قيمة التطوُّر.. دور الفلسفة في عمليَّات التنمية المستدامة
د. صادق الفقيه
(دبلوماسي،الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي- أثيوبيا)
لعبت الفلسفة، عبر التاريخ، دوراً مهماً في تطوير تصورات القادة ومعرفتهم، ومن ثم حكمهم. وإذا تساءلنا: ما هي مساهمة هذه الفلسفة في تنمية الأمة؟ فإننا سنلتفت مباشرة إلى تأثيرها على العقل والفكر أو المعتقدات، والاستجابة الإيجابية لحاجات الذات. إذ يجب أن تقودنا الفلسفة جميعاً إلى تحسين أنفسنا أفراداً ومجتمعات وشعباً، أو ثقافة وحضارة؛ عندما توضع في سياق كسب الأمة. لذا، ينبغي أن تُرشدنا الفلسفة إلى تجربة الفكر، واختبار النتائج، بحيث يمكن منع الأخطاء، التي من بينها الصراع أو الحرب. مع الحرص ألا تقع الفلسفة ضحية نفسها، إذا لم تُسفر حواراتها عن تطوير قدرات أشخاص يمكن أن يفكروا كأفراد، ويستجيبوا كشعب لنداء التنمية، ويتفقوا كحضارة. فقيمة الاتفاق الحضاري تجعلنا نتقي ذلك النسق الفلسفي الذي يصل بمعتنقيه حد الاستعلاء المفضي للنظر إلى الآخر بدونية، تجعله عرضة لاستغلال قوى حضارتها الاقتصادية والعسكرية، إذ بذلك تخرج الفلسفة من كونها مصدراً للحكمة والأخلاق، وهما من ركائز استدامة التنمية في منظورها الشامل.
لقد كانت التنمية (الاجتماعية والاقتصادية والبيئية)، قبل عام 1980، تدار في المقام الأول باعتبارها ثلاث قضايا منفصلة، تستبعد التداخل المنهجي والأبعاد المنطقية والفلسفية الرابطة بينها. إلا أنه، بعد هذا التاريخ، أصبح من الواضح أن هذه القضايا الثلاث متلازمة ومتساندة، لا تنفصم ولا تنفص، ويجب أن تدار معاً. فبدأ مصطلح (التنمية المستدامة) يستخدم على نحو متزايد، وهو أحد أكثر المفاهيم التي تناقش بشكل متكرر ضمن الأدبيات الأكاديمية عن البيئة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ووفقاً لبعض النظريات، هناك مسألة تتعلق بأن النمو الاقتصادي المرتفع هو أفضل طريقة لزيادة الرضا عن الحياة وتحقيق السعادة، التي نُظِرَ إليها عبر التاريخ بأنها تحدٍ فلسفي. فالإشكالية في السؤال الفلسفي تَتَقَصَّد الحصول على أفضل فهم للمفارقات والمقاربات الكامنة في خطاب (الاستدامة) المرتبط بالتنمية، وتعتمد التحقيق في افتراضاته الأساسية. فإذا أخذنا ما تناولته المراجع الفاحصة للمعادلات الأخلاقية في المنطق؛ لتَكَشَّفَ لنا غلبة بنية (الرفاهية)، التي تساوي حسابياً (الثروة)، والتي قد تُفَسِّر هيمنة الإطار المعرفي لـ(حالة العمل) في هذه (الاستدامة)، والحاجة لإدماج متغيرات الرفاه الاقتصادي ضمن نموذج فلسفي للشفافية. وهذا يتطلب إبراز الطريقة التي توضح هذه المتغيرات باستمرار، مع استحضار المزيج (الموضوعي) و(الشخصي) للاهتمامات العامة. ومن ثم، يمكن القيام بمقارنة هذا الفهم الواسع للرفاهية مع استعارات لغة خطاب التنمية المستدامة، دون أن تقع فريسة للتركيز المفرط على (قضية العمل). إن تحدي قضية العمل هذه، وهيمنة أولويات القيمة، واستكشاف أي تغيرات ذهنية حولها؛ قد تكون مطلوبة منطقياً وفلسفياً لتطوير فهم أكثر شمولاً لما هو مطلوب لتمكين (التنمية المستدامة). إذ ترتبط القضايا المتعلقة بالتنمية المستدامة، مثل، نهج الموارد الطبيعية، وكيفية إدارة مسؤولية الأجيال المقبلة؛ بنظريات فلسفية مختلفة، تستدعي نقاشاً حولها، وحول علاقتها بالتنمية المستدامة. إذ إن المشاكل المتعلقة بعدم وجود سياسات بأبعاد عابرة للتمايزات الفرعية للتنمية تؤثر على مجموعات مختلفة من الناس بشكل مختلف، وتُضعِف فكرة ومنطق الاستدامة. والفقراء في البلدان النامية هم أولئك الذين يعانون من أسوأ العواقب. علماً بأن المشاكل ليست هي نفسها بالنسبة لجميع الفقراء، كما أن أولئك الذين يعيشون في المناطق الحضرية يواجهون عواقب أخرى غير ما يجابهه ساكنة المناطق الريفية. لهذا، فإن أحد أكثر الهياكل المعرفية الأساسية في لغتنا الأخلاقية هو ما يُوصف بمعادلة (الرفاهية هي الثروة). إذ تجعل حاجتنا الأساسية للتنمية من المحتم أن يتم تعريف الزيادة في الرفاهية على أنها مكسب، وأي عائق يعترض تحقيق هذه الرفاهية فهو خسارة، أو تكلفة زائدة. إن نظام المحاسبة الأخلاقية، الذي تقوم عليه طريقتنا في تناول الأسئلة الأخلاقية؛ معقد جداً، ويشكل توقعاتنا لبعضنا البعض. ويمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك بالقول إنه بتقليل رفاهية شخص معين يتحمل المجتمع أو الدولة دَيْنَاً معنوياً معيناً، يستوجب الاعتذار لهذا الشخص. ومثلما تعتمد المعاملات الاقتصادية في مؤسسات الدولة على مسك الدفاتر المالية؛ فإنه ينبغي أن يعتمد المجتمع ضمنياً على مسك الدفاتر الأخلاقية. ولهذا، لا ينبغي أن يكون مفاجئاً أنه من الصعب علينا أن نتجاوز التفكير الحسابي عندما يتعلق الأمر بالأخلاق، كما هو واضح في الإطار المعرفي (لحالة العمل). فالأمر الصحيح الذي يجب عمله هو زيادة الرفاهية، والشيء الخطأ الذي لا ينبغي فعله هو التقليل من ذلك. إن الاعتماد على بعض مفاهيم (المحاسبة الأخلاقية) يؤكد قبولنا للحجج الأخلاقية، فيما يتعلق بقبول (الاقتصاد الهزيل)، أو اعتقادنا بقوة (اليد الخفية) للسوق التي تسرق أحلام الجميع. وطالما كان هناك جهد يُبذل لزيادة الرفاهية/الثروة؛ فمن المقبول أخلاقياً أن نستوعب مختلف معاني (الرفاهية)، من أجل فهم أفضل لما يُنْظَرُ إليه على أنه (ثروة). وبشكل أكثر تحديداً، علينا أن نأتي بالمفاهيم الاقتصادية للرفاهية في سياق مؤتلفٍ مع الفهم الفلسفي للرفاهية، والجمع بين الأبعاد الذاتية والموضوعية والفردية والجماعية للتنمية. وبهذا الفهم، يمكننا أن نسعى إلى الاستفسار عن الوظائف المحددة للفلسفة في عملية تطور الدول العربية بعد الاستقلال، بإدراك أن الفلسفة بشكل عام، والفلسفة الوطنية بشكل خاص؛ أصبحت خاضعة على نحو متزايد للمصالح الأيديولوجية وغاياتها، التي لم تزيف فقط الوظائف الأساسية للفلسفة في التنمية الوطنية؛ ولكن أسفرت أيضاً عن تصورات معادية لها، وأسهمت في تخفيض قيمتها كأفكار مُحفِّزَة، وعمدت لتشويه الحقائق التاريخية، وخلقت سوء الفهم بضرورات التنمية الأساسية، وعملت على إخضاع الفلاسفة الوطنيين لشعور قاتل بالخوف وعدم الجدوى. بالتالي، وتصحيحاً لهذه الأخطاء، ينبغي الكشف عن حجم الأضرار، التي تسببت في حدوثها تراجعات دور الفلسفة، بسبب إخضاع مبادئها للإيماءات الأيديولوجية في عمليات التنمية الوطنية. ومن بعد، اقتراح طرق فعالة للاستفادة بشكل كافٍ من الموارد الفلسفية الهائلة، في التراث العربي، لتنشيط فكر التنمية الوطنية المستدامة. ونرى أن تحقيق هذه الغاية يدعونا أن نضع فرضية أو فكرة مركزية، تنبني على أن نولي أصحاب الأفكار الفلسفية الإسهام الأكبر، وأن نستغل الأفكار الفلسفية بشكل أكبر في عملية التنمية، وفك تبعيتها لأيديولوجيا السياسة وأصولها الانتقائية، التي تفتقر إلى السلطة الأخلاقية، والضغط الاقتصادي الخارجي المتعجرف، الذي لم يكن ممكناً التعبير عن رفضه بفكر وتأمل فلسفي وطني، وخيارات وإجراءات مستقلة حقاً. لهذا، حتى في توثيق التطور التاريخي للعالم المعاصر بواسطة غالبية المؤرخين الغربيين، وعلماء الاجتماع، والأنثروبولوجيا؛ تم تجاهل العرب، وكأنهم أمة ليست لها إضافة حضارية، ولا يمتلكون القوة المعرفية للانخراط في التمرين الصارم لفلسفة التنمية. وللأسف صارت هذه المزاعم الباطلة أكثر تعقيداً بانخراط بعض الكتاب العرب المتغربين، الذين يصرون على تصوير العالم العربي كمستنقع للتخلف في العالم. ومع ذلك، فإن نظرة منصفة لتاريخ التنمية العالمية؛ تكشف أن الوطن العربي هو مهد الرسالات والكثير من الحضارات، وستؤكد أنه تقدم العالم في التنمية التي ارتكزت على تصورات فلسفية عميقة، حددت دور الفرد في المجتمع ومسؤولية المجتمع التضامنية تجاه أفراده. إن المساهمة العربية في إدراج منظورات الفلسفة التنموية في سياسات التقدم والتطور تُصبح أكثر وضوحاً وتأسيساً عندما ننظر إلى التنمية، ليس فقط من خلال الإطار المفاهيمي الكلاسيكي للاقتصاد؛ ولكن من وجهة نظر ذات مفهوم متعدد الأبعاد، والذي يشتمل على الجوانب المادية والروحية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعلمية والتكنولوجية. ففي كل جوانب التنمية هذه؛ قدم العرب مساهمات هائلة، وساعدوا، من خلال مواقفهم المثالية تجاه المجتمع والبيئة والطبيعة؛ فيما عُرِفَ قديماً بفكرة (الحِمَى)، التي شكلت إضافة قَيِّمَة للتغييرات والتحسينات والابتكارات في المجتمعات العربية والعالم بأسره، والتي نُظِرَ إليها من تصور فلسفي عاكس لما هو سائد من قِيم في كل مجتمع. وإذا اعترفنا بوجود الفلسفة العربية كأمر حاسم في دفع عجلة التطور قديماً؛ فإن إنشاء أساس لوجودها الآن، وكيف يمكن أن تُعزز التنمية في مختلف جوانب حياة الإنسان، أو وجوده؛ أمر بالغ الأهمية. فالفلسفة تعتبر التنمية مجالاً خصباً للبحث، الذي يُعنى بالنظر في تقاطع التطور مع علم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا، وكل العلوم الإنسانية والطبيعية، مع مناقشات مفصلة لقضاياها المركزية، من أجل بناء إطار عام لفهم وتحليل نظريات التنمية الفردية والجماعية في مختلف المجالات، التي تتراوح بين التنمية المعرفية والأخلاقية، إلى التطورات في الفن والتكنولوجيا. وذلك، لأنها تُولي اهتماماً خاصاً للعلاقات الغنية بين التطور المفاهيمي والتعليم، الأمر الذي تبدو معه فلسفة التنمية الشاملة بتمامها وكمالاتها مقدمات لازمة للإجراء التطبيقي للتنمية المستدامة. وهذه بالقطع أبعاد تتجاوز القياس المعتاد للإنجاز الاقتصادي، وتُوسع نطاقه؛ ليشمل التأثير الذي أحدثه تاريخ الأفكار والنظريات السياسية وعلم الاجتماع والفلسفة الاجتماعية والاقتصاد السياسي؛ على التنمية في الوطن العربي. إن هذا الفهم المُسْتَوعِب لأهمية الفلسفة فيه خروج عن المعالجة التقليدية للتنمية من قِبل الاقتصاديين، الذين يشيرون إلى ما يسمى التأكيدات، التي تم اختبارها عبر الزمن، وما أفرزته من توصيات من أجل (التنمية المستدامة)، والتي لم تُحدث بعد تغيراً كبيراً في اقتصادات ما يسمى بالمجتمعات (النامية)، وذلك بسبب إخفاقات نظرية التنمية الاقتصادية، مع وصفاتها المادية لمفهوم (التنمية المستدامة)، والنظر المادي الصِرْف لمعالجات (الحد من الفقر). رغم أنه حدثت بعض التعديلات الآن في نظريات التنمية، وتوسعت من مجرد التحليل الاقتصادي لتشمل اعتبارات التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد السياسي والأنثروبولوجيا. فالتجربة الإنسانية، بكل أبعادها، من وجهات نظر العلوم الاجتماعية والطبيعية الحديثة؛ تقول إن كل تنمية تحتاج للفلسفة، التي تتراوح تصوراتها بين مقولات الحداثة والتفسيرات الدينية، وحق الإنسان في التقدم، وفكرة الزمن الإنساني، وأولوية إنهاء الاحتلال العقلي، ونوع التعليم المقدم في المجتمع اليوم كأداة للتنمية، والتخطيط الاقتصادي، والعلوم والتكنولوجيا، إلى ما استجد من ممنتجات العولمة. وكذلك أخذ قضايا ما بعد الاستعمار على محمل الجد، وأن تتناول الحكومات والمجتمعات التنمية من منظور واسع يستصحب العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية بشكل عام، وتدعم ذلك بالنهج العلمي التحليلي الصارم للمساهمين فيها. ومثلما يُقال إن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فالمؤكد أن هذه الطبيعة هي حركة جغرافية دؤوبة لا تعترف بحالة التقاعس ولا السكون، فهي دائماً في حركة داخلية وخارجية موصُوفة باسم التطور، الذي نتوسل إليه بآليات التنمية، التي تنتج التقدم كأحد مظاهر هذه الحركة في الاتجاه الإيجابي. وتفترض كل نظريات التطور أن البشر نوع اجتماعي، اتساقاً مع التعريف الفلسفي، الذي يقول إن التنمية في المستوى الأعلى هي تحقيق قيم العدل والمساواة في الحقوق والواجبات للفرد، التي تتضمن بالضرورة حوافز مادية ومعنوية، والتي تُعتبر الغاية العليا للمجتمع والدولة، وفقاً لمجموعة القيم المرعية. أخيراً، وعلى الرغم من أن التنمية يمكن أن تكون اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية؛ إلا أنها تحدث داخل تصور معين للعالم، ومكان الإنسان في ذلك العالم، أي أنه داخل فلسفة كلية. إذ إن الإنسان ليس مجرد كائن يجب أن يحافظ على حياته، إنه مخلوق يحتاج إلى سبب مادي ومعنوي للعيش الكريم. لذلك، يحتاج هذا الإنسان للفكرة والفلسفة لتصور وضعه ومهمته في العالم، قبل أن يتخذ الأسباب والوسائل، التي يختارها لرسم تقدمه، والطريقة المُثلى لاستدامة هذا التقدم والتنمية والتطور. وهذا الفهم يتطلب أقصى درجات الانضباط العقلي، الذي يعرض جميع المساعي البشرية إلى التدقيق الموضوعي والحكم العقلاني، الذي يجابه ما يطرأ من تحديات في سياق الفلسفة الكلية، من خلال النظر في المعرفة الأصلية، والسياقات الحالية والمستقبلية، فيما يتعلق بالواقع الاجتماعي،العربي والعالمي.