دراسات مقارنة

لقاء مع كانط في مطار القاهرة (2)

لقاء مع كانط في مطار القاهرة (2)

 

أ.د.احمد عبد الحليم عطية

أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة – مصر

 

الحقيقة كان حيرتي من مطلب كانط الحضور إلى القاهرة حيرة لا مبرر لها، لقد كانت المسألة بالنسبة إلي حين دعوت كانط الدعوة الأخيرة تهدف إلى أن يستمع إلينا نحن من ينظمون الملتقى الدولي بمناسبة المئوية الثالثة لميلاده ومن يشاركون فيها من جامعات العالم العربي والجامعات الأوروبية من خلال قراءاتنا له وكتاباتنا عنه ومواقفنا المتنوعة حول آرائه ونظرياته، إعجابنا بها ونقدنا عليها، أي الجوانب توقفنا أمامها وأي النصوص حللناها وأي الرؤى انتقدناها. وهو ما يستدعي حضوره ومتابعته وتحليله ورده وتوضيحه. لكن كان للفيلسوف توجه آخر، كان يريد شيئين يتعلقان بالزمان والمكان.

بالنسبة إلى الزمان يريد معرفة ما طرأ على أفكاره ونظرياته خلال قرنين وعقدين منذ وقت وفاته حتى اليوم من الباحثين الغربيين: ألمان وأوروبيين، عربًا وأفارقة؛ ما هي اهتماماتهم؟ وهل تختلف الاهتمامات في عصر سابق إلى عصر أكثر حداثة، عصر المابعديات؟ الشيء الثاني وهو الأهم يتعلق بمكان لم يزره من قبل، والمعروف أن كانط لم يخرج من مدينته التي عاش فيها عمره كله من 1724-1804 وإن كان قد تعرف على العالم خارج بلدته كونجسبرج من مصادر متعددة نجدها فيما كتبه عن الأنتربولوجيا والأعراق البشرية، وأن هذه هي المرة الأولى التي يزور فيها مصر ولا مانع من التعرف على العالم العربي الإسلامي وأفريقيا وآسيا. وهدفه الذي صرح به إليّ كان رغبته في معرفة العقل عندنا والنقد والدين فى حدود العقل والثورة والتنوير والسلام وكيف فهمناها وتعاملنا معها. وربما يكون السلام هو القضية الأساسية التي يرغب في مناقشتها معنا، فالسلام هو الرد الكانطي على الحروب والصراعات وبالنسبة إلى من يهمهم الأمر يعني عندنا؛ الاستقلال والحرية والحياة خاصة في فلسطين.

ربما يفعل كانط حين حضوره إلى بلادنا مثلما فعل سارتر، الذي أطلقنا عليه ضمير العصر حين زار مصر، مارس 1967 للتعرف على قضايانا وفى مقدمتها قضية اغتصاب فلسطين وطرد أهلها وتحولهم لاجئين فأعلن حق إسرائيل في الوجود،  ومن هنا انشغل تفكيري وما يزال بقصية هل سيزور كانط فلسطين حيث سيطرة الكيان الصهيوني وادعائه الحرص على السلام واهتمام الصهاينة الكبير بكتبه وترجمتهم لمشروع السلام الدائم ترجمتين. لن يكتفي كانط بمتابعتنا والاستماع إلينا، بل سيحدثنا ويناقشنا ويطرح علينا الأسئلة ويدفعنا إلى حوار معه  هذا ما اتضح لي منه. هنا تكمن أهمية هذا اللقاء، وربما الإجابة عن: لماذا علينا الحرص أن يتم ويكتمل هذا اللقاء ويظل هناك سؤالان: هل يمكن أن يتم اللقاء؟ وكيف يتم وعلى أي صورة؟

الحقيقة أنه منذ بداية هذا العام حتى هذا اليوم لا توجد أية إجابة، فهل لنا أن نجتهد، أن نتخيل، أن نفترض على أي صورة يمكن أن تكون الإجابة على أهمية حضور كانط وحوارنا معه، في العبارات الأخيرة بداية الإجابة كما يظهر في أفعال نجتهد، نتخيل نفترض وتفسير ذلك؛ مما يعني أنني سأطلب من المشاركين أن يحددوا لنا المخطط العام للقضايا التي علينا تناولها وعرض القضايا المختلفة التي توقفوا عندها، أن نناقشها وفق أولوياتها بالنسبة إلينا اليوم بمعنى أنني لن أكتفي فقط بعرض تصوري الخاص.

سيتحدث الزملاء عن السلام عند كانط مثلما يتحدثون عن صورة كانط في العربية وفي الثقافات المختلفة في الفرنسية، في أفريقيا؛ في طهران، سيتوقف البعض عند قضية عنصرية كانط ويزداد الاهتمام بالدراسات المقارنة بين كانط والفلسفة الإسلامية خاصة في مجال الأخلاق والدين وهو نفس الامر فيما يتعلق بكانط والفكر العربى المعاصر  بكافة اتجاهاته وتياراته حيث يظهر الحوار: الاتفاق والاختلاف بينه وبيننا، هنا علينا أن نتوقف لبيان ذلك وهو ما نتناوله سوياً في الصباح.

اسيتقظت في الصباح بعد قراءات متعددة لمقالات تصفحتها في المساء في الرد على هابرماس، وعلى الرغم من أن معظمها من مفكرين وكتاب كانوا من المتحمسين له ولفلسفته منهم من ترجم أعماله أو درسها أو ساعد من خلال توليه لأحد أكبر المراكز البحثية والنشر لتقديم كتبه للقارئ، معظم هذه الكتابات يدينه ومنها من يطالب وفق عنوان مقاله باللانظلم هابرماس؛ الذي يمثل تحول وانحياز واضح للاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين تكفيراً عن ذنب لم يرتكبه الفلسطينيون، استيقظت محاولاً أن أبعد من ذهني بعض الرؤى والأفكار ولا أقول الأحلام؛ لأنني لا أعلم أكانت حلم أم حقيقية.

هل هو لقاء حدث بالأمس.. بجوار النيل مع كانط أم خيال لحلم أتمنى تحقيقه أنا ابن النصف الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الذي يليه وكانط ابن القرن الثامن عشر، يا له من حوار دار حول مجموعة من المصطلحات لا أدرى أكان الحديث حولها فلسفي نظري أو حديث عن وقائع حية معاشة. كانت هذه العبارات التي دار حولها الحوار: رأس الحكمة، العاصمة الجديدة، العلمين، الدين العام.

وهي عبارات لها في ذهني معاني متعددة تختلف عن معناها عند فيلسوف التنوير. رأس الحكمة هي مشروع للمستقبل على أرض مصر ورأس الحكمة عند كانط هو النقد، والعقل، رأس الحكمة مصدر للنقد عند كل منا، ونفس الأمر بالنسبة إلى العاصمة الجديدة، التي ذكرت الفيلسوف بما قدمه تحت عنوان “مقدمات مستقبلية لكل ميتافيزيقا جديدة تريد أن تكون علماً” وهي مسعى كانط الأساس، الذي اختلف الباحثون حول هل حقيقة غاية الفيلسوف فعلياً التجديد أم اكتفى بالنقد ورفضهم القديم؟ لكن مما لاشك فيه أن العاصمة الجديدة وما يهدف إليه كانط يشتركان في كونهما بناء، عند كانط (بناء العقل النظري المحض) وعندنا بناء جديداً لعالم جدير مغاير للعالم القديم.

هنا سألنا عن العالمين فتحدثت عن تاريخها والأحداث العالمية التي حدثت فيها وموقعها وجمال طبيعتها وعن طريقها صار العالم عالمين والعالمين عند كانط هو عالم الفينومين (الظواهر) والنومين (الحقائق)، وهو ونحن ندرك ما الظواهر وما الحقائق والفرق بينهما، لكن الكثيرين ربما لا يدركون الفارق وتختلط لديهم الأمور وهو ما يظهر بوضوح في حديثه عن الدين. وهو لا يقصد ديناً محدداً بل يقصد الدين الشامل العام، والدين العام عنده هو ما يكون في حدود العقل، هنا تنبهت إلى فهمي المخالف لما يقصده كانط، فالدين العام كما أفهمه هو الفارق الكبير في ميزانيات الدول بين الدخل وما تتطلبه مشاريعها ومتطلبات أبنائها لتحقيق الحياة الكريمة والذي تفترضه من غيرها ويكون هناك من ينظم العلاقة بينها وبين أصحاب الدين وهو البنك الدولي، أي أن الدين العام عند كانط يخضع للعقل وحده وفي البلدان النامية يخضع لصندوق النقد الدولي وحده.

وشعرنا للتو، حين تواجهنا وجهاً لوجه وابتسمنا كأننا اكتشفنا في وقت واحد حقيقة ما نعبر عنه، نحن نعبر عن “الفينومين” وهو يتحدث عن “النومين” هل يمكن أن نلتقي؟ نقرب بين الفينومينا والنومينا ونوحد بينهما، هذا ما علينا القيام به أي أن علينا أن نمارس النقد على صاحب النقد وان يمارس التنوير على من هم في حاجة إلى تنوير، أي أن ننتقل من النقد إلى التاريخ وهو ما سنقوم به.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى