كتاب “رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن” من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
محمود محمود الغراب
كتاب “رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن” من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
محمود محمود الغراب
1 –
سورة الفاتحة
هي فاتحة الكتاب ، والسبع المثاني ، والقرآن العظيم ، وأم القرآن ، وأم الكتاب ، والكافية ، وتسمى سورة الحمد .
والبسملة آية منها ، وقد قيل في الفاتحة إن اللّه أعطاها نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم خاصة دون غيره من الرسل ، من كنز من كنوز العرش ، لم توجد في كتاب منزل من عند اللّه ولا صحيفة إلا في القرآن خاصة .
وبهذا سمي قرآنا لأنه جمع بين ما نزل في الكتب والصحف وما لم ينزل ، ففيه كل ما في الكتب كلها المنزلة ، وفيه ما لم ينزل في كتاب ولا صحيفة ، وهي فاتحة الكتاب ، لأن الكتاب يتضمن الفاتحة وغيرها ، ولأنها منه ، وإنما صح لها اسم الفاتحة من حيث أنها أول ما افتتح به كتاب الوجود ، وجعلها اللّه مفتاحا له ، وهي أم القرآن لأن الأم محل الإيجاد ، والموجود فيها هو القرآن ، وهي أم الكتاب الذي عنده ، في قوله« وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ »لأن الأم هي الجامعة ، ومنها أم القرى ، والرأس أم الجسد ، يقال أم رأسه لأنه مجموع القوى الحسية والمعنوية كلها التي للإنسان ، وكانت الفاتحة أما لجميع الكتب المنزلة ، وهي القرآن العظيم ، أي المجموع العظيم الحاوي لكل شيء ، ولما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ، والناس من آدم إلى آخر إنسان ، فجميع الرسل نوابه بلا شك ، فلما ظهر بنفسه لم يبق حكم إلا له ، ولا حاكم إلا راجع إليه ، واقتضت مرتبته أن تختص بأمر عند ظهور عينه في الدنيا ، لم يعطه أحد من نوابه ، ولا بد أن يكون ذلك الأمر من العظم بحيث أنه يتضمن جميع ما تفرق في نوابه وزيادة ، فأعطاه أم الكتاب ، فتضمنت جميع الصحف والكتب ، وظهر بها فينا مختصرة ، سبع آيات تحتوي على جميع الآيات ، فأم الكتاب ألحق اللّه بها جميع الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء نواب محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فادخرها له ولهذه الأمة ، ليتميز على الأنبياء بالتقدم ، وإنه الإمام الأكبر ، وأمته التي ظهر فيها خير أمة أخرجت للناس ، لظهوره بصورته فيهم ، وهي السبع المثاني والقرآن
ص 17
العظيم الصفات ، فظهرت في الوجود في واحد وواحد ، فحضرة تفرد ، وحضرة تجمع ، فمن البسملة إلى « الدين » إفراد إلهي ، ومن « اهدنا » إلى « الضالين » إفراد العبد المألوه ، وقوله« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »تشمل وما هي العطاء ، وإنما العطاء ما بعدها ، و « إياك » في الموضعين ملحق بالإفراد الإلهي ، فصحت السبع المثاني ، يقول العبد ، فيقول اللّه ،« وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ »الجمع ، وليس سوى« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ “.
إشارة من اسم فاتحة الكتاب وأم الكتاب
وسميت الفاتحة الكافية ، لأن بقراءتها وحدها تصح الصلاة ، وهي قرآن من حيث ما اجتمع العبد والرب في الصلاة ، وهي فرقان من حيث ما تميز به العبد من الرب ، مما اختص به في القراءة من الصلاة ، والعبد في الفاتحة قد أبان الحق بمنزلته فيها ، وأنه لا صلاة للعبد إلا بها ، فإنها تعرفه بمنزلته من ربه ، وأنها منزلة مقسمة بين عبد ورب كما ثبت ، وتسمى الفاتحة سورة الحمد ، فإنها الجامعة للمحامد كلها ، وما أنزلت على أحد قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ولا ينبغي أن تنزل إلا على من له لواء الحمد ، فهي الجامعة للمحامد كلها فإنه سبحانه لا ينبغي أن يحمد إلا بما يشرع أن يحمد به ، من حيث ما شرعه لا من حيث ما تطلبه الصفة الحمدية من الكمال ، فذلك هو الثناء الإلهي ، ولو حمد بما تعطيه الصفة لكان حمدا عرفيا عقليا ، ولا ينبغي مثل هذا الحمد لجلاله .
إشارة وتحقيق :
اعلم أن الفاتحة لها طرفان وواسطة ، ومقدمتان ورابطة ، فالطرف الواحد بالحقائق الإلهية منوط ، والطرف الآخر بالحقائق الإنسانية منوط ، والواسطة تأخذ منهما على قدر ما تخبر به عنهما ، والمقدمة الواحدة سماوية ، والمقدمة الأخرى أرضية ، والرابطة لهما هوائية ، فهي الفاتحة ، للتجليات الواضحة ، وهي المثاني ، لما في الربوبية والعبودية من المعاني ، وهي الكافية ، لتضمنها البلاء والعافية ، وهي السبع المثاني ، لاختصاصها بصفات المعاني ، وهي القرآن العظيم ، لأنها تحوي صورة المحدث والقديم ، وهي أم الكتاب ، لأنها الجامعة للنعيم والعذاب .
إشارة : هي فاتحة الكتاب لأن الكتاب عبارة من باب الإشارة عن المبدع الأول .
وكذلك الروح ازدوج مع النفس بواسطة العقل ، فصارت النفس محل الإيجاد حسا ، فهذه النفس هو الكتاب المرقوم لنفوذ الخط ، فظهر في الابن ما خط القلم في الأم .
إشارة : الأم أيضا عبارة عن وجود المثل محل الأسرار ، فهو الرق المنشور الذي أودع فيه الكتاب المسطور المودعة فيه تلك الأسرار الإلهية .
ص 18
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الوجه الأول : البسملة آية مستقلة ، ونقول فيها في سورة النمل إنها جزء من آية « بسم اللّه » هو اللّه من حيث هويته وذاته « الرحمن » بعموم رحمته التي وسعت كل شيء « الرحيم » بما أوجب على نفسه للتائبين من عباده ، فقدم سبحانه في كتابه العزيز« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » *في كل سورة ، إذا كانت السورة تحتوي على أمور مخوفة ، تطلب أسماء العظمة والاقتدار ، فقدم أسماء الرحمة تأنيسا وبشرى .
فإنه تعالى القائل« وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ »لهذا ليس في البسملة شيء من أسماء القهر ظاهرا ، بل هو اللّه الرحمن الرحيم وإن كان يتضمن الاسم « اللّه » القهر ، فكذلك يتضمن الرحمة ، فما فيه من أسماء الغلبة والقهر والشدة ، يقابله بما فيه من الرحمة والمغفرة والعفو والصفح ، وزنا بوزن في الاسم « اللّه » من البسملة ، ويبقى لنا فضل زائد على ما قابلنا به الأسماء في الاسم « اللّه » وهو قوله« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »فأظهر عين « الرحمن » وعين « الرحيم » خارجا زائدا على ما في الاسم اللّه الجامع من البسملة ، فرجح ، فكأن اللّه عرفنا بما يحكمه في خلقه ، وأن الرحمة بما هي في الاسم اللّه الجامع من البسملة ، هي رحمته بالبواطن ، وبما هي ظاهرة في« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »هي رحمته بالظواهر ، فعمت ، فعظم الرجاء للجميع ، وما من سورة من سور القرآن إلا والبسملة في أولها ، فأولناها أنها إعلام من اللّه بالمآل إلى الرحمة ، فإنه جعلها ثلاثة : الرحمة المبطونة في الاسم « اللّه » و « الرحمن » و « الرحيم » ولم يجعل للقهر سوى المبطون في الاسم « اللّه » فلا عين له موجودة في الظاهر .
واعلم أن اختصاص البسملة في أول كل سورة ، تتويج الرحمة الإلهية في منشور تلك السورة ، أنها تنال كل مذكور فيها ، فإنها للسورة كالنية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
سورة الفاتحة الترجمة عن فاتحة الكتاب« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »البسملة عندي آية من القرآن حيث ما وقعت منه إذا تكررت للفصل بين السور ، فقد تكررت قصة آدم وموسى وغيرهما وذكر الأنبياء في مواضع كثيرة من القرآن ، ولم يقل أحد أن ذلك ليس من القرآن ، وإن أسقطت في بعض الروايات كقراءة حمزة
ص 19
للعمل ، فكل وعيد ، وكل صفة توجب الشقاء مذكورة في تلك السورة ،
[ البسملة فاتحة الفاتحة ]
فإن البسملة بما فيها من « الرحمن » في العموم و « الرحيم » في الخصوص ، تحكم على ما في تلك السورة من الأمور التي تعطي من قامت به الشقاء ، فيرحم اللّه ذلك العبد ، إما بالرحمة الخاصة ، وهي الواجبة ، وإما بالرحمة العامة ، وهي رحمة الامتنان ، فالمآل إلى الرحمة لأجل البسملة ، فهي بشرى .
والبسملة فاتحة الفاتحة ، وهي آية أولى منها ، أو ملازمة لها ، كالعلاوة ، على الخلاف المعلوم بين العلماء ، و« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »عندنا ، خبر ابتداء مضمر ، وهو ابتداء العالم وظهوره ، لأن الأسماء الإلهية سبب وجود العالم ، وهي المسلطة عليه والمؤثرة ، فكأنه يقول : ظهور العالم بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أي باسم اللّه الرحمن الرحيم ظهر العالم ، والبسملة التي تنفصل عنها الكائنات على الإطلاق هي بسملة الفاتحة ، لا بسملة سائر السور ، فإن بسملة سائر السور لأمور خاصة ، واختص الثلاثة الأسماء لأن الحقائق تعطي ذلك ، فاللّه هو الاسم الجامع للأسماء كلها ، والرحمن صفة عامة ، فهو رحمن الدنيا والآخرة ، بها رحم كل شيء من العالم في الدنيا ، ولما كانت الرحمة في الآخرة لا تختص إلا بقبضة السعادة ، فإنها تنفرد عن أختها ، وكانت في الدنيا ممتزجة ، يولد كافرا ، ويموت مؤمنا ، أي ينشأ كافرا في عالم الشهادة ، وبالعكس ، وتارة وتارة ، وبعض العالم تميز بإحدى القبضتين بإخبار صادق ، فجاء الاسم « الرحيم » مختصا بالدار الآخرة لكل من آمن ، وتم العالم بهذه الثلاثة الأسماء ، جملة في الاسم « اللّه » وتفصيلا في الاسمين « الرحمن
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ابن حبيب الزيات وكإسقاط هو من سورة الحديد « 1 » ، والباء من بالزبر « 2 » ، ولم يجرح إسقاطها في قراءة من أثبتها من القرآن ، وأما في الفاتحة وفي النمل فما أحد من القراء أسقطها رأسا ، إلا بسملة الفاتحة في الصلاة ، فمنع مالك قراءتها سرا وجهرا ، في المكتوبة ، وأجازها في النافلة ، وأما الثوري وأبو حنيفة فقالا يقرؤها سرا في كل ركعة ، وقال الشافعي يقرؤها ولا بد في الجهر جهرا وفي السر سرا ، وهي عندي آية من الفاتحة وهو مذهب أبي ثور وأحمد ، ومن بعض أقوال الشافعي أن البسملة
( 1 )« فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ » *قرأ المدنيان وابن عامر بغير ( هو ) وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام ، وقرأ الباقون بزيادة ( هو ) وكذلك في مصاحفهم – سورة الحديد .
( 2 )« بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ »قرأ ابن عامر « وبالزبر » بزيادة باء بعد الواو والباقي بحذفها – آل عمران .
20
الرحيم » « فبسم اللّه » أي بي قام كل شيء وظهر « الرحمن » من أعربه بدلا من اللّه ، جعله ذاتا ، ومن أعربه نعتا ، جعله صفة ، وفيها بسط الرحمة على العالم « الرحيم » وبه تمت البسملة ، وبتمامها تم العالم خلقا وإبداعا .
أما سورة التوبة ، فهي والأنفال سورة واحدة ، قسمها الحق على فصلين ، فإن فصلها القارئ وحكم بالفصل ، فقد سماها سورة التوبة ، أو سورة الرجعة الإلهية بالرحمة على من غضب عليه من العباد ، فما هو غضب أبد ، لكنه غضب أمد ، واللّه هو التواب ، فما قرن بالتواب إلا الرحيم ، ليئول المغضوب عليه إلى الرحمة ، أو الحكيم ، لضرب المدة في الغضب ، وحكمها فيه إلى أجل ، فيرجع عليه بعد انقضاء المدة بالرحمة ، فانظر إلى الاسم الذي نعت به « التواب » تجد حكمه كما ذكرنا ، والقرآن جامع لذكر من رضي عنه وغضب عليه ، وتتويج منازله ب« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »والحكم للتتويج ، فإنه به يقع القبول ، وبه يعلم أنه من عند اللّه .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
آية من كل سورة ، وبه نقول ، وأما قراءة الفاتحة في الصلاة قال تعالى« فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى »فروي عن عمر أن الصلاة تجوز بغير قراءة ، وروي عن ابن عباس أنه لا يقرأ في صلاة السر ، وأوجب الشافعي قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من الصلاة ، وهي أشهر الروايات عن مالك ، وروي عنه أنه إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأه ، وقال الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة : تجوز في قراءة واحدة ، قال أبو حنيفة : يجب قراءة أي آية اتفقت في الركعتين الأوليين ، ويستحب فيما بقي من الصلاة التسبيح دون القراءة ، وبه قال الكوفيون ، وجمهور العلماء يستحبون القراءة في الصلاة كلها« بِسْمِ اللَّهِ »العامل في الباء من بسم اللّه ما في الحمد لله من معنى الفعل ، أي يضمر له فعل من لفظه ، مثل حمدته أو أحمده ، وبه تتعلق الباء من بسم اللّه ، وهكذا في كل سورة في القرآن أولها الحمد ، وفي بعض سور القرآن تكون في أولها أفعال تطلب الباء من بسم اللّه . أذكرها في موضعها أن شاء اللّه « اللّه » اسم للذات وإن كان يجري مجرى العلمية له سبحانه ، فإن المفهوم منه مع هذا بأول الإطلاق من له نعوت الألوهية من الكمال والتنزيه والجلال ، وفي طريق الاشتقاق فيه تكلف وتعسف ، وهو اسم مختلف في اشتقاقه فأضربنا عن الخوض في ذلك لقلة فائدته ، غير أن الغالب عليه أن يجري مجرى الأسماء الأعلام ، وهو اسم محفوظ من أن يسمى به غيره سبحانه على هذه الصورة الخاصة« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »من وقف عند قوله سبحانه( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ
ص 21
والقراء في وصل البسملة على أربعة مذاهب : المذهب الواحد لا يرونه أصلا ، وهو أن يصل آخر السورة بالبسملة ويقف ويبتدئ بالسورة ، هذا لا يرتضيه أحد من القراء العلماء منهم ، وقد رأيت الأعاجم من الفرس يفعلون مثل هذا ، مما لا يرتضيه علماء الأداء من القراء . والمذهب الحسن الذي ارتضاه الجميع ، ولا أعرف لهم مخالفا من القراء ، الوقوف على آخر السورة ، ووصل البسملة بأول السورة التي يستقبلها . والمذهبان الآخران ، وهما دون هذا من الاستحسان : أن يقطع في الجميع ، أو يصل في الجميع ، وأجمع الكل أن يبتدئ بالتعوذ والبسملة عند الابتداء بالقراءة في أول السورة ، وأجمع على قراءة البسملة في الفاتحة جماعة القراء بلا خلاف ، واختلفوا في سائر سور القرآن ، ما لم يبتدئ أحد منهم بالسورة ، فخيّر من خيّر في ذلك « كورش » ومنهم من ترك « كحمزة » ومنهم من بسمل ولم يخيّر كسائر القراء .
الحمد لله رب العالمين 2
قرئ « الحمد » بخفض الدال ، و « الحمد لله » برفع اللام اتباعا لحركة الدال ، والحمد : ثناء عام ، ما لم يقيده الناطق به بأمر ، وله ثلاث مراتب : حمد الحمد ، وحمد المحمود نفسه ، وحمد غيره له ، وما ثم مرتبة رابعة في الحمد ، ثم في الحمد بما يحمد الشيء
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الْحُسْنى ) *أجراه مجرى الاسم اللّه في العلمية ، فاتحد المدلول وهو الذات ، وهو فعلان ، وإن كان هذا اللفظ مشتقا من لفظ الرحمة وهو الأظهر ، فمعناه الذي له تعميم الرحمة في خلقه ، أي هذه النسبة إليه صحيحة ، وإن كان المرحومون معدومين ، و « الرحيم » تخصيص الرحمة بالسعداء في الدنيا بالتوفيق والهداية ، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب وحصول النعيم ، وسيأتي ذلك في الفاتحة ، والرحمن [ نعت لعموم الرحمة بالخلق ] « * » من الاسم الرحمن ، والنعت وإن كان يأتي لرفع اللبس فقد يجاء به لمجرد المدح والثناء ، قيل لهم : اعبدوا اللّه ، لم يقولوا : وما اللّه ؟ قيل لهم : اسجدوا للرحمن ، قالوا : وما الرحمن ؟ فعلى كل وجه النعت فيه أولى ، ولا يلتفت لما قاله الطبري في ذلك ، فإنه مدخول معلول من عدم معرفة العرب بالرحمن ( 2 )« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »« الْحَمْدُ لِلَّهِ »بسم اللّه ، أي الثناء عليه بأسمائه الحسنى ، وهذا يدلك على أن أسماءه سبحانه تجري مجرى النعوت
( * ) بياض في الأصل .
ص 22
نفسه ، أو يحمده غيره ، تقسيمان : إما أن يحمده بصفة فعل ، وإما أن يحمده بصفة تنزيه ، وما ثم حمد ثالث هنا . وأما حمد الحمد له ، فهو في الحمدين بذاته ، إذ لو لم يكن لما صح أن يكون لها حمد ، ثم إن الحمد على المحمود قسمان : القسم الواحد أن يحمد بما هو عليه ، وهو الحمد الأعم ، والقسم الثاني : أن يحمد على ما يكون منه ، وهو الشكر ، وهو الأخص ، فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول في المقام المحمود : فأحمده بمحامد لا أعلمها الآن ، وقال :
لا أحصي ثناء عليك ، لأن ما لا يتناهى لا يدخل في الوجود ، ولما كان كل عين حامدة ومحمودة في العالم كلمات الحق ، رجعت إليه عواقب الثناء ، فلا حامد إلا اللّه ، ولا محمود إلا اللّه ، وحمد الحمد صفته ، لأن الحمد صفته ، وصفته عينه ، إذ لا يتكثر ، فما في المحامد أصدق من حمد الحمد ، فإنه عين قيام الصفة به ، فلا محمود إلا من حمده الحمد ، لا من حمد نفسه ، ولا من حمده غيره ، فإذا كان عين الصفة عين الموصوف عين الواصف ، كان الحمد عين الحامد والمحمود ، وليس إلا اللّه ، فهو عين حمده ، سواء أضيف ذلك الحمد إليه أو إلى غيره ، فإن قيام الصفة بالموصوف ما فيها دعوى ، ولا يتطرق إليها احتمال ، والواصف نفسه أو غيره بصفة ما ، يفتقر إلى دليل على صدق دعواه ، فالحمد : هو الثناء على اللّه بما هو أهله ، والشكر : الثناء على اللّه بما يكون منه من النعم ، ولا يكون الثناء أبدا على اللّه إلا مقيدا إما بالنطق ، وإما بالمعنى الباعث على الحمد ، وقد يرد في النطق مطلقا ومقيدا مثل قوله تعالى في المطلق اللفظي« قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ » *وأما المقيد فتارة يقيده بصفة تنزيه كقوله تعالى« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً »وتارة يقيده بصفة فعل ، كقوله « الحمد للّه
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لا مجرى العلمية ، لأن الأسماء الأعلام لا يكون بها الثناء ، وإنما يقع الثناء على المثنى عليه بما تدل عليه هذه الألفاظ من نعوت الجلال له سبحانه ، فبها يحمد ، فمن المفهوم الثاني من الاسم اللّه يكون الاسم اللّه ثناء عليه سبحانه ، بل أتم الثناء لجمعيته مراتب الألوهية ، ولذا علقنا الباء بما في الحمد من معنى الفعل ، يقول سبحانه الثناء للّه من حيث أنه مثني عليه سبحانه ومثن اسم فاعل واسم مفعول بجميع أوصاف الثناء ، دل على الأول اللام من للّه ، فلا حامد ولا محمود الا هو ، وكل ثناء من غيره فهو راجع إليه بما يكون منه وهو عليه ، فله عواقب الثناء كله ، وله الحمد في الأولى والآخرة في الحالتين معا ، ودل على الثاني الألف واللام لاستغراق أجناس الثناء ، فالثناء عليه سبحانه بوجهين ، بما هو عليه من نعوت الجلال وبما يكون منه من الإنعام والإحسان ، وهذا
ص 23
الذي أنزل الكتاب على عبده » وقوله« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ »وما خرج حمد من محاميد الكتب المنزلة من عنده عن هذا التقسيم . الحمد للّه تملأ الميزان ، لأنه كل ما في الميزان ، فهو ثناء على اللّه وحمد للّه ، فما ملأ الميزان إلا الحمد ، فالتسبيح حمد ، وكذلك التهليل والتكبير والتمجيد والتعظيم والتوقير والتعزيز ، وأمثال ذلك كله حمد ، فالحمد للّه هو العام الذي لا أعم منه ، وكل ذكر فهو جزء منه ، كالأعضاء للإنسان ، والحمد كالإنسان بجملته ، « الحمد لله » بعد ما خلق اللّه آدم وسواه ، نفخ فيه الروح ، فاستوى قاعدا ، فعطس ، فقال « الحمد لله » فقال له الحق « يرحمك اللّه يا آدم ، لهذا خلقتك » ولهذا قال عقيب قوله« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »فقدم الرحمة ، ثم قال« غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ »فأخر غضبه ، فسبقت الرحمة الغضب في أول افتتاح الوجود ، فسبقت الرحمة إلى آدم قبل العقوبة على أكل الشجرة ، ثم رحم بعد ذلك ، فجاءت رحمتان بينهما غضب ، فتطلب الرحمتان أن تمتزجا ، لأنهما مثلان ، فانضمت هذه إلى هذه ، فانعدم الغضب بينهما ، فإذا قال العالم« الْحَمْدُ لِلَّهِ » *أي لا حامد إلا هو ، فأحرى أن لا يكون محمودا سواه ، وتقول العامة« الْحَمْدُ لِلَّهِ » *أي لا محمود إلا اللّه ، وهي الحامدة ، فاشتركا في صورة اللفظ .« رَبِّ الْعالَمِينَ »[ اعلم أن العالم عبارة عن كل ما سوى اللّه ، وليس إلا الممكنات ، سواء وجدت أو لم توجد ، فإنها بذاتها علامة على علمنا ، أو على العلم بواجب الوجود
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
النوع الواحد يسمى شكرا ، والحمد يجمعها فمن فسر الحمد هنا بالشكر خاصة فقد قصر وما أعطى الكلمة حقها في الدلالة ، يقول العبد في الصلاة« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »يقول اللّه حمدني عبدي ، وما قال شكرني عبدي ، فصح ما ذكرناه من عموم الثناء هنا أنه مراد ، وللّه متعلق أيضا بما في الكلام من معنى الفعل وهو كائن ومستقر . – إشارة – اللام من للّه الخافضة حرف ، فهي عبد ، إذ الحرف يدل على المعنى ، والعبد يدل على اللّه ، والهاء من للّه معمولة للام بما حصل لها من الخفض ، الحق مدلول دليل العبد ، من عرف نفسه عرف ربه ، فجعله دليلا على معرفته ، فكان العلم به معمولا للعلم بنا ، وكونه خفضا لأنه يتعالى عن أن نعرف حقه ، فلا نعلم منه إلا ما يناسبنا ولهذا نتخلق بأسمائه الحسنى التي بيدنا ، فهذا معنى الخفض لأنها معرفة نازلة عن علمه بنفسه سبحانه . قوله« رَبِّ الْعالَمِينَ »يقول مصلح العالم ، واسم العالمين هنا كل ما سوى اللّه ،
ص 24
لذاته ، وهو اللّه ، فإن الإمكان حكم لها لازم في حال عدمها ووجودها ، بل هو ذاتي لها ، لأن الترجيح لها لازم ، فالمرجح لها لازم ، فالمرجح معلوم ، ولهذا سمى عالما من العلامة ، لأنه الدليل على المرجح ، فاعلم ذلك . وليس العالم في حال وجوده بشيء سوى الصور التي قبلها العماء وظهرت فيه ، فالعالم إن نظرت حقيقته إنما هو عرض زائل ، أي في حكم الزوال ، وهو قوله تعالى« كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ »وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أصدق بيت قالته العرب قول لبيد « ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل » يقول ما له حقيقة يثبت عليها من نفسه ، فما هو موجود إلا بغيره ، ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلم أصدق بيت قالته العرب « ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل » فالجوهر الثابت هو العماء ، وليس إلا نفس الرحمن ، والعالم جميع ما ظهر فيه من الصور ، فهي أعراض فيه ، يمكن إزالتها ، وتلك الصور هي الممكنات ، ونسبتها من العماء نسبة الصور من المرآة ، تظهر فيها لعين الرائي ، والحق تعالى هو بصر العالم ، فهو الرائي ، وهو العالم بالممكنات ، فما أدرك إلا ما علمه من صور الممكنات ، فظهر العالم بين العماء وبين رؤية الحق ، فكان ما ظهر دليلا على الرائي ، وهو الحق ، فتفطن[ دحض ما جاء في فتاوى الإمام ابن تيمية وما نسب إلى الشيخ الأكبر ابن العربي أنه يقول : إن وجود المحدث هو عين وجود القديم وأنه ينكر التمييز بين القديم والمحدث ]
واعلم من أنت ] « * » . والرب لا يعقل إلا مضافا ، ولذلك ما جاء في القرآن قط مطلقا من غير إضافة وإن اختلفت إضافاته ، فتارة يضاف إلى أسماء مضمرة ، وتارة يضاف إلى الأعيان ، وتارة يضاف إلى الأحوال ، فقال تعالى« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »لم يقل رب نفسه ، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه ، وأثبت بقوله هذا حضرة الربوبية ، أي مربيهم ومغذيهم ،
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والرب هو المصلح والمربي والسيد والمالك والثابت ، والعالم إذا كان مشتقا من العلامة أي هو دليل عليه ، فإصلاح الدليل أن يكون سادا لا يدخله خلل ، وإذا لم يكن مشتقا ، فهو سبحانه مصلح العالمين بما جعل فيهم من صلاح دنياهم وآخرتهم وجميع أسبابهم ، كما أنه سبحانه من هذا الاسم مغذيهم ومربيهم ، كما أنه سيدهم ومالكهم ، فهو الثابت وجوده الذي لا ينقطع ، ويكون العالم محفوظا ببقائه وثبات وجوده . – إشارة – والرب هنا أيضا معمول للام الجر ، والعالمين في موضع خفض بالإضافة لا باللام ، فإن الرب هنا هو المضاف إلى العالم ، ولما كان حرف الباء
( * ) هذه الفقرة تدحض وترد ما جاء في فتاوى الإمام ابن تيمية في الصفحة رقم 239 من المجلد الحادي عشر من مجموعة فتاويه المطبوعة بالرياض عام 1382 ه ، حيث ينسب إلى الشيخ الأكبر ، أن وجود المحدث هو عين وجود القديم ، وأن الشيخ رضي اللّه عنه ينكر التمييز بين القديم والمحدث .
ص 25
_________________
شاء الله بدء السفر منذ يوم ألست بربكم
عرفت ام لم تعرفي
ففيه فسافر لا إليه ولا تكن … جهولاً فكم عقل عليه يثابر
لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى،
يسير و المكان الذي ارتحل إليه هو المكان الذي ارتحل منه،
لكن ارحل من الأكوان إلى المكون،
و أن إلى ربك المنتهى.
الفقرة الثانية :
والعالمين عبارة عن كل ما سوى اللّه ، وهذه وصية إلهية لعباده ، لما خلقهم على صورته ، وأعطى من أعطى منهم الإمامة الكبرى والدنيا وما بينهما ، وذلك قوله صلّى اللّه عليه وسلم : كلكم راع ومسؤول عن رعيته ، وجعل هذا التحميد بين الرحمة المركبة ، فإنه تقدمه« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »وتأخر بعده« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »فصار العالم بين رحمتين ، فأوله مرحوم ومآله إلى الرحمة .
[ إشارة إلى معنى اسم الرب بالثابت ]
إشارة – الرب الثابت فلا يزول ، فلا تزيله « 1 » .
الحمد للّه رب العالمين على …. ما كان منه من الأحوال في الناس
مما يسرهمو مما يسوؤهمو ….. وكل ذلك محمول على الرأس
له الثناء له التمجيد أجمعه …. من قبل والدنا المنعوت بالناسي
عبدته وطلبت العون منه كما …. قد قال شرعا على تحرير أنفاسي
وأن يهيئ لي من أمرنا رشدا ….. وأن يلين مني قلبي القاسي
حتى أكون على النهج القويم به …. خلقا كريما بإسعاد وإيناس
الرحمن الرحيم 3
“الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ” من أسماء اللّه تعالى وهو من الأسماء المركبة ، كبعلبك ورام هرمز ، فكانت تربيته تعالى للعالم باللطف والحنان والرحمة الرحمانية المؤكدة بالرحيمية ، فعم بالرحمن ، فالرحمن مبالغة في الرحمة العامة ، التي تعم الكون أجمعه ، وخص بالرحيم ، وجعل اللّه تعالى في أم الكتاب أربع رحمات : فضمن الآية الأولى من أم الكتاب وهي البسملة
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من الرب معمولا للام للّه ، لم يكن العالم من طريق المعنى مرفوعا ، فبقي على أصله من الخفض ، فلا وجه للرفع هنا أصلا ، لفظا ومعنى ، وقد نبهتك على مأخوذ الإشارات كيف هي عند أصحابنا ، فإنها لا تجري مجرى التفسير ، ولكن تجري مجرى الدلالة ، فارجع إلى الترجمة من غير إشارة تتخللها والحمد للّه ، قوله ( 3 )« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »اعلم أنه مهما وقع ذكر العالم مجاورا لاسم إلهي وبين اسمين من أسماء اللّه ، فلا بد أن يكون للاسم معنى فيه ، فينبغي للمفسر أن لا يغفل عن هذا القدر ، والرحمن هو الذي وسعت رحمته كل شيء بإخراج كل شيء من العدم إلى الوجود ،
( 1 ) لا : هنا نافية أي أنك بإزالته في زعمك فإنه لا يزول .
ص 26
رحمتين ، هو قوله
[ نصيحة : الرحمن الرحيم ]
الرحمن الرحيم ، وضمن الآية الثالثة منها أيضا رحمتين ، وهما قوله الرحمن الرحيم ، فهو رحمن بالرحمتين ، العامة ، وهي رحمة الامتنان ، وهو رحيم بالرحمة الخاصة وهي الواجبة ، في قوله« فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ »الآيات ، وقوله« كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ »وأما رحمة الامتنان فهي التي تنال من غير استحقاق بعمل ، وبرحمة الامتنان رحم اللّه من وفقه للعمل الصالح الذي أوجب له الرحمة الواجبة ، فبها ينال العاصي وأهل النار إزالة العذاب ، وإن كان مسكنهم ودارهم جهنم ، وهذه رحمة الامتنان ، فالرحمن في الدنيا والآخرة ، والرحيم اختصاص الرحمة بالآخرة – نصيحة – الزم الاسم المركب من اسمين فإن له حقا عظيما ، وهو قولك الرحمن الرحيم خاصة ، ما له اسم مركب غيره فله الأحدية ، ومن ذكره بهذا الاسم لا يشقى أبدا
مالك يوم الدين 4
يريد يوم الجزاء فهو يوم الدنيا والآخرة ، فإن الحدود ما شرعت في الشرائع إلا جزاء ،
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وبما خلق في الموجودات من الرحمة التي يتعاطفون بها بعضهم على بعض ، وذلك سار في كل حيوان ، وهي لهم من باب المنة ، ومن حكم هذه الرحمة اجترأ من اجترأ على مخالفة أوامر اللّه من المؤمنين ، فإنهم لا يقنطون من رحمة اللّه ، قال تعالى« يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً »وفي حديث الشفاعة يقول اللّه : وبقي أرحم الراحمين ، فأتى بنعت الرحمة ، ومن رحمته تلقين عبده حجته« يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ؟ »ليقول له العبد : كرمك ، فيلطف به ، فلو قال : الشديد العقاب ، ذهل وتحير ، وقد يمكن أن يجري« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »مجرى الاسم الواحد المركب ، مثل بعلبك ورام هرمز ، لما قيل في مسيلمة رحمان اليمامة ، ولم يطلق على أحد قط مجموع الاسمين ، وقد يكون الرحيم مبالغة في رحمته بعباده السعداء ، فإن رحمته قد خصها بقوله( فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ )أي أوجبها على نفسي لهم( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )الآية ، فهؤلاء يأخذونها من طريق الوجوب لقيام الأسباب التي جعلها الحق موجبة لها بهم ، ومن عدا هؤلاء فينتظرونها من باب المنة ، فإن التقييد من صفة الخلق لا من صفة الحق ، حتى إن إبليس يطمع فيها من باب المنة ، إذ لا مكره له ، وإن دخلوا النار ، يقول العبد في الصلاة( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )يقول اللّه أثنى عليّ عبدي ، فهو قولنا إن أسماءه لا تجري مجرى الأعلام . ( 4 )« مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ »يقول : مالك يوم الجزاء ، وهو يوم الدنيا
ص 27
وما أصابت المصائب من أصابته إلا جزاء بما كسبت يده ، مع كونه يعفو عن كثير ، وكذلك ما ظهر من الفتن والخراب والحروب والطاعون ، فهو كله جزاء أعمال عملها الناس ، استحقوا بذلك ما ظهر من الفساد في البر والبحر فهو جزاء في الدنيا ، فيوم الدنيا يوم الجزاء ويوم الآخرة هو يوم الجزاء ، غير أنه في الآخرة أشد وأعظم ، لأنه لا ينتج أجرا لمن أصيب وقد ينتج في الدنيا أجرا لمن أصيب وقد لا ينتج ، ومن الجزاء في الدنيا مجازاة أهل الشقاء بما عملوا من مكارم الأخلاق في الدنيا ، بما أنعم اللّه به عليهم من النعم حتى انقلبوا إلى الآخرة وقد جنوا ثمرة خيرهم في الدنيا ، فلو لم تكن الدنيا دار جزاء ما كان هذا ، فلا اختصاص ليوم الدين بيوم عند العلماء باللّه ، أقام لهم الحق في ذلك دليلا لما جهلوا« ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا »فأخبر أنه جزاء ما هو ابتداء ، فما ابتليت البرية وهي برية ، وهذه مسألة صعبة المرتقى لا تنال إلا بالإلقاء ، اختلفت فيها طائفتان كبيرتان ( الأشاعرة والمعتزلة ) ، فمنعت واحدة ما أجازته أخرى والرسل بما اختلفت فيه تترى ، ولا تحقق واحد ما جاء به الرسول ، ولا يسلك فيه سواء السبيل ، بل ينصر ما قام في غرضه وهو عين مرضه ، إلا الطبقة العليا فإنهم علموا الأمور في الدنيا فلم يتعدوا بالأمر مرتبته ، وأنزلوه منزلته ، فما رأوا في الدنيا أمرا إلا كان جزاء ما كان ابتداء ،
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والآخرة ، لأنه المجازي في الدنيا والآخرة ، فأما في الآخرة فمعلوم عند الجميع ، وأما في الدنيا فبما شرع من إقامة الحدود جزاء لأعمال نص عليها ، كالزنا والسرقة والمحاربة وغير ذلك ، وبما شرع من مكافأة المحسن وشكر المنعم ، وبما أخبر عليه السلام من جزاء اللّه تعالى الكافر في الدنيا بما فعله من الخير ، وهذا يدلك على أن الكل مخاطبون بفروع الشريعة ، مؤاخذون بها مجازون عليها ، كما خوطبوا بأصولها سواء ، وأن الشرائع قد عمت جميع الخلق من آدم إلى نبينا محمد صلى اللّه عليهما ، قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا )وقال( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ )وقال وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) ،وكل نذير من جنس من بعث إليه( وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا )و( لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا )يعني من جنسهم ، فالجزاء محقق في الدنيا والآخرة ، وقد قال تعالى( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا )وجعله جزاء ، وقال : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ )وهذا هو الجزاء ، فمن خصه بيوم الآخرة فما أعطى الآية حقها ، يقول العبد في الصلاة« مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ »يقول اللّه ( فوض إليّ
ص 28
والملك على الحقيقة هو الحق تعالى المالك للكل ومصرفه ، وهو الشفيع لنفسه عامة وخاصة ، خاصة في الدنيا وعامة في الآخرة من وجه ما ، ولذلك قدم على قوله« مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ »الرحمن الرحيم ، لتأنس أفئدة المحجوبين عن رؤية رب العالمين ، ألا تراه يقول يوم الدين ( شفعت الملائكة والنبيون وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين ) ولم يقل الجبار ولا القهار ليقع التأنيس قبل وجود الفعل في قلوبهم .
إياك نعبد وإياك نستعين 5
إياك نعبد أي لك نقر بالعبودية وحدك لا شريك لك ، فقدم قول إياك نعبد وهو قول العبد المحض بذاته إياك نعبد ، فمن قالها متحققا بعبوديته فقد وفّى حق سيده ، ولم يلتفت إلى نفسه ولا إلى صورة ما خلقه اللّه عليها التي توجب له الكبرياء بل كان عبدا محضا ، ثم قال بالصورة التي خلق عليها« إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »على عبادتك ولا يطلب العون إلا من له نوع تعمّل في العمل ، فيقول وإليك نأوي في الاستعانة لا إلى غيرك ، فبهذه الآية نفى الشريك .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
عبدي ) وفي رواية ( مجدني عبدي ) فهو قولنا إن الدين هنا هو الجزاء في الدارين ، فإن التفويض تكليف ومحله الدنيا ، بل لا يصح أن يكون إلا فيها ، وهو أخص من ( مجدني عبدي ) فإن التمجيد له في الدارين ، وهو الشرف ، والتفويض من العبد لا يكون إلا هنا ، فإن الآخرة لا يصح فيها تفويض من العباد ، إذ لا دعوى هناك ، بل الأمور كلها مكشوفة للعباد أنها بيد اللّه ، ولا يفوض المفوض إلا ما له فيه تصرف ، وليس ذلك هناك ، فتأمل ، قوله ( 5 )« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »أفرد نفسه بالكاف في الموضعين ، لأنه المعبود وحده ، ولا يعبد غيره ، والمطلوب منه ، لأنه المعين وحده بكل وجه ، يؤيد ذلك قوله( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )والألوهية هي المعبودة من كل معبود ، ولكن أخطئوا في النسبة فشقوا شقاوة الأبد ، وكذلك هو المعين بما يوجده ويخلقه في خلقه من أسباب المعونة ، وجمع عباده بالنون فيهما ، لأن العابدين والمستعينين كثيرون ، سواء كان العابد شخصا واحدا أو ما زاد عليه ، فإن الشخص وإن كان واحدا ، فإن كل عضو فيه ، عليه عبادة ، فصحت الكثرة في الشخص الواحد ، فلهذا له أن يأتي بنون الجماعة .
قال عليه السلام « يصبح على كل سلامي منكم صدقة » وهي العروق ، وقال تعالى( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ )لسترها عنا ، ولهذا قال في الآية : إِنَّهُ كانَ حَلِيماً
ص 29
اهدنا الصراط المستقيم 6
قرئ الزراط بالزاي وهي لغة وقرأ ابن كثير السراط بالسين وحمزة وباقي القراء بالصاد ، والصراط الذي سألته النفس هنا هو صراط النجاة بالتوحيد والتنزيه الذي سار عليه الذين أنعمت عليهم وهو الشرع هنا ، ولا يزال العبد في كل ركعة من الصلاة يقول« اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ »لأنه أدق من الشعر وأحد من السيف ، وكذا هو علم الشريعة في الدنيا ، لا يعلم الحق في المسألة عند اللّه ولا من هو المصيب من المخطئ بعينه ، ولذلك تعبدنا بغلبة الظنون بعد بذل المجهود في طلب الدليل ، فالنص الصريح أحد من السيف وأدق من الشعر في الدنيا ، والصراط ظهوره في الآخرة محسوس أبين وأوضح من ظهوره في الدنيا ، إلا لمن دعا إلى اللّه على بصيرة كالرسول وأتباعه .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
غَفُوراً )والغفر الستر ، وسيأتي الترجمة عنها في موضعها ، كما أنه سبحانه إذا كنى عن نفسه بالنون في مثل ( نزلنا ) و ( خلقنا ) و ( نحن ) فالناس يجعلون ذلك للعظمة ، وليس في الأصل بصحيح ، بل هي على بابها من الجمع في الدلالة ، وغاية من قدر على معناها وقرب أن قال : إذا قال بقوله جماعة لمكانته وشرفه ولا يرد له قول ، فبذلك الاعتبار يكنى بالنون عن الواحد ، وليس كذلك ، ولكنه أقرب الوجوه ، بل الوجه الصحيح أن الكناية هنا عن الأسماء التي عنها تقع الآثار على اختلافها ، وإن جمعتها ذات واحدة ، فهو العالم من حيث كذا ، والقادر من حيث كذا ، والمريد من حيث كذا ، والرازق من حيث كذا ، فكثرت الوجوه والنسب ، فطلبت النون ، ومعنى نعبد نتذلل ، يقال أرض معبدة أي مذللة ، وسمي العبد عبدا لذلته ، يقول العبد في الصلاة« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »يقول اللّه ( هذه الآية بيني وبينك ، ولعبدي ما سأل ) يعني الكاف له والنون للعبد ، والسؤال هنا الاستعانة ، فقد وعد بها ، بل هي له في الوقت ، فإنه لولا معونته ما قام إلى الصلاة ، فليس يطلب إلا استصحاب المعونة ، والذي لنا القيام بالعبودة وطلب المعونة منه ، إذ لا حول ولا قوة إلا باللّه ، والذي له إعطاء المعونة ، وتعيين ما عبد من أجله ، كل على حسب ما ألقي فيه من القصد ، فمن عابد لما تقتضيه الربوبية من التعظيم ، ومن عابد وفاء بحق العبودة والعبودية معا ، ومن عابد طمعا فيما وعد ، ومن عابد حذرا مما أوعد ، وهذا تقتضيه العبودة .
قوله ( 6 )« اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ »الآية يقول : بيّن لنا الطريق الموصلة إلى سعادتنا عندك ، إذ كل طريق موصلة إليه ، قال تعالى( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ )و( أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ )و( ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ )فأتى به نكرة ، لأنه على كل صراط
ص 30
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين 7
صراط الذين أنعمت عليهم من نبي ورسول ، أي الطريق وليس إلا الشرع الذي أنعمت به عليهم وهو الرحمة التي أعطتهم التوفيق والهداية في دار التكليف ، وهي رحمة عناية فكانوا بذلك غير مغضوب عليهم ولا ضالين ، لما أعطاهم اللّه الهداية فلم يحاروا« غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ »نعت للذين أنعمت عليهم وهو نعت تنزيه يقول من غضب اللّه عليه ، منّ علينا بالرحمة التي مننت بها على أولئك ابتداء من غير استحقاق حتى وصفتهم بأنهم غير مغضوب عليهم ، إذ قد مننت عليهم بالهداية فأزالت الضلالة التي هي الحيرة عنهم ، فمنّ بالذي يزيل ما استحققناه من غضب اللّه ، فيرحمهم اللّه برحمة الامتنان وهي الرحمة الثالثة بالاسم الرحمن ، فيزيل عنهم العذاب ويعطيهم النعيم فيما هم فيه بالاسم الرحيم ، فليس في أم الكتاب آية غضب بل كلها رحمة ، وهي الحاكمة على كل آية في الكتاب لأنها الأم ، فسبقت رحمته غضبه ، وكيف لا يكون ذلك والنسب الذي بين العالم وبين اللّه إنما هو من الاسم الرحمن ، فجعل الرحم قطعة منه فلا تنسب الرحم إلا إليه .
قال صلّى اللّه عليه وسلم : الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله اللّه ومن قطعها قطعه اللّه ، وما في العالم إلا من عنده رحمة بأمر ما لا بد من ذلك ، فلا بد أن ينال الخلق كلهم رحمة اللّه ، فمنهم العاجل والآجل ، فإن رحمة اللّه سبقت غضبه فهي أمام الغضب ، فلا يزال غضب اللّه يجري في شأوه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه ، فيجد الرحمة قد سبقته ، فتتناول منه العبيد المغضوب
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
شهيد ، وجاء في هذا بالتعريف ، فهو صراط مخصوص ، فلذا فسرناه بالصراط المؤدي إلى السعادة ، ولما كان الإنسان تعتريه في أكثر الأوقات الشبه المضلة الصارفة عن طريق العلم باللّه ، من حيث توحيده وما يجب له ، وغير ذلك ، ولا سيما لأرباب الفكر والنظر ، احتاج أن يقول:
بيّن لنا طريق الحق في ذلك ، والمطلوب هنا بالصراط المستقيم الاجتماع منه على إقامة الدين مطلقا ، حتى لا يؤمن ببعض ويكفر ببعض لما ذكرناه ، ونون الجماعة في اهدنا هي النون في نعبد ، وإنما
ص 31
الفقرة الثالثة :
عليهم ، فتنبسط عليهم ويرجع الحكم لها فيهم ، والمدى الذي يعطيه الغضب هو ما بين الرحمن الرحيم الذي في البسملة وبين الرحمن الرحيم الذي بعد قوله« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »فالحمد للّه رب العالمين هو المدى ، فأوله الرحمن الرحيم وانتهاؤه الرحمن الرحيم ، وإنما كان الحمد للّه رب العالمين عين المدى ، فإن في هذا المدى تظهر السراء والضراء ولهذا كان الحمد فيه وهو الثناء ، ولم يقيد بضراء ولا سراء في هذا المدى لأنه يعم السراء والضراء .
فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول في السراء : ” الحمد للّه المنعم المفضل ”
وفي الضراء « الحمد للّه على كل حال »
ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه ، فجعل اللّه عقيب« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »قوله« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »فالعالم بين هذه الرحمة ورحمة البسملة بما هو عليه من محمود ومذموم ، وهذا تنبيه عجيب من اللّه لعباده ليقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة اللّه فإنه أرحم الراحمين ، فإنه إن لم يزد على عبيده في الرحمة بحكم ليس لهم فما يكون أرحم الراحمين ، وهو أرحم الراحمين بلا شك ، فو اللّه لا خاب من أحاطت به رحمة اللّه من جميع جهاته ، وإذا صحت الحقائق فليقل الأخرق ما شاء ، فإن جماعة نازعوا في ذلك ولولا أن رحمة اللّه بهذه المثابة من الشمول لكان القائلون بمثل هذا لا تنالهم رحمة اللّه أبدا .
الوجه الثاني الفاتحة في الصلاة : الصلاة جامعة بين اللّه والعبد في قراءة فاتحة الكتاب ، ومن هنا يؤخذ الدليل بفرضيتها على المصلي في الصلاة ، فمن لم يقرأها في الصلاة فما صلى الصلاة التي قسمها اللّه بينه وبين عبده ، فإنه ما قال قسمت الفاتحة وإنما قال قسمت الصلاة بالألف واللام اللتين للعهد والتعريف ، فلما فسر الصلاة المعهودة بالتقسيم جعل محل القسمة قراءة الفاتحة ، وهذا أقوى دليل يوجد في فرض قراءة الحمد في الصلاة ، والذي أذهب إليه وجوب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة وإن تركها لم تجزه صلاته ، فقراءة أم القرآن في الصلاة واجبة إن حفظها ، وما عداها ما
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قلنا الاجتماع على إقامة الدين لقوله ( 7 )« صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ »يعني من النبيين ، فإنه جعل لكل نبي شرعة ومنهاجا ، وقال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )أي في القيام به ، فهذه الصفة هي الجامعة لكل ذي شرع ، وهو قوله تعالى لما ذكر الأنبياء لنبيه صلى اللّه على جميعهم : ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ )أي فيما ذكرناه ، لا في فروع الأحكام ، وإن
ص 32
فيه توقيت ، وينبغي أن يكون العامل في« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »( أذكر ) فتتعلق الباء بهذا الفعل إن صح الخبر ، يقول العبد« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »يقول اللّه « ذكرني عبدي » وإن لم يصح فيكون الفعل أقرأ بسم اللّه ، فإنه ظاهر في« اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ »هذا يتكلفه لقولهم إن المصادر لا تعمل عمل الأفعال إلا إذا تقدمت ، وأما إذا تأخرت فتضعف عن العمل ، وهذا عندنا غير مرضي في التعليل لأنه تحكم من النحوي ، فإن العرب لا تعقل ولا تعلل ، فيكون تعلق البسملة عندي بقوله« الْحَمْدُ لِلَّهِ »بأسمائه فإن اللّه لا يحمد إلا بأسمائه غير ذلك لا يكون ، ولا ينبغي أن نتكلف في القرآن محذوفا إلا لضرورة وما هنا ضرورة .
فإن صح قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن اللّه تبارك وتعالى إن العبد إذا قال« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »في مناجاته في الصلاة يقول اللّه يذكرني عبدي فلا نزاع ، هكذا روي هذا الخبر عن
[ الفاتحة في الصلاة ]
أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاث غير تمام » .
فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام فقال : اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول « قال اللّه تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل » ، وذكر مسلم هذا الحديث ولم يذكر البسملة فيه ، فمن عبيد اللّه من يسمع ذلك القول بسمعه ، فإن لم تسمعه بسمعك فاسمعه إيمانا به فإنه أخبر بذلك ، فمن الأدب الإصغاء ، وهي السكتات بين الآيات في الصلاة .
فإذا قال العبد« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »علق الباء بما في الحمد من معنى الفعل كما قلنا يقول لا يثنى على اللّه إلا بأسمائه الحسنى ، فذكر من ذلك ثلاثة أسماء : الاسم اللّه لكونه جامعا غير مشتق ، فينعت ولا ينعت به فإنه للأسماء كالذات للصفات فذكره أولا من حيث أنه دليل على الذات ، كالأسماء الأعلام كلها في اللسان وإن لم يقو قوة الأعلام لأنه وصف للمرتبة كاسم السلطان ، فلما لم يدل إلا على
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ظهر في شرعنا من فروع شرع من قبلنا ، فمن حيث هو شرع لنا ، وقد يقع الاتفاق في بعض الأحكام كالتوحيد والإيمان بالآخرة وما فيها ، لا ينكر ذلك ، وكلا الصراطين معرّفة ، فالتعريف للصراط بالإضافة أخرج الصراط المستقيم من حكم ما تعطيه الألف واللام من استغراق الجنس إلى حكم ما تعطيه من العهد ، وقوله ( 7 )« غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ »يعني المرضي عنهم ( 7 )« وَلَا الضَّالِّينَ »يعنى المهتدين ، ولذا قال : اهدنا كما هديت هؤلاء ، فهما نعتان للذين أنعمت عليهم ،
ص 33
الذات المجردة على الإطلاق من حيث ما هي لنفسها من غير نسب لم يتوهم في هذا الاسم اشتقاق ، ولهذا سميت بالبسملة وهو قولك الاسم مع اللّه أي قولك بسم اللّه خاصة ، ثم قال بعد« بِسْمِ اللَّهِ »« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »من حيث ما هو أعني« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »من الأسماء المركبة كمثل بعلبك ورام هرمز ، فسماه به من حيث ما هو اسم له لا من حيث المرحومين ولا من حيث تعلق الرحمة بهم ، بل من حيث ما هي صفة له جل جلاله فإنه ليس لغير اللّه ذكر في البسملة أصلا ، فإذا قال العبد« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »
قال اللّه تعالى « ذكرني عبدي » وما قيد هذا الذكر بشيء لاختلاف أحوال الذاكرين أعني البواعث لذكرهم ، فذكر تبعثه الرغبة وذكر تبعثه الرهبة وذكر يبعثه التعظيم والإجلال ، فأجاب الحق على أدنى مراتب العالم وهو الذي يتلو بلسانه ولا يفهم بقلبه ، لأنه لم يتدبر ما قاله إذا كان التالي عالما باللسان ولا ما ذكره ، فإن تدبر تلاوته أو ذكره كانت إجابة الحق له بحسب ما حصل في نفسه من العلم بما تلاه ، فإن اللّه يقول عند قراءة العبد القرآن كذا جوابا على حكم الآية ، فينبغي للإنسان إذا قرأ الآية أن يستحضر في نفسه ما تعطيه تلك الآية على قدر فهمه ، فإن الجواب يكون مطابقا لما استحضرته من معاني تلك الآية ، ولهذا ورد الجواب على أدنى مراتب العامة مجملا ، إذا العامي والعجمي الذي لا علم له بمعنى ما يقرأ يكون قول اللّه له ما ورد في الخبر ، فإن فصّلت في الاستحضار فصل اللّه لك الجواب ، فعلى هذا القدر في القراءة تتميز مراتب العلماء باللّه والناس في صلاتهم .
ثم قال : قال اللّه تعالى فإذا قال العبد« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »في الصلاة
يقول اللّه « حمدني عبدي » والحمد للّه رب العالمين يعني العبد أن عواقب الثناء ترجع إلى اللّه ، ومعنى عواقب الثناء أي كل ثناء يثنى به على كون من الأكوان دون اللّه فعاقبته ترجع إلى اللّه لا لذلك الكون ، فرجعت عواقب الثناء إلى اللّه ومن وجه آخر إذا نظر إلى موضع اللام من قوله« لِلَّهِ »يرى أن الحامد عين المحمود لا غيره فهو الحامد المحمود ، وينفي الحمد عن الكون من كونه حامدا ونفى كون الكون محمودا ، فالكون من وجه محمود لا حامد ، ومن وجه لا حامد ولا محمود ، وأما كونه غير حامد فإن الحمد فعل والأفعال للّه ، وأما كونه غير محمود فإنما يحمد المحمود بما هو له لا لغيره والكون لا شيء
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وهو من أسماء النواقص ، يقول العبد في الصلاة« اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
ص 34
له فما هو محمود أصلا ، وجاء قوله تعالى« رَبِّ الْعالَمِينَ »بالاسم الرب على ما يعطيه من الثبات والإصلاح والتربية والملك والسيادة ، فهذه الخمسة يطلبها الاسم الرب ، ويحضر القارئ ما يعطيه العالم من الدلالة عليه تعالى ، فلا يكون جواب اللّه في قوله « حمدني عبدي » إلا لمن حمده بأدنى المراتب ، لأنه لكرمه يعتبر الأضعف الذي لم يجعل اللّه له حظا في العلم به تعالى رحمة به ، لعلمه أن العالم يعلم من سؤاله أو قراءته ما حضر معه في تلك القراءة من المعاني ، فيجيبه اللّه على ما وقع له ويدخل في إجمال ما خاطب به عبده العامي القليل العلم ، أو الأعجمي الذي لا علم له بمدلول ما يقرؤه.
ثم قال يقول العبد« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »يقول اللّه « أثنى علي عبدي » فإن قلت لم اختصت الرحمة بالثناء قلنا لأنه لا يثنى عليه إلا بما هو عليه ولا يثنى عليك إلا بما تعطيك حقيقتك ، فإذا رحمك ردك إلى عبوديتك واعتقدت أن الربوبية له وحده سبحانه ، فكل من أثني عليه بوصف مشترك فما أثني عليه ، إنما ينبغي أن يثنى على الموجود بما لا يقع فيه المشاركة ، فإذا رحمك منّ عليك بثناء تنفرد به ، ومتى أشركت معه غيره في الثناء فما خصصته بل شركته بغيره .
فيقول اللّه « أثنى علي عبدي » يعنى بصفة الرحمة لاشتقاق هذين الاسمين منها ، ولم يقل في ما ذا لعموم رحمته ، ولأن العامي ما يعرف من رحمة اللّه به إلا إذا أعطاه ما يلائمه في غرضه وإن ضره ، أو ما يلائم طبعه ولو كان فيه شقاؤه .
أما العالم إذا قال« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »فإنه يحضر في نفسه مدلول هذا القول من حيث ما هو الحق موصوف به ، ومن حيث ما يطلبه المرحوم لعلمه بذلك كله ، ويحضر في قلبه أيضا عموم رحمته الواحدة المقسمة على خلقه في الدار الدنيا ، إنسهم وجنهم ومطيعهم وعاصيهم وكافرهم ومؤمنهم وقد شملت الجميع ، ورأى أن هذه الرحمة الواحدة لو لم تعط حقيقتها من اللّه أن يرزق بها عباده من جماد ونبات وحيوان وإنس وجان ولم يحجبها عن كافر ومؤمن ومطيع وعاص عرف أن ذاتها من كونها رحمة تقتضي ذلك ، ثم جاء الوحي من أثر هذه الرحمة الواحدة بأن هذه الرحمة الواحدة السارية في العالم التي اقتضت حقيقتها أن تجعل الأم تعطف على ولدها من جميع الحيوان ، وهي واحدة من مائة رحمة ، وقد ادخر سبحانه لعباده في الدار الآخرة تسعا وتسعين رحمة ، فإذا كان يوم القيامة ونفذ في العالم حكمه وقضاؤه وقدره بهذه الرحمة الواحدة ، وفرغ الحساب ونزل الناس منازلهم من الدارين ، أضاف سبحانه هذه الرحمة إلى التسع والتسعين رحمة فكانت
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
عليهم » إلى آخر السورة ، يقول اللّه : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ، فقد ضمن الإجابة .
ص 35
مائة ، فأرسلها على عباده مطلقة في الدارين فسرت الرحمة فوسعت كل شيء ، فمنهم من وسعته بحكم الوجوب ، ومنهم من وسعته بحكم الامتنان ، فوسعت كل شيء في موطنه وفي عين شيئيته ، وقد كان الحكم في الدنيا بالرحمة الدنيا ما قد علمتم ، وهي الآن أعني بالآخرة من جملة المائة فما ظنك ، ثم قال يقول العبد« مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ »يقول اللّه « مجدني عبدي » واختص الملك بالتمجيد لتصحيح التوحيد ، فأراد بالتمجيد التشريف بالوحدانية في الألوهية ، فلا إله إلا هو ، وفي رواية « فوض إلي عبدي » .
فالعالم يجب أن لا يقصر يوم الدين على الآخرة ، ويرى أن الرحمن الرحيم لا يفارقان ملك يوم الدين فإنه صفة لهما ، فيكون الجزاء دنيا وآخرة ، وكذلك ظهر بما شرع من إقامة الحدود وظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ، وهذا هو عين الجزاء ، فيوم الدنيا أيضا يوم الجزاء واللّه ملك يوم الدين ، فالكفارات سارية في الدنيا ، والإنسان في الدار الدنيا لا يسلم من أمر يضيق به صدره يؤلمه حسا وعقلا حتى قرصة البرغوث والعثرة ، فالآلام محدودة موقتة ورحمة اللّه غير موقتة ، فإنها وسعت كل شيء ، فمنها تنال وتحكم من طريق الامتنان وهو أصل الأخذ لها ، ومنها ما يؤخذ من طريق الوجوب الإلهي في قوله« كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ »
وقوله« فَسَأَكْتُبُها » ،فأناس يأخذونها جزاء ، وبعض المخلوقات من المكلفين تنالهم امتنانا حيث كانوا ، فكل ألم في الدنيا والآخرة فإنه مكفر لأمور قد وقعت محدودة موقتة ، وهو جزاء لمن يتألم به من صغير وكبير بشرط تعقل التألم لا بطريق الإحساس بالتألم دون تعقله ، فالرضيع لا يتعقل التألم مع الإحساس به ، إلا أن أباه وأمه وأمثالهما من محبيه وغير محبيه يتألم ويتعقل التألم لما يرى في الرضيع من الأمراض النازلة به ، فيكون ذلك كفارة لمن تعقل الألم ، فإذا زاد ذلك العاقل الترحم به كان مع التكفير عنه مأجورا ، إذ في كل كبد رطبة أجر ، وأما الصغير إذا تعقل التألم وطلب النفور عن الأسباب الموجبة للألم واجتنبها ، فإن له كفارة فيها لما صدر منه مما آلم به غيره من حيوان أو شخص آخر من جنسه ، فإذا تألم الصغير كان ذلك الألم القائم به جزاء مكفرا ، حتى الإنسان يتألم بوجود الغيم ويضيق صدره به ، فإنه كفارة لأمور آتاها قد نسيها أو يعلمها .
فهذا كله من بعض ما يدل عليه« مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ »فيقول اللّه « فوض إلي عبدي » أو ” مجدني عبدي ” أي جعل لي الشرف عليه كما هو الأمر في نفسه ، فهو الحق الذي له المجد بالأصالة ، فله تعالى المجد
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
تنبيه : وإن كان النصف الأول له فقد جاء فيه ذكر العالمين ، وجاء في النصف الذي لنا ذكره
ص 36
والشرف على العالم في الدنيا والآخرة ، لأنه جازاهم على أعمالهم في الدنيا والآخرة ، فيوم الدين هو يوم الجزاء ، أو يقول اللّه كلاهما ، إلا أن التمجيد راجع إلى جناب الحق من حيث ما تقتضيه ذاته ومن حيث ما تقتضي نسبة العالم إليه ، والتفويض من حيث ما تقتضي نسبة العالم إليه لا غير ، فإنه وكيل لهم بالوكالة المفوضة ، ففي حق قوم يقول « مجدني عبدي وفيّ المقصد » وفي حق قوم يقول « فوض إلي عبدي وفي المقصد أيضا » وفي حق قوم يقول « مجدني عبدي وفوض إلي عبدي » ، فإن العبد قد يجمع بين المقصدين فيجمع اللّه له في الرد بين التمجيد والتفويض – وإلى هنا – فهذا النصف كله مخلص لجناب اللّه ليس للعبد فيه اشتراك – ثم قال اللّه يقول العبد« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »يقول اللّه هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فهذه الآية تتضمن سائلا ومسؤولا مخاطبا وهو الكاف من إياك فيهما ، ونعبد ونستعين هما للعبد فإنه العابد والمستعين .
فإذا قال العبد« إِيَّاكَ »وحد بحرف الخطاب بجعله مواجها لا على جهة التحديد ، ولكن امتثالا لقول الشارع لمثل ذلك السائل في معرض التعليم حين سأله عن الإحسان فقال له صلّى اللّه عليه وسلم « أن تعبد اللّه كأنك تراه » ، فلا بد أن تواجهه بحرف الخطاب وهو الكاف ، فهذه الآية وقع فيها الاشتراك بين الحق وبين عبده ، وما مضى من الفاتحة مخلص للّه وما بقي منها مخلص للعبد ، وهذه التي نحن فيها مشتركة ووقع الاشتراك من العبادة والعون لتتميز القدرة من عجز الكون ، فهو سبحانه المقصود بالعبادة ، والعبد العابد ، وهو المقصود بالاستعانة ، والعبد المستعين ، فالاشتراك في الآية كلمة للرب وكلمة للعبد ، وإنما وحّده ولم يجمعه لأن المعبود واحد ، وجمع نفسه بنون الجمع في العبادة والعون المطلوب لأن العابدين من العبد كثيرون ، وكل واحد من العابدين يطلب العون والمقصود بالعبادات واحد ، فعلى العين عبادة وعلى السمع عبادة وعلى البصر واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب فلهذا قال نعبد ونستعين بالنون ، فإذا نظر العالم إلى تفاصيل عالمه وأن الصلاة قد عم حكمها جميع حالاته ظاهرا وباطنا لم ينفرد بذلك جزء عن آخر ، فجميع عالمه قد اجتمع على عبادة ربه وطلب العون منه على عبادته ، فجاء بنون الجماعة في نعبد ونستعين فترجم اللسان عن الجماعة ، كما يتكلم الواحد من الوفد بحضورهم بين يدي الملك ، فعلم العبد من الحق لما أنزل عليه هذه الآية بإفراده نفسه أن
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
سبحانه في أنعمت بضمير المخاطب ، وإنما أتى بضمير المخاطب ، ولو أتى باسم ظاهر ، تخيل أن
ص 37
لا يعبد إلا إياه ، ولما قيد العبد بالنون أنه يريد منه أن يعبده بكله ظاهرا وباطنا من قوى وجوارح ويستعين على ذلك الحد ، ومتى لم يكن المصلي بهذه المثابة من جمع عالمه على عبادة ربه لم يصدق في قوله« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »
وهو مشغول في الالتفات ببصره والإصغاء إلى حديث الآخرين ، مشغول بخاطره في دكانه أو تجارته ، ثم قال اللّه يقول العبد« اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ »
فيقول اللّه ( هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ) فيسأل العبد اللّه أن يهديه الصراط المستقيم ، وأن يبينه له وأن يوفقه إلى المشي عليه ، وهو صراط التوحيد توحيد الذات وتوحيد المرتبة التي هي الألوهية بلوازمها من الأحكام المشروعة التي هي من الإسلام في قوله صلّى اللّه عليه وسلم « إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللّه » فهو الصراط المستقيم الذي هو عليه الرب ، من حيث ما يقود الماشي عليه إلى سعادته .
ولهذا قال« صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ »يريد الذين وفقهم اللّه وهم العالمون كلهم أجمعهم ، والصالحون من الإنس مثل الرسل والأنبياء والأولياء وصالحي المؤمنين من الجان ، كذلك لم يجعل الصراط المستقيم إلا لمن أنعم اللّه عليهم من نبي وصديق وشهيد وصالح ، وكل دابة هو آخذ بناصيتها« غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ »أي لا من غضب اللّه عليهم لما دعاهم بقوله « حي على الصلاة » فلم يجيبوا« وَلَا الضَّالِّينَ »فاستثنى بالعطف من حار ، وهم أحسن حالا من المغضوب عليهم ، فمن لم يعرف ربه وأشرك معه في ألوهيته من لا يستحق أن يكون إلها كان من المغضوب عليهم ، فإذا أحضر العبد مثل هذا وأشباهه في نفسه عند تلاوته قالت الملائكة « آمين » ويقول العبد « آمين » .
فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة في الصفة ، موافقة طهارة وتقديس ذوات ، كرام بررة ، أجابه الحق عقيب قوله « آمين » ، أي أمنا بالخير ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ، « وآمين » كلمة شرعت بعد الفراغ من الفاتحة لما فيها من السؤال ، وهو قوله« اهْدِنَا »وهي أي آمين تقصر وتمد ، وورد في الشرع الجهر بها والإخفاء ، لأن الأمر ظاهر وباطن ، فالباطن يطلب الإخفاء والظاهر يطلب الجهر ، غير أن الظاهر أعم ، فإذا جهر بها حصل حظ الباطن ، وإذا أسر بها لم يعلم الظاهر ما جرى ، فالجهر بها عام لعام وخاص وأعم منفعة ، والسر بها أتم مقاما من الجهر بها ، وآمين معناها أجب دعاءنا ، لا بل معناه قصدنا إجابتك فيما دعوناك فيه ، يقال أمّ فلان جانب فلان إذا قصده ، وخفف آمين للسرعة المطلوبة في الإجابة ، والخفة
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الأمر مربوط بما تعطيه حقيقة ذلك الاسم ، ونسبة الأسماء إلى الضمير نسبة واحدة ، كما أنه أتى
ص 38
تقتضي الإسراع في الأشياء ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة فقد غفر له ، ولم يقل فقد أجيب لما غفر له ، لأن المهدي ما له ما يغفر ، أي فمن أمن مثل تأمين الملائكة ، هذا معنى الموافقة لا الموافقة الزمانية ، وقد تكون الموافقة الزمانية فيحويهم زمان واحد عند قولهم آمين ، والملائكة لا يخلو قولها في آمين هل يقولونها متجسدين أو يقولونها غير متجسدين ، فإن قالتها متجسدين فربما يريد الموافقة الزمانية خاصة ، لأن التجسد يحكم عليها بالإتيان بلفظة آمين أي بترتيب هذه الحروف ، وإن قالتها غير متجسدة فلم تبق الموافقة إلا أن يقولها العبد بالحال التي يقولها الملك ، فإذا قالها غفر اللّه له ، ولا بد أن يستره عن كل أمر يضاد الهداية بما تنتج ، لا بد من ذلك ، لأن نتيجة الهداية سعادة ، وقد يكون في حياته الدنيا غير مهدي والعناية قد سبقت فيجني ثمرة الهداية ، فلهذا لم يقل أجيب وقال غفر فهذا معنى قول آمين فحصلت الإجابة بالأمن مع تأمين الملائكة ، فيجب قراءة الفاتحة على كل مصل من إمام وغير إمام .
وليس للمأموم أن يسبق إمامه بشيء من أفعال الصلاة ، ولا من أقوالها حتى في قراءة الفاتحة ، ليس له أن يشرع فيها إذا جهر بها حتى يفرغ منها أو يتبع سكتات الامام فيها ، فيقرأ ما فرغ الإمام منها في سكتة الإمام ، وفي صلاة السر يقرؤها بحسب ما يغلب على ظنه ، إلا في الصلاة بعد الجلسة الوسطى فإنه يقرؤها ابتداء ، فقراءة الفاتحة لا بد منها لكل مصل ، فإن اللّه قسم الصلاة بينه وبين عبده وما ذكر إلا الفاتحة لا غير ، فمن لم يقرأها فما صلى الصلاة المشروعة التي قسمها اللّه بينه وبين عبده ، وينبغي للعبد أن يقرأ سورة الفاتحة من غير أن تتقدمه روية فيما يقرأ من السور أو الآيات من سورة واحدة أو من سور ، فإذا فرغ المصلي من قراءة الفاتحة قرأ ما تيسر له من القرآن وما يجري اللّه على لسانه منه من غير أن يختار آية معينة أو يتردد ، والسنة إتمام السورة.
في الخبر الصحيح يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ – همة عالية شريفة – روى الشيخ محي الدين ابن العربي عن شيخه المقرئ أبي بكر محمد بن خلف بن صاف اللخمي ، من مشايخ القراءات بجامع قوس الحنية بإشبيلية ، عن بعض المعلمين من الصالحين ، أن شخصا صبيا صغيرا كان يقرأ عليه القرآن ، فرآه مصفر اللون فسأل عن حاله فقيل له إنه يقوم الليل بالقرآن كله .
فقال له يا ولدي أخبرت أنك تقوم الليل بالقرآن كله ، فقال هو ما قيل لك ، فقال يا ولدي إذا كان في هذه الليلة فأحضرني في قبلتك ، واقرأ عليّ القرآن في صلاتك ولا تغفل عني ، فقال
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالعالمين ، وما ذكر عالما مخصوصا ، حتى لا يخرج من العالم أحد ، فالعالم مفتقر إلى حقائق الأسماء
ص 39
الفقرة الرابعة :
الشاب نعم فلما أصبح قال له هل فعلت ما أمرتك به ؟
قال نعم يا أستاذ ، قال وهل ختمت القرآن البارحة ؟
قال لا ما قدرت على أكثر من نصف القرآن ،
قال يا ولدي هذا حسن إذا كان في هذه الليلة فاجعل من شئت من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أمامك ، الذين سمعوا القرآن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، واقرأ عليه واحذر فإنهم سمعوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فلا تزل في تلاوتك ، فقال إن شاء اللّه يا أستاذ كذلك أفعل ، فلما أصبح سأله الأستاذ عن ليلته فقال :
يا أستاذ ما قدرت على أكثر من ربع القرآن ،
فقال : يا ولدي أتل هذه الليلة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن ، واعرف بين يدي من تتلوه ، فقال نعم ، فلما أصبح قال :
يا أستاذ ما قدرت طول ليلتي على أكثر من جزء من القرآن أو ما يقاربه ،
فقال يا ولدي إذا كان هذه الليلة فلتكن تقرأ القرآن بين يدي جبريل ، الذي نزل به على قلب محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فاحذر واعرف قدر من تقرأ عليه ، فلما أصبح قال ، يا أستاذ ما قدرت على أكثر من كذا وذكر آيات قليلة من القرآن ،
قال يا ولدي إذا كان هذه الليلة فتب إلى اللّه وتأهب واعلم أن المصلي يناجي ربه ، وأنك واقف بين يديه تتلو عليه كلامه.
فانظر حظك من القرآن وحظه وتدبر ما تقرأ ، فليس المراد جمع الحروف ولا تأليفها ، ولا حكاية الأقوال ، وإنما المراد بالقراءة التدبر لمعاني ما تتلوه ، فلا تكن جاهلا ، فلما أصبح انتظر الأستاذ الشاب فلم يجئ إليه فبعث من يسأل عن شأنه فقيل له إنه أصبح مريضا يعاد ، فجاء إليه الأستاذ فلما أبصره الشاب بكى
وقال : يا أستاذ جزاك اللّه عني خيرا ، ما عرفت أني كاذب إلا البارحة ، لما قمت في مصلاي وأحضرت الحق تعالى وأنا بين يديه أتلو عليه كتابه ، فلما استفتحت الفاتحة ووصلت إلى قوله« إِيَّاكَ نَعْبُدُ »ونظرت إلى نفسي فلم أرها تصدق في قولها ، فاستحييت أن أقول بين يديه« إِيَّاكَ نَعْبُدُ »وهو يعلم أني أكذب في مقالتي.
فإني رأيت نفسي لاهية بخواطرها عن عبادته ، فبقيت أردد القراءة من أول الفاتحة إلى قوله« مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ »ولا أقدر أن أقول« إِيَّاكَ نَعْبُدُ »إنه ما خلصت لي ، فبقيت أستحي أن أكذب بين يديه تعالى فيمقتني ، فما ركعت حتى طلع الفجر وقد رضت كبدي ، وما أنا إلا راحل إليه على حالة لا أرضاها من نفسي ، فما انقضت ثالثة حتى مات الشاب ، فلما دفن أتى الأستاذ إلى قبره فسأله عن حاله ، فسمع صوت الشاب من قبره وهو يقول له : « يا أستاذ
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الإلهية كلها ، وأيضا لو أتى به مضمرا ، لم يجد الضمير على من يعود ، والتاء تجد على من تعود ،
ص 40
أنا حي عند حي لم يحاسبني بشيء »
قال فرجع الأستاذ إلى بيته ولزم فراشه مريضا مما أثر فيه حال الفتى فلحق به.
فمن قرأ« إِيَّاكَ نَعْبُدُ »على قراءة الشاب فقد قرأ – نصيحة – إذا كان اللّه المعين فلا تبال فإنه لا يقاومه شيء .
بل هو القادر على كل شيء ، فما ثم مع الإعانة الإلهية قوة تقاوى قوة الحق ، فإن اللّه يقول فيمن سأله الإعانة « ولعبدي ما سأل » في الخبر الصحيح ، فإذا قال العبد« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »يقول اللّه : هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
وإذا قال« اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ »إلى آخر السورة – وهدايته من معونته – يقول اللّه : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ، وخبره صدق وقد قال : ولعبدي ما سأل ، فلا بد من إعانته .
ولكن هنا شرط لا يغفل عنه العالم إذا تلا مثل هذا لا يتلوه حكاية ، فإن ذلك لا ينفعه فيما ذهبنا إليه ، وفيما أريد له وإنما اللّه تعالى ما شرع له أن يقرأ القرآن ويذكره بهذا الذكر إلا ليعلمه كيف يذكره ، فيذكره ذكر طلب واضطرار وافتقار وحضور في طلبه من ربه ما شرع له أن يطلبه ، فذلك هو الذي يجيبه الحق إذا سأله ، فإن تلا حكاية فما هو سائل ، وإذا لم يسأل وحكى السؤال فإن الحق لا يجيب من هذه صفته ، ولا جرم أن التالين الغالب عليهم الحكاية لا ثمرة عندهم ، فهم يقرءون القرآن بألسنتهم لا يجاوز تراقيهم ، وقلوبهم لاهية في حال التلاوة وفي حال سماعه ، فالمؤمن المخلوق يستعين بالمؤمن الخالق ، فيشد منه ويقوي ما ضعف عنه من كونه مخلوقا .
إشارة :
ما أحسن الإشارة في كون اللّه ما ختم القرآن العظيم الذي هو الفاتحة إلا بأهل الحيرة وهو قوله« وَلَا الضَّالِّينَ »والضلالة الحيرة ، ثم شرع عقيبها آمين أي أمنا بما سألناك فيه ، فإن غير المغضوب عليهم ولا الضالين نعت للذين أنعمت عليهم ، وهو نعت تنزيه ، ومن علم أن الغاية هي الحيرة فما حار ، بل هو على نور من ربه ، إذ الحيرة هي الانتهاء وما بيد العالم باللّه من العلم باللّه سواها .
( راجع معنى الحيرة في كتابنا الرد على ابن تيمية ص 50 – ومعنى الضالين في كتابنا شرح كلمات الصوفية ص 402 )
إشارة :
في قسمة الفاتحة ، العبودية الواضحة ، واختصت الرحمة بالثنا ، ليتبين من أنت ( الحق ) ومن أنا ، والملك بالتمجيد ، لتصحيح التوحيد ، ووقع الشرك في العبادة والعون ، لتتميز القدرة من عجز الكون ، واختص العبد بنصفها الثاني ، ليصح عليها اسم المثاني ، فإن قلت قد ساوى موسى لمحمد في الفرقان فكيف
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لأنه قد تقدم .
ص 41
صحت له السيادة ، قلنا لاختصاصه بالقرآن والعبادة ، فإن قلت قد شاركه في العبودية ، نوح وزكريا الوجيه ، قلنا : الواحد عبد نعمة ، والآخر عبد ربوبية ، ومحمد عبد تنزيه ، فإن قلنا قد شاركه يحيى في السيادة الفاخرة ، قلنا تلك السيادة الظاهرة ، ولهذا صرح بها في الكتاب المبين ، وأخفى فيه سيادة محمد سيد العالمين ، ثم صرح بها على لسانه في الشاهدين ، فهذا سيد عموم ، وهذا سيد رسوم .