الدراسات والبحوث

بين نيكولا بردياييف والمهدي أو الزمن الآخر

بين نيكولا بردياييف والمهدي أو الزمن الآخر

الهذيلي المنصر

هذا الرّجل صاحب فضل كبير عليّ. هكذا ورغم مسافات الزمان والمكان والثقافة واللغة. أفهمنى ما عجزت أن أفهمه وحدي وما لم أجد له حلّا عند من مررت بهم وفي كتب كثيرة قرأتها. سؤالي دائما: كيف تكون مصالحة ذهن وعقل وقلب بين الله والتاريخ؟ كيف يكون ايمان بالله الذي هو الكمال ذاته والقبول بالتاريخ بآلامه وشروره؟

طبعا هناك حلّ تلقائي يتبادر الى ذهن كلّ معتقد صاحب ايمان: تكون المصالحة اذا أخذنا التاريخ الى الله أو إذا أدخلنا الله في التاريخ. هذا الحلّ في خلفية كلّ النضاليات الدينية منذ الاف السنين. مرّة الحلّ مُعلن ومرّة لا. منطقيا هذا الحلّ يستقيم ولكن السؤال: لماذا وهو في الخلفية لا يفعل الفعل المطلوب؟ لماذا رغم مرور حكماء وصلحاء ومنزهون وصديقون وأنبياء ورسل بهذه الخلفية لا يغيّرون الا قليلا ويتعاظم الشرّ بعد رحيلهم تعاظما عجيبا ويطغى الألم طغيانا مخيفا؟ أعتقد أن بردياييف كان من الذين طرحوا هذا السؤال بشكل مؤرق وصادق وبروح جزع واضطرار قياسيين. من ناحية لأنه مؤمن ومن ناحية لأنه شهد من الشرور والآلام ما هو فوق التحمل.

في قلب الألم يسأل المرء أين الله وعند بلوغ الشرّ الأقصى يسأل أيضا أين الله. ينسب المسيحيون قولا الى المسيح هو حتما لم يقله: يا الهي لماذا تخلّيت عنّي؟ لا يقول نبيّ هذا القول لأنّ في هذا القول قصورا عقليا جليّا النبوّة محصّنة ضده تماما. إنّما هو قول مسيحيين أسقطوا أسئلة نفوسهم الهشّة ونسبوها الى المسيح. لو كانوا مكانه وهو “يُصلب” لسألوا هذا السؤال. هناك ثنائية عبقرية يعتمدها بردياييف للفهم: historique/eschatologique التاريخي وربّما الآخَري لا بمعنى ما يكون من قيامة وحساب وانّما بمعنى ما هو كائن حقا ولكن في بعد آخر من الوجود وحتّى الوعي والذي ستستقرّ عليه الإنسانية نهاية المطاف وعيا وادراكا. طبعا أساس الفكرة موجود في القرآن: الشهادة والغيب أو الآخرة والأولى ولكن لغة القرآن صورية اشارية وليس بالوسع هضمها الا عبر محوّلات أو عبّارات أو مُترجمات الفكر أبرزها وهنا تبرز قيمة مفكّر كبردياييف المتحرك بين الضفاف لا الواقف على ضفّة يرمق من بعيد بقية الضفاف.

عندما يكتب الحسين وهو في طريقه الى مذبحه كربلاء: “كأن لا دنيا كانت ولا آخرة زالت” وعندما تقول زينب بوجه يزيد بعد المذبحة: “لا أرى الّا جميلا” ، عندما يكون هذا القول وذاك فنحن أمام وعي وادراك تامّ وولاية بل نبوّة حتّى. غرق كامل في الغيب ، في الآخر والمطلق. لا يتعلق الأمر بانفصام ولا هو يتعلّق بشجاعة ورباطة جأش. يتعلّق الأمر بإدراك مغاير ومختلف فتحت عليه النبوّة المحمّدية. ما هو دور هذا الصنف من البشر؟ دورهم تاريخ وأدوار يلعبونها فيه وخلافة وتمكين وملك وسبي وغنم؟ دورهم تجلية هذا الإدراك ومحاولة نقله الى آخرين. ماذا كانت معركة كربلاء في بعدها الأعمق وربما الأولويّ؟ كانت، وهذا من الإجتهاد، فصلا راديكاليا بين التاريخي والآخري، الزمن والله، القوة والحقّ. مثّل يزيد التاريخ في كلّ قبحه وصلفه ومثّل الحسين الآخر وجلّاه. مثلت التجربة المحمّدية لحظة من الوصل النادر بين قطبي الغيب والشهادة وما كان لها أن تستمرّ ولا أحسب أنّ ارادة الله كانت أن تستمرّ والدليل أنه كلّف نبيه بالتذكير لا بالسيطرة وأنّه توقع نكوصا على الأعقاب بعد موت النبي أو قتله. وهذا ما كان وهذا ما كان يجب أن يكون لأن الطور الذي تكون فيه الإنسانية في الغيب وهي في الشهادة طور أخير ولم تتم الإنسانية دورتها بعد.

هذا لا ينفي شرّ الأشرار ولا ينفي جريمة المجرمين ولكن الظنّ أنّ الله أراد شيئا فكانت ارادة غيره من أمويين وغيرهم نافذة ما عطّل ارادة الله، هذا الظن مراهق خفيف، يسيء، تمثّلا، للألوهية التي هي فوق التاريخ: وتلك الأيام نداولها بين الناس. حتى الفكرة المهدوية وهي فكرة مُلهمة وعظيمة نضيّع معناها اذا فهمناه قوّة حضور في التاريخ وثأر من هذا لحساب ذاك. لا يمكن أن تكون هكذا وهي من تجلي الألوهية ومن استئناف للنبوة. خطير هذا الربط السريع والآني بين أحداث تمثل في زمن انساني متقلب ونسبي وبين حدث روحي ضخم بحجم ظهور المهدي. قد يكون من هذا احتمالا واستبشارا ولكن تقديم الأمر بثقة ويقين فيه من المجازفة ولا شيء يفرضه الا حسابات السياسة ربّما والحشد والشحن والله أعلم. اذا كنت من القائلين بالظهور فلا يعني شيئا أن يكون الظهور قريبا أو بعيدا . هناك تناقض في حديث بعض الشيعة عن هذه الظاهرة: من ناحية هم يمتنعون عن التوقيت ومن ناحية يطنبون في ربط الظهور بحدث هنا وحدث هناك وقد يكونون يبيعون وهم أنّ الظهور قريب وقد يكون ولكن الروايات اشارية رمزية ولا تشكّل حججا بليغة.

من حق المرء أن يستأنس لحسابه ويستبشر ولكن قد تكون للافصاح والإشهار نتائج عكسية وخيمة. أفهم المهدي طورا انسانيا تتحرك الإنسانية نحوه ولا تنتظره. طور ترقّ وسموّ نذهب اليه رغم كل الآلام والشرور. انّ الرقيّ في الآخرية هو الذي يغيّر التاريخ لا العكس ونحن نرتكب الخطأ المنهجي الأخطر عندما نزمّن الله ونؤرخنه. هذا لا ينقص من قيمة النضال السياسي والتاريخي المباشر فلست من الذين يبخسون فضل مقاومين مضحين صادقين أحسب بعضهم من الآخريين. ولكن وحدها الآخرية الأصيلة تغير عمقا وجوهرا، حتى يغيروا ما بأنفسهم. ليس للآخرية اسم ولا لها عنوان ولا تحدها جدران. بعيني وأنا المُسلم المسيحي برديايف من الآخريين. ليست مذهبا ولا دينا إنما كيفية انسانية متخلّقة مخترقة وعابرة. هي أيضا متشكّلة أكثر من تشكّل ولا شكل لها لأنها روح والروح لطيفة. هي في الدين وبين متدينين ولا شكّ ولكنها متجاوزة يكثير. تجدها شرقا وغربا وتجدها رسما وحرفا وأكثر من ذلك وهي المناط الوجودي الأبرز وهي سرّ الأسرار وهي جوهر المعاني.

يفترض في الدين أن يكون مجلاها وراعيها ولكن الدين أيضا يتأرخن والمتدين يتزمّن. إنّ الإرتباط بالآخرية عبر الإيمان المتشكّل تشكّلات كثيرة ومتنوعة قيمة في حدّ ذاته ولا تتعلّق هذه القيمة بالمُنجز التارخي ولا بما نكسبه حسّا وشهادة. هو ارتباط يدخل في الكيفية ويزهّد في الكمّية: إنّما تقضي هذه الحياة الدنيا. هكذا قال سحرة فرعون لفرعون بعد ايمانهم باله موسى. أدخلهم موسى في الآخرية فاستحال فرعون سيد التاريخ خيالا ووهما. هذا الذي يدخل فجأة في الآخرية مجهول الهوية. كل مقاساتنا تعجز عنه: أشققت قلبه؟ قد يدخل في الآخرية رجل يصوم عاشوراء وقد لا يدخل وقد يدخل فيها زائر للحسين وقد لا يدخل. الدين الذي يسيج الله ويسجن الروح مشكلة عظمى. والله، عن نفسي ، لا أعرف إن كنت مؤمنا أو كافرا. الإنسان اذا تدين حسم أمره تماما وحسم أمر الدين والمذهب سريعا ووضع كلّ الله في جيبه. المهدي صاحب زمن آخر لا زمننا الانساني القليل وهو اذا حضر نسف زمننا بما فيه وأثخن في المتزمّنين وكثير منهم متدينون يأتيهم المهدي بما لا تهوى أنفسهم. المهدوية تربع الآخرية في التاريخ. اذا كانت اليوم كانت جلالا بركانيا. لا أتمناها كذلك وأتمناها رحيمة لا تأتي الينا بقدر ما نذهب اليها بعد الاف السنين. في كلّ الأحوال ليست الأمور بيدي ولا هي بيد غيري.

يمكن اعتبار مسيرة بردياييف في العالم والفكر واحدة من أهمّ المسيرات الإنسانية. هكذا أفهم مسيرة الرّجل تأمّلا وتفكّرا فيها ومقارنة لها بمسيرة هذا ومسيرة ذاك من أهل الفلسفة والفكر والرّؤى المؤثرين. لحق سنين القيصرية العسيرة في روسيا والحرب العالمية الأولى وثورة البلاشفة وأزمة 29 والحرب العالمية الثانية وعاش مهجّرا في فرنسا سنين طويلة، موزّعا في الجغرافيا. وكان في كلّ هذه المحطّات قريبا جدا من الفاعلين وأصحب القرار روسيا وأوروبيا. مثقف، قارئ نهم لتلستوي ودستيوفسكي مع اطّلاع مبكّر واسع على الفلسفات شرقييها وغربييها وتخصص في الأديان وتاريخها. لهذا كتب في كلّ موضوع تقريبا بمتانة نادرة، ناقد ادبي، باحث في الفنّ واشكالياته، فيلسوف، منظّر لمسيحية جديدة تقوم على الحرّية والتحرّر. يبدع عندما يفكّك النسق البرجوازي وأثره الثقافي والروحي.

كان موسوعي التكوين والإهتمام بفترة عزّ فيها الموسوعيون وزاد التخصّص المُوغل في كثير من الأحيان. لست فيلسوفا لأقيّم بحسم ولكن ما الذي قدر عليه كانط أو هيدغر أو نيتشة ولم يقدر عليه برداييف؟ مع ذلك بقي الرّجل مغمورا ومن يكتشفه اليوم يكتشفه صدفة. أعتقد أنّ هناك ما يشبه القرار الأكاديمي الغير مُعلن استمرّ طويلا في الغرب وهو يبقى مؤثرا الى اليوم. إنّ شرط الإنتماء الى الدائرة العلمية والمعرفية وحتّى الفنية والإبداعية مرتبط بالموقف من الله والدين والروح. اذا تحرّكت في اتجاه التفكير أو السؤال أو الإنتصار لهذا الثالوث تحيّد تماما حتّى وإن كنت جهبذا مفوّها مقتدرا. حتى عندما لا تذكر الله والدين والروح وإنّما توقظ من الأسئلة الأنطولوجية ما قد يحييهم فأنت مشكوك في اقتدارك المعرفي. في الخلفية طبعا فكرة القطيعة، ازمنة ولّت ولن تعود وأزمنة حديثة. ننتقل من سحري أسطوري الى العلمي اليقيني. هل هذه الخلفية علميّة؟ لا ولكنّها تقدّم كذلك وتُخرجُ كذلك. من الذي يُخرج ويقدّم؟ أهل الفكر والرّأي؟ لا بل هذا من المستحيل. مُعتقدات مجتمع وأفكاره ليست بالضرورة اختصاص معتقدين ومفكّرين. هي وبشكل شبه آلي من اختصاص أصحاب المصالح والمتنفّذين. هم يمسكون بالخيوط وهم من يوجّه ويتحكّم وهذا لم يبدأ اليوم. ولكن الأمور أصبحت جليّة ومفضوحة اليوم لأنّ وسائل التوجيه والتحكّم صارت مواقع وقنوات وسمعيّات وبصريّات وكلّ هذه الوسائل تكلّف غاليا بما يجعل السؤال: من يدفع؟ والذي يدفع هو المستفيد. عندما يكون فكر بقابلية استثمار وتوظيف تكون شهرة ويكون احتفاء. هي قاعدة وحتّى تاريخنا كمسلمين والشكل الذي استقرّت عليه مدونتنا الإسلامية الواسعة لا يشذّان. هناك مقايضة فعلية أو ضمنية تكون دائما عندما يكون فكر وتفكير: يلزم انصياع ما ترهيبا أو ترغيبا وقلّ من لا ينصاع. تابعت حوارا مع بول ريكور فيه مرور خفيف على مسألة الدين. الرّجل كان محتاطا جدّا ويزن كلماته جيدا والواقع أنّه من المؤمنين والمتعبّدين. هل كان ايمانه يناقض عقله ليتوجّس الى هذا الحدّ ويحتاط ويكون حديثه في الأمر بقفّاز وقناع؟ لا طبعا ولكنّه كان يفهم جيّدا أنّه بطور ثقافي سمته البارزة أنّ الإيمان نقيض العقل أو أنّهما لا يلتقيان.

بردياييف فهم ما فهم ريكور قبل أن يفهم ريكور وقرّر أن يواجه هذا الطور الثقافي لا ليقين أنّ مواجهته ستفلح وتنجح ولكن لأنّ التاريخ حركة ولأنّ لا طور يثبت ويدوم. لم يعدّ نفسه يوما مناضلا ولم يقل يوما أنّ أفكاره ستغيّر العالم وأصلا هو لا يؤمن بأنّ الأفكار تغيّر العالم.نسقه الفلسفي والفكري يقوم على مسلّمة بسيطة: حالات الروح هي المتحكّمة في سير التاريخ والروح قد تظلم وقد تشرق، إن هي أشرقت تمظهر وتموضع اشراقها نورا وعبقرية وخيرية وإن هي أظلمت يكون ما كان زمن بردياييف نفسه وسبّب له كل المرارة والألم. وعليه فالرّجل فكّر زمن حداثة متبجّحة وزمن عقلانية معتدّة، فكّر بمفردات الروح والله والإنسان الإلهي المترقّي عبر تاريخ الإنسانية الطويل. لا قيمة ذاتية لهذا التاريخ الّا من زاوية ما يفتح عليه بيوم أخير هو يوم التتويج حقّا. مقاربة اسكاتولوجية لا تركن الى الزمن واستتباعا الى التاريخ. هي خلاصة مفكّر ولكنها قبل ذلك خلاصة حاضر الى كلّ الساحات مجرّب محنّك أدرك كنه الحروب والسياسة والأزمات.

البعض يسخر من الفكرة المهدوية والخلاصية عموما. حجته انه متعلم ومطلع وأنه استقل بنفسه عن سحر وأسطورة. هنيئا له صدقا ولكن لا بأس أن يقرأ لبردياييف وشيستوف وسولوفيف وأن يراجع بعض نيتشة وهايدجر وأن يسأل مالرو عما يسميه “الحدث الروحي”. المشكلة أنّ نصوص الدين لا تعتمد لغة الفكر لأنّ الفكر زمني وتاريخي. جماعة الدين يعجزون عن تحويل الدين فكر وجماعة الفكر اطمأنوا تماما أن لا فكر في الدين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى