الدراسات والبحوث

معضلة الميتافيزيقا وما بعدها العقل الحسير هو نفسه من اليونان إلى ما بعد الحداثة

د. محمود حيدر

معضلة الميتافيزيقا وما بعدها العقل الحسير هو نفسه من اليونان إلى ما بعد الحداثة

د. محمود حيدر

مقدِّمة:

بذلت الميتافيزيقا، مذ وُلِدت في أرض الإغريق وإلى يومنا الحاضر، ما لا حصر له من المكابدات. اختبرت النومين (الشيء في ذاته) والفينومين (الشيء كما يظهر في الواقع العينيِّ)، لكنَّها ستنتهي إلى استحالة الوصل بينهما. ذريعتُها في هذا أنَّ العقل قاصرٌ عن مجاوزة دنيا المقولات، ولا يتيسَّر له العلم بما وراء عالم الحسّْ. أمَّا النتيجة الكبرى المترتِّبة على هذا المُنتهى، فهي إعراضُ الفلسفة الأولى عن سؤال الوجود كسؤال مؤسِّس، واستغراقُها في بحرٍ خضمِّ تتلاطم فيه أسئلة الممكنات الفانية وأعراضُها.

في بدايات التفلسُف سبق لأفلاطون أن بيَّن أنَّ “الفلسفة هي العلم بالحقائق المطلقة المستترة وراء ظواهر الأشياء”. وكان بهذا يصدق النيَّة في الدعوة إلى تأسيس ميتافيزيقا ما ورائيّة تتغيّا الكشف عن حقيقة الوجود. ولمَّا جاء أرسطو ليعرِّف الفلسفة بأنَّها “العلم بالأسباب القصوى للموجودات، أو هي علم الموجود بما هو موجود” ربَّما لم يكن يدرك أنَّه بهذا التعريف سيفتح الباب واسعًا أمام إلحاق الميتافيزيقا بعلم المنطق، واسترجاعها إلى دنيا التقييد. وعلى غالب الظنِّ أنَّ أرسطو كان توَّاقًا إلى الانعطاف بمهمَّة الفلسفة من أجل أن يجاوز التعالي الميتافيزيقيَّ للمُثُل الأفلاطونيّة، ويحسم الجدل حول تعريفاتها. لقد كانت هندسة العقل بالمقولات العشر ثمرة هذا الانعطاف. وهو لم ينفِ ما أعلنه القدماء من أنَّ الفلسفة تبقى العلم الأشرف من المعرفة العلميَّة، وأنَّ إدراك الحقيقة ومعرفة جوهر الأشياء يحتاجان إلى إلهام وحدسٍ عقليٍّ يمضي إلى ما وراء طور العقل. إلَّا أنّه – مع ذلك- سيبقى أول من افتتح باب السؤال المتشكِّك عمّا إذا كان بمستطاع العقل البشريِّ إدراك الحقائق الجوهريَّة للأشياء.

 

إرهاصات المنقلب الأرسطيّْ:

في كتابه “ما بعد الطبيعة” بدا أرسطو كما لو أنَّه يعلن عن الميقات الذي نضج فيه العقل البشريُّ ليسأل عمَّا يتعدَّى فيزياء العالم ومظاهره. لكنَّ السؤال الأرسطيَّ- على سموِّ شأنه في ترتيب بيت العقل- سيتحوَّل بعد برهة من زمن، إلى علّةٍ سالبة لفعاليَّات العقل وقابليَّته للامتداد. وما هذا إلَّا لحَيْرة حلَّت على صاحبه ثمَّ صارت من بعده قلقًا مريبًا. والذي فعله ليخرج من قلقه المريب، أنَّه أمسك عن مواصلة السؤال الذي تعذَّر الجواب عليه في حساب المنطق، ثمَّ مضى شوطًا أبعد ليُعرِضَ عن مصادقة السؤال الأصلِ الذي أطلَّ منه الموجود على ساحة الوجود.

الحاصل أنَّ فيلسوف “ما بعد الطبيعة” مكث في الطبيعة وآَنسَ لها فكانت له سلواه العظمى. رضي بما تحت مرمى النظر ليؤدِّي وظيفته كمعلِّم أوَّل لحركة العقل. ومع أنَّه أقرَّ بالمحرِّك الأوَّل، إلَّا أنَّ شَغَفَه بعالم الإمكان أبقاه سجين المقولات العشر. ثم لمَّا تأمَّل مقولة الجوهر، وسأل عمَّن أصدرها، عاد إلى حَيْرته الأولى. لكنَّ استيطانه في عالم الممكنات سيفضي به إلى الجحود بما لم يستطع نَيْلَه بركوب دابَّة العقل. حَيْرتُه الزائدة عن حدِّها أثقلت عليه فلم يجد معها مخرجًا. حتى لقد بدت أحواله وقتئذٍ كمن دخل المتاهة ولن يبرحها أبدًا. مثل هذا التوصيف- يصل إلى مرتبة الضرورة المنهجيَّة ونحن نعاين الحادث الأرسطيّْ. لو مضَينا في استقراء مآلاته لظهر لنا بوضوح كيف اختُزلت الميتافيزيقا إلى علم أرضيٍّ محضْ.

من أبرز معطيات هذا السياق الاختزاليِّ في جانبه الأنطولوجيِّ أنَّ أرسطو لم يولِ عناية خاصَّة بمعرفة الله، ولم يعتبرها غرضًا رئيسيًّا لفلسفته، ولم يدخلها بالتالي في قوانينه الأخلاقيَّة ولا في نظمه السياسيَّة[1]. الأولويَّة عنده كانت النظر إلى العالم الحسِّيِّ وبيان أسبابه وعلله من دون أن يفكِّر في قوَّة خفيَّة تدبِّره. مؤدَّى منهجه أنَّ الطبيعة، بعدما استكملت وسائلها وانتظمت الأفلاك في سيرها، انتهى بها المطاف إلى محرِّك أول أخصُّ خصائصه أنَّه يحرِّك غيره ولا يتحرَّك هو[2]. هذا المحرِّك الساكن أو المحرِّك الصُوَري هو عنده الإله الذي لا يذكر من صفاته إلَّا أنَّه عقل دائم التفكير، وتفكيره منصبٌّ على ذاته.

يتحرَّج أرسطو عن الكلام في المسائل الدينيَّة، ويعدُّها فوق مقدور البشر، ويصرِّح بأنَّ الكائنات الأزليَّة الباقية، وإن تكن رفيعة مقدَّسة، فهي ليست معروفة إلَّا بقدر ضئيل[3]. لكنَّ هذا الفيلسوف  الذي لم يفكِّر مبدئيًّا إلَّا في الطبيعة وعللها والأفلاك ومحرِّكاتها سِيق في آخر الأمر إلى إثبات محرِّك أكبر تتَّجه نحوه القوى وتشتاق إليه[4].

البيِّن أنَّ الفلسفة لم تتخلَّص من تاريخها الإشكاليِّ هذا منذ اليونان إلى أزمنة الحداثة الفائضة. ذلك ما جعل كلَّ مسألة ذات طبيعة فوق ميتافيزيقيَّة (غيبيَّة) تستعصي على الحلّْ. المعثرة الكبرى في مكابدات الميتافيزيقا الكلاسيكيَّة كامنة في الانزياح عن مهمَّتها الأصليَّة، وهي فهم العالم كوجود متَّصل، والنظر إليه بما هو امتداد أصيل بين مراتبه المرئيَّة واللَّامرئيَّة، الطبيعيَّة وفوق الطبيعيَّة. ولئن كانت هذه هي مهمَّتها الأصليَّة- وهذا ما يميِّزها عن العلم- فذلك تذكير بما هو بديهيٌّ فيها. والتذكير بمهمَّة الميتافيزيقا بما هي استكشاف ما يحتجب عن ملكات العقل النظريِّ، وتجاربه، هو إقرار لها بوصفها علمًا حيًّا يحيي نفسه ويحيي سواه من العلوم في الآن عينه. إنَّه أيضًا عرفان لها بالجميل وهي تقيم علاقة شديدة الخصوصيَّة بالوجود خلافًا لسائر المعارف والعلوم. إذ إنَّها لا تكفُّ عن إعلان رسالتها الأصليَّة، حتى وهي تعتني بعالم الممكنات وعوارضه من خلال الاهتمام بأسئلة الممكنات المتناهية وعوارضها. وهذا مألوف في سيرتها التاريخيَّة ومدوَّناتها، حيث أنَّ الخاصيَّة الملحوظة لكلِّ التعاليم الميتافيزيقيَّة هي التقاؤها على ضرورة البحث عن السبب الأوَّل لكلِّ ما هو موجود. ذاك الذي سُمِّي المادَّة الأولى مع ديمقريطس، والخير مع أفلاطون، والفكر الذي يفكِّر بذاته مع أرسطو، والواحد مع أفلوطين، والوجود مع كلِّ الفلاسفة المسيحيين، والقانون الأخلاقيِّ مع كانط، والإرادة مع شوبنهاور، والفكرة المطلقة عند هيغل، والديمومة الخلَّاقة عند برغسون، وأيُّ شيء يمكن أن تذكره. في جميع الأحوال، فإنَّ الميتافيزيقيَّ- كما يبيِّن الفيلسوف واللَّاهوتيُّ الفرنسيُّ إتيان جلسون (1979-1984) ـ إنسان يبحث وراء وبعد التجربة عن مصدر مطلق لكلِّ تجربة حقيقيَّة وممكنة[5]. وبحسب جلسون- إنَّنا حتى لو حدَّينا من مجال ملاحظتنا لتاريخ الحضارة الغربيَّة، فثمَّة حقيقة موضوعيَّة هي أنَّ الإنسان سعى لهذه المعرفة منذ أكثر من خمسة وعشرين قرنًا، ثمَّ بعدما برهن أنَّه لا يجب البحث عنها وأقسم أنَّه لن يبحث عنها بعد الآن، وجد نفسه يطلبها من جديد. هذا هو القانون الكامن في العقل البشريّْ. وتبعًا لهذه الرؤية الميتافيزيقيَّة المستحدَثة لا يصحُّ اعتبار الإنسان حيوانًا ناطقًا كما قرَّر أرسطو، وإنَّما هو حيوان ميتافيزيقيٌّ بالطبع والغريزة. أي أنَّ ماهيَّته ميتافيزيقيَّة، وهي عكس كلِّ الماهيَّات التي تنطوي في خلقتها الأولى على عقل ما يرعاها ويدبِّر لها أمرها. فالقانون الذي هو مخصوص بالكائن الإنسانيِّ لا يكتفي بتقرير الحقيقة، بل يشير إلى سببها، فبما أنَّ الإنسان عاقل بماهيَّته، يجب أن يكون لتكرار الميتافيزيقا الثابت في تاريخ المعرفة الإنسانيَّة تفسيره في بنية العقل نفسها. بتعبير آخر، يجب أن يكون السبب في أنَّ الإنسان حيوان ميتافيزيقيٌّ كامنًا في مكان ما من طبيعته العقلانيَّة[6].

لقد أكَّد الفلاسفة، لقرون عدَّة قبل كانط، على حقيقة أنَّ في المعرفة العقليَّة أكثر ممَّا نجده في التجربة الحسِّيَّة. فالصفات النموذجيَّة للمعرفة العلميَّة، كالكلَّيَّة والضرورة، لا يمكن إيجادها في الحقيقة الحسِّيَّة، وواحد من التفاسير الأكثر عموميَّة هو أنَّها تأتي إلينا من قدرتنا على المعرفة. إذ كما يقول لايبنتس، لا شيء في العقل ما لم يمرَّ من قبل في الحواسِّ، إلَّا العقل ذاته. وكما كان كانط أول من فقد الثَّقة بالميتافيزيقا وتمسَّك بها باعتبار أنَّه لا مفرَّ منها، كذلك كان أوَّل من أعطى اسمًا لقوَّة العقل البشريِّ الملحوظة في تجاوز كلِّ تجربة حسِّيَّة. وهو ما ذهب إلى تسميته بـ”الاستعمال المتعالي للعقل”، ثمَّ ليتَّهمها (أي الميتافيزيقا) بأنَّها المصدر الدائم لأوهامنا الميتافيزيقيَّة[7].

 

معثرة العقل المكتفي بذاته:

لم تجد الميتافيزيقا المعاصرة في الحادث الأرسطيِّ سوى هذا المنقَلب الذي أُعلِن فيه عن العقل المكتفي بذاته. فلقد غفل وَرَثةُ الأرسطيَّة عن حقيقة أنَّ العقل الممتدَّ إلى ماوراء ذاته ومابعدها هو عقل جامع للشمل ومن خصائصه صنع الأعاجيب. ولأنَّه ممتدٌّ ولايتوقَّف عند حدٍّ فهو يتعقَّل مايظنُّه العقل الحسَّاب نقيض المنطق. وهذا غالبًا كان يستثير حفيظة فلاسفة الحداثة لا سيَّما أولئك الذين حرصت منظومتهم على تقديس الكبرياء الأرضيِّ، ومضت إلى واقعيَّة صمَّاء يسدِّدها عقل  صارم يقبض على المحسوس بكلتا يديه.

لقد ورِثَ فلاسفة الحداثة الذين أخذوا دربتهم عن الإغريق، معضلة “الفصل الإكراهيِّ” بين واجد الوجود والموجود الخاضع لمحسوبات العقل الحسِّيِّ ومقولاته. هذا الفصل لم يكن أمرًا عارضًا في الأذهان، بل سيكون له امتداده وسريانه الجوهريُّ في ثنايا العقل الكلِّيِّ لحضارة الغرب الحديث. بسبب من ذلك، غدا كلُّ سؤال تعلنه الفلسفة الحديثة على الملأ مُثقَلًا بحوامل الموجودات وعروضها. وسنجد كيف اكتظَّت بياناته بألوان الظنون، وهو يُسلِّم أمره لسلطان العقل واستدلاله.

تأسِّيًا بالقدماء، غالبًا ما دارت اختبارات الميتافيزيقا الحديثة مدار الفراغ العجيب. ولقد أظهرت معطياتها عن حيرة بين الموجود الفاني وواجب الوجود الحيّْ. تتخطَّفها أسئلة قلقة لا تنتهي إلى قرار. وكثيرًا ما لجأ المحدَثون من بعد يأسهم من تحصيل الأجوبة إلى توجيهات المعلِّم الأوَّل وخصوصًا إلى التعاليم التي تؤنِس الذهن الشغوف بعالم الممكنات. حال هؤلاء أنَّهم كلَّما أشغلوا فكرهم بشيء فوق واقعيٍّ، انزلق ذلك الشيء من بين أصابعهم ككائنٍ زئبقيّْ. صار سؤال الفيلسوف المستحدث المأخوذ في قلقه حدَّ التطيُّر، حائرًا وكذلك جوابُه حائرًا. ولأنَّه لا يقدر على تحصيل اليقين طابت له الإقامة في دنيا الأسئلة الفانية. وحين كتب على نفسه أن يتعرَّف إلى الأشياء كما هي في ذاتها، وأن يقتفي أثر الأحداث والظواهر قصد تحرِّي عِللِها وأسبابها والنتائج المترتِّبة عليها، تاه في أمره؛ حتى أخذه الظنَّ بأنَّ الاهتداء إلى الحقيقيِّ والعقلانيِّ إنَّما يمرُّ عبر الحواسِّ واستدلالات الذِّهن الحاسب.

في حقبة الحداثة التي تلت العصر الوسيط في الغرب، أسهم تطوُّر العلم الوضعيِّ إلى حدٍّ كبير في بروز الاتِّجاه الذي يفصل الإيمان بالله عن الحياة الواقعيَّة للإنسان الحديث. وبتأثير من علماء مثل كـوبرنيكُس(Copernicus)(1473-1543)، وغاليليــو(Galileo)(1564، 1642)، وخصوصًا نيوتن (Newton)(1642-1727)، كشف نموَّ العلم الوضعيِّ عن أسلوبٍ جذريٍّ جديد في التفكُّر بالكون المادِّيِّ وفهمه[8].

بدءًا من هذه الحقبة، سوف تمضي لعبة العقل العلميِّ في رحلة لن تتوقَّف عند حدّْ. إذ مع وفود العلم الحديث، فرضت الرياضيَّات- وليس الميتافيزيقا- نفسها كأسلوب مناسب لتشكيل فهمٍ علميٍّ وتجريبيٍّ للعالم. لم يستمدَّ العلم الجديد في تطوُّره الناضج قوانينه من اعتباراتٍ ميتافيزيقيَّة، ولم يُقدِّم نفسه كتابعٍ جوهريٍّ لها أو كطالبٍ للاندماج والاكتمال ضمن منظومة الميتافيزيقا واللَّاهوت الطبيعيّْ. كانت أيُّ إشارة إلى الله أو إلى الملائكة كأسباب لما يجري في العالم خارجةً عن مناط الإسناد المناسب للنظرة العلميَّة الجديدة. كانت الفرضيَّة الوحيدة المناسبة للاتِّجاه العلميِّ الجديد هي تلك التي يمكن من حيث المبدأ إثباتها أو نقضها من خلال الملاحظة التجريبيَّة والاختبار. كان واضحًا في التفكير الفلسفيِّ للحداثة الغربيَّة أنَّ الرُّجوع إلى الإله الذي «لم يرَه أيُّ إنسان في أيِّ وقت» هو نموذج لما لا يُمكن أن يرد كفرضيَّة حقيقيَّة في هذا السياق. وهكذا جرى تمهيد السبيل لرؤية هي أشبه بعقيدة راسخة لدى الغرب الحديث، وتُفيد بأنَّ إثبات الله يُشكِّل إقصاءً للديناميكيَّة الذاتيَّة لأكثر إنجازات الإنسان حسمًا، وهي العقليَّة العلميَّة. وللمفارقة، فإنَّ الروَّاد المميَّزين في العلم المعاصر من أمثال بُويل (Boyle)  ونيوتن(Newton) كانوا مقتنعين بأنَّ تأمُّلاتهم تُثبت وجود الله بما لا مجال فيه للشكِّ؛ وأنَّ وجود الإله الحكيم ضروريٌّ قطعًا لضمان ضبط الساعة الكونيَّة العظيمة كما ينبغي، والمحافظة على عملها بشكلٍ جيِّد. لكن لم يمضِ سوى وقت قصير حتَّى ظهر النزوع الإلحاديُّ في أفق المنهج العلميِّ الذي يُسنده. وبالتدريج، أصبحت أيُّ إشارة إلى الله في التفسير العلميِّ للعالم عَرَضيَّةً بشكلٍ متزايد. ومع الوقت، أصبح الله خارجًا عن الموضوع حتى حين يجري الحديث عن مصدر النظام الشمسيِّ وصيانته. كما أضحى التفسير الطبيعيَّ الحصريَّ لكلِّ الظواهر المادِّيَّة هو محور الاهتمام المسيطر.

 

الميتافيزيقا الحديثة سليلة ماضيها:

وفقًا لما مرَّ معنا من شواهد على تقلُّص حضور الميتافيزيقا، ينبغي عدُّ تطوُّر العلم الوضعيِّ الذي بدَّل الأفق الفكريِّ للغرب بشكل دراماتيكيٍّ على أنَّه عاملٌ ذو أهميَّة مركزيَّة في تشكيل الإلحاد المعاصر. يتَّضح هذا التطوُّر جيِّدًا في فكر ديكارت(Descartes) (1596-1650) حيث مضى في التنظير لذاتيَّة مفرطة سيكون لها أثرها العميق في التسييل الفلسفيِّ للإلحاد المعاصر. وكما يُلاحظ البروفيسور فابرو(Fabro) مثَّل الإلحاد ظاهرةً متفرِّقة تقع ضمن حدود النخبة الثقافيَّة، ولكن بمجرَّد بروز الكوجيتو على الساحة اتَّخذ الإلحاد بُنية محيطة وبشكلٍ متزامن اجتاح الحياة العامَّة والسلوك الفرديّْ[9].

للوهلة الأولى، يبدو مستهجنًا وصفُ فكر ديكارت كمصدرٍ للإلحاد لأنَّه كان مسيحيًّا مُقتنعًا، وكان يعتبرُ أنَّ كامل فلسفته هي دفاعٌ بالغ القوَّة عن الإيمان بالله. وبالفعل، فإنَّ فكرة الله التي يُشتقُّ منها إثبات وجوده هي سمةٌ لا غنى عنها إطلاقًا في منظومته الفلسفيَّة. ولكن رغم ذلك، ينبغي التمييز بين نيَّات أيِّ مفكِّر وبين المنطق الضمنيِّ لمنهجه ومبادئه من ناحيةٍ أخرى. في ما يتعلَّق بديكارت، ظهر بوضوح أنَّ فلسفته مصدرٌ خصيبٌ للإلحاد وذلك من خلال المسار اللَّاحق للتأمُّل الفلسفيِّ الذي استمدَّ إلهاماته من أعماله.

إذا كان ديكارت هو الفيلسوف المؤسِّس لحداثة الغرب فإنَّ مشروعه لم يقطع مع الأرسطيَّة بل شكَّل امتدادًا جوهريًّا لمنطقها من خلال الخضوع لوثنيَّة الأنا المفكِّرة. وسيجوز لنا القول أنَّ الكوجيتو الديكارتيَّ ما هو إلَّا استئناف مستحدث لـ “دنيويَّة” أرسطو. وبسبب من سطوة النزعة الدنيويَّة هذه على مجمل حداثة الغرب لم يخرج سوى “الندرة” من المفكِّرين الذين تنبَّهوا إلى معاثر الكوجيتو وأثره الكبير على تشكُّلات وعي الغرب لذاته وللوجود كلِّه. من هؤلاء نشير إلى الفيلسوف الألمانيِّ فرانز فونبادر الذي قامت أطروحاته على تفكيك جذريٍّ لمباني الميتافيزيقا الحديثة، وحكم بتهافتها الأنطولوجيِّ والمعرفيِّ في آن. وإذا كانت فلسفة بادر النقديَّة طاولت الأُسُس التي انبنت عليها الميتافيزيقا الأولى، فإن نقده للديكارتيَّة يشكِّل ترجمة مستحدثة للميراث الأرسطيِّ بمجمله.

يمكن إيجاز نقد بادر للكوجيتو الديكارتيِّ في النقاط الثلاث التالية:

   أوَّلًا: إنَّ الكوجيتو الديكارتيَّ «مبدأ الأنا أفكر» يؤدِّي إلى قلب العلاقة التأسيسيَّة للوعي بجناحيه المتناهي واللَّامتناهي. يحتجُّ بادر على العقليين بقوله: «كيف يمكن أن يعرفوا بتفكير لا إلهيٍّ، أو تفكير لا إله فيه، وبتفكير مدعوم إلهيًّا، مع أنَّ نفس وجود أو لا وجود اللَّه يُحدَّد فقط من خلال تفكيرهم، وطالما أنَّ قضيتهم “تجري وفق معادلة مختلَّة الأركان قوامها: «اللَّه موجود مجرَّد نتيجة للأنا موجود[10]».

   ثانيًا: ما يريد الشكُّ الديكارتيُّ أن يقوله فعلًا، بوصفه استقلاليَّة مطلقة للمعرفة، ليس أقلَّ من أن الإنسان بوصفه مخلوقًا يكوِّن معرفته الخاصَّة ويجعلها تؤسِّس ذاتها من دون مسبقات. الـ “أنا موجود” ( ergo sum) التي تلي «الأنا أفكِّر» (co gito) هي تعبير عن كيان يريد إظهار نفسه بالتفكير والكينونة، بمعزل عن الله، وكونه عاجزًا عن فعل هذا، يمنع تجلِّي نفسه وتجلِّي الله. فالموجود المتناهي، الإنسان، من خلال تأسيس يقينه الوجوديِّ والمعرفيِّ في الأنا الواعي يحاول إظهار ذاته كموجود مطلق، ويجعل نفسه إلهًا مؤسِّسًا لذاته[11]“.

ثالثًا: يشكِّل الكوجيتو الديكارتيُّ، بالأساس، انعطافة أبستمولوجيَّة نحو الأنا، ممَّا يستلزم انعطافة أنطولوجيَّة تليها انعطافة أبستيموليجيَّة منطقيَّة أنطولوجيَّة للعودة إلى ذاتها، بهذا يساعد ويحرِّض على نسيان خاصِّيَّة الوحدة المرتبطة بالشخصيَّة والعقل الفرديِّ. الأنويَّة الأبستمولوجيَّة والأنانيَّة الأنطولوجيَّة لـ «الأنا أفكِّر أنا موجود» في تطبيقها للفلسفة الاجتماعيَّة والسياسيَّة تؤدِّي إلى أنانيَّة سياسيَّة ليبراليَّة ذات نظام سياسيٍّ واقتصاديٍّ أنانيّْ[12].

على هذا النحو من النظر إلى “العقل الأنانيِّ” المستكفي بذاته، سيؤسِّس ديكارت فلسفة العصر الحديث. وهي كما يظهر ممَّا أنجزته في رحلتها المتمادية، فلسفة أيقنت دعوتها على الاكتفاء الذاتيِّ للتفكير والوجود الإنسانيّْ. وجلُّ الفلاسفة الذي خَلَفوا ديكارت أو تبعوا دربته الاكتفائيَّة، رأوا أنَّ ذات المرء كافية في تأسيس وجوده وتفكيره، وأنَّ الإنسان بسبب هذا الاكتفاء الذاتيِّ لا يحتاج إلى اللَّه في التأسيس والمساعدة، ولا في وجوده، ولا في معرفته، ولا في وعيه الذاتي.

لقد نبَّه التحليل النقديُّ لـ «الأنا أفكِّر إذًا أنا موجود» إلى أنَّ الأنا، عندما تتأمَّل المكان الذي أتت منه، سوف تدرك أنَّها لا تملك “كوجيتو” خاصًا بها، ولا وعيًا ذاتيًّا خاصًّا بها، ومنسجمًا معه. عندما نفكِّر بشكل أعمق في شروط الوعي- كما يبيِّن نقَّاد الكوجيتو- يصل المرء إلى معرفة أنَّ الوعي المتناهي يعرف ذاته على أنَّه وعيٌ لشخص لا يُحدِث نفسه ولا يعرف نفسه بنفسه وحده. وفي ذات الوقت الذي يعرف الوعي المتناهي «الأنا أفكر» ماهيَّته، يعرف أنَّه: «مفكَّر فيه». فالوعي المتناهي مؤسَّس في وعي مطلق مستقلٍّ بشكل كامل عن الوعي المتناهي[13].

و«مبدأ المفكَّر فيه» يعبِّر عن عقيدة حضور كلِّ الأشياء في اللَّه على مستوى الوعي، بمعنى أنَّ الوعي المتناهي مؤسَّس في اللَّامتناهي، ومن ناحية أخرى يبيِّن أنَّ معرفة الإنسان ليست صنيعة الإنسان، بل هي موهبة إلهيَّة.

من الفلاسفة الذين اتَّبعوا «مبدأ الكوجيتو«الديكارتيِّ والذين انتقدهم بادر بسببه: (إيمانويل كانط – Kant ( 1724 1804، و(جوهان غوتليب فيخته Fichte 1762- 1814)، وشلنغ (Schelling 1775- 1845)، و(هيغل Hrgel 1770 -1831) وغيرهم. ويهمُّنا هنا أن نعرض بإيجاز إلى كلٍّ من كانط وهيغل بوصفهما وريثين شرعيَّين للمدرسة الديكارتيَّة بأصولها الأرسطيَّة.

 

كانط والخروج على الميتافيزيقا:

مع كانط  (Kant)ستنعطف ميتافيزيقا الحداثة باتِّجاه دنيويَّة صارمة تتعدَّى التعطيل الذي أجراه ديكارت على العقل، وحكم بقصوره وعجزه عن معرفة الأصل الذي صدر منه العالم. لقد انبرى إلى الأخذ بالأنا الديكارتيَّة لتكون له القاعدة التي سيثبت من خلالها الاستقلال المطلق للإنسان. بينما رأى ديكارت أنَّ الإنسان يكتشف الحقيقة فحسب بوصفها أمرًا محدَّدًا مسبقًا بطريقةٍ إلهيَّة. يرى كانط أن الإنسان يُشكِّل هذه الحقيقة بفضل موارده الذاتيَّة الخاصَّة به. ثم سعى بناء على هذا إلى نقض الآراء التي كان يراها غير وافية للمفكِّرين المنطقيين المتأخِّرين عن ديكارت مثل «ليبنبز»(Leibniz)، و«وولف»(Wolf)، وكذلك آراء العلماء التجريبيين المتأخِّرين عن ديكارت كـ«لوك»(Locke)، و«هيوم»(Hume). لتحقيق هذا الأمر، وضع كانط الأرضيَّة لشموليَّة العلم وضرورته ولإطلاق حقيقة القيم الأخلاقيَّة ليس في منطق الله وإرادته بل في الأشكال البديهيَّة لفهم الإنسان واستقلاليَّة عقله العمليِّ المحض. وهكذا راح كانط يطوِّر ما سُمِّي بـ “ميتافيزيقا المحدود”؛ الذي لا يزال يُلهمُ التفلسف المعاصر في الغرب بمجمل أوجهه وتيَّاراته[14].

لم يأخذ كانط عن ديكارت وحسب. ففي عام 1756 سينصرف إلى أعمال الفيلسوف الإنكليزيِّ ديفيد هيوم وينأخذ بها حتى الانسحار. جاءه كلام هيوم كانعطافٍ حاسم: «إن أيَّ فيلسوف لايقدرعلى تفسير «قدرة الأسباب وقوَّتها السرِّيَّة»، وإنَّ القوَّة القصوى وفاعليَّة الطبيعة مجهولة تمامًا بالنسبة إلينا، وإنَّ البحث عنها في كلِّ الصفات المعروفة للمادة مجرَّد هباء.. وبالتالي فإنّ القدرة التي تسبب النتائج الطبيعيَّة واضحة لحواسِّنا، ولابدَّ من أن تكون هذه القدرة في الله. وأنَّ الله ليس هو الذي خلق المادَّة أوَّلًا فحسب، ووهبها حركتها الأساسيَّة، وإنما أيضًا بذلًا لقدرة الكليَّة ليدعم وجودها ويمنحها كلَّ تلك الحركات الموهوبة لها.. ثمَّ يتساءل: «إذا لم يكن عندنا فكرة كافية عن «القدرة» و”الفاعليَّة” و”السببيَّة” يمكن تطبيقها على المادَّة، فأين يمكننا أن نحصل على فكرة تنطبق على الله؟..

بسبب هيوم وشكوكيَّته سيهتزُّ إيمان كانط بشرعيَّة المعرفة الميتافيزيقيَّة. من بعد ذلك سيميلُ نحو منفسح آخر من التفكير الفلسفيِّ. وكان له أن يعرب عن ذلك في مؤلَّفه «مقدِّمات نقديَّة»: «لقد أيقظني ديفيد هيوم من سباتي الدوغمائيّْ». ثمَّ انبرى إلى الحكم على الميتافيزيقاـ كمعرفة إيجابيَّةـ بالموت.

لقد أثَّر نقدُ كانط لأدلَّة وجود الله بشكلٍ عميقٍ على الفكر الذي تلاه، وأسهم بصورة بيِّنة في تنمية الإلحاد الفلسفيِّ المعاصر. حتى اليوم، يُعترفُ على نطاق واسع، وغالبًا من دون نقد، أنَّ كانط دمَّر بشكلٍ حاسمٍ إمكانيَّة الدليل المنطقيِّ على وجود الله. رغم  ذلك، فإنَّ إسهامه الفكريَّ في ما يتعلَّق بمسألة الله وتطوُّر الإلحاد لا يقتصرُ على هذا المحور. ومن المهمِّ أن نفهم هنا لماذا ومن أيِّ ناحية لم يعتبر أنَّ تمام موقفه الفلسفيِّ هو إلحاديٌّ، بل خلاف ذلك هو دفاعٌ عن إمكانيَّة وجود نوعٍ محدَّد من الإيمان الدينيّْ. المفارقة اللَّافتة أنَّ كانط كان يعي المخاطر المترتِّبة على نظامه الميتافيزيقيِّ، وهو ما يتَّضح من خلال تحذيره الصريح من أن يؤدِّي نقضه لأدلَّة وجود الله إلى استنتاجات إلحاديَّة. ومن البيِّن أنَّه بدا هنا كما لو أنَّه يتموضع في “حقل اللَّاأدريَّة” من دون أن يصرِّح بذلك. فهو يشيرُ إلى أنَّ الأُسُس التي تمنعُ الإثبات الميتافيزيقيَّ لوجود الله هي نفسها الأُسُس التي تمنع صلاحيَّة جميع الأدلَّة المعارضة. وما ينطبقُ على الأول ينطبق على الآخر، وإذا لم نتمكَّن خارج التجربة من التدبُّر بشكل صحيح حول وجود كائن أعلى بصفته العلَّة النهائيَّة لكلِّ شيء، فعلى المنوال نفسه لا يمكننا التدبُّر خارج التجربة بعدم وجود هذا الكائن الأعلى[15].

ومع أنَّ مثل هذا المقابلة بين مدَّعيات النفي والإثبات وقوله بتعادل حجيِّة كلٍّ منهما، صار من المنطقيِّ اعتباره مسوِّغًا للنزعة اللَّا إدريَّة التي ستؤسِّس في ما بعد لنزعات إلحاديَّة ستظهر بقوَّة جامحة في الزمن العلمانيِّ الغربيّْ.

في مفتتح كتابه الذي صدر عام 1763 بعنوان “بحث في وضوح مبادئ اللَّاهوت الطبيعيِّ والأخلاق”، ذكر إيمانويل كانط أنَّ الميتافيزيقاـ هي بلا أدنى شكٍّ ـ أكثر الحدوس الإنسانيَّة قوَّة لكنَّها لم تُكتب بعد.. وفي كتابه “نقد العقل الخالص” أراد أن يدوِّن الميتافيزيقا على هيئة لا قِبَلَ لها بها في سيرتها الممتدَّة من اليونان إلى مبتدأ الحداثة. لقد شعر وهو يمضي في المخاطرة كأنَّما امتلك عقلًا حرًّا، بعدما ظنَّ أنَّه تحرَّر تمامًا من رياضيَّات ديكارت. راح يرنو إلى الإمساك بناصيتها ليدفعها نحو منقلب آخر. لكن حين انصرف إلى مبتغاه لم يكن يتخيَّل أنَّ “الكوجيتو الديكارتي” رَكَزَ في قرارة نفسه ولن يفارقها مطلقًا. ربما غاب عنه يومئذٍ أن تخلِّيه عن منهج ديكارت الرياضيِّ لن ينجيه من سطوة “الأنا أفكر” ولو اصطنع لنفسه منهجًا آخر. كانت قاعدته الأولى عدم البدء بالتعريفات كما يفعل علماء المنطق الرياضيِّ، بل عليه البحث عما يمكن إدراكه في كلِّ موضوع عن طريق البرهان المباشر. كأن يقوم المبرهَنْ عليه من تلك الإدراكات بالتعبير مباشرة عن نفسه بحكمٍ ما. أمَّا قاعدته الثانية فقد نهضت على إحصاء كلِّ الأحكام بشكل منفصل، والتيقُّن من ألَّا يكون أيٌّ منها متضمَّنًا في الآخر. وأخيرًا وضع الأحكام الباقية كأوليَّات أساسيَّة ينبغي بناء كلِّ المعرفة اللَّاحقة عليها.

سَيبينُ لنا جرَّاء ما سَلَفَ أنَّ النقد الكانطيِّ للميتافيزيقا لم يكن سوى إنشاء متجدِّد للشكِّ الديكارتيِّ بوسائل وتقنيَّات أخرى. فالمشروع النقديُّ الذي افتتحه كانط هو في مسراه الفعليِّ امتدادٌ جوهريٌّ لمبدأ الـ”أنا أفكر” المؤكِّدة لوجودها بالشكّْ. وهو المشروع الذي أسَّس لسيادة العقل، وَحَصَر الهمَّ المعرفيَّ الإنسانيَّ كلَّه بما لا يجاوز عالم الحسّ. لكن انهمامه بالعقلانيَّة الصارمة سيقوده راضيًا شطرَ الكوجيتو الديكارتيِّ حتى ليكاد يذوي فيه. الأمر الذي سيجرُّ منظومته الفلسفيَّة نحو أظِلَّة قاتمة لم تنجُ الحضارة الحديثة من آثارها وتداعياتها حتى يومنا هذا[16].

وما من ريب في أنَّ منظومة كانط المسكونة بسلطان الكوجيتو ومعاثره أيضًا، وأساسًا بالميراث الأرسطيِّ المتين، سوف تُستدرج إلى تناقض بيِّن في أركانها. لعلَّ أوَّل ما ينكشف من هذا التناقض هو ما يعرب عنه السؤال التالي: كيف يمكن أن يستخدم كانط العقل كوسيلة ليبرهن أنَّ هذا العقل لا يستطيع أن يصل إلى المعرفة الفعليَّة بالأشياء كما هي واقعًا؟ وكيف يمكن أن يعلن أنَّ المرء لا يستطيع تحصيل معرفة الشيء في ذاته، وفي الوقت نفسه يستمرُّ في وصف العقل كشيء في ذاته. واضح أنَّ مجمل حججه لا أساس لها ما لم تكن قادرة على وصف العقل كما هو في حقيقته. وهذا لا ينطبق عليه فحسب، بل يشمل أيضًا كلَّ الفلاسفة الذين تشابهت عليهم مكانة العقل وحدوده. فإذا كنَّا لا نعرف إلَّا ظواهر الأمور، فكيف يمكننا أن نعرف العقل بذاته؟ وإذا كنَّا لا نعرف إلَّا الظاهر فحسب، فهل ثمَّة معنى لقولنا إنَّنا نعرف شيئًا ما؟ وأمَّا سبب هذه التناقضات على الجملة فتكمن في أنّ الفلسفة النقديَّة استثنت معرفة اللَّه والدين النظريَّ من حقل المعرفة التي يمكن الحصول عليها عن طريق العقل[17].

اضطُرَّ كانط لمواجهة اليأس من التعرُّف على “سرِّ الشيء في ذاته”، إلى أن يبتني أُسُس المعرفة الميتافيزيقيَّة بوساطة العلم. استبدل التعريفات المجرَّدة بالملاحظة التجريبيَّة، حتى لقد خُيِّل للذين تابعوه وكأنَّه يغادر الفلسفة الأولى ومقولاتها ليستقرَّ في محراب الفيزياء. وليس كلامه عن أنَّ “المنهج الصحيح للميتافيزيقا هو المنهج نفسه الذي قدَّمه نيوتن في العلوم الطبيعيَّة”، سوى شهادة بيِّنة على نزعته الفيزيائيَّة. لقد رأى أنَّ إلغاء الميتافيزيقا تمامًا سيكون مستحيلًا، وأنَّ أكثر ما يمكن فعله هو إزالة بعض الأنواع غير الصالحة منها، وفتح الباب أمام ما يسمِّيه بالعقيدة العلميَّة الجديدة. وهي العقيدة التي سيضعها تحت عنوان “الإمكان الميتافيزيقيِّ” في العالم الطبيعيِّ، وتقوم على التمييز المنهجيِّ بين عالمين غير متكافئين: عالم الألوهيَّة وعالم الطبيعة. غير أنَّ التمييز الكانطيَّ بين هذين العالمين سيغدو في ما بعد تفريقًا بين الكائن المتعالي فوق الزمان والمكان، وبين الدين بما هو كائن تاريخيٌّ ثاوٍ في الزمان والمكان. مع هذا التفريق سينفجر التأويل وتتعدَّد القراءات ليُرى إلى كانط تارة كفيلسوفٍ مؤمن توارى إيمانه بين السطور والألفاظ، أو كملحدٍ لا يرى إلى الله إلا كمتخيَّل بشريّْ…

بالتأكيد لن يُحمل على كانط أنَّه كان عدوًّا للإيمان، لكن عَيْبَه الموصوف أنَّه أسَّس لـ “مانيفستو فلسفيٍّ” يقطع صلات الوصل المعرفيَّة بين الله والعالم، وبالتالي بين الدين والعقل. هذا هو الإجراء “الكوبرنيكيُّ” الذي شقَّ الميتافيزيقا إلى نصفين متنافرين (دينيٍّ ـ دنيويٍّ) وما سينتهي إليه من غلبة الدنيويِّ المحض على أزمنة مديدة من أنوار الحداثة.

مع هذا، فقد بدا كانط كما لو أنَّه فتح الكوَّة التي ستتدفَّق منها موجات هائلة تعادي التنظير الميتافيزيقيَّ ولا تقيم له وزنًا في عالم الإمكان الفيزيائيّْ. أهل الميتافيزيقا المثلومة من مثل هؤلاء أخذوا مقالته  بشغف، ولا يزالون عاكفين عليها كأمر قدسيّْ. لقد أعادوا إنتاج القطيعة بين الكائن الذي لا يُدرك والموجود الواقع تحت راحة اليد. وفي أحقاب متأخِّرة حرصوا على وقف مهمة الميتافيزيقا حينًا على التحليل العلمويِّ، وحينًا آخر من أجل استخدامه في عمليَّة التوظيف الإيديولوجيّْ. وعليه، فقط دأبوا على إحاطتها بسوار لا ينبغي فكَّه إلَّا عند الاقتضاء. فلا تصبح الميتافيزيقا ممكنة إلَّا متى كان هناك مجال شرعيٌّ للمبحث الميتافيزيقيِّ، في حين تكون العلوم التجريبيَّة هي الحاكم، بل هي وحدها القادرة على إنبائنا ببنية الواقع الأساسيَّة.

لم يكن الحاصل من تصيير الميتافيزيقا علمًا متاخمًا للعلوم الإنسانيًّة وسيَّالًا في ثناياها، سوى طغيان النزوع العقلانيِّ على الثقافة الغربيَّة منذ أرسطو إلى يومنا هذا. ولقد أكمل كانط رحلة الإغريق من خلال سعيه لإنشائها على نصاب جديد عبر تحويلها إلى موقف ينزلها من علياء التجريد إلى الانهمام بالعالم. لكن بدل الاكتفاء بالتمييز والإبقاء على خيط تتكامل فيه العمليَّة الإدراكيَّة للموجود بذاته والموجود بغيره، راح يفصل بين العالمين ليبتدئ زمنًا مستحدثًا تحوَّلت معه الميتافيزيقا إلى فيزياء أرضيَّة محضة[18].

 

هيغل ذروة اضطراب الميتافيزيقا المعاصرة:

وَرِث هيغل عن الأسلاف معثرته الكبرى. فكان بذلك أرسطيًّا بقدر ما كان ديكارتيًّا وكانطيًّا في اختباراته الفلسفيَّة. من بعدِ ما أضناه مبحثُ الوجود بذاته سيُعرض عن ورطته اللَّاهوتيَّة ليحكم على الوجود بالخلاء المشوب بالعدم. فلا وجود عنده إلَّا ما هو ظاهرٌ وواقعٌ تحت مرمى الأعين. ولقد ابتنى منظومته الفلسفيَّة الأنطولوجيَّة والسياسيَّة على فرضيَّته الشهيرة: كلُّ ما هو واقعيٌّ هو عقلانيٌّ، وكلُّ ما يعقله العقل لا  بدَّ من أن يكون واقعيًّا. وفي هذا لم يأتِ بجديد يَفْرُق بينه وبين السلف. ليس ثمَّة على ما يبدو من مائز جوهريٍّ بينه وبينهم. أخذ عنهم دربتهم ثمَّ عكف على مجاوزتهم حتّى اختلط الأمر عليه حدَّ الشبهة.

لقد آمن هيغل بالوجود ثمَّ اخضعه للديالكتيك. هذه المرَّة على خلاف ما استلهمه من جوهر الإيمان المسيحيِّ. لم يفعل ذلك من أجل توكيد كفاية الوجود لذاته بذاته، بل للتقرير أنَّه متناقض في ذاته. ومعنى هذا- كما يبيِّن في مدَّعاه- أنَّ وجود المجرَّد – قبل وجود الطبيعة – يحتمل ألَّا يكون موجودًا وموجودًا في الآن عينه. أي أنَّه ينطوي هو نفسه على الوجود واللَّاوجود في الآن عينه. والحال فقد اصطدم كلٌّ من هذين النقيضين في نظامه الفلسفيِّ لينجم عن ذلك أن تحوَّلَ فكرُه بكامله إلى ظواهر الموجودات، ثمَّ ليسري مذهبه التناقضيُّ إلى كلِّ موجود، سواء كان طبيعة أم إنسانًا أو مجتمعًا.

من المفيد ذكر أنَّ إحدى أبرز النظريَّات التي طرحها هيغل هي نفي (الوجود المحض) جملةً وتفصيلًا. ذلك لاعتقاده أنَّ كلَّ وجودٍ إنَّما ينشأ إثر تركيبه مع العدم. بمعنى أنَّ الوجود والعدم يجتمعان ليتمخَّض عنهما الوجود الطبيعيّْ. ولقد سعى الرجل لتوليفٍ ملتبسٍ يجتمع فيه الضدَّان والنقيضان، ثم ليكون هذا التوليف مؤسَّساً على فرضيَّتين أساسيَّتين:

الأولى: أنَّ كلَّ شيء يكون موجودًا ومعدومًا في آن واحد.

والثانية: أنَّ التناقض في الموجودات هو أساس حركتها وتكاملها.

 

هايدغر كانعطاف معاك:

كان بديهيًّا بإزاء التهافت المتواتر لميتافيزيقا الحداثة، أن تنفتح دروب على “ما بعديَّات” تتغيَّا الأخذ بناصية التفلسُف نحو مراجعات تعيد القول الفلسفيَّ إلى منطقة التأسيس. قد تكون محاولات الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إحدى أهمِّ وأعمق المراجعات التي عصفت بالتقليد الفلسفيِّ الغربيّْ.

بدت مساعي هايدغر على خلاف ما اقترفه السابقون عليه. قد يكون سؤاله الأثير عن السبب الذي أفضى إلى وجود الوجودات بدلًا من العدم، دليلًا على ذهابه إلى السؤال المؤسِّس. الإجابة كانت بديهيَّة من طرف هايدغر: إنَّ الشيء الذي يناقض نفسه لا يمكن أن يكون أو يوجد. لكأنَّما يرد على هيغل من دون أن يسمِّيه؛ ثم يضيف متعجِّبًا: كيف يكون هناك وجود محدَّد وغير محدَّد في آن واحد. ومن جهتنا نضيف: كيف لهيغل أن يرتضي لنفسه السؤال عن شيء ليس موجودًا؟.

استعاد هايدغر ما سبق وما لَحِق من أسئلة الميتافيزيقا، ثمَّ استودعها «حاضرته» الفائضة بالإبهام. فليس من غرابةٍ إذًا، أن نرى إلى مختبر أفكاره كمستودع يحوي العناوين الكبرى التي أنجزتها الفلسفة، على تعاقب أطوارها، وتنوُّع مدارسها وتيَّاراتها[19].

شُغلُه باستعادة الأسئلة الماضية الحاضرة، لم يكن لأجل تفكيكها أو انتقادها تمهيدًا للتبرُّؤ منها، وإنَّما لتكون له ممرًّا إجباريًّا لمجاوزتها وإعادة تظهيرها وفقَ ما يختزنه مشروعه من إنشاء فلسفيٍّ متجدِّد. أفصح هايدغر عن ذلك لمَّا أشار إلى صعوبة الكتابة من خارج أفق الميتافيزيقا، وحجَّتُه أنَّ الاعتناء بالسؤال المؤسِّس- أي ذاك الذي يستفهم حقيقة الوجود- يستحيل أن يُنجز بمعزلٍ عن عالم الواقع، الذي يشكِّل برأيه أفق الدلالة الشاملة للذَّات الحيَّة، والذي في مجاله تتحقَّق الخبرة الإنسانيَّة.

لم يقطع هايدغر مع الميتافيزيقا الكلاسيكيَّة التي اكتفت بالاعتناء بالموجود، بل دعا إلى اجتيازها من خلال العودة إلى السؤال الأصيل عن وجودٍ لفَّهُ النسيانُ. لأجل ذلك راحت منظومته تنمو وتتكامل على امتداد انعطافات أربعة:

الأوَّل: حين توقَّف مليًّا عند معنى واجب الوجود.

الثاني: لمَّا سعى لتجاوز وهن الميتافيزيقا وفقرها الوجوديّْ. كانت دعوته حالذاك متّجهة إلى نقل الهمِّ الميتافيزيقي من حيِّز الاعتناء بالماهيَّات نحو فضاءِ العنايةِ بالوجودِ وأصالتهِ.

الثالث: لمَّا استدرجه السؤال عن حقيقة الوجود إلى قلق طاول قاع النفس والفكر، وبسببه طفق يبحث عن مَلَكَاتٍ أخرى غير مرئيَّة في الروح الإنسانيَّة لتكون البديل من العقلانيَّة المتشيِّئة لميتافيزيقا الحداثة.

الرابع: حَيْرتُه في الإشراقات التي وجد أن الكينونة تَهَبُها للإنسان لكي يهتدي بها إلى صواب الضمير[20].

إذا كانت مهمَّة هايدغر الأولى مجاوزة الميتافيزيقا بداعي انئخاذها بالموجود، وغفلتها عن الحقيقة الأصليَّة للوجود، فمثل هذه المهمَّة لا تلبث حتى تتضاعف تحيُّرًا حين تعلم أنَّ تلك “الغافلة عن أصلها” لمَّا تزل تحتل مساحة العالم وتقرِّر مصائر أهله. ذاك أنَّ عصر الانتقال من الميتافيزيقا المكتفية بعالم الحواسِّ إلى ما فوقها، يتمُّ بصوت خفيض أمام ضوضاء التقنيَّة وسيطرتها المطلقة. في هذه الحقبة من تطوُّر الميتافيزيقا يصبح الكائن الإنسانيُّ في وضعيَّة حدِّيَّة وحرجة: من ناحية تجعله يستسلم لجنون الهيمنة، ومن ناحية أخرى يتنبَّه إلى وجوب أن يأخذ قسطه من مسؤوليَّة كشف الواقع الذي هو فيه. والكشف هنا هو إزاحة السِّتر عمَّا يمارسه العقل التقنيِّ، إلى الحدِّ الذي يجعل انتماء الإنسان للوجود يعلن عن نفسه عبر استشعاره للخطر. وهذا الإنسان هو نفسه الذي سيطلق عليه هايدغر اسم “الدازاين” أو”الكائن الإنسانيِّ الباحث عن سرِّ حضوره في العالم”، وهو ما حاول التفكير فيه تفكيرًا خاصًّا عبر ما سمَّاه (الإيرايغنيس Ereignis). أو “الانبثاق الكبير”[21]

لم يفارق هايدغر أسئلة الميتافيزيقا الصمَّاء، لكنه لم يسكن إليها، وإنما ساكَنَهَا على سبيل المجاراة والوفاء لقربى قديمة. أمَّا ما ستؤول إليه رغائبه فذلك ما ستفي به إلقاءات السنين الأخيرة من عمره.

لن نقول إنَّ هايدغر بلغ المكان الآمن في الحضرة. لقد مضى بالبذل طلبًا لهذا المبتغى. لكنه اتجه شطر الألوهيِّ بشقِّ النفس.. إلى أن وجدناه بعد طوافه الأخير في صحراء الميتافيزيقا الظمأى يعلن أنَّ بإمكان: “الله وحده أن يمنحنا النجاة”… وما كنا لنستحضر التنظير الهايدغريَّ هذا، إلَّا باعتبار ما “اقترفه من شَغَبٍ فريد” في تاريخ الميتافيزيقا الغربيَّة. فالمحصول الذي زوَّدنا به كان أدنى إلى «جيولوجيا فلسفيَّة» أسهمت إلى حدٍّ وازن في زعزعة أركان العقل الأداتيِّ للحداثة الغربيّة، وأطلقت ما يمكن اعتباره ما بعد الغرب الفلسفيّْ.

 

إرهاصات لميتافيزيقا مابعديَّة:

الأثر البيِّن لمعاثر الميتافيزيقا في الغرب سيظهر في ملحمة الاحتدام بين الإيمان الدينيِّ والعقل العلميِّ. فلقد جاءت أطروحة التناقض بينهما كتمثيل بيِّن على مأزق مشروع التنوير الذي افتتحته الحداثة في مقتبل عمرها. وسيأتي من فضاء الغرب نفسه من يُساجل أهل الأطروحة ليُبيِّن أن الإيمان لو كان نقيضًا للعقل لكان يميل إلى نزع الصفة الإنسانيَّة عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل يدمِّر في المقابل نفسه ويدمِّر إنسانيَّة الإنسان، إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك بنية العقل على أن يكون لديه همٌّ أقصى، أي أن يكون شغوفًا بالله والإنسان في آن، وذلك إلى الدرجة التي يؤول به هذا الشغف إلى تخطِّي الثنائيَّة السلبيَّة التي تصنع القطيعة بين طرفيها. وحده من يمتلك ملكة «العقل الخلاَّق» ـ أي العقل الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسانيَّة ـ هو الذي يفلح بفتح منفذٍ فسيح يصل بين الواقع الفيزيائيِّ للإنسان وحضـور المقـدَّس في حياته. وما نعنيــه بالعقل الخلَّاق هـو العقــل الذي يشكِّل البنية المعنويـَّـة للذِّهن والواقع، لا العقل بوصفه أداة تقنيَّة بحتة. وبهذا المعنى، يصير العقل شرطًا تأسيسيًّا للإيمان: ذلك لأنَّ الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الإنجذابيَّة إلى ما وراء ذاته، أي إلى ما بعد أنانيَّته التي يتجاوزها بالإيثار والعطاء والجود والغيريَّة. بتوضيح آخر، إنَّ عقل الإنسان مُتناهٍ ومحدود، ويتحرَّك داخل علاقات متناهية ومحدَّدة حين يهتمُّ بالعالم وبالإنسان نفسه. ولجميع الفعاليَّات الثقافيَّة التي يتلقَّى فيها الإنسان عالمه هذه الخاصيَّة في التناهي والمحدوديَّة. لكن العقل ليس مقيَّدًا بتناهيه، بل هو يعيه، وبهذا الوعي يرتفع فوقه وعندها يجرِّب الإنسان انتماءً إلى اللَّامتناهي الذي هو مع ذلك ليس جزءًا منه ولا يقع في متناوله، ولكن لا بدَّ له من الاستحواذ عليه. وحين يستحوذ على الإنسان يصير بالنسبة إليه همًّا لا متناهيًا أي مقدَّسًا ونبيلًا. وحين يكون العقل ـ بهذه الصيرورة ـ مسلَّمة للإيمان، يكون بهذا المعنى تحقُّقًا للعقل. ومقام الإيمان بوصفه حالة همٍّ أقصى هو نفسه مقام العقل في طور نشوته الإنجذابيَّة. والنتيجة أن لا تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل بل يقع كلٌّ منهما في داخل الآخر[22]..

هل تعني عودة القضيَّة الدينيَّة إلى المجتمعات العالميَّة، والمجتمعات الغربيَّة على وجه الخصوص، غياب العلمانيَّة أو انكفاءها عن حضورها التاريخيّْ؟

الجواب الابتدائيُّ كما تشير إليه صورة النقاش بين النخب الغربيَّة نفسها لا تقرُّ بمثل هذه المعادلة. لذا ستأخذ حلقات التفكير مسارًا آخر لا يقوم على قانون النفي والإثبات، وإنَّما على سعيٍ للعثور على منطقة وسطى تؤسِّس لتسوية المشكلة.

لا ريب في أنَّ “رجوع الدينيِّ”، هو عنوان إشكاليٌّ ستكون له آثاره البيِّنة على المفاهيم والأفكار والقيم التي تجتاح المجتمعات الغربيَّة اليوم. من بين تلك الآثار ما ينبري إلى تداوله جمعٌ من فلاسفة ومفكِّري الغرب سعيًا للعثور على منظور معرفيٍّ يُنهي الاختصام المديد بين الدين والعلمنة. والذي تسالَمَ عليه الجمعُ في ما عرف بنظريَّة “ما بعد العلمانيَّة”، هو أحد أكثر النوافذ المقترحة حساسيَّة في هذا الاتِّجاه. ما يعزِّز آمال القائلين بهذه النظريَّة أنَّ أوروبا الغنيَّة بالميراثين العلمانيِّ والدينيِّ قادرة على إبداع صيغة تناظر تجمع الميراثين معًا بعد فِرقة طال أمدُها. ربما هذا هو السبب الذي لأجله ذهب بعض منظِّري “ما بعد العلمانيَّة” ـ ومنهم الفيلسوف الألمانيُّ يورغن هابرماس ـ إلى وجوب تخصيص إطار مرجعيٍّ يحضن أهل الديانات وأتباع العلمنة سواءً بسواء بغية العيش المتناغم في أوروبا تعدُّديَّة.

شغف التساؤل حول صيرورة الاحتدام بين العقل والدين ومآلاته، لم يتوقَّف عند هذا المفرق.. كان ثمَّة منحى آخر تترجمه المحاورات الهادئة بين اللَّاهوت والفلسفة. واللقاء المثير الذي جمع قبل بضعة أعوام البابا بينيدكتوس السادس عشر إلى الفيلسوف هابرماس[23]، شكَّل في العمق أحد أبرز منعطفات التحاور الخلَّاق بين الإيمان الدينيِّ والعلمنة في أوروبا. ومع أنَّ اللقاء لم يسفر يومئذٍ عمَّا يمكن اعتباره ميثاقًا أوليًّا للمصالحة بين التفكير اللَّاهوتيِّ والتفكير العلمانيِّ، إلَّا أنَّه أطلق جدلًا قد لا ينتهي إلى مستقرٍّ في الأمد المنظور.

اللقاء الفريد بين الرجلين ظَهَّرَ المسلَّمات التي ينبغي الأخذ بها لتحصين كرامة الإنسان في زمن بلغت فيه اختبارات الحداثة حدَّ التهافت. وجد هابرماس في العقل العمليِّ لـ”الفكر ما بعد الميتافيزيقيِّ العلمانيِّ” نافذة نجاة.. بينما وجده البابا بنيديكتوس في الإنسان كمخلوق إلهيٍّ. يومها اعترف هابرماس باستعداد الفلسفة للتعلُّم من الدين. كان لسان حاله يقول: ما دام العقل لم يستطع القضاء على الوحي في فضاء علمانيٍّ، فليهتمَّ الفيلسوف بالإيمان عوض الاستمرار في الحرب معه. ثمَّ أصرَّ على ضرورة أن توليَ الدولة المشرِّعة للقوانين كلَّ الثقافات والتمثُّلات الدينيَّة عنايتها، وأن تعترفَ لها بفضاء خاصٍّ في إطار ما سمَّاه بالوعي “ما بعد العلمانيِّ” للمجتمع. أمَّا إجماليُّ ما ذهب إليه البابا فهو دعوته إلى تحصين الحضارة الغربيَّة المعاصرة عبر خمس ركائز: التعاون بين العقل والإيمان ـ مواجهة التحدِّيات الجديدة التي تواجه الإنسان ـ فكرة الحقِّ الطبيعيِّ كحقٍّ عقليّْ ـ  التعدُّد الثقافيُّ كفضاء لارتباط العقل والإيمان ـ العقل والإيمان مدعوَّان لتنظيف وإشفاء بعضهما البعض[24]

لو كان لنا من عبرةٍ تُستخلَصُ ممَّا دار بين اللَّاهوتيِّ والفيلسوف، لقلنا إنَّ ما حصل هو أشبه بإجراء يُنبئ عن انصرام تاريخ غربيٍّ كامل من الجدل المزمن حول “بِدعة” الاختصام بين الوحي والعقل. لكن ماذا لو افترضنا بناءً على ما مرَّ، أن تكون صنيعة ما بعد العلمانيَّة هي منطقة التوسُّط الفضلى بين نقيضين شكَّلا محور اهتمام مثل سواها من المفاهيم التي استحدثتها الحداثة يجري القول على فكرة “ما بعد العلمانيَّة” مجرى البدايات والنهايات، أي على بَدءٍ جديد يلي انتهاءات مضت. والأحاديث عن موت المفاهيم في ثقافة الغرب عمرُها عمرُ الحداثة. أحاديث لم يتوقَّف سَيلُها منذ أول نقدٍ “لتنويرٍ” مالت شمسُه إلى المغيب مع المنعطف الميتافيزيقيِّ الذي قاده كانط وهو يعاين معاثر العقل المحض وعيوبه. لم يكن شغف العقل الحداثيِّ بختم المفاهيم والإعلان عن نهايتها، إلَّا لرغبة ببدءٍ جديد. فالتاريخ ليس حركة انتقال من الخواء إلى الملاء، وإنما هو امتدادٌ جوهريٌّ بين الما قبل والما بعد. فكلُّ مقالة عن نهاية أمرٍ ما، إنَّما هي ضربٌ من إعلان مضمر عن بَدءٍ لأمر تالٍ من دون الحكم عليه بالبطلان. في ذلك شَبَهٌ ـ بنسبة ما ـ مع تنظير هايدغر حول نهاية الميتافيزيقا ليُظهر أنَّ إنهاءها هو التملُّك الفعليُّ لها وليس نبذها أو الإطاحة بها. فالانسحاب والتواري داخل السلالة الواحدة لا يدلُّ بالضرورة على فعليْن متناقضيْن يريد كلٌّ منهم نفي نظيره[25].

لذا، فإنَّ المسرى الامتداديَّ بين الما قبل والما بعد لا ينشط على سياق آليٍّ، كأن يتحرَّك من النقطة ألِف إلى النقطة ياء من دون أخذ وعطاء، فذلك ليس من طبيعة المسرى الذي نحن في صدده، وإنَّما هو فعاليَّة متضمَّنة في جوهر حركة التاريخ التي تتأبَّى على الانقطاع والفراغ.

كلُّ ما جاء به العقل الغربيِّ من محاجَّات، فإنَّما من تضخُّم الذات التي أسلمت نفسها لمسلَّمتين سحابة أربعة قرون خلت:

1 – مسلَّمة العلم التي تقرِّر أنَّ العلم والتفكير العلميَّ قادران لوحدهما على أن يحدِّدا كلَّ ما علينا أن نتقبَّله على أنَّه حقيقيٌّ، وأنَّ كلَّ شيء يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أو أيِّ فرع آخر من فروع العلم، أمَّا الروحانيَّات وحتى الشعور بالجمال والحدس والعاطفة والأخلاقيَّات، فقد اختزلتها النظرة العقلانيَّة إلى مجرَّد متغيِّرات في كيمياء الدماغ تتفاعل مع مجموعة من القوانين الميكروـ بيولوجيَّة المرتبطة بتطوُّر الإنسان.

2 – مسلَّمة الهيمنة والاستحواذ، لمَّا رأت أنَّ الهدف من العلم – كما يقول فرانسيس بيكون – هو التحكُّم بالعالم الخارجيِّ واستغلال الطبيعة، والسعي الحثيث لجلب المنافع أنَّى وُجِدَت…

من أجل ذلك، سيكشف مسار الحداثة الفائضة عن خراب مبين في اليقين الجمعيِّ سيُعرِّفُهُ عالم الاجتماع الألمانيُّ دوركهايم بـ”هيكل الشرك الحديث”. وهذا هو في الواقع، ما تستجليه عقيدة الفرد وشخصانيَّته المطلقة. فالشكل العباديُّ للشرك الحديث ـ كما ألمحَ دوركهايم ـ ليس الوثنيَّة بل النرجسيَّة البشريَّة، حيث بلغ تضخُّم الذات لديها منزلة الذروة في زمن الليبراليَّة المطلقة.

لقد ظهر في اختبارات الحداثة وامتداداتها المعاصرة أن ليس للمقدَّس لدى “العِلْمويَّة” بصيغتها الإلحاديَّة من محل. وهنا على وجه الضبط تكمن إحدى أهمِّ خاصِّيات التهافت في الفكرة الإلحاديَّة، نعني بذلك نظرها إلى الانسان كشيء زائل ككلِّ الموجودات الزائلة، حيث لا يعود المتعالي الإلهيُّ بالنسبة إليها غير وهم محض.

 

[1]– إبراهيم مدكور، فلاسفة الإسلام والتوفيق بين الفلسفة والدين، في إطار كتاب “قضيّة الفلسفة” تحرير وتقديم: محمّد كامل الخطيب ، دار الطليعة الجديدة ، دمشق، 1998، ص: 165.

[2]– Aristote, Physique, 258 a, 5-b, 4.

[3]– Aristote, Des parties des animaux. 1, 5.

[4]– إبراهيم مدكور: مجلة “الرسالة”، القاهرة، السنة الرابعة، العدد 141- 13-9-1936- ص 200.

6-إتيان جلسون: وحدة التجربة الفلسفيّة، ترجمة: طارق عسيلي، المركز الإسلامي للدراسات الإسلاميَّة،

الإستراتيجيّة، ط1، بيروت، 2017، ص 256 .

7- المصدر نفسه: الصفحة إيّاها.

  

[7]– جلسون: نفسه، ص: 257.

[8]– H.Butterfield, The Origins of Modern Science 1300-1800, London, 1951, p.7.

[9]C.Fabro, God in Exile-Modern Atheism: AStudy of the Internal Dynamic of Modern Atheism, from itsRoots in the Cartesian Cogito to the Present Day, NewYork, 1968, pp.26 -27.

 

[10]– Franz von Baader،BB،Brief an Dr. vonStransky،77. April 5485،in SW،Vol. XV،p. 757.

[11]– Ipid. P. 776

 ترجمة: طارق عسيلي، فصليّة “الاستغراب”، العدد السابع، ربيع 2017. رولاند بيتشي،  فرانز فون بادر، ناقد العلمانيّة الملحدة. -[12]

 رولاند بيتشي: المصدر نفسه.-[13]

[14]– باتريك ماسترسون: الإلحاد والاغتراب، بحث في المصادر الفلسفية للإلحاد المعاصر، (atheism and Alienation)  المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيَّة، بيروت، 2017، ص28.

[15]– ماسترسون: المصدر نفسه، ص 34.

 أنظر: محمود حيدر: الميتافيزيقا المثلومة، فصلية “الاستغراب”، العدد التاسع، السنة الثالثة، خريف 2017.-[16]

[17]– رولاند بيتشي: مصدر سبقت الإشارة إليه.

م. حيدر: الميتافيزيقا المثلومة، مصدر سبقت الإشارة إليه.-[18]

[19]– أنظر مارتن هايدغر: الكينونة والزمان.

  1. Heidegger, Being and Time. Translated By John Maquarrie and Edward Robinson, New York, Harper, 1962.

[20] – محمود حيدر: هايدغر.. الفيلسوف الحائر في الحضرة ، فصلية “الاستغراب” العدد الخامس، السنة الثانية، بيروت، خريف 2018.

[21]– مارتن هايدغر: رسالة في الأنسيَّة- الأعمال الكاملة – الجزء التاسع- فرانكفورت- ألمانيا – 1976- ص 342.

[22]– بول تيليتش: بواعث الإيمان، ترجمة سعد الغانمي، دار الجمل، بيروت، 2005، ص 120.

[23] – حصل هذا اللقاء التاريخيُّ بين هابرماس واللَّاهوتي جوزيف راتسينغر(البابا بنيديكتوس) في بداية العام 2004، وجرى تنظيمه في مقرِّ الأكاديميَّة الكاثوليكيَّة بمدينة ميونيخ الألمانيَّة.

[24] – يورغن هابرماس وجوزيف راتسينغر(البابا بنيديكتوس XVI): جدليَّة العلمنة والعقل والدين، تعريف وتقديم: حميد لشهب، جداول للنشر والترجمة، بيروت 2013 ، ص (33) (43).

[25] – محمود حيدر: ما بعد العلمانية، منطق الحدث وفتنة المفهوم، فصلية “الاستغراب” ، صيف 2014.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى