الدراسات والبحوث

الخلاص بالعرفان

غيضان السيد علي

الخلاص بالعرفان

غيضان السيد علي

توطئة:

العرفان سراج نورانيٌّ يوقَد داخل الإنسان فيمكِّنه من كشف ما استغلق على حواسِّه. أو هو رحلة ذاتيَّة يسير فيها العارف مستأنسًا بالعبادة والرياضة الروحيَّة والزُّهد طالبًا للحقيقة، وساعيًا لتبديد الشكِّ والوصول إلى اليقين حتى يتمَّ الكشف له عبر العلم اللَّدُنيّْ.

العرفان، إذن، حلقة وصل ينتقل عبرها العارف من استخدام حواسِّه إلى استخدام قلبه المنفتح لتلقِّي النور؛ حيث يتبدَّل الإنسان من كائن مادِّيٍّ إلى كائن غير مادِّيٍّ متجاوزًا فضاء الطبيعة، متساميًا عليها ليسير إلى كماله المعنويِّ. والعارف هو من يتَّجه نحو الباري قصد عرفانه لذاته فحسب، وأولى مميِّزاته أنَّه لا يرمي من وراء معرفته إلى أيِّ هدف آخر سوى هذه المعرفة.

بدايةً، ننوِّه بأنَّ استخدام مفهومَي التصوُّف والعرفان لا يجب أن يُفهم مقدَّمًا على أنَّه قد يرتبط بمذهب دينيٍّ معيَّن. فهما ضدُّ المذهبيَّة والطائفيَّة؛ لذلك يمكننا القول – بمزيدٍ من الحرص – أنَّ التصوُّف عرفان شيعيٌّ، والعرفان تصوُّف سنِّيٌّ. بل إنَّ العرفان نفسه من الممكن النظر إليه على أنَّه يضمُّ في قسمه العمليِّ التصوُّف والسلوك، بينما يضمُّ في قسمه النظريِّ علم الحقائق والمشاهدة والمكاشفة.

في هذا السياق، نرى الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي يسمِّي هذا العلم مسمَّيات أخرى مختلفة عن التصوُّف والعرفان من قبيل: علم منازل الآخرة، والعلم بالله. وكان أبو يزيد البسطاميُّ يستعمل مصطلح العارف مكان الصوفيِّ، مع العلم أنَّ كثيرًا من الباحثين قد يميِّزون بين التصوُّف والعرفان، فيرون أنَّ العرفان أعلى مرتبة من التصوُّف، ليصبح كلُّ عارف صوفيًّا وليس كلُّ صوفيٍّ عارفًا. لكن يبقى في النهاية أنَّ غاية الصوفيِّ هي غاية العارف، فكلٌّ منهما يتغيَّا المعرفة التي تتعلَّق بالألوهيَّة وحسب. لا من ناحية إثبات الذات ولكن من ناحية شهود صفاتها، وتلك هي المعرفة الحقَّة التي ينبغي أن تتوجَّه إليها طاقة الصوفيِّ والعارف معًا. بل ينبغي عليهما أيضًا أن يبذلا كلَّ ما في وسعهما لكي يظفرا بمثل هذه المعرفة وحدها. وقد يتمايز مفهوم العرفان عن مفهوم التصوُّف إذ إنَّ الأخير يهتمُّ بالجانب الأخلاقيِّ، أمَّا العرفان فيغلب عليه المجال المعرفيُّ الذي يروم بلوغ المعرفة العليا أو الحكمة الإلهيَّة.

ثمَّة تفرقة جديرة بالعرض حيال اللَّبس الحاصل في المصطلح يشير إليها الدكتور محمود حيدر في كتابه “العرفان في مقام التدبير السياسيِّ- دراسة في المباني الميتافيزيقيَّة والتأسيسات المعرفيَّة للحضارة الإلهيَّة”. إذ يرى أنَّ التصوُّف منهج وطريقة زاهدة، مبتنية على أساس الشرع وتزكية النفس، والإعراض عن الدنيا من أجل الوصول إلى الحقِّ تعالى، والسير باتِّجاه الكمال. أمَّا العرفان فهو مذهب فكريٌّ، وفلسفيٌّ، متعالٍّ وعميق، يسعى لمعرفة الحقِّ تعالى ومعرفة حقائق الأمور، وأسرار العلوم، وطريقته ليست منهج الفلاسفة والحكماء؛ بل طريقة الإشراق والكشف والشهود([1]).

والعرفان علم شرقيٌّ عَرَفه وتميَّز به أهل الشرق الذين شهدوا مولد الحضارات، ورقيَّ الأفكار، ونزول الأديان التي اهتمَّت بما هو معنويٌّ وروحانيٌّ، ولم يعرفه أهل الغرب- في المبتدأ- من أصحاب الحضارات المادِّيَّة التي اهتمَّت بالمحسوس والملموس؛ وارتبطت نفوسهم برباط المادَّة وأُثقِلت بغواشي الحسِّ؛ فلم يتسنَّ لهم الخوض في تجارب عرفانيَّة سامية، ولم يعرفوا إلَّا الإنسان الذئب الذي ينتهز الفرص لينقضَّ على أخيه الإنسان مع توماس هوبز، أو الآخر الذي يمثِّل الجحيم للآخرين يستعمرهم، يسلب خيراتهم، يقتلهم، يقودهم إلى أفران الغاز مع سارتر، أو ذاك الإنسان التائه الغريب الشقيِّ المُعذَّب الذي يبحث عن السعادة فلا يجد غير الشقاء مع ألبير كامو.

والعرفان في أصله وفصله يصدر عن اعتراف وإقرار العارف بجميل ما جاء به الحقُّ على الخلق. ويشير معناه العامُّ إلى حال معرفيٍّ وقلبيٍّ يحصل للطالب بعد سيرٍ وسلوكٍ وقولٍ وعملٍ. ويلجأ إليه العارف للتخلُّص من تلك الهواجس وذلك القلق الذي ينتاب الإنسان في هذا العالم الطبيعيّْ.  ولا تعدُّ المعاناة من الهواجس والقلق في هذا العالم شيء يشين صاحبه، بل على العكس تمامًا، فمن لا يحمل هذا القلق، ومن لا توجد لديه مثل هذه الهواجس، فإنَّه لم يلج بعد حقل نوعيَّة الإنسان.

وما أكثر العواصف والزوابع التي تهبُّ على قلب الإنسان فتشغل الفكر والعقل والفؤاد، ومن أبرز أمثلتها في أيامنا الراهنة وأهمُّها وأجدرها بالرعاية هي تلك العواصف المادِّيَّة وهاتيك الزوابع الإلحاديَّة التي هبَّت على بلادنا وأوطاننا من الغرب بصورة تكاد تجتاح عقول شبابنا وقلوبهم، إذ يعلن أربابها في غير خجل ولا حياء، بل في فجور ومجون، أنَّ العالم المحسوس هو وحده الموجود، وأنَّ ما لا يناله الحسُّ بجوهره ففرض وجوده محال. وأنَّ ما لا يكون موضوعًا للعلم التجريبيِّ فهو ضرب من الأخيلة والأحلام، أو لون من الأساطير والأوهام، وأنَّهم غير مستعدِّين للإيمان بالله والروح إلَّا إذا وُضعا على المشرحة، وسُلِّط عليهما الميكروسكوب، وأنَّه يجب عليهم أن يزيلوا من طريقهم كلَّ عقبة تحول بينهم وبين الاستمتاع برغباتهم المادِّيَّة ولذائذهم الغريزيَّة، فإن كانت هذه العقبة خُلقًا محوه، وإن كانت عرفًا نحَّوه، وإن كانت دينًا أزالوه أو إلهًا نسفوه.

تدور هذه الورقة البحثيَّة حول محاور خمسة تحاول الإلمام بموضوعها، وهي: العرفان في اللُّغة والاصطلاح، وأقسام العرفان، ومراحل العرفان، والعرفان ضرورة راهنة، والعرفان خلاصًا من مشكلاتنا الراهنة.

 

أوَّلًا – العرفان في اللُّغة والاصطلاح:

العِرفان في اللُّغة: يعني العلم والمعرفة، وعَرَفَ الشيء عرفانًا ومعرفة: أدركه بحاسَّة من حواسِّه. ويُقال: عَرَفَ لله فَضْلَه، أي نِعَمَهُ وإحسانه. فهو عارف، وعَرُوفٌ أي عارف يعرف الأمور ولا ينكر أحدًا رآه مرَّة. عَرُفَ عَرافةً: صار عالمًا بالشيء، أو قيِّمًا عليه. وعرَّفه الأمر أَعلمه إيَّاه. وعَرَّفَ الحُجَّاجُ: وقفوا بعرفات. والشيء: طَيَّبَه وزيَّنَه. وفي القرآن الكريم ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ. (محمد:6) وعليهم عَريفًا: أقامه ليعرف شئونهم. وتعارفوا: عَرَفَ بَعضُهم بعضًا. والتعريف: تحديد الشيء بذكر خواصِّه المميَّزة.  والمعروف هو اسم جامع لكلِّ ما عُرف من طاعة الله والتقرُّب  إليه، والإحسان إلى الناس، وكلِّ ما ندبَ إليه الشَّرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه. والمعروف – أيضًا – النَّصفةُ وحُسن  الصحبة مع الأهل، وغيرهم من الناس([2]).

العرفان في الاصطلاح: هو المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبيَّة، لا بفضل التجربة الحسِّيَّة أو العقليَّة. حيث إنَّ العارف الذي حقَّق تقدُّمًا في سيره العرفانيِّ ينظر إلى عالم الوجود على أنَّه مظهر من مظاهر الباري عزَّ وجلَّ، وإنَّ كلَّ ظاهرة على هذا الوجود ما هي إلَّا مرآة تعكس الجمال الإلهيَّ لوجود الله تبارك وتعالى.

إلى ذلك، فإنَّ العرفان هو صيغة المبالغة للمعرفة. “والمعرفة عند العرفاء على ثلاثة أوجُه: معرفة إقرار، ومعرفة حقيقة، ومعرفة مشاهدة؛ وفي معرفة المشاهدة يندرج الفهم والعلم والعبارة والكلام؛ والإشارات في المعرفة ووصفها كثير، وفي القليل كفاية وغنيَّة للمستدلِّ والمرشد”([3]). فالعارف يبتغي معرفة خالصة تكتمل بمقدار الاكتمال في درجات الوجود. وبناء عليه يكون العرفان شكلًا من أشكال التطهير بالمعرفة، ويبتغي المعرفة القصوى، ولكنها ليست أيَّ معرفة، فهي مغايرة تمامًا للمعرفة الحسِّيَّة والعقليَّة إذ هي معرفة حدسيَّة كشفيَّة تفتح الوعي بشكل مباشر على الحكمة الكونيَّة والإلهيَّة([4]).

والمعرفة عند العرفاء معرفتان: معرفة حقٍّ، ومعرفة حقيقة، الأولى معرفة وحدانيَّته، على ما أبرز للخلق من الأسماء والصفات، والثانية لا سبيل إليها لامتناع الصمديَّة وتحقيق الربوبيَّة؛ لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا(طه :110)([5]).

وفي ذلك قال أبو نصر، رحمه الله: معنى قوله: لا سبيل إليها يعني إلى المعرفة على الحقيقة؛ لأنَّ الله تعالى أبرز لخلقه من أسمائه وصفاته ما علم أنَّهم يطيقونه؛ ذلك لأنَّ حقيقة معرفته لا يطيقها الخلق، ولا ذرَّة منها؛ لأنَّ الكون بما فيه يتلاشى عند ذرة من أول باد يبدو من بوادي سطوات عظمته، فمن يطيق معرفة من يكون هذا صفة من صفاته؟ ([6]).

وعلم العرفان هو علم نشأ في خضمِّ تعاليم الدين الإسلاميِّ، واستقى منه أسُسه وقواعده، وأخذ في التبلور كعلم في فترة لاحقة على نزول الوحي، حتى أضحى مع القرنين الثالث والرابع الهجريَّين يمتلك كلَّ مقومات العلم من حيث موضوعه الخاصِّ، ومسائله التي يهتمُّ بالبحث فيها، ومنهجه المعرفيِّ المناسب لطبيعة موضوعه ومسائله. فموضوعه هو معرفة الله سبحانه على الوجه الأتمِّ، ومسائله هي معرفة حقيقة الوجود، والإنسان، والعالم، ومنهجه هو الكشف والشهود؛ أي مشاهدة الحقائق الغيبيَّة الواقعة وراء عالم الشهادة. والسبيل إلى ذلك هو فراغ القلب وصفاء الباطن الذي يكون عن طريق تربية النفس وتهذيبها، والمواظبة على العبادات والفرائض والنوافل وكلِّ ما يقرِّب إلى الله تعالى من جميل الأفعال والصنائع.

وعن صفة العارف يقول أبو تراب النخشبيِّ، رحمه الله: “هو الذي لا يكدِّره شيء، ويصفو به كلُّ شيء”([7]). ويكون العارف بمشهد من الحقِّ “إذا بدا الشاهد، وفني الشواهد، وذهب الحواسُّ، واضمحلَّ الإحساس”([8]). ومن علامة المعرفة: أن يرى نفسه في قبضة العزَّة، ويجري عليه تصاريف القدرة”([9]). وقال ذو النون، رحمه الله: علامة العارف ثلاثة: لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطنًا من العلم ينقض عليه ظاهرًا من الحكم، ولا يحمله كثرة نعم الله تعالى عليه وكرامته على هتك أستار محارم الله تعالى([10]).

وحيث إنَّ أوَّل آية نزلت من القرآن الكريم هي “اقرأ”، وثاني السور القرآنيَّة هي “سورة القلم”، فإن الدعوة إلى المعرفة هي أوَّل الأوامر والتكاليف الإلهيَّة التي أُلزم بها المسلم في الإسلام. وكأنَّ بداية التكاليف تعكس الغرض الإلهيَّ من الخلق الإنسانيِّ وهو أنَّ يعرف الإنسان خالقه، وذلك إمَّا عن طريق الدليل والبرهان أو عن طريق الكشف والمشاهدة والعيان، وهذا الأخير ما لا يحصل إلَّا بالتجربة والذوق، علمًا بأنَّ الغاية من العرفان الإسلاميِّ هي التعرُّف إلى ربِّ العالمين في ضوء هداية الأنبياء والكتب السماويَّة، أو إرشاد الأولياء ومعارفهم الحكميَّة، حتى يرقى المدارج السامية المستكملة، وحينئذٍ لا يشهد الإنسان إلَّا الله تعالى([11]).

من المهمِّ القول أنَّ الإنسان لا يستطيع العيش في هذه الحياة الدنيا من دون أن يشعر بالهول أو القلق إزاء هذه السماوات وهذه الطبيعة. فهذه الهواجس هي نتيجة ذلك النقصان الكامن في علاقته مع الطبيعة. ومن ثمَّ تتولَّد دوافع المعرفة عنده، وكلما ارتقى في مراتب الإنسانيَّة زادت رغبته في المعرفة، وازداد ظمأه المعرفيُّ الذي يظهر عبر النقص والشعور بالغربة عن هذا العالم وهذه الدنيا.

والعارف يروم التوصُّل بالحكمة الكونيَّة والإلهيَّة عبر العرفان الذي يكون مجاله القلب وأداته الذوق ووسيلته: المجاهدات، والخلوات، والمراس، والزُّهد والانضباط، والتدرُّب، والرياضات لفترات زمنيَّة طويلة قد تمتدُّ لتشمل الحياة بكاملها. ولأجل ذلك يتوجَّه إلى هذه المعرفة قاصدًا، فيتهيَّأ لها باذلًا الجهد والزهد. ومن ثمَّ يمكننا القول أنَّ العرفان يتطلَّب الجهد والزُّهد، وليس إلهامًا يصل الإنسان من دون جهد منه. في هذا السياق، سُئل أبو سعيد الخراز رحمه الله عن المعرفة فقال: المعرفة تأتي من وجهين: من عين الجود وبذل المجهود([12]). العرفان نور يخترق الحُجُب التي تكمن الحقائق خلفها، دون أن يرى العارف هذا النور في ذاته. فالعرفان هو تجسيد المعرفة العليا في العارف بالمراس والزُّهد، والعرفان هو تجلِّي الحقيقة في العالم، أن تتَّخذ من العالم جسدًا تتمظهر فيه فتكون بذلك ظاهرة أو لائحة، تلوح بالقوة النورانيَّة التي تنبري منها([13]).

 

ثانيًا: أقسام العرفان:

ينقسم العرفان باعتبار الموضوعات التي يطرقها إلى قسمين:

القسم الأوَّل: يرسم فيه العرفاء مجموعة من الآداب والقواعد السلوكيَّة التي يجب على السالك مراعاتها والالتزام بها  للوصول إلى الهدف الذي اختاره أصحاب هذا التيَّار الفكريِّ  العمليِّ لأنفسهم، على اختلاف العبارات  والمصطلحات التي تبنُّوها لبيان مقاصدهم.

القسم الثاني: يسمِّيه العرفاء بالعرفان النظريِّ، وهو مجموعة النتائج المعرفيَّة التي يتوصَّل إليها السالك بعد سلوكه وانكشاف الحقائق الوجوديَّة أمام نواظره الفكريَّة والمعرفيَّة. وبالتالي إذا أردنا التمييز بين العرفانين، إن صحَّ التعبير، يمكننا القول أنَّ العرفان العمليَّ هو قواعد في مجال “ما يجب فعله”، بينما العرفان النظريُّ هو “النتائج العلميَّة والمقدِّمات الفكريَّة للسير العلميِّ”([14]).  علمًا بأنَّ هذا التقسيم ليس تصنيفًا حديثًا عمد إليه المعاصرون، ولكنه  يعود إلى قدامى الصوفيَّة أمثال: ابن عربي، والفناري، والقيصري، وغيرهم.

ولمزيد من التوضيح نقول إنَّ العرفان النظريَّ  يمكن التعامل معه وكأنَّه فرع من فروع المعرفة الإنسانيَّة التي تحاول أن تعطي تفسيرًا كاملًا عن الوجود ونظامه وتجلِّياته ومراتبه، أو تقديم رؤية نظريَّة تبيِّن للسالكين ولغيرهم أفكارهم التي شاهدوها، وأجوبتهم عن أسئلة الانطلاق في رحلة السير لعلَّها تثير في نفوس المتردِّدين الرَّغبة في اللَّحاق بالرَّكب على بيِّنة تحثُّهم على التشمير عن السواعد والسيقان للالتحاق بقافلة السالكين إلى الله. ويمكن تحصيل هذه المعرفة من خلال دراسة كتب الحكمة والفلسفة الإسلاميَّة .أمَّا العرفان العمليُّ فهو نوع العرفان الذي يتعهَّد بتفسير وبيان مقامات العارفين ودرجات السالكين إلى القرب الإلهيِّ بقدم المجاهدة والتصفية والتزكية للنفس البشريَّة. خلاصة القول أنَّ الأساس الذي يقوم عليه العرفان العمليُّ هو كيفيَّة مراقبة القلب لأجل الابتعاد به عن المُهلِكات، وتزيينه بالمُنجِيات، والغرض من ذلك كلِّه وصال الإنسان بالحقِّ تعالى([15]).

في إطار ما تقدَّم تتبلور الغاية والهدف من علم العرفان، وهي: الوصول إلى معرفة الحقِّ سبحانه وتعالى والفناء فيه. بحيث يصل العارف إلى مرتبة لا يرى في الوجود إلَّا الله ولا يبصر إلَّا وجه الله تبارك وتعالى، بل يريد أن يصل إلى مرتبة ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة: 115)، ويريد أن يصل إلى مقام يرى فيه الله أقرب إلى الإنسان من نفسه؛ لأنَّه يحول بين المرء ونفسه. ويكون ذلك بحسب ما أوتي العارف من قوَّة، وبحسب ما يمنُّ به الله عليه من كرامة.

حريٌّ القول أنَّ العارف يتغيَّا في المقام الأول وصول الإنسان إلى الكمال المنشود؛ حيث إنَّ بلوغ الكمال أمر فطريٌّ عند الإنسان، وأعلى أنواع الكمال هو القرب الإلهيُّ؛ لأنَّه كما جاء في الحديث الشريف: “إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: منْ عادى لي وَلِيّاً. فقدْ آذنتهُ بالْحرْب. وَمَا تقرَّبَ إِلَيَ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَ مِمَّا افْتَرَضْت عليْهِ: وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه”([16]).

ممَّا تقدَّم، يتَّضح لنا أنَّ هناك علاقة وطيدة بين قسمي العرفان: النظريِّ والعمليِّ. فالعرفان النظريُّ هو ترجمة للحقائق التي يشاهدها العارف، والحقيقة التي هي أساسه الأول تكون نتاج الطريقة والسير والسلوك والتجربة التي يخوضها هذا العارف في العرفان العمليّْ.

 

 

ثالثًا: مراحل العرفان:

يستهدي العرفان إلى الوجود الحقِّ بطريقين متلازمين: أوَّلًا، بالعقل الآخذ بالأسباب. وثانيًا، بالكشف الباطني المسدَّد بالعلم اللدّنِيِّ والشهود القلبيّْ([17]). ويمرُّ السالك في سبيل العرفان بمراحل متعدِّدة وكأنَّها حلقات سلسلة رأسيَّة صاعدة في نظام وانسجام، ويمتاز بعض مراتبها على البعض الآخر بمقدار بُعدها عن الحسِّيَّات وتقدُّمها في العالم العقليِّ؛ فكلَّما ارتقى تتقدَّم نفسه نحو المجرَّدات بخطوات واسعة بوساطة تطهُّر خلقيِّ وعقليِّ مزدوج. ومهما يكن من أمر، فإنَّ المراحل التي يجب أن يجتازها لتلقِّي الإشعاع الإلهيِّ، بحسب العرفاء من الفلاسفة(الفارابي وابن سينا)، خمسة مراحل هي:

المرحلة الأولى: وهي مرحلة الإرادة؛ إذ إنَّ المُريد يشرَع في اتِّجاهه نحو ربِّه بإرادته الشخصيَّة التي لابدَّ من أن نتَّبع إمَّا عن عقيدة دينيَّة صادقة صادرة عن إيمان راسخ، وإمَّا عن معرفة فلسفيَّة وصلت إلى الحقِّ الأسمى. ويجدر القول أنَّ العقيدة والمعرفة كلتيهما تدفعان صاحبيهما إلى السير في سبيل الكمال والتقدُّم نحو الملأ الأعلى([18]).

المرحلة الثانية: وهي المرحلة الرياضيَّة التي يعطيها العرفاء ثلاث غايات: الغاية الأولى هي تخليص النفس من علائقها بكلِّ الدوائر الفانية، أو نبذ كلِّ ما يشغل عن الباري، وهذا ينال بالزهد. والغاية الثانية هي تطويع النفس الأمَّارة بالسوء للنفس المطمئنَّة. ونتيجة هذا العمل تنقية قواه الداخليَّة مستعينًا في ذلك بأوامر الدِّين وإقامة شعائره حسب الكتاب والسنَّة، وتلك هي مهمة العابد. والغاية الثالثة هي تصفية الجانب الباطنيِّ من النفس، أي “السرَّ”، وجعله – بوساطة التأمُّل والطهر والعفاف والميول النقيَّة- جديرًا باليقظة الدائمة والتنبُّه الحازم المتين([19]).

المرحلة الثالثة: وتسمَّى “مرحلة الحد”، وفيها تكون النفس قد أًعدَّت تمام الإعداد لتلقِّي أول الأنوار المعنويَّة، وطليعة الإلهامات العلويَّة، وهي تبدو أوَّل الأمر خلسات كأنَّها ومضات تعقبها ظلمات، ثمَّ يعود الومض سيرته، ويستأنف الظلام أوبته، وتظلُّ الحال على هذا المنوال إيابًا وذهابًا وظهورًا وخفوتًا متعاقبين دواليك حتى يتبدَّل الأمر ويتحوَّل الشأن. غير أنَّ هذه اللَّمحات القدسيَّة، وتلك النفحات الربانيَّة – وإن كانت تبدو حائلة متحوِّلة- لا تذهب عبثًا، ولا تضيع هباءً، بل إنَّ النفس تستفيد من كلِّ ومضة، وتسترشد بكلِّ إشعاعة فيتكوَّن لديها من الضوء الخالد ما يجعلها جديرة بأن تساهم في ذلك النور الإشعاعيِّ وتلك المجرَّدات التي تفيض من الموجود الأول، ثمَّ تتدلَّى في انسجام واتِّساق حتى تغمر ذلك الكائن المتواضع المتطلِّع إلى الفيض الأسمى الذي هو بغيته المرموقة([20]).

المرحلة الرابعة: وتسمى بـ“مرحلة السكينة”؛ حيث إنَّ السالك المتطلِّع إلى رضوان ربِّه يبحث عن السلام النفسيِّ والسكينة القلبيَّة، فيظلُّ في شوق يعذِّبه وهيام يضنيه حتى يصير أهلًا لهذه المرحلة التي تنزل على قلبه فتحوِّل قلقه إلى هدوء، وتبدِّل عذابه راحة وسعادة. ولكن هذه السعادة لا تدوم دوامًا غير منقطع، نعم إنَّ لحظات النور فيها أطول مدى وأعمق إشعاعًا، بيد أنَّه كما يغمر المتصوِّف طولها في السرور والحبور، كذلك يغمسه انقطاعها عنه في الحزن والانقباض حتى تعود. وبالإجمال هي لا تزال في حالة سلبيَّة خاضعة لما تتفضَّل بها عليها السماء من تقدُّم ورضوان، وإجادة وإحسان، وفيض بالعرفان، لكن الصوفيَّ لا يلبث أن يرقى في سلسلة السموِّ حتي يصير جديرًا بالانخراط في المرحلة الخامسة([21]).

المرحلة الخامسة” وتسمَّى بـ“مرحلة الملكة”، وهي تلك المرحلة التي تصل فيها النفس البشريَّة إلى منزلة الاتصال بالعالم المجرَّد، أو بالعقول المفارقة أو بالعقل العام، وإذ ذاك تأخذ في الرقيِّ درجة بعد درجة بصورة إيجابيَّة لا سلبيَّة كما كانت في المرحلة الثالثة. ومعنى هذا أنَّ ارتقاءها يكون إراديًّا أي كلَّما شاءت سَمَتْ، ومتى أرادت ارتقت من دون مانع ولا عائق، وذلك لأنَّ الفيض الربَّانيَّ قد منحها السلطان الذي بفضله تستطيع أن تزيل من أمامها العقبات، والذي به  تملك أن تلتفت إلى العالم الأعلى كلَّما عنَّ لها ذلك([22]).

         وأخيرًا، يجب أن يجتاز الصوفيُّ بالضرورة مرحلة “الملكة” ويصل إلى الحدِّ النهائيِّ الذي لابدَّ له من المعرفة، ولا تملك فيه إرادته ألَّا تعرف، ولا تستطيع أن تعدل عن أن تعرف كما كانت الحالة في المرحلة السابقة، بل إنَّ تَلَقِّي المعرفة في هذه الحالة يصبح هو الحالة الثابتة الدائمة التي لا تختلف ولا تفتر عنده. ومنشأ ذلك أنَّ السرَّ الباطنيَّ للنفس قد صفا وأضحى شبيهًا بمرآة مصقولة متَّجهة نحو الحقِّ الأول الذي منح كلَّ حقٍّ وجوده إذا أمن أن يتَّجه نحو متَّجه، وذلك لا يمكن قطعًا إلَّا تصويرًا للعقول، وترويضًا للنفوس على قبول هذه العبارات، وتسهيلًا على الأذهان فهمها واستساغتها لأنَّ الله ليس في جهة حتى يتَّجه إليه.

على أنَّ هذا الحدَّ النهائيَّ هو ذاته مؤلَّف من مرتبتين: ففي المرتبة الأولى يكون السالك موزعًا بين حالتين إذ هو ينظر تارة إلى نفسه التي هي المرآة، وينظر تارة أخرى إلى انعكاس النور الإلهيِّ الأبهر على صفحة هذه المرآة. وفي المرتبة الثانية ينصرف السالك عن كلِّ شيء حتى عن نفسه، بل عن سرِّ نفسه، الأعلى، ولا ينظر إلَّا إلى انعكاس أنوار الجلال الإلهيِّ. وفي هذه النظرات الثابتة الدائمة المتفانية يتحقَّق “الوصول” الذي يحقِّق معه-عن غير قصد ولا إرادة ولا طلب- أسمى قمم السعادة([23]). وهذا يعني أنَّ المعرفة عبارة عن ظهور نور الحقيقة في قلب المؤمن، ونور عن كشف الحجاب([24]). لا يكون إلَّا بمعرفة الله معرفة أتمَّ، “فمعرفة الله تعالى من غايات السرائر وآيات البصائر، وفيها غرائب العلوم المكنونة، ودقائق الحكم المخزونة، وبها الوصول إلى السعادة الأبديَّة الكاملة”([25]).

وبهذا المعنى يكون العرفان بوجه ما ردَّ فعل على ثنائيَّات المتكلِّمين والفلاسفة الذين وقعوا باسم الدفاع عن التوحيد في ثنائيَّات حادَّة: الخالق/ المخلوق، الواحد/ الكثير، العلَّة/ المعلول، الواجب/ الممكن….إلخ. إذ حاول العرفاء ردَّ الاعتبار للتوحيد في الحلول والاتحاد أو في ما يُعرف بوحدة الشهود ووحدة الوجود.

 

رابعًا: العرفان ضرورة راهنة:

في ظلِّ الضغوط النفسيَّة والمادِّيَّة التي بات يلقيها العصر الراهن من نزاعات دوليَّة واضطرابات أهليَّة  في العديد من الأقطار الإسلاميَّة، بات المسلم في هذه الأقطار يبحث عن طوق النجاة الذي يسير به إلى برِّ الأمان النفسيِّ أوَّلًا والمادِّيِّ ثانيًا، ويتغيَّا التقدُّم المادِّيَّ والحضاريَّ، والتخلُّص من أسر التبعيَّة للغرب الذي ألقت به حضارته العلمانيَّة المستندة إلى العلم المادِّي وحده، والذي رأى فيه الإنسان الغربيُّ خلاصه واهمًا حتى صار عبدًا لوثن التقنيَّة الذي أغراه بتحقيق الفردوس الأرضيِّ، ولم يجد بعد أن ولج فيه إلَّا الشقاء الذي لا قِبل له به.

بيد أنَّ حاضريَّة العرفان – كما أسلفنا القول- لا تعني ترك العالم والانعزال عنه والتقوقع  والانغلاق على الذات، كما فهم البعض مخطئًا، وذهب إلى أنَّ العرفاء يصنعون من الخيال الخلَّاق عالمًا بديلًا عن عالم الواقع الذي تمَّ نفيه واستبعاده والتراجع عنه بعدما أصبح عصيًّا على الطاعة، لا يمكن تغييره. فعالم الخيال ميسور خلقه، يسهل اتِّباعه ويسهل تطويعه([26]). بينما الحقيقة هي على العكس تمامًا، ففي عالم العرفان القدرة على تغيير الواقع وتجاوز مشكلاته، من دون الوقوع في الخطأ الذي وقعت فيه الحضارة العلمانيَّة الغربيَّة التي حاولت اعتمادًا على العلم الحديث تغذية كلِّ الجوانب المادِّيَّة في الجسم الإنسانيِّ، من دون الاهتمام بتغذية الجوانب الروحيَّة والشعوريَّة، فكانت حصيلة ذلك جسمًا طويل القامة، عريض المنكبين… لكنه في الوقت ذاته يعاني أزمات نفسيَّة لا حدَّ لها نتيجة الحياة المحرومة من الإيمان بالله. فكان الشقيُّ التعيس، مهما بدا غارقًا في الملذَّات الدنيويَّة الزائفة.

إنَّ الحياة الروحيَّة في واحة الإيمان بالله الواحد هي سرُّ مخزن الصحَّة الموفورة التي يتمتَّع بها أصحابها، وكلُّ نفسيَّة بعيدة عن هذه الحياة لن تنتهي إلَّا بالأمراض أقساها وأعتاها. ولذلك فالذي يعيش بعيدًا عن واحة الإيمان بالله الواحد الأحد هو إنسان شقيٌّ محروم. إنَّه في نظر نفسه مخلوق حيوانيٌّ لا يختلف كثيرًا عن الدواب والأنعام التي تدبُّ من حوله على الأرض، والتي تعيش لتأكل وتشرب وتتكاثر ثمَّ تنفق، من دون أن تعرف لها هدفًا، أو تدرك لحياتها سرًّا. هذا الشقيُّ يشعر دائمًا أنَّه  مخلوق ضعيف صغير تافه لا وزن له ولا قيمة، وُجِد ولا يعرف كيف وِجد، ولا من أوجده؟ ويعيش ولا يدري لماذا يعيش؟ ويموت ولا يعلم ما بعد الموت، يعيش جحيم الشكِّ والحيرة. إنَّه في عمى من أمر دينه ودنياه، حياته وآخرته. ولذلك تعصف به دائمًا الأزمات النفسيَّة والروحيَّة.

إلى ذلك، تكشف التجربة العرفانيَّة لمن يعايشها حقَّ المعايشة مدى الزيف التي تعيش فيه حضارة الحداثة التي دارت مدار العقل المقيَّد. تلك الحضارة التي انتهت في جانبها الفكريِّ إلى ما يمكن تسميته بـ”حضارة الموات العام”؛ فقد أماتت الإله مع نيتشه كي يحيا الإنسان، وأماتت الميتافيزيقا مع الوضعيَّة المنطقيَّة، وما لبثت أن أماتت الإنسان مع ميشيل فوكو وفي نظريَّة “موت المؤلِّف” و”موت الناقد” كي تحافظ على المعنى الذي مات بدوره مع نظريَّات ما بعد الحداثة والتفكيكيَّة والهرمنيوطيقا التي لا تعترف بمعنى واحد نهائيٍّ، وإنَّما بمعان لا حصر لها. إنَّها النسبيَّة السوفسطائيَّة القديمة تعود من جديد بكلِّ شكوكها وحيرتها.

من هنا، ترى حاضريَّة العرفان أنَّ ما يعانيه العالم اليوم من أزمات نفسيَّة وأخلاقيَّة مردُّها إلى ثلاثة أمور: أوَّلًا، الغرور بما أنجزه العلم، والفرديَّة والأنانيَّة والآليَّة والعلمانيَّة، والاستعمار الفكريّْ. كما ترى أنَّ ركائز الحضارة الإنسانيَّة تنحصر في أربعة أمور هي: أن يكتشف الإنسان حقيقته، ويؤكِّد إنسانيَّته، ويحقِّق خلافته(لله على الأرض)، ويخلص لربِّه عبادته.

تتبلور حقيقة حاضريَّة العرفان في تأصيل عقيدة التوحيد، والتأكيد على مركزيَّة الإنسان في الوجود المعيش، والسعي لتجاوز واقع الأمَّة الإسلاميَّة، وبناء حضارة تنطلق ممَّا يمتلك من مقوِّمات روحيَّة ومادِّيَّة وليس على غرار الحضارة الغربيَّة التي تعتمد على جانب واحد فحسب هو الجانب المادِّيِّ. فضلًا عن ذلك، لا بدَّ من بلورة نظريَّة عرفانيَّة تجيب عن أسئلة الإنسان الحائر التي تؤرِّقه وتقضُّ مضجعه حتى ينعم بالصحَّة النفسيَّة ويواصل بناء حضارته.

خلاصة القول أنَّ العرفان في جوهره دعوة تستحثُّ العالم الإسلاميَّ من أقصاه إلى أدناه للالتفات إلى ما يوفِّره ويقدِّمه العرفان بوجهيه النظريِّ والعمليِّ، وهو ممَّا لا شكَّ فيه يمدُّ الإنسان بمعرفة فريدة من نوعها بما تحتويه من كشف باطنيٍّ مسدَّد بالعلم اللَّدنيِّ والشهود القلبيِّ، وبما به من إمكانات تساعد الإنسان على تجاوز المأزق الراهن للحضارة الإسلاميَّة.

 

        خامسًا: العرفان خلاصًا من مشكلاتنا الراهنة:

يمثِّل العرفان الخلاص الحقيقيَّ للإنسان الذي أعمته الغشاوات الدنيويَّة فجعلته مغتربًا بائسًا ظمآنًا يفتقد للراحة والهدوء والاتزان النفسيِّ؛ فما أقسى حياته حينما يعيش في جحيم الشكِّ والحيرة، أو في ظلمات العمى والجهل، في أخصَّ ما يخصُّه: في حقيقة نفسه، وسرِّ وجوده، وغاية حياته. إنَّه الشقيُّ التعيس حقًا، وإن غرق في الذهب والحرير وأسباب الرفاهية والنعيم، وحمل أعلى الشهادات، وتسلَّم أعلى الدرجات! ومن ثمَّ كانت أهميَّة العرفان الذي يُخرج الإنسان من حالة التوحُّش والبربريَّة إلى حالة الرقيِّ والتحضُّر، ويضمن النموَّ الثقافيَّ والمعنويَّ والكرامة الوجوديَّة للإنسان، ويسوقه نحو الأوج المطلق، أي الله سبحانه وتعالى([27]).

والعرفان أيضًا هو السبيل الأمثل لتحقيق العيش سويًّا في مجتمعاتنا العربيَّة والإسلاميَّة التي عانت كثيرًا – ولا تزال تعاني- من ويلات الفتن الطائفيَّة والقوميَّة والإثنيَّة والمذهبيَّة؛ حيث إنَّه قد يمكِّننا من الخروج من هذه المعضلة التي أرهقتنا في المجالات كافَّة، وتكوين مسار مفارق يؤسِّس لإحيائيَّة حضاريَّة جديدة في عالمنا الإسلاميِّ المعاصر، عن طريق تطويع النفس الأمَّارة بالسوء للنفس المطمئنة. ونتيجة لذلك، تتمُّ تنقية القوى الداخليَّة للإنسان المعاصر التي تنزع إلى الشرِّ بفعل عبوديَّتها لعالم المادَّة، عالم الصراع والنزاعات والشرِّ، حيث يمكنها التخلُّص من تلك الشوائب الشريرة عن طريق استعانة العارف بأوامر الدين وإقامة شعائره حسب الكتاب والسنَّة.

عن طريق العرفان أيضًا تتمُّ إتاحة معانٍ أخرى للنصوص الدينيَّة، أكثر اتِّساعًا وتسامحًا، لكنها ليست مختلفة ومتعارضة ومتعدِّدة بتعدُّد المفسِّرين شأن الهرمنيوطيقا الغربيَّة التي تروم موت المعنى تمامًا، وإنَّما تؤدِّي المعرفة العرفانيَّة إلى تأصيل عقيدة التوحيد وفقًا لمبدأ التواصل الوجوديِّ الأصيل بين الوحي والعقل، وبالتالي التلازم الوطيد بين الغيب والواقع. وهنا يلتقي الأخوة الأعداء عند كلمة سواء، هي كلمة الحقِّ، فيصبح السلوك وطلب الكمالات والرياضات الروحيَّة بدلًا من التكفير والتخوين والعمالة، وتكريسًا للسلام وتعزيزًا للتراحم والتعارف الذي يحافظ على السلم والوئام المجتمعيّْ.

وانطلاقًا من تقسيم العرفان إلى قسمين: عمليٍّ ونظريٍّ؛ بإمكان العرفان النظريِّ تحرير العقل المسلم من صراع التأويلات الأيديولوجيَّة المتصارعة للنصِّ الدينيِّ لصالح رؤية توحيديَّة تعمل على وحدة الصف وتماسك الأمَّة،  وتعتمد على السلوك والعلم الحضوريِّ وبراهين الصدِّيقين.

كما أنَّ العرفان يشغل الجانب الروحيَّ للإنسان فيخلِّصه من نوازع الشرِّ والصراع، ولذلك قيل إنَّه لا سلام لعالم فاقد الروحانيَّة، ولا رفاهيَّة لجسد بلا رفاهيَّة الروح. ومن هنا كان العرفان ثورة في مواجهة النزعات المادِّيَّة. فإذا ما تحدَّثنا بلغة الغربيين عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير فإمَّا أن يكون عرفانيًّا أو لا يكون. ومن ثمَّ يكون العرفان- أيضًا- اتجاهًا فكريًّا إسلاميًّا لمواجهة تيَّارات الحداثة وما بعدها والتيَّارات العلمانيَّة والإلحاديَّة.

      كما يُمَكِّننا العرفان من خلال معايشة متطلِّباته الحياتيَّة من الإفلات من سحر الحداثة وسطوتها، ونقد الاستتباع الحضاريِّ للغرب، ومواجهة تدفُّقاتها المعرفيَّة والفكريَّة والثقافيَّة والسياسيَّة في مجتمعاتنا؛ إذ إنَّ طريق العرفان قد يسهم في إرساء مفاهيم كلِّيَّة يمكن الاستهداء بها لإنتاج نظريَّة معرفيَّة تستعيد صلات الوصل بين الغيب والواقع.

 

خاتمة:

      نصل في بحث موضوع الخلاص بالعرفان إلى مجموعة من النتائج المهمة، نلخِّصها في ما يلي:

أوَّلًا: إنَّ العرفان كعلم إسلاميٍّ خالص يهتمُّ بالعلم بالله سبحانه، من حيث أسمائه وصفاته ومظاهره، وأحوال المبدأ والمعاد، والعلم بحقائق العالم وبكيفيَّة رجوعها إلى حقيقة واحدة، هي الذات الأحديَّة ومعرفة طريق السلوك، والمجاهدة لتخليص النفس عن مضايق القيود الجزئيَّة واتِّصالها إلى مبدأها، واتِّصافها بنعت الإطلاق والكلِّيَّة. وإذا كان الله سبحانه الكامل يفيض منه الوجود بمقتضى كماله، ثمَّ إنَّ الموجودات لا بدَّ من أن تتحرَّك للوصول إلى الله تعالى، فكان لا محيص أمام العرفاء أن يهتمُّوا بتوضيح حقائق الوجود، ومعرفة الله، والعالم، والإنسان بغية الوصول إلى الله تعالى والفناء فيه بوصفه الحقيقة القصوى، بحيث لا يرى إلَّاه، ولا يبصر إلَّا وجهه جلَّ وعلا، فيصير عارفًا ولو غفل عن كلِّ ما سواه، ويراه في كلِّ شيء وفي كلِّ حركة من الحركات التي تحيط به.

ثانيًا: لم يرفض العرفاء المناهج العقليَّة والحسِّيَّة والتجريبيَّة رفضًا مطلقًا، ولكنهم رأوها غير كافية للوصول إلى الحقائق اليقينيَّة، فالمعارف الناتجة من هذه المناهج هي معارف احتماليَّة، ودائمًا ما تخضع للتصحيح والتعديل أو الإلغاء بواسطة البشر أنفسهم بحكم التطوُّر المعرفيِّ الذي يحدث للبشريَّة من آن إلى آخر. ولذلك، فهذه المعارف لا تستريح إليها النفس لأنَّ احتمال الخطأ فيها يظلُّ واردًا، الأمر الذي لا وجود له مع المعرفة الناتجة من منهج الكشف والشهود الذي يتَّصف باليقين. كما أنَّ المناهج العلميَّة العقليَّة والحسِّيَّة تتوصَّل إلى معارفها عبر توسُّط صور، أي حصول صورة المعلوم عند العالم، في حين أنَّ معارف المنهج الشهودي تتمُّ مباشرة من دون توسُّط صور.

ثالثًا: إنَّ اللُّجوء إلى العرفان كخلاص من المشكلات الراهنة هو أمر جدير بالبحث والدراسة، ويفتح باب التساؤلات على مصراعيه حول إمكان قيام نظريَّة عرفانيَّة يتضافر فيها العلم بالعمل، والنقل بالعقل، والوحي بالاجتهاد البشريِّ في محاولة إسلاميَّة أصيلة تحاول تقديم حلول جديدة لمشكلات واقعيَّة ازدادت تعقيدًا عندما تصدَّينا لها- محاولين حلَّها- بمناهج وآليَّات غربيَّة، حيث تمثِّل العودة إلى بحوث العرفان والتصوُّف في مجالات الإلهيَّات، وعلم الاجتماع الدينيِّ، والفقه السياسيِّ، وفلسفة التاريخ وهو الأمر الذي من شأنه أن يكون قادرًا على أن يخلق مجالًا معرفيًّا جديدًا في الفكر الإسلاميِّ المعاصر من الممكن أن يدشِّن أساسات قويَّة لقيام الحضارة المُنجية.

رابعًا: يبقى الخلاص بالعرفان طوق النجاة المرجوَّ؛ حيث تطهِّرنا معرفة الله تبارك وتعالى من كلِّ الأمراض القلبيَّة كالغلِّ والحقد والبغضاء والكراهية، فينفسح بذلك المجال للحبِّ والتسامح والتعاون، والمشاركة والعيش سويًا، والعمل على تحقيق مقتضيات السعادة الإنسانيَّة. وبهذا المعنى يتمثَّل المعنى المقصود بالخلاص بالعرفان  من ناحية، ومن ناحية أخرى يُصلح العرفان ما عجز عن إصلاحه العلم؛ فقد أصلح العلم التقنيُّ ظاهر الإنسان لكنَّه عجز عن إصلاح باطنه؛ إذ لم يستطع أن ينفذ إلى تلك “اللطيفة الربانيَّة” المدرِكة الواعية، الشاعرة الحسَّاسة التي إذا صلُحت صلُح الإنسان كلُّه، وإذا فسدت فسد الإنسان كلُّه، ألا وهي القلب أو النفس أو الروح، وهي حقيقة الإنسان. فقد أعطى العلم إنسان القرن الرَّاهن سلاحًا انتصر به على بعض قوى الطبيعة، لكنَّه لم يعطِه ما ينتصر به على نفسه؛ على شهواته، وشكِّه، وقلقه، ومخاوفه، وتخبُّطه، وصراعه الداخليّْ.

خامسًا: بالعرفان يقف الإنسان على معرفة نفسه، ومعرفة ربِّه، ومعرفة الوجود من حوله، فيمكنه بذلك أن يجيب عن الأسئلة الوجوديَّة التي شُغِلت بها الفلسفات المختلفة ولم تقل فيها ما يشفي. فيتخلَّص الإنسان بذلك من التخبُّط في المذاهب الوضعيَّة البشريَّة من جحيم الشكِّ والحيرة وظلمات العمى والضلال، الذي يعيش صاحبها مضطرب النفس، متحيِّر الفكر، مبلبَل الاتِّجاه، ممزَّق الكيان. شبَّهه فلاسفة الأخلاق بـ” رافاياك التعس” الذي يحكون عنه أنَّه اغتال الملك، فكان جزاؤه أن يُربط من يديه ورجليه إلى أربعة من الجياد، ثم أُلهب ظهر كلٍّ منها، لتتَّجه مسرعة إلى جهة من الجهات الأربع، حتى مُزّق جسده شرَّ مُمزَّق، فهذا حال من يتمزَّق داخليًّا بابتعاده عن اليقين الربَّانيِّ الذي يوفرِّه العرفان، فيكون خلاصًا بهذا المعنى.

 

 

 

 

 

 

 

المصادر والمراجع:

  • أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، دمشق- بيروت، دار ابن كثير، الطبعة الأولى،2002.
  • أبو نصر الطوسي، اللَّمع، حقَّقه وقدَّم له وخرَّج أحاديثه عبدالحليم محمود-طه عبدالباقي سرور، القاهرة، الهيئة المصريَّة العامَّة لقصور الثقافة، سلسلة الفلسفة(42)، 2020.
  • ابن منظور، لسان العرب، المجلَّد التاسع، مجموعة من المحقَّقين، بيروت، دار صادر، د.ت.
  • حسن حنفي، من الفناء إلى البقاء- محاولة لإعادة بناء التصوُّف، ج1، القاهرة، الهيئة العامَّة لقصور الثقافة، 2015.
  • علي شريعتي، ثالوث العرفان والمساواة والحريَّة و(واحد وأمامه أصفار لا متناهية)، ترجمة وتقديم حسن الصراف، بيروت، الطبعة الأولى،2017.
  • فرح ناز رفعت جو، العرفان الصوفيُّ عند جلال الدين الرومي، بيروت، دار الهادي، الطبعة الأولى، 2008.
  • محمد غلاب، المعرفة عند مفكِّري المسلمين، راجعه عباس محمود العقَّاد وزكي نجيب محمود، القاهرة، الدار المصريَّة للتأليف والترجمة، 1966.
  • محمود حيدر، العرفان في مقام التدبير السياسي- دراسة في المباني الميتافيزيقيَّة والتأسيسات المعرفيَّة للحضارة الإلهيَّة، بلا بيانات نشر.
  • محمد شوقي الزين، التصوُّف، العرفان، الكنان، مجلَّة “العرفان”، العدد الأوَّل، الجزائر، 2018.
  • يد الله يزدان بناه، العرفان النظريُّ مبادئه وأصوله، ترجمة علي عباس الموسوي، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2014.
  • يونس بن حسن المصري، غايات السرائر وآيات البصائر،(خ) ميكروفيلم 32448 بمعهد المخطوطات بالهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، القاهرة.

 

 

([1]) محمود حيدر، العرفان في مقام التدبير السياسي- دراسة في المباني الميتافيزيقيَّة والتأسيسات المعرفيَّة للحضارة الإلهيَّة، بلا بيانات نشر، ص35.

([2])  ابن منظور، لسان العرب، المجلَّد التاسع، مجموعة من المحقِّقين، بيروت، دار صادر، د.ت، ص 236-243.

([3])  أبو نصر الطوسي، اللَّمع، حقَّقه وقدَّم له وخرَّج أحاديثه عبدالحليم محمود-طه عبدالباقي سرور، القاهرة،  الهيئة المصريَّة العامَّة لقصور الثقافة، سلسلة الفلسفة(42)، 2020، ص64.

([4])  محمد شوقي الزين، التصوف، العرفان، الكنان، مجلَّة “العرفان”، العدد الأول، الجزائر، 2018، ص12.

([5])  أبو نصر الطوسي، اللَّمع، ص56.

([6])  المصدر السابق، ص56.

([7])  المصدر نفسه.

([8])  المصدر السابق، ص57.

([9])  المصدر نفسه.

([10])  المصدر السابق، ص57.

([11])  فرح ناز رفعت جو، العرفان الصوفي عند جلال الدين الرومي، بيروت، دار الهادي، الطبعة الأولى، 2008، ص8.

([12])  أبو نصر الطوسي، اللمع، ص56.

([13])  محمد شوقي الزين، التصوف، العرفان، الكنان، ص13.

([14])  يد الله يزدان بناه، العرفان النظري مبادئه وأصوله، ترجمة علي عباس الموسوي، بيروت، مركز الحضارة  لتنميَّة الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2014، ص11.

([15])  يد الله يزدان بناه، العرفان النظري مبادئه وأصوله، ص 71.

([16]) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، دمشق- بيروت، دار ابن كثير، الطبعة الأولى،2002، حديث رقم (6502).

([17]) محمود حيدر، العرفان في مقام التدبير السياسي- دراسة في المباني الميتافيزيقيَّة والتأسيسات المعرفيَّة للحضارة الإلهيَّة، ص7.

([18])  محمد غلاب، المعرفة عند مفكِّري المسلمين، راجعه عباس محمود العقَّاد وزكي نجيب محمود، القاهرة، الدار المصريَّة للتأليف والترجمة، 1966، ص265.

([19])  محمد غلاب، المعرفة عند مفكِّري المسلمين، ص266.

([20])  المرجع السابق، ص267.

([21])  المرجع نفسه.

([22])  المرجع نفسه.

([23])  المرجع السابق، ص268.

([24]) يونس بن حسن المصري، غايات السرائر وآيات البصائر،(خ) ميكروفيلم 32448 بمعهد المخطوطات بالهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، القاهرة، ص8 ش.

([25])  المصدر السابق، ص3 ش.

([26]) حسن حنفي، من الفناء إلى البقاء- محاولة لإعادة بناء التصوُّف، ج1، القاهرة، الهيئة العامَّة لقصور الثقافة، 2015، ص25.

([27])  علي شريعتي، ثالوث العرفان والمساواة والحريَّة و(واحد وأمامه أصفار لا متناهية)، ترجمة وتقديم حسن الصراف، بيروت، الطبعة الأولى،2017، ص 71.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى