الدراسات والبحوث

أفكار حول “مناجاة الفيلسوف “

ب. أديب صعب

أفكار حول  “مناجاة الفيلسوف “

ب. أديب صعب

طالما أبديتُ أسفًا على الواقع الراهن للكتب، خصوصًا العربية منها، التي يغلب فيها الجمع على التأليف. الكثير من الكتب العربية الصادرة في العقود الثلاثة الأخيرة في مختلف حقول الإنسانيات مجموعة مقالات كتبها أصحابها في فترات متقاربة أو متباعدة، ثم لما قرروا جمعها بين دفّتي كتاب لم يجدوا بُدًّا من وضع مقدّمة تبريرية لها تتشابه في معظم هذه الكتب، وتذهب إلى أن المؤلف ارتأى جمع مقالاته المتفرقة ونشرها لفائدة القراء، وأن هذه المقالات، على تباعدها زمنًا وموضوعًا، “يشدّها خيط رفيع”. وقد تراءت لي أزمة التأليف العربي في هذا الخيط الرفيع بالذات.

مع المفكّر الدكتور غلام حسين ديناني في كتابه “مناجاة الفيلسوف” يزول هذا التحفظ تمامًا. فهو نشر كتبًا يدور كل منها على موضوع محدّد قبل نشر كتابه هذا، ومنها “شعاع الفكر والشهود في فلسفة السهروردي”، و”المنطق والمعرفة عند الغزالي”. والمقالات التي يجمعها في كتابه الأخير ليست من نوع المقالات الصحفية الآنيّة، ولا من نوع الإنشائيات السريعة، ولا من الأنواع الأخرى التي تميّز أدبيات “الخيط الرفيع”. إذًا، يحق للرجل أن يجمع دراساته العلمية بين دفتي هذا الكتاب القيّم، وقد وحّد بينها المنهج العقلي، والموقف الإيماني والهوى الصوفي. وهي تقدّم نماذج ممتازة عن الدراسات الفلسفية الموثّقة والمعمَّقة والمكثّفة التي تقوم كل منها مقام كتاب في موضوعها.

نحن هنا أمام فلسفة بكل معنى الكلمة، لعلها أقرب ما تكون إلى ما يسمّى “الوجودية المؤمنة” إذا احتجنا على الإطلاق إلى أسماء من هذا النوع. شخصيًّا، لا يعجبني كثيرًا إطلاق التسميات، وأعرف جيدًا كم يلازمها من ظلم وغموض وسوء فهم. لكن لا ضير من البحث عن تسميةٍ ما إذا كان الهدف تأكيد وحدة العقل والتجربة البشريّين، هذا العقل الذي يجلّه الديناني، مندّدًا بنظرة بعض الغيورين المنغلقة التي نجدها في كل الأديان، والتي جرّت الويل على الدين وحرَفته عن جوهره بفصلها الإيمان عن العقل وازدرائها العقل.

ونقع على منهج المؤلف في المقدمة المتنورة التي وضعها لكتابه، مدافعًا عن العقل بالاحتكام إلى التقليد الإسلامي نفسه الذي يربط العقل بالنور والنبوة. وإذا كان ربُّك يوحي إلى النحل أن تتخذ بيوتًا لها في الجبال، أفلا يوحي إلى عقل من هو ليس بأقل من خليفته على الأرض؟ وينأى الديناني عن مبالغات ابن الجوزي صاحب “تلبيس إبليس”، الذي عزا عقلانية الفلاسفة إلى ظنون وأوهام من عمل الشيطان، ويتمسك بالقرآن والحديث في إجلال العقل، الذي يقرأ عمل الله في الخلق، ويعرف محدوديته، فيتواضع أمام خالقه. والإنسان الذي “لا يتمتع بالعقل لا يمكن أن يكون مشمولًا بالخطاب الإلهي، ولا يتحقق تحدُّث الله تعالى مع مثل هذا الإنسان. فنور العقل فيض إلهي وعطاء رباني” (ص9). والمؤسف أن أعداء العقل من صفوف المتكلمين في الإسلام واللاهوتيين في المسيحية، “بدلًا من السعي على صعيد فهم الوحي والكلام الإلهي، بذلوا جلّ ما لديهم من طاقة واهتمام في مجال المناقشة والمجادلة” (ص 10). وهذا أسفرَ، طوال ألف سنة وأكثر، عمّا سمّيته “الدفاع السجالي”، أو “اللاهوت السجالي”، بدلًا من “الدفاع الإيجابي”.

هذه الحماقات الكلامية أو اللاهوتية تقابلها حماقات من الأوساط الفلسفية. فالفصل بين الإيمان والعقل يدفع العديد من الفلاسفة المعاصرين إلى وضع كل فكر مؤمن خارج نطاق الفلسفة وحصره في خانة ما يسمّى الدفاعيّات الدينية. وهذا يعزِّز النظرة المخطئة التي تربط الفلسفة بالإلحاد، علمًا أن غالبية المفكرين الذين سجّل تاريخ الفلسفة أسماءهم وقفوا إلى جانب الإيمان، لكن الذين يلوذون اليوم بمفاهيم من نوع “الحداثة”، و”ما بعد الحداثة” يتحدثون ويكتبون كما لو كان العقل والمنطق والتفكير أمورًا تجافي الإيمان. ومما يؤسف له أكثر من هذا قبول بعض ذوي الفكر الديني بهذا التحدّي، وتأكيدُهم على فصل دائرة الإيمان عن دائرة العقل. إلّا أن وضع الإيمان والدين خارج العقل يضعهما خارج المعقول وخارج نطاق المعنى والقيمة.

وما اختيار الديناني “مناجاة الفيلسوف” عنوانًا لكتابه سوى تأكيد على منهجه الفلسفي حيث العقل يدافع عن الإيمان. ولنا في المقال الأول، الذي أعطى الكتاب عنوانه، نماذج نيّرة عن الفارابي، يظهر فيها الفيلسوف المؤمن مناجيًا الله في دعاء يستمده من مصطلحه الفلسفي بالذات، بعدما أشرق الله على عقله وقذف نورًا في صدره. وكان تاريخ الفلسفة قد سجّل لنا صلوات رفعها فلاسفة إلى الله منذ أقدم الأزمنة، مثل صلاة كليانتيس الرواقي في القرن الرابع قبل الميلاد، تدحض تلك الشقة التي افتعلها بعض المتكلمين بين الدين والفلسفة بقولهم: إن الفلاسفة الذين تكلموا عن الله جعلوه مبدأً مجرّدًا أو محرّكًا أول، وعجزوا أن يروا فيه الإله الحي الذي يُعبد وتُرفع إليه الصلاة (انظر: أديب صعب، المقدّمة في فلسفة الدين، بيروت، دار النهار، الطبعة 2، 1995، الصفحات 133-135).

أود أخيرًا أن أشير إلى الامتياز الذي حققته ترجمة الكتاب. فاللغة من السلامة والسلاسة والرصانة بحيث يبدو لنا أننا أمام عمل كتبه الديناني نفسه بالعربية. إنه من الإتقان اللغوي بحيث ننسى تراكيب متكررة من نوع “لا بدّ، وأنّ”، أو “لا شك وأن”، هذه الواو التي لا محل لها من الإعراب، كما ننسى تراكيب مثل “ليس لا ينسجم فحسب”، و”ليست غير متعارضة فحسب”. ولعل المترجم تقصّدها في أي حال. وإذ نشكر المترجم على ترجمة لا يُعلى عليها على إتحافنا بهذه الأدبيات الجدية في عالم منهار، علّها تعيد تركيب عالم ثقافي واجتماعي جديد.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى