mind, Beginner’s Mind, Trudy Dixon (ed), New York: Weatherhill.
([10]) الأتمن (Atman): الروح أو النفس؛ النفس الكونية التي انبثقت منها جميع النفوس [في الهندوسية].
([11]) البراهما (Brahma): الذات العليا؛ الموجدة للكون وروحه العليا وجوهره في الفلسفة الهندوسية.
([12]) Smart, Ninian, 1958, Reasons and Faiths, London: Routledge and Kegan Paul; Smart, Ninian, 1978, “Understanding Religious Experience”, In Mysticism and Philosophical Analysis; Wainwright, William J, 1981, Mysticism, A Study of its Nature, Cognitive Value, and Moral Implications, Madison: Universitty of Wisconsin Press. Chapter 1.
([13]) القبّالة (Kabbalah): مصطلحٌ كان يُطلق على التصوّف اليهودي.
([14]) Schleiermacher, Friedrich, 1963, The Christian Faith, English translation of the second German edition, H. R. Macintosh and J. S. Stewart (eds.), New York: Harper & Row.
([15]) (numinous): خارق للطبيعة، مقدّس، روحي.
([16]) Otto, Rudplf, 1957, The Idea of the Holy, Second Edition, Oxford: Oxford University Press.
([17]) Suso, Henry, 1953, Little Book of Eternal Wisdom and Little of Truth, J. M. Clark (trans), London: Faber and Faber. P. 185.
([18]) Pike, Nelson, 1992, Mystic Union: An Essay in the Phenomenology of Mysticism, Ithaca: Cornell University Press. Chapter 2.
([19]) Pike, Nelson, 1992, Mystic Union: An Essay in the Phenomenology of Mysticism, Ithaca: Cornell University Press. Chapter 1.
([20]) Schimmel, Annemarie, 1975, Mystical Dimensions of Islam, Chapel Hill: University of North Carolina Press. Chapter 2.
([21]) Idel, Moshe 1988, Kabbalah: New Perspectives, New Haven: Yale University Press. P 67.
([22]) McGinn, Bernard, 2001, The Mystical Thought of Meister Eckhart: The Man from Whom God Hid Nothing, New York: Crossroad Publishing; Smith, Huston, 1997, “Come Higher my Friend: The Intellective Mysticism of Meister Eckhart” in Doors of Understanding, Conversations in Global Spirituality in honor of Ewert Cousins, Steven Chase (ed), 201 – 217, Quincy, Ill.: Franciscan Press.
([23]) Idel, Moshe 1988, Kabbalah: New Perspectives, New Haven: Yale University Press.
([26]) Keating, Thomas 1996, Intimacy with God, The Christian Contemplative Tradition, New York: Crossroad, Chapter 4.
([27]) James, William (1958), The Varieties of Religious Experience (New York: Mentor Books). P. 292 – 293.
([28]) Augustine, 1958, On Christian, D W. Rodertson, Jr. (trans), Indianapolis: Bobbs-Merrill. P. 10 – 11.
([29]) Plantinga, Alvin, 1980, Does God have a Nature? Milwaukee: Marquette University Press. P. 23 – 25.
([30]) Yandell, Keith, 1975, “Some Varieties of Ineffability” International Journal for Philosophy of Religion, 6: 167 – 179.
([31]) Sells, Micheal A, 1994, Mystical Languages of Unsaying, Chicago: Chicago University Press. Chapter 1.
([32]) Hanh, Thich Nhat, 1994, Zen Keys, A Guide to Zen Practice, New York: Doubleday, Chapter 5.
([33]) Alston, William 1991, Perceiving God, The Epistemology of Religious Experience, Ithaca and London: Cornell University Press.
([34]) Proudfoot, Wayne, 1985, Religious Experience, Berkeley, Los Angeles, and London: University of California Press. P. 125 – 127.
([35]) Jantzen, Grace M, 1995, Power, Gender, and Christian Mysticism, Cambridge: Cambridge University Press. P. 344.
([36]) Staal, Frits, 1975, Exploring Mysticism, London: Penguin.
([37]) الأتيمولوجيا (etymology): علم التأثيل أو الترسيس، بسط أو تعليل لأصل لفظة ما وتاريخها؛ دراسة تعنى بأصل الكلمات وتاريخها.
([38]) Stace, Walter T, 1961, Mysticism and Philosophy, London: Macmillan. P. 212.
([39]) Moore, Peter, 1973, “Recent Studies of Mysticism: A Critical Survey” Religion, 3 146 – 156; Staal, Frits, 1975, Exploring Mysticism, London: Penguin.
([40]) Staal, Frits, 1975, Exploring Mysticism, London: Penguin.
([41]) Alston, William 1992, “Literal and Nonliteral in Reports of Mystical Experience” In Mysticism and Language, Steven T. Katz (ed), 80 – 102. New York and Oxford: Oxford University Press. P. 80 – 102.
([42]) في خصوص مصطلح (Perennialism) انظر:
Huxley, Aldous, 1945, The Perennial Philosophy, New York: Harper & Bros.
([43]) Stace, Walter T, 1961, Mysticism and Philosophy, London: Macmillan.
([44]) Stace, Walter T, 1961, Mysticism and Philosophy, London: Macmillan. P. 79.
([45]) Stace, Walter T, 1961, Mysticism and Philosophy, London: Macmillan. P. 86.
([46]) Forman, Robert K. C, 1993 a, “Eckhart, Gezucken, and the Ground of the Soul” In The Problem of Pure Consciousness, Mysticism and Philosophy, Robert Forman (ed), 121 – 159, New York and London: Oxford University Press; Forman, Robert K. C, 1999, Mysticism, Mind, Consciousness, Albany, NY: SUNY Press.
([47]) Smart, Ninian, 1965, “Interpretation and Mystical Experience” Religious Studies, 1: 75 – 87.
([48]) Pike, Nelson, 1992, Mystic Union: An Essay in the Phenomenology of Mysticism, Ithaca: Cornell University Press. Chapter 5.
([49]) Zaehner, R. C, 1961, Mysticism, Sacred and Profane, New York: Oxford University Press.
([50]) Wainwright, William J, 1981, Mysticism, A Study of its Nature, Cognitive Value, and Moral Implications, Madison: University of Wisconsin Press. Chapter 1.
([51]) وليم جيمز، أنواع التجربة الدينية: 415، لندن، 1925.
([52]) Alston, William 1991, Perceiving God, The Epistemology of Religious Experience, Ithaca and London: Cornell University Press.
([53]) Alston, William 1991, Perceiving God, The Epistemology of Religious Experience, Ithaca and London: Cornell University Press. P. 100.
([54]) Baillie, John, 1939, Our Knowledge of God, London: Oxford University press; Broad, C. D. 1953, Religion, Philosophy, and Pcychical Research, London: Routlede, and Kegan Paul; Davis, Carolyn Franks, 1989, The Evidential Force of Religious Experience, Oxsford: Clarendon Press; Gellman, Jerome, 1997, Experience of God and the Rationality of Theistic Belief, Ithaca: Cornell University Press; Gellman, Jerome, 2001, Review of Matthew Bagger, Religious Experience, Justification, and History, in Faith and Philosophy, 18: 345 – 364; Gutting, Gary 1982, Religious Belief and Religious Skepticism, Notre Dame, Ind: University of Notre Dame; Swinburne, Richard, 1991, The Existence of God, Revised Edition, Oxford: Clarendon Press; Swinburne, Richard, 1996, Is There a God? Oxford: Oxford University Press; Wainwright, William J. , 1981, Mysticism, A Study of its Nature, Cognitive Value, and Moral Implications, Madison: Universitty of Wisconsin Press; Yandell, Keith, 1993, The Epistemology of Religious Experience, New York: Cambridge University Press.
([55]) Underhill, Evelyn, 1945, Mysticism, A study in the Nature and Development of Man’s Spiritual Consciousness, London: Methuen. P. 90 – 94.
([56]) Bergson, Henri, 1935, The Two Sources of Morality and Religion, R. A. Audra and C. Berenton, (trans), London. P. 210.
([57]) Broad, C. D. 1953, Religion, Philosophy, and Pcychical Research, London: Routledge, and Kegan Paul.
([58]) Wainwright, William J, 1981, Mysticism, A Study of its Nature, Cognitive Value, and Moral Implications, Madison: Unpiversity of Wisconsin Press. P. 83 – 88.
([59]) Bagger, Matthew C, 1999, Religious Experience, Justification, and History, Cambridge: Cambridge University Press; Fales, Evan, 2001, “Do Mystics See God?” in Contemporary Debates in the Philosophy of Religion, Michael L. Peterson (ed), Oxford: Blackwell; Fales, Evan, 1996a, “Scientific Explanations of Mystical Experiences, Part I: The Case of St Teresa”, Religious Studies, 32: 143 – 163; Fales, Evan, 1996b, “Scientific Explanations of Mystical Experiences” Religious Studies, 32: 297 – 313; Gale, Richard, 1991, On the Nature and Existence of God, Cambridge: Cambridge University Press; Gale, Richard, 1994, “Why Alston’s Mystical Doxastic Practice is Subjective” Philosophy and Phenomenological Research, 54, 869 – 875; Gale, Richard, 1995, On the Nature and Existence of God, Cambridge: Cambridge University Press; Martin, C. B, 1955, “A Religious Way of Knowing” In New Essays in Philosophical Theology, Antony Flew and Alasdair Macintyre (eds), 76 – 95, London: SCM Press; Proudfoot, Wayne, 1985, Religious Experience, Berkeley, Los Angeles, and London: University of California Press; Rowe, William, 1982, “Religious Experience and the Principle of Credulity” International journal for Philosophy of Religion, 13: 85 – 92.
([60]) Fales, Evan, 2001, “Do Mystics See God?” in Contemporary Debates in the Philosophy of Religion, Michael L. Peterson (ed), Oxford: Blackwell. P. 200.
([61]) Martin, C. B, 1955, “A Religious Way of Knowing” In New Essays in Philosophical Theology, Antony Flew and Alasdair Macintyre (eds), 76 – 95, London: SCM Press.
([62]) Rowe, William, 1982, “Religious Experience and the Principle of Credulity” International journal for Philosophy of Religion, 13: 85 – 92.
([63]) Gale, Richard, 1994, “Why Alston’s Mystical Doxastic Practice is Subjective” Philosophy and Phenomenological Research, 54, 869 – 875; Gale, Richard, 1995, On the Nature and Existence of God, Cambridge: Cambridge University Press; Byrne, Peter, 2001, “Perceiving God and Realism” Philo, 3: 74 – 88.
([64]) Alston, William, 1994, “Reply to Commentators” Philosophy and Phenomenological Research, 54: 891 – 899.
([65]) Gellman, Jerome, 2001, Review of Matthew Bagger, Religious Experience, Justification, and History, in Faith and Philosophy, 18: 345 – 364. Chpter 3.
([66]) Jantzen, Grace M, 1994, “Feminists, Philosophers, and Mystics” Hypatia 9: 186 – 206; Jantzen, Grace M, 1995, Power, Gender, and Christian Mysticism, Cambridge: Cambridge University Press.
([67]) Jantzen, Grace M, 1995, Power, Gender, and Christian Mysticism, Cambridge: Cambridge University Press.
([68]) Raphael, Melissa, 1994, “Feminism, Constructivism, and Numinous Experience” Religious Studies, 30: 511 – 526.
([69]) Otto, Rudplf, 1957, The Idea of the Holy, Second Edition, Oxford: Oxford University Press.
([70]) Daly, Mary, 1973, Beyond God the Father, Toward a Philosophy of Women’s Liberation, Boston: Beacon Press; Goldenberg, Naomi, 1979, The Changing of the Gods, Boston: Beacon Press.