الدراسات والبحوث

اختبارات العرفان العمليّْ سیدي أحمد التجاني صوفیَّاً مربِّیاً

د. نصر الدین موهوب

اختبارات العرفان العمليّْ سیدي أحمد التجاني صوفیَّاً مربِّیاً

د. نصر الدین موهوب

تقديم:

نتناول بالعرض والتحلیل في هذه الورقة بعضاً من رسائل ووصایا سیدي أحمد التجاني مؤسِّس الطریقة التجانیَّة.

والتجاني من العلماء العاملین والأئمَّة المجتهدین، ومن أكابر مشایخ التربیة والسلوك. كان یحضُّ أتباعه على العمل، لأنَّ التصوُّف في نظره لیس بطالة ولا توكُّلاً وكسلاً، كما لم یكن یستسیغ أن یلبسوا المرقَّعات والملابس الخشنة لما فیها من التظاهر والادِّعاء وإعلان الفقر وسؤال الناس. بل كان يركِّز على أنَّ نهج الطریق الصوفيِّ یقوم على تربیة خالیة من التزام الخلوة والاعتزال عن الناس ممَّا فیه تشدید على النفس.

قبل هذا، أكَّد التجاني في وصایاه واجب التعلُّق بالله وحده، والاشتغال به في كلِّ حین، وأداء بالفرائض والنوافل، ودوام الذِّكر لصفاء القلب من الأغیار والأكدار، والمحافظة على الحدود والتأدُّب بآداب المرسلین والصالحین، وترك الدنیا…وقد كانت هذه التربیة السلوكیَّة من أهمِّ العوامل التي ساهمت في انتشار طریقته بین الناس انتشاراً لا نظیر له.

1- مقدِّمة:

مع اتِّساع رقعة الإسلام، وضمِّه الكثیر من الأجناس التي كانت تتبع ديانات أخرى، امتزجت الحضارات المختلفة بعضها ببعض، وتعدَّدت مصادرها وأصولها،  فتباینت العقلیَّات، وتشعَّبت الآراء باختلاف المشارب والمدارس العقلیَّة والكلامیَّة والفلسفیَّة التي أنتجت فكراً من عمق الفلسفات المختلفة، فصار الناس یأخذون بالرأي في تدبیر المنقول والمسموع.

في ظلِّ هذه المتغيِّرات البعیدة في مفهومها وأصولها عما كان علیه عصر الصحابة الكرام والتابعین بإحسان فی ما ورثوه عن السلف من بساطة المعتقد، وسهولة فهم الأحكام، وتفرُّعات النوازل باختلاف ظروف البلدان والأمصار، قُیِّض للأمَّة من صفوة علمائها من یرومون، بما أوتوا من حكمة وفهم رشید في الدین، دعوة الخلق للرُّجوع إلى ما مضى من عصرٍ كانت عقیدة المؤمن فيه نابعة من إیمانه الذي لا یقبل الشكَّ، ذاك الإیمان الراسخ في القلوب، الصافي المشرب، الخالص لربِّ العالمین، بلا تعقید أو فهم زائد عن المسلَّمات الشرعیَّة والأحكام المبسَّطة المفهومة بنور العقل المنقدح في الصدور، الوارد من مورد الأمر والنهي. من هذا المنطلق، ظهر العلماء بالله یوجِّهون العقول إلى الوجهة المخلصة الصادقة بتجرید القلوب ممَّا سوى الله، وإشعار المؤمنین أنَّ حكم الله واحد یسري على جمیع خلقه، وأنَّه لا حرج في الدین، فجمعوا القلوب علیه، وانتشلوا من هَداه الله من حلكة الشكوك والرِّیَب، ولكن باختلاف فهوم الدالِّین على الله بحسب الزمان والمكان والعادات والسلوكات الشخصیَّة والاجتماعیَّة، فاختلف المقصد واتَّحد الهدف.

في هذه الظروف، وخلال القرن الذي تلا القرن الثالث للهجرة، بدأت ملامح هذه الفئة الداعیة إلى الله بالرُّجوع إلى الأمن في العقیدة، والسلامة في مباشرة الأحكام الشرعیَّة من مفروض ومسنون، بدأت تظهر خائضةً معركة ضدَّ الرُّعونة في النفوس، فبرز من سُمُّوا بالصوفیَّة، وتقعَّد علم التصوُّف فصار لكلٍّ أسلوبه وطریقته في التعبیر عمَّا یُقصد به إخراج الخلق من فتنة النفس أوَّلاً، وإغراء الشهوات، ومضلاَّت الأهواء.

وعبر الأزمنة، توالى ظهور كوكبة من رجال الصوفیَّة حملت هذا المشعل بدعوة الناس إلیه ترسیخاً لعقیدة الإسلام الطاهرة السَّمحة، وإفشاء لروح المحبَّة والأخوَّة في الله، وإشاعةً للسلام والطمأنینة في النفوس المضطربة عبر منهج مجرَّب أعطى ثماره ومازال، سُمِّي بالطریق أو السیر إلى الله أو المعراج، وهو قائم على ریاضة النفس ومجاهدتها، ومحاسبة الضمیر، وتصفیة القلب من العلائق والكدورات ومن كلِّ ما … سوى الله.

في منتصف القرن الثاني عشر للهجرة النبویَّة الشریفة، أي في عام 1150 ه    (1737 م)، بزغت شمس واحد من هؤلاء الرجال العظام، والعلماء العاملین، والأئمَّة المجتھدین، وبرز عَلمٌ من أعلام الصوفیَّة، وقطب من الأقطاب الربَّانیَّة، عُرف باسم القطب المكتوم، والختم المحمديِّ المعلوم، وقدوة الأنام وحُجَّة الإسلام، هوالوارث والمربي العارفيُّ أبو العباس أحمد بن محمد التجاني رضي الله عنه، وسنتناول في ھذه المداخلة جانباً من تصوُّفه وكیفیَّة تربیته لأتباعه من خلال ما تركه من آثار.

2- مفهوم التصوُّف عند الشیخ التجاني:

حیث أنَّ شعار الصوفیَّة یتمحور حول العلم، فإنَّ الارتقاء في مدارج السلوك الصوفيِّ، واللِّحاق بمنازل السائرین إلى الله، لا یُدركان إلاَّ بالعلم والمعرفة، لذلك كان الشغل الشاغل لسیدي التجاني ھو تحقیق ذلك، بدءاً من طلب العِلم، وصُحبة رجالاته،

وشیوخه، إلى التدرُّج في مقامات التصوُّف. فقد دأب ھذا الشیخ الجلیل على طلب العلم والمعرفة، وجاب بلاد الإسلام طولاً وعرضاً من أجل ذلك، فالتقى في فاس بالطیِّب العلميِّ الوزانيِّ، والشیخ عبد الله المعنيِّ، والشیخ عبد لله التزانيِّ، وفي الجزائر بالشیخ محمد بن عبد الرحمن الأزھريِّ، وفي تونس أخذ عن الشیخ عبد الصمد الرحويِّ، وفي مصر تتلمذ على ید الشیخ الكرديِّ الخلوتيِّ الذي كتب له الإجازة وسند الطریق، فيما التقى في مكة المكرَّمة بأحمد بن عبد الله الھنديِّ، وفي المدینة المنوَّرة بالشیخ محمد بن عبد الكریم السمان، كما أخذ عن غیرھم من المشایخ.

لقد عمل الإمام التجاني على نفي الرُّخَص والتأوُّلات، وشمَّر عن ساعد الجدِّ، وكفَّ نفسه عمَّا لا یعنیه، وتمسَّك بالكتاب والسنَّة وما درج علیه سالف الأمَّة، وتوجَّه بكلیَّته إلى مولاه فكفاه عمَّا سواه. ولقد أسَّس بنیانه أوَّلاً باشتغاله بعلم الحدیث والقرآن، وتبحَّر في غرائب العلوم ودقائق الفھوم. وقد كان رفیع الأخلاق، لطیف الصفات، كامل الأدب، جلیل القدر، وافر العقل، دائم البِشر، مخفوض الجناح، كثیر التواضع، شدید الحیاء، متَّبعاً أحكام الشرع وآداب السنَّة، محبَّاً لأھل الصلاح والفضل، مكرِماً لأرباب العلم.

التجربة الصوفیَّة ھي الباب الذي ولج منه الشيخ طمعاً في الوصول، وسبیلاً للكمال وإدراك الحقیقة، فكانت حیاته ترحالاً بین صوفیَّة زمانه سخَّرھا لسلوك طریق القويم، فعاش بین لوعة المشتاق ولذَّة الوصل وھو یرتقي من مقام إلى مقام، ومن حیرة إلى حیرة أخرى أشدَّ من الأولى، ولسان حاله یقول: 1

ألا لیت شعري ھل أفوز بِسَكرة من الحبِّ تُحیي كلَّ رمیمة..

وھل لذرى الإحسان ترقى عوالمي، وھل تتجلَّى الذَّات فیھا لفكرة

تغَیِّبُ كلّي عن جمیع الخلیقة..

وھل تطلُّعي شمس المعارف جھرة بباطن قلبي والھدى ليَ زُفَّت..

وھل أرتقي عرش الحقائق واصلاً إلى لله محفوفاً بكلّ كریمة..

وھل حُلَّة التوحید ألبسُھا وقد تمكَّن سرِّي من بساط الحقیقة..”.

من المفيد القول أنَّ الباحثين اختلفوا في تحدید المعنى الذي یُنسب إلیه التصوُّف، وھم أشدُّ اختلافاً في تعریفه الإصطلاحيِّ، غیر أنَّھم متَّفقون على أنَّه  تجربة روحیَّة قائمة على مجاھَدة النفس، والعزوف عن الملذَّات مع الامتثال التامِّ في السرِّ والإعلان لأمر لله تعالى؛ ولھذا ترى الشیخ التجاني یجیب تلمیذه علي حرازم بقوله 2 : “اعلم أنَّ التصوُّف ھو امتثال الأمر واجتناب النھي في الظاھر والباطن من حیث یرضى لا من حیث ترضى”. وھو یؤكِّد ھذا الأمر من خلال رسالة بعث بھا إلى أحد أتباعه یوصیه فیھا بالإقبال على الله سرَّاً وعلناً، وھذا بتصفیة القلب عن مخالفة أمره سبحانه وتعالى، والرضا بحكمه.3

كذلك نراه یوصي عامَّة أتباعه في ھذا الشأن بقوله 4 :”… فَاعْلَمُوا رحِمكُم الله أنَّ النَّاسَ ما خُلِقُوا في ھذه الدنیَا إلَّا لِعبادةِ الله تعالى، وتَوفیةِ أَوامِره، وَاجْتِنابِ نواھِیه،  وأَنَّ توْفِیةَ أَمرِ الله تعالَى والقیامَ بِحُقوقِه من آكدِ الواجِبات، وأَعْظمِ التَّوجُّھات إلى الله تعالى، قضَى بذَلك حُكمُ الْمرْتَبةِ الإِلَھِیَّةِ والشَّرائِعِ النَّبوِیَّةِ”.

________________________________________

1-علي حرازم، جوھر المعاني وبلوغ الأماني في فیض سیدي أبي العباس التجاني، ج 2، مكتبة الكلیَّات الأزھریَّة، 1977، ص 149.

2- المصدر السابق، ص 75.

3- المصدر السابق، ص 158.

4- محمد بن الكبیر التجاني، مختارات من رسائل سیدي أحمد التجاني، الرَّباط، 2009.

على ھذا، فإنّ التصوُّف عند الشیخ التجاني عمليٌّ بامتیاز، وھو من حیث المبدأ، قائم على الشریعة باتِّباع الكتاب والسُّنة وھي العروة الوثقى التي إذا تمسَّك بھا السالك وصل إلى الحقیقة؛ وھو یتَّفق تماماً في ھذه المسألة مع الصوفیَّة سواء المتقدِّمین منھم أم المتأخِّرین؛ غیر أنَّ كیفیَّة تطبیق الشریعة ھي عنصر الاختلاف بینھم، وھي السبب الرئیس في نشوء الطرق الصوفیَّة عیر الأزمنة والعصور.

في قصر أبي سمغون سنة 1781 میلادیة ( 1196 ھ)، حصل لسیدي أحمد التجاني الفتح الأكبر والولایة العظمى، إذ رأى یقظة رسول الله (ص) وأخبره أنَّه ھو مربِّیه   وكافله، وألزمه الطریقة من غیر خلوة ولا اعتزال عن الناس. وھكذا أسَّس طریقته المعروفة، وشرَع في تبلیغھا لكلِّ من رغب فیھا من المسلمین والمسلمات، بعد تحدید شروطھا ومبادئھا. وقد كان لهذه الطريقة الفضل في انتشار الإسلام في أدغال أفریقیا، حیث عملت على إشاعة الثقافة والعلوم الإسلامیَّة، وتربیة الأجیال على منھج صوفيٍّ رائد ما زال یؤتي أُكُله إلى الیوم.

3- مبادئ التصوُّف عند الشیخ التجاني:

تختلف الطرق التي یتَّبعھا مشایخ الصوفیُّة في تربیة المریدين باختلاف مشاربھم، واختلاف الزمان والمكان الذي یظھرون فیه، وھي في عمومھا لا تخرج عن كتاب الله وسنَّة رسوله (ص)، بل ھي من باب الاجتھاد المفتوح للأمَّة حتَّى قیل: عدد الطرق الموصِلة إلى الله بعدد أنفُس بني آدم. فقد یستخدم بعض المشایخ منھج المجاھدة الشاقَّة في تربیة المریدین فیكلُّفونھم بالریاضات المضنیة، كالمداومة على الصیام والسھر، وكثرة الخلوة والاعتزال عن الناس، وكثرة الذِّكر والفكر. وقد یسلك بعض المشایخ طریق اللِّین والتخفیف في تربیة المریدین، فیأمرونھم بممارسة شيء من الصیام، وقیام مقدار من اللیل، وكثرة الذِّكر، ولكن لا یلزمونھم بالخلوة والابتعاد عن الناس إلاَّ قلیلاً. ومن المشایخ من یتَّخذ منھجاً وسطاً بین الشدَّة واللِّین في تربیة مریدیهم كشیخنا سیدي أحمد التجاني الذي سار في التربیة سیرة معتدلة، غیر أنَّه أقام منھج طریقته على مجموعة من المبادئ التي لا مناص للمرید من معرفتھا والأخذ بھا. ویمكن أن نجملھا فی ما یأتي:

أوَّلاً: ملازَمة الشریعة:

الشریعة عبارة عن الكتاب والسنَّة، والله أمر المؤمنین بالتمسُّك بھما فقال: “یَا أَیُّھَا الَّذِینَ آَمَنُوا أَطِیعُوا الله وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالْیَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَیْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِیلًا”5. كما قال أیضاً: “وَمَنْ یُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ الْھُدَى وَیَتَّبِعْ غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِه جَھَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِیرًا”6.

وقال رسوله صلوات الله وسلامه علیه: “تركت فیكم أمرین لن تضلُّوا ما تمسَّكتم بھما كتاب الله وسنَّة رسوله”7.

فالمؤمن ملزَم بأن یأتي ما أمره الشرع بعمله، وأن یترك ما أمره بتركه: “وَمَا نَھَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَھُوا وَاتَّقُوا اللهَّ إِنَّ الله شَدِیدُ الْعِقَابِ”8. وأنه لمسلوب الخیار أمام أوامر الله ورسوله “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ یَكُونَ لَھُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِھِمْ وَمَنْ یَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِینًا”9. فالطیب ما طیبه الله ونبیُّه، والحسن ما حسَّنه الله ورسوله، والمسنون والمستحب ما استحبَّه الله ورسوله، وكذلك القبیح والمذموم ما قبَّحه الله أو ذمَّه رسول الله (ص).

على ھذا الأساس بنى الشیخ التجاني صرح تصوُّفه، وألزم به أتباعه. وهو تصوُّفٌ مبنيٌّ على الكتاب والسنَّة ظاھراً وباطناً والالتزام بھما من آكد الواجبات لدیه، وبذلك أوصى مریدیه فقال “إذا سمعتم عنِّي شیئاً فزِنوه بمیزان الشَّرع، فإن وافق فاعملوا به، وإن خالف فاتركوه”10.

ما یُستخلَص من ھذا الكلام أنَّ الشیخ بريء من فعل مریدیه إذا ھم خالفوا صریح الشَّرع، وأنَّ كلَّ فھْم أو تأویل لكلامه بما لا یتوافق مع الشَّرع فھو مردود على صاحبه.

ولقد أخذ بقول الشعرانيِّ من أنَّ الصوفيَّ فقیه مكَّنه الله تعالى من العمل بعلمه ممَّا جعله أكثر اطِّلاعاً بدقائق الشریعة وأسرارھا حتى صار مجتھداً في الطریق كما ھوشأن الأئمَّة المجتھدین في الفروع. 11

ونرى ذلك واضحاً في قوله:”المكاشفات الحقیقیَّة أن یكاشف عن الله ورسوله، ویفھم كلامھما وما تضمَّنه من الأسرار العقلیَّة والأنوار التوحیدیَّة من علوم غامضة

___________________________________________

5- سورة النساء، الآیة 59.

6- سورة النساء، الآیة 115.

7- رواه مالك في الموطأ.

8- سورة الحشر، الآیة 7.

9- سورة الأحزاب، الآیة 36.

10- محمد الطیب السفیاني التجاني، الإفادة الأحمدیَّة لمرید السعادة الأبدیَّة، دار التجاني للطباعة والنشر والتوزیع، ص 45.

11- محمد العربي بن السایح، بغیة المستفید لشرح منیة المرید، مطبوعات سالم الحبیب، التجاني للطباعة والنشر والتوزیع، ص149.

وفھوم دقیقة وحقائق ربانیَّة… وھذه المكاشفة ھي التي یزداد بھا معرفةً ومحبةً وقرباً من الله تعالى”12. وفي ذلك إشارة إلى الحدیث الشریف “من یرد الله به خیراً یفقِّھه في الدین”13. والكشف ھو نتیجة لذلك الفھم الصحیح للكتاب والسنَّة والعمل بھما.

ولقد أوضح الشیخ التجاني ھذا الأمر بكلام صریح أصَّل فیه منھجه عندما خاطب أتباعه قائلاً ” ولنا قاعدة الحكم إلاَّ بقول الله وقول رسوله (ص)، وأن أقوال العلماء كلَّھا باطلة إلاَّ ما كان مستنداً لقول الله تعالى أو قول رسوله، وكلُّ قول لعالِم لا مستند له من القرآن ولا من قول الرسول (ص) فھو باطل، وكلُّ قولةٍ لعالِم جاءت مخالفة لصریح القرآن المحكم ولصریح قول الرسول (ص) فحرام الفتوى بھا”.14

ويجدر القول أنَّ تصوُّف الشیخ، مثلما نراه عند أعلام الصوفیَّة، ھو ثمرة العمل بالشریعة، وأنَّ الحقیقة كامنة فیھا كُمُون الزبدة في الَّلبن، وإنَّ داوم المرید ملازمة الشریعة رزقه الله نوراً یتبیَّن به الحكم الشرعيُّ في كلِّ مسألة فقال: “الفرقان الذي ذكره الله تعالى ھو نور یمدُّ به من أحبَّه من خلقه فیظھر له بذلك النور صورة الحقِّ والباطل. وأصحاب ھذا إذا أدركتھم العنایة الإلھیَّة مھما نظر في نازلة بحكم الله تعالى تُبیِّن له في الباطن كسوتھا بأنوار عظیمة المقدار، فیعلم من ذلك النور أنَّ تلك المسالة واجبة، وإن ظھر لباس النورعلیھا ضعیفاً علم أنَّھا مستحبَّة مندوبة، وإن رأى ظلاماً متراكماً علم أنَّھا محرَّمة، وإن رأى علیھا ظلاماً خفیفاً علم أنَّھا مكروھة، وإن لم یرَ علیھا الأنوار ولا الظلمة علم أنَّھا مباحة”.15

________________________________________________________________________________

12- علي حرازم، المصدر السابق، ص 77.

13- رواه البخاري في صحیحه في باب العلم.

14- محمد الطیب السفیاني التجاني، الإفادة الأحمدیَّة لمرید السعادة الأبدیَّة، دار التجاني للطباعة والنشر والتوزیع، ص 59.

15- علي حرازم، المصدر السابق، ص 248.

من ھنا نرى أنَّ الشریعة، عند الشیخ، إذا لم تثمر حقیقة في قلب المؤمن فھي عاطلة وأنَّ الحقیقة إن لم تكن الشریعةُ مبدأھا ومنطلقھا فھي باطلة ولا یُلتفت إلیھا. والحقیقة عنده ما كانت مبنیَّة عن مشاھدة لا عن دلیل وبرھان، فقال “الحقیقة ھي رفع الحُجُب عن مطالعة الحضرة القدسیَّة وھي المعبَّر عنھا بالمشاھدة”.16

ثانیاً: الذِّكر والشُّكر:

من أعظم ما یتقرَّب به العبد إلى الله تعالى ذكر الله بقلبه ولسانه والمواظبة علیه مطلقاً كان أو مقیَّداً حسب ما صرَّ حت به السنَّة المطھَّرة من تھلیل وتسبیح واستغفار ودعاء. والذِّكر یثمر المقامات كلَّھا من الیقظة إلى التوحید، ویثمر المعارف والأحوال التي شمَّر إلیھا السالكون، فلا سبیل إلى نیل ثمارھا إلاَّ من شجرة الذِّكر، وكلَّما عظُمت تلك الشجرة ورسَخ أصلھا كان أعظم لثمرتھا وفائدتھا… وھو أصل كلِّ مقام وقاعدته التي یبني علیھا، كما یُبنى الحائط على أساسه، وكما یقوم السقف على جداره. وذلك أنَّ العبد إن لم یستیقظ من غفلته لم یمكنه قطع منازل السیر الموصِلة إلى معرفة الله تعالى التي خُلِقَ الإنسان لأجلھا. ولا ريب في أنَّ امتثال الصوفیَّة لأمر مولاھم عزَّ وجلَّ بالإكثار من ذكره جعل حیاتھم كحیاة الملائكة، لا تخطر الدنیا على قلوبھم، ولا تشغلھم عن محبوبھم، نسوا أنفسھم بمجالستھم لربِّھم، وغابوا عن كلِّ شيء سواه فتواجدوا عندما وُجِدوا.

ولا بدَّ من القول أنَّ الطریقة التجانیَّة لا تخرج عمَّا أجمع علیه الصوفیَّة في ھذا الباب، بل وتجعله من أوكد الواجبات، وركناً من أركانھا، وأصلاً فیھا، ذلك أنَّه السبیل الموصل إلى ذي العزَّة والجلال. قال (ص) “ولا یزال العبد مرَّة یذكر ومرَّة یستریح حتى إذا رأى الحقُّ منه ذلك صبَّ في قلبه من مواھبه أنواراً إلھیَّة شغلت القلب من غیر الله تعالى، وملأته بذكر لله وصار القلب مطمئناً…ومن الطمأنینة ینتقل

_____________________________________________

16- محمد بلمشري، الجامع لدرر العلوم الفائضة من بحار القطب المختوم، مخطوط، الزاویة التجانیَّة بتماسین، ص 75.

إلى المراقبة، وإذا دامت للعبد فخرجت به إلى الذھول عن الأكوان، ثمَّ إلى السكر، ثمَّ إلى الفناء، فإذا وصل إلى ھذا الحدِّ انمحق الغیر والغیریَّة فلم یبقَ إلاَّ الحقُّ في الحقِّ عن الحقِّ، وھو الباب المُدخِل إلى محبَّة الذات… فإذا وصل إلیھا ارتفع الحجاب له عن الحضرة القدسیَّة، وطلعت له شمس المعارف… ولن یصل إلیه إلاَّ بملازمة ومعانفة الذكر”.17

ولأھمیَّة الذكر في سلوك المرید أوصى الشيخ التجاني أتباعه بأن یرتِّبوا أوقاتاً یلازمون فیھا ذكر الله تعالى، فقال 18: “وَأُوصِیكُمْ بِالمُحافظةِ عَلَى أَوْقاتٍ تَتوَجّ ھُونَ فیھا إِلَى اللهِ تعالَى بِالتَّوَجُّه الصَّحیح، إمَّا بِذكْرٍ أو تِلاوة قرْآن في الصلاة أو خارِجَھا، وَإمَّا بِالصَّلاة على رسول الله (ص)، وَأقلُّ ذلك وقْتان: صباحاً ومساءً، وَالأَفْضلُ ثلاثَةُ أَوقَاتٍ صباحاً مَساءً وفي جوْف اللّیْلِ …”.

ومن أجل المداومة على الذكر رتَّب الشیخ التجاني أوراداً ألزم بھا أتباعه تُذكر صباحاً ومساءً، وجعل لھا شروطاً مغلَّظة حتى لا یتخلَّى عنھا المرید. “والأوراد :هي عقود وعھود أخذھا الله تعالى على عباده بواسطة المشائخ، فمن بجَّل المشائخ، وحافظ على العقود، ووفى بالعھود كان له خیر الدارَین، ومن تھاون بالمشائخ، وفرَّط في العقود والعھود، كان ذلك سبباً لزیغه وخرق سفینته”.19

غیر أنَّه نھى عن إقامة الخلوة واعتزال الناس لما فیه من تشدید على النَّفس، وابتعاد عن الخلق، وذلك ممَّا يراه غیر مناسب في سلوك الطریق للوصول إلى الفتح.

____________________________________________________________________

17- علي حرازم، المصدر السابق، ص 95.

18- محمد بن الكبیر التجاني، مختارات من رسائل سیدي أحمد التجاني، ص 11، الرباط، 2009.

19- محمد الصغیر الشنقیطي، الجیش الكفیل، دار التجاني للطباعة والنشر، 2007 ، ص 123.

 

والأوراد عند التجانیَّة نوعان:

الوِرد اللاَّزم: وھو الوِرد الذي یُتلى صباحاً ومساءً، ویشمل الاستغفار والصلاة على النبيِّ (ص) وكلمة الإخلاص (لا إله إلاَّ الله). فالاستغفار یمحو الذنوب وبه یدخل مقام التوبة، وبه یھیِّئ النفس ویطھِّرھا لكي تكون محلَّاً طاھراً لوارد  الذكر. والصلاة على النبيِّ عنوان لاتِّباع سبیله وترسیخ تعظیمه وتوقیره في النفس، وھي نور نور تنقشع به ظلمة الباطن 20، وفي المدوامة على كلمة الإخلاص تنجلي الحُجُب عن السالك للوصول إلى الفناء في لله.

أمَّ أركان الوِرد كما رتَّبھا ابن بابا الشنقیطي التجاني فھي 21:

– استغفر الله مئة وصلِّ مثلھا على خیر الفئة.

– وكَوْن ذي الصلاةِ بالفریدة مفضَّل برتب عدیدة.

– وھلِّلْ مئة ولتختِم نسبة الإرسال للمعظَّم.

ھذه الأركان الثلاثة لا بدَّ من أن یقرأھا الإنسان، ولتقرأنْ آخر الیقطین من بعد كلّ مئة في الحین. 22

وللورد شروط عدیدة لأدائھا كما أمر الشیخ التجاني لا یتَّسع المقام لذكرھا.

___________________________________________

20 – المصدر السابق، ص 127

21- ابن بابا الشنقیطي، منیة المرید في آداب وأوراد الطریقة التجانیة، دار الفكر، ص 16-17.

22- آخر الیقطین ھي السورة التي ورد فیھا “وأنبتنا علیه شجرة من یقطین…”، 

      وآخرھا: ” سبحان ربك رب العزَّة عما   یصفون …”.

 

 

ومن الأوراد اللاَّزمة “الھیللة”، وتُتلى جماعیَّاً مرَّة واحدة في الأسبوع بعد العصر من یوم الجمعة، وھي ذكر ألف ومئتین من كلمة الإخلاص (لا إله إلاَّ الله). تُقرأ جماعیَّاً، ولا یغیب عنھا الأتباع إلاَّ لعذر قاھر، ومن شروطھا خصوصًا اسحضار القلب لأنَّ الذاكر بلسانه وقلبه ھو الكامل وصفُه في حال سلوكه.23

ومن الأوراد غیر اللاَّزمة “الوظيفة”، وأركانھا:

– الاستغفار، وصیغتھا أستغفر لله العظیم الذي لا إله إلاَّ ھو الحيُّ القیوم، ثلاثین مرة.

– الصلاة على النبيِّ (ص) بصیغة صلاة الفاتح، ولا تصحّ إلا بھا خمسین مرة.24

– كلمة الإخلاص (لا إله إلاَّ الله) مئة مرة.

– قراءة “جوھرة الكمال” إحدى عشرة مرة. 25

_____________________________________________________________________

23- عبد الكریم القشیري، الرسالة، ص 383.

24- صیغتھا: اللھم صلِّ على سیِّدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحقِّ بالحقِّ، الھادي إلى صراطك المستقیم، وعلى حقِّ قدره ومقداره العظیم.

25- صیغتھا: ” اللھم صلِّ وسلِّم على عین الرحمة الربانیَّة والیاقوتة المتحقَّقة الحائطة بمركز الفھوم والمعاني، ونور الأكوان المتكوِّنة، الآدمي صاحب الحقِّ الربانيِّ، البرق الأسطع بمزون الأرباح المالئة لكلِّ متعرِّض من البحور والأواني، ونورك اللاَّمع الذي ملأت به كونك الحائط بأمكنة المكاني. اللَّھم صلِّ وسلِّم على عین الحقِّ التي تتجلَّى منھا عروش الحقائق عین المعارف الأقوم، صراطك التام الأسقم. اللَّھم صلِّ وسلِّم على طلعة الحقِّ بالحقِّ الكنز الأعظم إفاضتك منك إلیك إحاطة النور المطلسم صلَّى لله علیه وعلى آله صلاة تعرِّفنا بھا إیَّاه”.

 

 

 

وممَّا ربَّى علیه الشيخ التجاني أتباعه الإكثار من شكر الله تعالى على ما أنعم به على الإنسان، وأن یجعلوا ذلك من الأعمال الدائمة في كلِّ وقت وأوان. والشكر عنده درجات؛ نرى ذلك كلَّه فیما أوصى به تلامذته: “… وعلیكم بشكر النعم الواردة من الله تعالى بسبب أو بلا سبب. والشكر یكون في مقابلتھا بطاعة الله تعالى إن قدر على أن تكون كلیَّة، وإلاَّ فالأبقع خیر من الأسود. وأقلُّ ذلك شكر اللسان، فلا أعجز ممَّن عجز عن شكر اللسان. ولیكن ذلك بالوجوه الجامعة للشُّكر: فأعلى ذلك في شكر اللسان تلاوة الفاتحة في مقابلة ما أنعم لله علیه شكراً. ولینوِ عند تلاوتھا أنَّه یستغرق شكر جمیع ما أحاط به علم الله من نعمه علیه الظاھرة والباطنة والحسِّیَّة والمعنویَّة والمعلومة عند العبد والمجھولة لدیه والعاجلة والآجلة والمتقدِّمة والمتأخِّرة والدائمة والمنقطعة، ویتلو بھذه النِّیَّة ما قدر علیه من الفاتحة مرَّة إلى مائة. فمن فعل ذلك كتبه الله شاكراً، وكان ثوابه المزید من نعمه على قدر رتبته بحسب وعده الصادق”.26

وهو في هذا السياق، یعتبر أنَّ أقرب الأبواب للدخول على الله باب الشكر، لذلك یجب على المرید ألاَّ یغفل عن شكره وألاَّ یرى إلاَّ إحسانه ورحماه، وبالتالي لا یطلب سواه ولا یلتفت بقلبه إلى ما عداه وتتعلَّق له ھمَّة بسواه”.27

ثالثاً: ترك التدبیر:

ممَّا لا شكَّ فیه أنَّ ترك التدبیر مع الله من أھمِّ التعالیم التي ركَّز علیھا الصوفیَّة في السیر والسلوك لأنَّ تركه یومئ إلى التوحید الخالص من جھة، وإتیانه

____________________________________________

26- علي حرازم، جوھر المعاني وبلوغ الأماني في فیض سیدي أبي العباس التجاني، ج 2، مكتبة الكلیَّات الأزھریَّة، 1977 ، ص 98- 99 .

27- علي حرازم، المصدر السابق، ص 100.

 

یشیر إلى الشِّرك الخفيِّ الذي لا تُقبل عبادة معه. ولذلك، فقد حرص الشیخ التجاني على توضیح المسألة بالقول “إنَّما یدبِّر من یعلم عواقب الأمور، ومن لا یعلمھا كیف یدبِّر وأيُّ شيء یدبَّر؟”28 .

“على العبد التسلیم المطلق للمشیئة الإلھیَّة لأنَّ من أسماء الله الحكیم، فإنَّ قضى أمراً فلحكمة أرادھا، فكم من فعل یَظھر بظاھره أنَّه نقمة ولكنه بباطنه رحمة”.  وممَّا یؤكِّد ما ذھبنا إلیه من أمر الشیخ أتباعَه بترك التدبیر وإلاَّ : ” فإنَّ الكیِّس العاقل إذا انصبَّ علیه الشرُّ من الناس، أو تحرَّكوا لھبه، رآه تجلیَّاً إلھیَّاً لا قدرة لأحد على مقاومته إلاَّ بتأیید إلھيٍّ، فكان مقتضى ما دله علیه علمه وعقله الرجوع إلى الله بالھرب والالتجاء إلیه، وتتابع التضرُّع والابتھال لدیه، والاعتراف بعجزه لقه، فلا شكَّ أنَّ ھذا یدفع عنه الشرور بلا تعب منه، ولو التھبت علیه نیران الشر”.30

رابعاً: المقامات والأحوال:

لم یخُض الشیخ التجاني في أمر المقامات والأحوال مثلما خاض فیھا الطوسيُّ والقشیريُّ وابن العربيِّ وغیرھم من رجال الصوفیَّة، بید أنَّنا نجد في ثنایا كلامه إشارات إلى بعض المقامات كالتوبة والصبر والرضا، كما نجد أیضاً ذكراً لبعض الأحوال كالمحبَّة والرَّجاء والشوق والمشاھدة على أنَّه یرى أنَّھا جمیعاً مجتمعة في مقام الشكر، إذ یعتبر أنَّ الشكر ھو الجامع للمقامات علماً وحالاً وعملاً، فالعلم بالنعمة والحال السرور والفرحة بالنعمة، أمَّا العمل فھو العمل بممقصود المنعِم. 31

_____________________________________________________________________

  28- علي حرازم، المصدر السابق، ص 90.

29- علي حرازم، المصدر السابق، ص 99.

30- محمد بن الكبیر التجاني، مختارات من رسائل سیدي أحمد التجاني، ص 13 ، الرباط، 2009.

31- عبیدة بن محمد الصغیر الشنقیطي، الجیش الكفیل، دار التجاني للطباعة والنشر، 2007 ، ص 45؟

خامساً: ضرورة الشیخ:

ممَّا لا شكَّ فیه أنَّ للشیخ مع المرید مھمَّات جسام في بلوغ السالك نھایة الطریق، إذ إنَّه خبیر بمفاوزه ویبیِّن للمرید دلائله ویحذر من مسالكه ومشقَّاته ویمیِّز تشابه الواردات والأحوال والوقائع، ویحبِّب المرید في السیر المؤدِّي إلى تذوُّق حلاوة الإیمان والإطمئنان إلى صحَّة السیر. وقد أجمع الصوفیَّة على ضرورة الشیخ والاضطرار إلیه، ونظروا بعین الریبة إلى كلِّ متصوف لم یصحب شیخاً من المشائخ یتأدب به ویَلزم الطریق الذي رسمه.

فكیف یرى التجاني ھذه المسألة ومن أین تتأتَّى ضرورته؟

يرى أنَّ الشیخ ضرورة للنفس، على اعتبار أنَّھا غیر خالیة من الأمراض كالحقد والحسد وحبِّ الریاسة والشھوات، وأنَّه في الطریق بمنزلة الدلیل. 32 . كما یرى أنَّ الشیخ الواصل ھو الذي رُفعت له جمیع الحُجُب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلھیَّة نظراً عینیَّاً وتحقیقاً یقینیَّاً، وھو الشیخ الذي یجب أن یُطلب… وھو الذي یكون المرید بین یدیه كالمیت بین یدي مغسِّله لا إرادة له ولا اختیار.33   “والمشائخ حبال الله أدلاھم لخلقه، من تمسَّك بھم نجا”. 34

ممَّا سبق، نرى أنَّ الشیخ التجاني قدَّم صورة عن ضرورة الشیخ تكاد تتماھى مع ما ذكره الصوفیَّة السابقون واللاَّحقون، غیر أنَّ المسألة التي یجدر التوقُّف عندھا ھي تعدُّد شیوخه أثناء سیره لكنه عندما تصدَّر للمشیخة نھى مریدیه عن صحبة غیره والتبرُّك بھم ولو كانوا أمواتاً، وھو موقف لم یسبقه إلیه أحد.

________________________________________________________________

32- علي حرازم، المصدر السابق، ص 71.

33- علي حرازم، المصدر السابق، ص 131-123.

34- زكیَّة وصیف خالد، الملامح الفلسفیَّة في تجربة الشیخ أحمد التجاني الصوفیَّة، رسالة ماجستیر، جامعة قسنطینة، ص 81.

4- الشیخ التجاني والتربیة:

من المسلَّم به أنَّ المھمَّة الأولى لدى مشائخ الصوفیَّة ھي التربیة لما لھا من دور رئیس في تكوین الفرد المسلم تكویناً منسجماً ومرتبطاً خاصَّة بالسماء. إنَّ كبار المشایخ من كبار المربِّین لما لھم من علم كسبيٍّ ووھبيٍّ من عند الله، إذ لولا ھذا لما كانت لھم مدارس، ولما تأتَّى لھم أن یصلوا بالمرید إلى الله. ما یؤیِّد ذلك ما رواه تلمیذه عبد الرحمن الشنقیطي أنَّه وأثناء إلقاء درسه المعتاد بالمسجد إذ دخل الشیخ التجانيُّ، وبعد صلاته تحیَّة المسجد، تقدَّم الشنقیطيُّ إلیه مع ثلّة من تلامذته حیث طلب منھم أن یذھبوا معه للتبرُّك بالشیخ، فجلس بین یدیه بأدب ووقار، وطلب منه الدعاء له ولتلامذته فأسعفه لذلك، كما طرح علیه بعض الأسئلة فأجابه الشیخ التجاني بما تبیَّن له به الحقُّ والصواب، فتعجَّب أحد الحاضرین وكان من العلماء الأعلام من صنیع شیخه الشنقیطيِّ، وقال له 35: یا سیِّدي والله ما اتخذناك شیخاً إلاَّ لتیقُّننا أنَّه لا أحد أعلم منك في مغربنا، ثمَّ إنَّك قمتَ إلى ھذا الرجل الصحراويِّ المعصَّب الرأس بخیط وبر الإبل فسألتَه عن تلك المسائل، ثمَّ أذعنتَ لجوابه، فقال له: اسكت یا بنيَّ فوالله الذي لا إله إلاَّ ھو ما أعلمُ على وجه الأرض أعلمَ منه”.36

ولا ریب في أنَّ السمة الأولى بامتیاز، باعتبارھا عنصراً من أھمِّ عناصر شخصیَّة أبي العباس التجاني، ھي سمة المربِّي. وأول ما یُتبادر في ھذا الباب أنَّ تربیته مریدیه تنطلق من سلوكه وعله ومعاملاته مع الناس ومع الأتباع، ومن مظاھر علاقته بربِّه ومن دروسه وأقواله المتعدِّدة.

یروي أحد علماء عصره 37 أنَّه أراد أن یتأكَّد من مدى تمسُّك الشیخ بالسنَّة النبویَّة الشریفة في كلِّ أحواله فذھب لزیارته في زاویته، وكان قریب عھد بقراءته كتاب “الشفا بتعریف حقوق المصطفى وشمائل الترمذي”؛ فلما دخل علیه یقول العلاَّمة “وجدتُه مع أصحابه في تؤدة ووقار ومھابة وإكبار، وعلیه سمت حسن ما رأیتُ بعضھا في أحد ممَّا رأیت ولا ممَّن قرأته علیه من العلماء والعارفین… فجعلت أتأمَّل الشیخ في كلامه وھیئته وحركاته وسكناته وجلوسه ومشیه وھیئة صلاته ووضوئه، فكان ذلك كلُّه مطابقاً لأوصاف النبيِّ (ص) ومحاذیاً لھا حذو النَّعل بالنعل وملازمة الظلِّ لشاخصه”.38

لقد كان الشیخ التجاني یرى أنَّ النفس البشریَّة مریضة ولا یمكن لھا أن تتحقَّق إلاَّ إذا زالت عنھا تلك الأمراض. ویُرجع الأمراض النفسیَّة إلى ثلاثة مصادر هي: مرض الأقوال، ومرض الأفعال، ومرض الأحوال”.39

وللشیخ في ھذا الباب باع طویل في تربیة أتباعه وتخلیصھم من أمراض النفس وشرورھا لأنَّھا الصنم الأكبر الذي لا بدَّ من إسقاطه لتحقیق التوحید. والإنسان الذي یتبع ھوى نفسه فقد نصَّبھا إلھاً یُعبد، فھو یقع في الشِّرك من حیث لا یدري.40  والنفس كلَّما لازمت الشرع وداومت على الذِّكر ارتقت وعلت حتى تفیض علیھا الأنوار الإلھیَّة… وما زالت في الترقِّي في المقامات بلا نھایةٍ طول عمر الدنیا، وفي البرزخ وفي كلِّ مقام، ینكشف لھا من صفات لله وأسمائه وأسراره وأنواره، وفي ھذا المقام تسمَّى سرَّاً.41

____________________________________________________________________

35 – ھو العلاَّمة إبراھیم السباعي، فقیه من علماء فاس.

36- محمد العربي بن السایح، بغیة المستفید، دار التجاني للطباعة والنشر، ص 265.

37- ھو الشیخ محمد بلقاسم بصري.

38- أحمد بن عبد العزیز بن عبد لله، الشیخ سیدي أحمد التجاني أبعاد ضلاعته العلمیَّة، 2009.

39- وصیف خالد، الملامح الفلسفیَّة في تجربة الشیخ أحمد التجاني الصوفیَّة، رسالة ماجستیر، جامعة قسنطینة، ص 161.

40- علي حرازم، المصدر السابق، ص 148.

41- المصدر السابق، ص 59.

 

 

لقد كانت تربیة الشیخ التجاني تقوم على تجرید النفس من جنودھا وتصفیتھا والسیر بھا إلى العالم الروحانيِّ… فیمدُّھا الحقُّ بنوره فترى وتسمع وتسكن وتتحرَّك وتتعلَّم وتأخذ وتترك بفضل الله.42

وبفضل تربیته وسلوكه مع أتباعه وما تركه من آثار، أصَّل الأخوَّة الإسلامیَّة، ونجح في خرق جدران النفوس، وتغلغ في قرارتھا، وأنار البواطن بالعلوم الصمدانیَّة الوھیبة، كما ألغى حدود البلاد، وأذاب الفروق بین العباد، حتى انتشرت طریقته في شتَّى بلدان أفریقیا من غربھا إلى جنوبھا، ومن وسطھا إلى شمالھا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5- خاتمة:

وبعد، لقد جمع الإمام التجاني بین علوِّ الھمَّة، وحفظ الحرمة، ونفوذ العزم. عمل في بدایته على تصحیح التوبة بشروطھا، وحِفظ الشریعة وحدودھا، ونفْي إرادته، فقطع عن نفسه الحظوظ والعلائق، وانقطع إلى الله بمراعاة حقه، فانكشفت له الحقائق.

كان الشیخ من أعظم أئمَّة الصوفیَّة حیث أجمع العلماء من أرباب الصدق على تعظیمه وتوقیره واحترامه، وإلیه انتھت رئاسة ھذا الشأن في عصره في تربیة السالكین، وتھذیب المریدین. وقد أسس منھجه الصوفيَّ العمليَّ على المحافظة على الحدود، والقیام بالفرائض والسُّنَن، والابتعاد عن النواھي، والمداومة على الذِّكر والشُّكر، وترك التدبیر مع الله، وأوضح أنَّ سلوك طریق التزكیة یحتاج إلى شیخ مربٍّ عارف بمسالك السیر، ومتبصِّر برعونة النفس وآفاتھا، ومتمكِّن من نھایات السیر وما فیھا من مشاھدات وفتوحات ومعارف. وهكذا انتشرت طریقته في أركان الأرض، وتكوَّن على منھجه القویم الأجیال تلو الأجیال على المحبة والسلام والوئام، محقِّقة بذلك وحدة روحیَّة وھویَّة ثقافیَّة تجمع بین المادَّة والروح، والعلم والعمل، والدِّین والدنیا.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى