الدراسات والبحوث

مقاصد الحوار في الرؤية الكونيَّة الحضاريَّة القرآنيَّة للعالَم

نعيمة جريبان

مقاصد الحوار في الرؤية الكونيَّة الحضاريَّة القرآنيَّة للعالَم

نعيمة جريبان

مقدمة:

إن نظرة تقويمية فاحصة للوضع العالمي الراهن، ينبئ، وبجلاء، سيادة أزمة عالمية كونية، على كافة المستويات العلمية-المعرفية والمنهجية والفلسفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والعلاقات الدولية والثقافية، ولعل من الأسباب الثاوية خلف هذه الأزمة الحضارية البنيوية والمركبة والمعقدة، من وجهة نظري، غياب ثقافة الحوار وما يستتبعه من قيم التواصل والتعارف والتشارك والتوحد والاختلاف، وسيادة قيم الصراع والصدام والتسلط والتحكم والنهايات والعدميات، سواء داخل الذات الحضارية الواحدة، أو بين الذوات الحضارية المؤثثة للنسيج الكوني العالمي.

إن هذا الغياب، وبالأحرى التغييب لثقافة الحوار والتواصل، يرجع في نظري إلى طبيعة تصورات ورؤى العالم الكامنة وراء النماذج والبراديغمات المنتجة للمعرفة والتصورات حول الذات والغير والوجود المحيط بالإنسان. الأمر الذي أنتج عددا من الإحراجات في تلك النماذج والبراديغمات، نظريا وواقعيا، داخل التشكلات الحضارية العالمية المختلفة، مما عزز من سيادة ثقافة الموت والصراع والصدام والنهايات واللامعنى، بدل ثقافة الحياة والتواصل والتعارف والتكامل والمعنى.

فالحوار الذي نعنيه، في هذه المقالة، هو ذلك المبدأ الوجودي والمعرفي والقيمي الأخلاقي، الذي بواسطته تَبْنِي الذات [فردا أو جماعة أو وطن أو حضارة] تصوراتها وتمثلاتها حول ذاتها والعالم المحيط بها، بما يؤهل هذه الذات إلى التفاعل والتواصل الإيجابي والفاعل، تأثيرا وتأثرا، مع هذا العالم. وبهذا المعنى يأخذ الحوار معناه الشامل والبنيوي كأحد أسس ومبادئ الرؤية للعالم، بما تحمله من اعتقادات ومبادئ كلية بانية للفكر والمعرفة بالذات والعالم.

إن هذا المعنى الإجرائي الذي أعطيته لمفهوم الحوار، ينطلق من فرضية أو مسلمة أن الإنسان كائن حواري، وقد بَنَيْتُ هذه الفرضية أو المسلمة على اعتبار الإنسان كائنا عاقلا ومفكرا ولغويا وأخلاقيا، مما يجعله بالضرورة المنطقية كائنا حواريا. إذ لا تكتمل ماهية الإنسان وحقيقته إلا بممارسته لهذه الحوارية بأبعادها الثلاث؛ الحوار والمحاورة والتحاور، والتي بينها طه عبد الرحمن في كتابه أصول الحوار.

وباستقراء آيات القرآن الكريم، وفي إطار بنائيته النصية، نجد أن خاصية الحوارية، تمثل أحد المبادئ الأساسية للرؤية الكونية الحضارية القرآنية للعالم ولمنهجيته المعرفية ولغائيات الدين ومقاصده العليا الحاكمة، كما تمثل أحد أهم الأسس التي قامت عليها الحضارة العربية الإسلامية، في علاقتها بذاتها وبالآخر، لحظة تأسيسها وعنفوانها وأوجها، مما أسهم في بناء ثقافة وحضارة عالمية وكونية بخصائص التعارف والتشارك والتكامل والانفتاح والتواصل والسلام، أي أنها شكلت ملاذاً حضارياً ووجودياً ومعرفياً وأخلاقياً للعالمين. وبذلك يمكن القول أن الثقافة والحضارة العربية الإسلامية كانت ثقافة وحضارة حوار بامتياز، مما أسهم في تحقيق جملة من المقاصد والغايات الوجودية والمعرفية والقيمية الأخلاقية على امتداد تاريخها الطويل.

وبتراجع هذه الخاصية في الواقع الحضاري للمسلمين، بدأ التراجع والتخلف يدب جسم هذه الحضارة، إلى أن تَحَوَّلَ إلى أزمة حضارية شاملة، بما يحمل مفهوم الأزمة من معاني ودلالات الغياب وعدم القدرة على الفعل والإنجاز والتأثير والشهود في الواقع الحضاري العالمي الراهن والمستقبلي، على مستوى الذات، وفي العلاقة مع الآخر الضاغط والمهيمن عالميا على كافة المستويات المعرفية والمنهجية والعلمية والتقنية.

أمام هذا الوضع المأزوم عالميا، وعلى وجه الخصوص داخل دائرة الأمة العربية الإسلامية، باتت الحاجة ماسة إلى ضرورة ممارسة الإصلاح المعرفي والفكري والفلسفي، خاصة على مستوى رؤى العالم والمناهج والبراديغمات المؤسسة للمعرفة في كافة أبعادها وتخصصاتها الطبيعية والإنسانية والدينية الشرعية، ولعل من أهم مداخل هذا الإصلاح الحوار والتواصل داخل الذات العربية الإسلامية، وبينها وبين باقي الذوات الحضارية الأخرى، بما يؤهل هذه الذات وباقي الذوات الحضارية إلى تحقيق التعارف والتشارك والوحدة والسلام الدائم باعتبارها أهم القيم الكونية المطلوب تحقيقها في عالم اليوم. والمتأمل للإنتاج الفكري والفلسفي والديني، في السياقات الحضارية المختلفة، منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى يومنا هذا، وبشكل أخص منذ مطلع الألفية الثالثة، يلحظ حجم ذلك الإنتاج المتعلق بموضوع الحوار والتواصل؛ في شكل مقولات ‘‘حوار الحضارات’’ و‘‘حوار الثقافات’’ و‘‘تحالف الحضارات’’ من جهة، والنقد المعرفي والفلسفي للمقولات الصدامية والصراعية والعدمية كمقولة ‘‘صدام الحضارات’’ لصامويل هانتنغتون و‘‘نهاية التاريخ’’ لفرانسيس فوكوياما.

إن الدعوة إلى الحوار بالمعنى الذي أسلفت، لا ينبغي التعامل معه والتنظير له كآلية تتعلق بالاسترايجيا أو الحسابات الظرفية المرتبطة بالمصالح الزائفة أو بمواقع القوى، بل ينبغي التعامل معه باعتباره قضية وجودية ومعرفية وقيمية أخلاقية، ومن ثم فالإخلال به، وعدم إعطائه المكانة اللائقة به يكون أثره بليغا على الوجود الإنساني والطبيعي على السواء.

أسعى من خلال هذه المقالة، إلى بيان مركزية الخاصية الحوارية ضمن الرؤية الكونية الحضارية القرآنية للعالم ومنهجيته المعرفية وغائيات الدين ومقاصده العليا الحاكمة من جهة، ومن جهة ثانية بيان أهم مقاصد وغائيات الحوارية القرآنية؛ وجوديا ومعرفيا وأخلاقيا، وآثارها وأبعادها الحضارية. وذلك من خلال محورين أساسيين: الأول سأخصصه لبيان مفهوم الرؤية الكونية الحضارية القرآنية للعالم، ومبدئية الحوار ضمن هذه الرؤية. والثاني سأخصصه لبيان أهم مقاصد الحوار وغاياته من منظور تلك الرؤية.

ولتحقيق هذا المسعى سأعتمد منهجا وصفيا تحليليا نقديا، غايته الكشف عن مركزية الخاصية الحوارية ضمن الرؤية الكونية الحضارية القرآنية للعالم، وأهم مقاصده وغاياته الوجودية والمعرفية والأخلاقية والحضارية، وآثار غيابه على ذات المستويات.

إن الإشكال المركزي الذي أروم مناولته في هذه المقالة، هو كالآتي: ما موقع الحوار ضمن الرؤية الكونية الحضارية القرآنية للعالم؟ وما أهم مقاصده وغائياته من منظور هذه الرؤية؟

المحور الأول: الحوار مبدأ أساس من مبادئ الرؤية الكونية الحضارية القرآنية للعالم

بعد هذه القرون من محاولات التقليد والمحاكاة الفاشلة أصبح واضحاً كوضوح الشمس أنه مهما توافرت الوسائل واشتدت المعاناة فإنه لن يتبدل الحال، ولن تستخدم الوسائل، ولن تستقيم الأمور ويعتدل الميزان، إذا لم تكن هناك رؤية كونية حضارية تعطي الإنسان المسلم معنى حقيقياً إيجابياً للوجود، وغايةً وهدفاً دافعاً لهذا الوجود، تكون بمنزلة المحرك والدافع للفعل والعطاء والحركة الإعمارية الإصلاحية.

هنا أدركت أن إشكالية الرؤية التي تحدد الغايات وتوفر الدافع هي الأساس الأول والأكبر لكل فعل وحراك إنساني وحضاري، وما لم يكن هناك رؤية كونية حضارية إيجابية توفر الغاية والدافع، فلن تتحرك الأمة، ولن يتحرك الإنسان، ولن تفيد الآلات والأدوات والوسائل والتهديدات والإرشادات والنصائح، مهما كانت وفيرةً، ومهما كانت جيدةً وفعالةً، مثلها في ذلك مثل آلة مفككةٍ إلى قطعٍ، فبالرغم من أن كل جزء منها غالٍ وثمينٌ، وفي حالة جيدة، نهتم به ونقدره، فإنه لن يؤدي مهمته، ولن يثمر إنتاجاً، إذا لم يوضع في رؤية كيانه الكلي القادر على الإنتاج والحركة. وهنا وجدت أن عليَّ أن أعطي موضوع الرؤية الكونية حقه من العناية والاهتمام، لعل ذلك يفيد في أن تستعيد الأمة دوافعها وغاياتها وحراكها الإسلامي الإعماري الحضاري الخيِّـر، وفي أن تستعيد بذلك قيادتها وريادتها للحضارة الإنسانية، على ضوء رسالتها الحضارية الحياتية الخيـرة المقدسة؛ لتستنقذ ذاتها، وتستنقذ الحضارة والإنسانية من ورائها. على أية حال؛ فإنني في نهاية الجهد والمجاهدة مع قضية الرؤية الكونية الحضارية القرآنية سُعِدْتُ أنه أمكنني الإجابة بشكل واع ومقنع عن عدد من القضايا الأساسية الوجودية التي شَغَلَت البال في فهم الذات، ومعنى هذه الذات، وعلاقات هذه الذات بالله، وعلاقاتها بالآخرين، وبالمبادئ والقيم والمفاهيم؛ التي هي أدوات هذه الرؤية وآلياتها؛ لكي تتحقق وتتجسد في واقع الحياة، لإسعاد الإنسان والإنسانية، وتحقيق السعادة والرضا والطمأنينة للإنسان السوي {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} الفجر27-30، فذلك ولا شك عاقبة أصحاب الرؤى العاملة المهتدية في الدارين.

إذ لكل منظومة حضارية رؤية كونية تخدمها وتفعّلها منهجيةٌ في التفكير، كما أن لكل منهجية مبادئ تهتدي بها وتحدد لها مخرجات هذا الفكر، وكلما كانت هذه المنهجية على شاكلة رؤيتها الحضارية واضحة إيجابية كونية منفتحة تعبر عن جوهر هذه المنظومة الحضارية ورؤيتها الكونية، كانت هذه المنهجية فعَّالة منتجة، ولهذا كان الاهتمام الحضاري والأكاديمي المعاصر بمنهجية التفكير كبيراً ومركزياً؛ لأن منهجية التفكير هي التي تحدد من الناحية العملية فعالية كل منظومة حضارية وطبيعة آثارها الإيجابية أو السلبية على الأمم والشعوب التي تنضوي تحت مظلة تلك المنظومة الحضارية، بل على إسهاماتها في مسيرة الحضارة الإنسانية بوجه عام.

ولأهمية الرؤية الكونية وما يترتب عليها من منهجية فكرية؛ فإنَّه يجب أن تتمتع الرؤية الكونية ومنهجيتها الفكرية بالإيجابية والتواؤم والانضباط؛ لذلك فإنَّه لا بد للدارسين من الوقوف عند ظهور أية سلبية أو تناقض في بناء الرؤية الكونية أو منهجية فكرها؛ لأنَّ أي اختلال ببنيتيهما أو ببنية أي واحدة منهما لا بدَّ أن ينتهي بالأمة إلى السلبية الحضارية وعدم الفاعلية الحياتية بكل آثارها السلبية في تكوين عقلية الأمة وتشويه منظومتها الحضارية؛ لينتهي الأمر – بالضرورة – بالأمة إلى التخلف والانهيار الحضاري.

ولمـّا كانت منهجية التفكير ومبادئها وقيمها ومفاهيمها تؤثر وتتأثر بالرؤية الكونية؛ لأنَّ منهجية التفكير ليست في الحقيقة إلا أدوات لتفعيل الرؤية الكونية الحضارية للأمة، لذلك فإنَّه لا يمكن للمنهجية ولا لمبادئها وما يتعلق بها من قيم ومفاهيم أن تتسق بنيتها وأن تكون فعَّـالة، إذا لم تكن تنبني على رؤية كونية حضارية سليمة البنية واضحة الملامح والقسمات والغايات مستقرة في بناء ضمير الأمة لا تعكرها سلبيات ولا تناقضات، لأنه بقدر ما تتمتع به الرؤية الكونية وبالتالي منهجية فكرها ومبادئ هذه المنهجية، من سلامة المنطلقات ووضوح الغايات، وتناسق البناء، تصبح تلك الرؤية ومنهجية فكرها مصدر قوة الدافعية والسلامة النفسية والاجتماعية في كيان الأمة، التي هي أساس ما تحققه الأمة ومنهجية فكرها من النجاحات والإيجابيات والإبداعات الإنسانية الحضارية.

لذلك فإن الحديث عن الرؤية الكونية الحضارية، وتجليتها، وإصلاح بنيتها، يجب أن يأتي أولاً وقبل أن نتحدث عن مبادئ منهجية التفكير عامةً والإسلامية منها خاصة، وقبل أن نعدد هذه المبادئ، بل وقبل أن نتعرف على أبعادها، لهذا فإننا نبدأ بالتعرف على الرؤية الكونية الحضارية الإسلامية التي هي بمنزلة الجذور التي تنبثق منها هذه المبادئ والمفاهيم والقيم، والتي تحدد طبيعتها، وتمثل مرجعيتها والغايات والمقاصد الكبرى التي تعمل على تجسيدها، والتي يجب أن تنعكس بانضباط وبأسلوب علمي مقنع على بنيتها، ثم على استخداماتها ومخرجاتها.

إن قلة الاهتمام بالتعرف على الرؤية الكونية الحضارية للأمة؛ التي هي بمنزلة الأرض والتربة التي تنبثق منها المبادئ والمفاهيم والقيم التي هي في الحقيقة ليست إلا بمنزلة الزهرات التي تعطِي بها جذور الأشجار ما يتفتق عن زهراتها من ثمار، أو التي هي بمنزلة الأدوات والآليات التي تحقق بها الآلة منافعها، ومن ثم فإن عدم الوعي ببنية الرؤية الكونية الإسلامية وما تعبر عنه من المنطلقات والمبادئ والقيم والمفاهيم التي تجسدها منهجية الفكر، وما بينها من علاقات؛ فإنه يصعب كشف ما يكون قد لحق بمنهجية الفكر من سوء الفهم والتشوهات وكل ذلك ولا شك يعد من أهم الأسباب التي أدت وتؤدي إلى جمود المنهجية، وإلى هامشية استخداماتها ومنتجاتها الفكرية، وإلى عدم فاعلية المبادئ والمفاهيم والقيم المنبثقة منها في واقع فكر الأمة وواقع حياتها حياة الأمة، على الرغم من وفرة تراث الأمة وأدبياتها من هذه الأدوات والآليات المنهجية، ومن هذه المبادئ والقيم والمفاهيم الحضارية.

ولما كانت جذور منهجية فكر الأمم الإسلامية والتربة التي تنبت منها مفاهيمها وقيمها إنما هي تنبثق -ولا شك- من رؤية الأمة العقدية القرآنية الكونية، أو ما يدعى “رؤية العالم” لأنها هي التي تحدد فهم الإنسان فرداً وأمةً وجنساً لذواتهم، ولمعنى وجودهم، وللغاية من هذا الوجود، وعلاقاته بالذات وبالآخر وبالعالم وبالكون في كل أبعاد هذا الوجود، ومآل هذا الوجود، فإن هذه الرؤية هي الجذور والتربة والمنبع الذي يمثل القوة الدافعة العقدية التي تحدد طبيعة القوة الوجدانية المحركة للإنسان وللمجتمع، والتي تحدد توجهاتهم وفاعليتهم وترسم وجهة مسيرتهم في الحياة، ومدى قوة هذه المسيرة الإنسانية وفاعليتها الإعمارية الحضارية في الوجود والتاريخ.

ولذلك كلما كانت هذه الرؤية واضحة جلية وإيجابية وسهلة الفهم والتمثل والإدراك، وكلما كانت بعيدة عن التناقض وعن الخرافية والأوهام وكلما كانت بعيدة عن السفسطة والتعقيد وبعيدة عن الإغراق في لغة التجريد والتنظير وفرض المسلمات القهرية التي تخفي العجز والتناقض، كلما مثَّـلت هذه الرؤية قوةً ضميريةً عقديةً تربويةً فاعلةً محركةً للفرد والمجتمع، ومفعلة لمنهجية فكر المجتمع وكل ما لدى الفرد والمجتمع من أدوات الفعل والحركة وضوابطها؛ المتمثلة في مبادئ منهجية فكره، وما تنطوي عليه هذه المنهجية من مفاهيم وقيم وضوابط.

أما إذا كانت الرؤية تجريدية سلبية خرافية فإن ثروة الأمة من المبادئ والمفاهيم والقيم –والتي هي أدوات تفعيل الرؤية الكونية وضوابطها- تظل كلماتٍ رنانة جوفاء تُـرَدَّدُ في المعابد والمحافل، وتبقى عزيزة مقدسة على الأرفف وفي بطون الكتب، لا تعبر إلا عن مجرد أحلام ومأثورات ومواعظ لا تساوي في واقع الحياة والممارسة أكثر من حبر على ورق، بحيث لا تكاد ترى لها أثرًا في حياة الأفراد، ولا في أداء المجتمعات، ولا في منهج تفكيرهم، ولا في فاعلية حركتهم وسلامة تعاملاتهم، مثلها في ذلك مثل قطع الآلة المفككة المتناثرة على الأرفف، فهي برغم ما تحمله كل قطعة من قطعها من قيمة كامنة فيها، تظل في الواقع مجرد قطع مفككة ليس لها قيمة فعلية إنتاجية ما لم تجمعها رؤية وهيكلية كلية شاملة تجعل من تلك القطع آلة فعَّـالة منتجة، تفعل تلك القطع الثمينة المتناثرة، وتحولها إلى أداة وآلة منتجة.

وهكذا فإن ما نرى ونلمس في حال الأمة المسلمة من عدم الوعي المستنير، وضعف الاهتمام العلمي المتعمق بالرؤية الكلية الكونية الإسلامية أو “رؤية العالم الإسلامي” وضبابية هذه الرؤية وتسطيح فهمها، وسلبية هذا الفهم وتشوهه ومحدوديته، فإن كل ذلك يُعَدُّ من أهم الأسباب الأساسية العميقة التي تسببت، وما تزال، والتي تفسر ما تعانيه الأمة الإسلامية وشعوبها وأفرادها، وبشكل متعمق ومتسارع في عصورها المتأخرة حتى اليوم من تيه وسلبية وتدهور وتفكك وتخلف.

الملف الأول الذي يجب أن يُفْتَحَ من بين هذه الملفات هو ملف الرؤية الإسلامية، وحقيقة ما أصاب هذه الرؤية الكونية؛ لأنها هي القاعدة والمنطلق الذي يمثل الأساس العقدي والدافع الفكري والوجداني المحرك لدى الإنسان، وما لم يدركوا الأسباب التي أدت إلى غيمومة رؤية الأمة الكونية وتشوهاتها وسلبيتها، فلن يمكنهم أن يسهموا في استعادة الأمة لرؤيتها الكونية الحضارية؛ بإيجابياتها وفاعليتها وقوتها الدافعة المحركة في حياة الفرد والأمة، وفي تفعيل ثروات الأمة وأدوات حركتها وعلاقاتها من المبادئ والمفاهيم والقيم؛ بما يحقق ذات الإنسان المسلم ويحقق رسالة الإسلام ورؤيته الكونية الروحانية الإعمارية؛ لأن هذه الرؤية، وتبعاً لذلك منهجية فكرها هي القاعدة الأساس من البناء، ومن الجذور المغذية للحركة وللنمو، والتي هي مصدر طاقة الأزهار لنماء الأشجار.

وهكذا فإن السؤال المهم الذي كان يجب منذ بداية إرهاصات صحوة الأمة أن نلتفت إليه، وأن نوليه العناية الفائقة، وألا نمرَّ به مرور الكرام، فلا يقرَّ لنا قرار قبل أن نجيب عنه الإجابة الشافية أولاً، حتى قبل أن نتحدث عن تراث الأمة من المبادئ والقيم والمفاهيم، إن هذا السؤال هو السؤال المتعلق بماهية الرؤية الكونية للأمة الإسلامية ومنظومتها الحضارية، ولماذا تشوَّهت وهُمِّـشَتْ؟ وكيف؟  كيف تشوهت الرؤية الكلية الكونية الإسلامية؟

أما رؤية “العالم” أو “الرؤية الكونية القرآنية الحضارية الإسلامية” فما كان لها أن تحقق ما حققت في عهودها السالفة إلا لأنها كانت رؤية إيجابية تتسم بالدافعية و”تحقيق الذات” بأبعادها الفردية والجماعية؛ فيتفوّق فيها دافع الحب والرغبة والإيجابية والاقتناع {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِالبقرة 165 على مشاعر التخويف والترهيب والسلبية؛ وبذلك يحقق الإنسان في مشروع الحياة ذاتَه ومعنى وجوده، وذلك من خلال الفعل والإعمار الحضاري الخيِّـر، والحماسة للأداء الحياتي في أبعاده الفردية والجماعية، المادية والروحية، أي أن الإنسانية في رؤية ذلك الجيل القرآنية الإعمارية الحضارية، تستجيب لدوافعها الفطرية الروحية وحاجاتها المادية، لا بدوافع النزعات المادية الآنية الأنانية العدوانية الحيوانية “الأمارة بالسوء”، القائمة على القهر والتظالم، حيث “الحق للقوة”، ولكن تستجيب لفطرتها وحاجتها المادية بالأسلوب والوسائل والدوافع والنزعات الفطرية الضميرية الروحية السوية، القائمة على قيم العدل والإحسان والإخاء والسلام بأشمل المعاني، وحيث “القوة للحق”؛ بذلك يحقق الإنسان ذاته ورضا خالقه سوياً فطرياً، ويستجيب بشكل حضاري إعماريٍّ خيرٍ وبناء؛ لتلبية حاجاته الروحية والمادية، وبناء مجتمعاته الحضارية، يقول سبحانه وتعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم: 30، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الرعد11، {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } الأعراف31، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِالأعراف32، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} مريم96، {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} البروج13-14.

ومن المهم أن ندرك معنى غلبة “الأعراب” على الحياة السياسية للأمة الناشئة، وسيطرة السياسي على الديني، وتوظيفه لمصالحه الخاصة، وما ينجم عن ذلك من حتمية الاستبداد والفساد، وهو ما عبَّـر عن كثير من تنبؤات الرسول صلى الله عليه وسلم عما سيكون بعده من انحرافاتٍ وفتنٍ، وما سيكون لذلك من أثر خطير على مسيرة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للأمة، وأهم من ذلك تأثيرها الجوهري على الحياة الفكرية وعلى الرؤية الكونية الإسلامية.

وظهرت الآثار السلبية لغلبة قبائل “الأعراب” على الحياة السياسة الإسلامية بانهيار الخلافة الراشدة وقيام المُلك الأموي، كما كان من آثار ما بقي عالقاً بهم من البدائية والمفاهيم العرقية الجاهلية، سببًا في بدء غبش الرؤية الكونية الحضارية القرآنية التي تجسدت روعتها في أداء جيل “الأصحاب” من “المهاجرين” و”الأنصار” لتحل تدريجيًا محلها رؤية أعرابية “جل مصدرها خطابٌ خليطٌ أملته خاصِّيَّة أحوال قبائل الأعراب.

ومجمل الوصف النبوي لقسمات ذلك العهد، الذي قضى فيه لاحقاً قبائل “الأعراب” وقيادة الأمويين فعلاً على “نظام الخلافة الراشدة”، والذي حول تلك الروح القرآنية، وذلك النظام الشوري الراشد، إلى “نظام ملك وراثي مستبد عضوض” استبيحت فيه “المدينة المنورة” وهدمت فيه الكعبة، وقتل فيه الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، وأُبعد فيه ورثة جيل “الأصحاب” ومدرسة نهج الخلافة “الراشدة”، وأُلزموا المساجد بعيداً عن الحياة السياسية العامة، وقد حوَّلهم ذلك إلى نظريين مَدْرَسِيين، وحصر دَوْرَهُمْ –إلى حد بعيد- في خاصة شؤون الذكر، وشؤون الفرد والأسرة، وفي فتاوى عقود البيوع والمعاملات الفردية؛ وهذا أدى في واقع الحياة ونظامها السياسي إلى تسرب الانكفاء والغبش على الرؤية الكونية الإسلامية وتشوهها في كثير من جوانبها، وساعد ذلك بدوره تدريجيًا على توظيف الدين لمصلحة الحكام وأتباعهم، وعلى تدهور المؤسسات العامة وعلى تمكين الاستبداد، وتفاقم الفساد ومظالمه في الحياة العامة وفي بناء المجتمع بكل ألوانه: السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وبهذا الإرث القبلي الجاهلي المبكر الموبوء، وبمواصلة المسيرة التاريخية للأمة الإسلامية والمجتمع المسلم، ودخول كثير من الشعوب إلى مجتمع أمة الإسلام بما خالط ثقافاتها ورؤيتها وإرثها الحضاري من موروثات الحضارات السالفة التي أفلست أو ماتت وأدت مهمتها في تاريخ الحضارة الإنسانية، ولاسيما الحضارة الإغريقية الصورية (المنطق) الأسطورية الرؤية (العقائد)، فازداد بذلك التخبط الفكري العقائدي في كثير من جوانبه، بمضي الوقت، وأدى إلى مزيد من غبش الرؤية الكونية الإسلامية، وتشوهها، وهذا بدوره أدى إلى مزيد من  ضعف روح الأمة الإسلامية، وبدا ذلك واضحاً مع نهايات الحكم الأموي، في تمزق رقعة نظام الأمة السياسي، وتراجع منطلقاتها؛ التي جاءت وتنزلت في أصلها الصافي لتجديد الحضارة الإنسانية، ودفع عجلتها إلى الأمام برؤية الاستخلاف، ومبدأ التوحيد، وغائية الخلق، وسننية الفطرة، وأخلاقية الأداء، والتزام مبدأ العدل والإخاء والشورى والحرية، والمسؤولية، وسعي التسخير والإعمار.

وهنا فإن من المهم أن ندرك أنه لا يغير من حقيقة ذلك التراجع الاستخلافي الروحي التراكم الحضاري المادي الذي تحقق بمضي الوقت، من موروثات الشعوب من أعمال المهن والحرف، ولذلك لم يكن من الممكن، بمضي الوقت، أن تُخْفِي واجهةُ التراكم المادي، ظاهرةَ التراجع الروحي النوعي الذي لحق الأداء الإسلامي الحضاري، وتكلُّـس نظام مجتمع الأمة، وفساد ممارساته، وانهيار مؤسساته، إلى أن بلغ التشوه العقدي والفكري والحضاري حدًا بعيدًا من التشوه والسلبية، ومن تفشي الأمراض الحضارية الخطيرة من الخرافة والشعوذة، وبتأثير اكتساب مشروعيتها من محرف النصوص ومجتزئها وموضوعها، ومن تسرب الخرافات الإسرائيلية والغنوصيات الباطنية؛ ليتنامى غبش الرؤية الكونية الإسلامية حتى أعتمت رؤية الأمة وتلاشت الغائية والدافعية في روحها لتتوقف عجلة التقدم والإبداع والإعمار، وليتناهى الضعف، ولتفقد بذلك الأمة في فكرها ووجدانها مقومات الإيجابية الاستخلافية الحضارية؛ فانهار عند ذلك البنيان الحضاري وانهدم العمران، وخيمت الخرافة والشعوذة، واختلطت الخطابات، وعلا خطاب القهر والترهيب، وعم التواكل والعجز، واستشرى الصراع والتفكك والتخلف وانهيار المؤسسات، إلى الحد الذي رأينا منذ قرون عديدة، وما نزال نرى حتى اليوم، من حال التدهور المؤسف في حال الأمة الإسلامية حتى ما عادت أنظمتها المستبدة الفاسدة المهترئة المتكلسة على امتداد الأمة الإسلامية من المحيط إلى المحيط، تستطيع حماية شعوبها من الاستغلال والقهر والسحق.

إننا لو أحسنا التأمل في مسيرة الفكر الإسلامي التاريخية لوجدنا أنه كان لكل تلك العوامل مجتمعة، وخاصة صورية منطق الفكر الإغريقي وأسطورية عقائده وفلسفته، والتي كان يجب التنبه لها، للإفادة من الجوانب الإيجابية فيها، وتلافي الجوانب السلبية فيها، على ضوء منظومة الأمة العقائدية القرآنية الحضارية، فكان لتلك الغفلة في التعامل مع ذلك الفكر الإغريقي والحضارة الإغريقية أسوأ الأثر على تلك المسيرة ووجهتها العقائدية والفكرية والحضارية؛ لتستنزف تلك الأخطاء طاقة العقل المسلم باستخدامه وتوظيفه سياسيًا في سفسطات عقدية غيبية وهمية، ولتصرفه عن مهمته الحضارية التسخيرية الإبداعية الحياتية الإعمارية، وذلك فيما عرف بقضايا خلق القرآن الكريم وما شاكلها من أمور الغيب وقضايا القضاء والقدر وسواها من عقيم قضايا علوم الكلام والفلسفة، وغير ذلك من قضايا لا تتعلق بشؤون إدارة حياة الإنسان، ولا نفع يرجى من ورائها، واستنزفت في أوارها عقول العلماء والفلاسفة من علماء السنة والاعتزال، وعلماء الكلام والتصوف والتشيع، وفلسفات الإلهيات وضلالات الغنوصيات والخرافيات؛ فكان ذلك لسوء الحظ سوء استثمار وسوء استخدام للعقل المسلم وصرفه عن غاية فطرته السوية في خدمة الحياة، ووضعه في غير موضعه.

المحور الثاني: مقاصد  الحوار وغائياته من منظور الرؤية الكونية الحضارية القرآنية للعالم

للحوار في الواقع أهدافا وايجابيات عديدة في حياة البشر لكونها دعوة ربانية من الله سبحانه وتعالى لأنبيائه وعباده جميعا، وإذا كان الله عز وجل قد حاور إبليس وهو الذي خالف أمره عندما طلب منه عز وجل أن يسجد لآدم وعصى ربه فذلك حكمة بليغة للبشرية جميعها في مسألة الحوار وضروراته. من هنا، لاشك أن أهداف الحوار تتشكل في ثمراته التي تعود بالنفع على البشرية، فالحوار دعوة جاءت من خالق البشر وهو العارف بقلوبهم وعقولهم ونفسياتهم وقد أثمرت الكثير من الحوارات عبر التاريخ الإنساني في مجال الدعوة والتربية والثقافة في إجلاء الكثير من الحقائق والتبصير بها والاهتداء للحق والصواب، وإيجاد المؤمن الصالح والمتواضع والمتوازن في حياته.

وأوجدت المثقف المنفتح المبدع والمعرفة الحقة والكلمة الصادقة النافعة، وهناك الكثير من هذه الأهداف والثمرات التي يحققها الحوار:

الحوار في المجال الدعوي: القرآن الكريم والسنة النبوية يمتلئان بالحوارات الإيجابية، وذلك يتجلى في دعوة الرسل مع أقوامهم، وكيف كان الحوار هو الدافع إلى عودة الكثيرين منهم إلى الحق والاهتداء إلى الإيمان فالدعوة في الأساس حوار، والقرآن الكريم كما يقول الكثيرون من أهل العلم كتاب حوار بين الحق والباطل، بين أهل الإيمان وأهل الضلال. وهذا هو النموذج الذي يجب أن يحتذى به حتى نحقق الهدف من الحوار وهو الهداية للتي هي أقوم واتباع سبيل الرشد.

الحوار في المجال التربوي والتعليمي: إذا استقرينا الكثير من آيات القرآن الكريم والصور المتعددة للحوار: بين الأنبياء وأممهم، أو بين أهل الجنة وأهل النار، بعضهم مع بعض، أو بين أهل الجنة والنار وبين أصحاب الأعراف، وما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم وما أجراه من حوارات، وما حكاه لنا من صور المناجاة بين العبد وربه عند قراءة القرآن لخرجنا بمعان متعددة مختلفة للحوار القرآني والنبوي. فهي ليست على نمط واحد ولكنها من حيث المغزى والمرمى تؤدي أهدافا مشتركة. وهي في أصلها تأسيس للحوار والاختلاف بمضامينه العديدة ووفق القضايا المطروحة. فهذه الآيات هي التي تربي أسلوب الحوار والرد على المخالفين والحجة والبرهان. هذا وللحوار على المستوى التربوي والتعليمي خاصة أهداف وفوائد غاية في الأهمية نذكر منها: -صقل مهارة التعبير والتخاطب اللغوي، وبتعبير آخر إتقان فنون القول -اكتساب القدرة على تجميع الأفكار وترتيبها واستدعائها عند الحاجة -اكتساب مهارة استخدام الأدلة والحجج -تنمية مهارات النقد والتحليل والتفسير والتعليل والربط والمقارنة والاستنباط والاستنتاج -جعل عملية التعلم أكثر رسوخا -تعميق النظر في دراسة القضايا -قبول الرأي الآخر بالتمرس على تنظيم الاختلاف والتأدب بآدابه -اكتساب فن الإنصات والاستماع- امتلاك القدرة على التأثير والإقناع -إتاحة فرصة التعلم من الآخرين -القدرة على التواصل والتفاعل الإنساني- اكتساب القدرة على الإبداع وإنتاج المعرفة وتوظيفها…

الحوار في المجال الثقافي والحضاري والدينيالثقافة هي الوعاء الذي تصب فيه كل التجارب والخبرات وطرائق العيش والمخزون الفكري والعطاء الإبداعي. ولذلك فإن الثقافة من أبرز مكونات حركة الحياة في المجتمعات الإنسانية بوصفها الذخيرة المشتركة لأي أمة من الأمم، تنتقل بها من جيل إلى جيل عبر تاريخ طويل من الأفكار والعادات والسلوكيات والمعتقدات.

إن ما يجعل الحوار الثقافي يحقق أهدافه، ويكسبه إيجابياته وبعده الإنساني القويم، هو التعدد الثقافي والقبول به. فالتعدد في الثقافات البشرية عبارة عن تعدد في المسارات المختلفة. فثقافة التنوع والتفاعل هي الهدف ونتيجة للحوار في مقتضياته العديدة، وكثمرة للقبول بالآخر ومحاورته بهدف توطيد جسور التواصل. وفي غياب الحوار الثقافي نفتقد إيجابياته وأهدافه وثمراته الكبرى. وتثمر في مقابله ثقافة الاستبداد، التي  تقود المجتمع إلى حالة سلبية من عدم التوازن وعدم الترابط، وبالتالي وضع المجتمع في حالة صدام وصراع تقابلي ضدي. ومن أهداف حوار الحضارات أنه آلية لتبادل العلم وتبادل المعرفة للوصول إلى حلولها المحتملة. ثم الجمع بين الحضارات المختلفة على أساس أرضية مشتركة للتفاهم على مستوى الشعوب وتتعدد أهداف الحوار ومنها: التعارف التواصل والتفاعل والاحتكاك كما يعتبر الحوار وسيلة أساسية لتجنب الصراعات.

ويتحقق عبر المجال الديني ويتجلى في الحوار بين الإسلام وباقي الديانات الأخرى في المجال السياسي بين مختلف التيارات السياسية. وفي المجال الاقتصادي وذلك في التعاون الاقتصادي بين الدول في مختلف الأنشطة ويشير سليم العوا على أن الحوار مطلب إسلامي عبر عنه مجموعة من المفكرين الإسلاميين، ولا يمكن أن يتحقق ويحقق أهدافه إذا لم تتوفر له شروطه والتي من أهمها الاعتراف بالآخر. وللحوار بين الأديان المختلفة هدف واحد وهو أن ييسر للناس العيش في مجتمعات مختلفة الأديان عيشا تسود فيه الأخوة الإنسانية.

وعن نماذج من المفكرين الإسلاميين الذين تكلموا في الحوار بين الأديان، نجد أن  ابن حزم الأندلسي حينما انتقد الكتاب المقدس لم يبن انتقاده على مجرد هوى أو ميول أو نزعة وإنما انتقده على أساس التفكير والمنطق السليم، ولا يمكن أن ننكر ما فعله ابن  البيروني  فقد دعا إلى ضرورة دراسة الآخر في أصوله لا فروعه، ولقد قال كلمة مشهورة: أنا سأذهب إلى الهند وأتعلم اللغة وأتتلمذ على أيدي رجال الدين والكهنة متعاطفا معهم في دينهم حتى أفهم جوهر هذا الدين وأحكم عليهم [الانفتاح على الآخر بغض النظر عن المعتقد].

ومن خلال هذا نقول أن المسلمين اهتموا غاية الاهتمام بدراسة الأديان السماوية وغير السماوية، وبحثوا في معتقداتهم، وفي النسق الفلسفي والمعرفي والاجتماعي والسياسي للآخر، وأما الغرب فلم يعرف الحوار إلا في ق 19م. فعلم دراسة الأديان علم قديم في الدائرة الإسلامية. وفي هذا الصدد يقول الشهرستاني “اعلم أن العرب في الجاهلية كانت على ثلاثة أنواع من العلوم: علم الأنساب والتواريخ والأديان”.

وكما ورد في رسائل إخوان الصفاء “واعلم يا أخي أن العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان”. وفي هذا إشارة واضحة إلى أهمية هذا العلم عند المسلمين وأن جل علمائهم خصصوا له مبحثا خاصا أمثال البيروني، ابن تيمية، ابن القيم، الغزالي…

فالبيروني قد برز في هذا العلم في كتابه الآراء الباقية من القرون الخالية. وفيه حضارات ما قبل الإسلام، كما أنه كتب موسوعة عن ثقافة جنوب آسيا وكان له اهتمام خاص بالهند، ويعد الشهرستاني من أشهر علماء تاريخ الأديان وأكثرهم موضوعية، ويعتبر كتاب الفصل في “الأهواء والملل والنحل” لابن حزم من أهم الكتب الحوارية مع أهل الأديان، وكتاب “الجواب الصحيح لمن بدل الدين المسيح” لابن تيمية.

فهذا العلم من المؤلفات التي تركها المسلمون الأوائل ولكن تعلمها علماء النصرانية في الأندلس وهذا لم يعرفه  الغرب إلا في ق19م، إذن فهو ابتكار البنية الإسلامية في الحضارة الأولى.

وفي هذا الإطار، ثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها لتحديد أهداف الحوار وهي، أن الحوار وسيلة موصلة للحقيقة، التي تحمل في طياتها وظيفة ذات أبعاد ودلالات سامية، تنطلق من مفهوم واحد هو العبودية لله سبحانه وتعالى. فالإسلام يرى في فتح مجال الحوار بين البشر بدل القطيعة والجفاء والتباعد، هدفا ساميا للحفاظ على مفهوم التعبد، من خلال إشاعة المثل العليا للمجتمع المسلم لأن في هذه المثل نتاج هذا الدين، وامتداد للتاريخ واستمرار الخير للإنسانية وعلاقات الشعوب والأفراد، قال تعالى: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين﴾ يوسف 108. فالآية الكريمة تؤكد على أن منهج الدعوة إلى الله لا ينفك عن وجود طرفين، لأن الدعوة لا توجه للذات وإنما للآخر، فهي أسلوب حواري يتطلب من المحاور التزود بالإدراك والتسلح بالمعرفة وإثبات بالحجة لإيصال وتبليغ الحقيقة الإلهية لمن يحاوره.

والحوار لا يعارض النقد وإنما يؤسس للمعرفة المتبادلة العميقة، التي تجعل النقد بناء وبعيدا علن الإقصاء والإلغاء. فالنقد يساعد على طرح رؤى وأفكار وصيغ وتساؤلات تفعل للحوار، وتدفع الجميع نحو المزيد من التدبر والتفكر واستخدام الأدوات المعرفية قبل دحض المقولات ورد الحجج وكشف الانحرافات.

وبهذا، فإن الحوار والنقد يتكاملان فلا نقد بناء بدون حوارات مستمرة ومتواصلة تتجه إلى تبديد الجهل المتبادل وتعميق أسباب الفهم والإدراك والمعرفة وقد ذكر المولى عز وجل ذلك في قوله تعالى: ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة﴾ الأنفال 42.

فالطريق إلى الإيمان يكون بالنظر والتفكر والاعتبار والوعي والبحث والحوار والمناظرة، وليس بالتعصب أو الانقياد الأعمى للأهواء الشخصية والنزاعات الذاتية التي نبذت أسباب وسائل المعرفة الحقة. لذلك فإن مفهوم الحوار ينطوي على قدر كبير من المراهنة على تأسيس واقع حياة اجتماعية إنسانية تجسد عالمية الإسلام عمليا، فالمسلم الذي لا يحسن الحوار مع غيره المختلف أو المغاير المأمور بدعوته ومجادلته بالتي هي أحسن، لن يستطيع أن يطور علاقاته وينمي أفكاره وأنماط إنتاجه مع المختلفين معه، وذلك لأنه يفتقد للقدرة المؤهلة لترتيب علاقاته مع كل الدوائر المحيطة به. مما يجعله فاقدا للآليات اللازمة لتنمية وتطوير سبل التعاون بينه وبين نظرائه على مستوى الفكر والمعرفة والممارسة.

يقول الشيخ محمد الغزالي: “أفسد شيء للأديان غرور أصحابها، إذ بحسب أحدهم أن انتماءه المجرد لدين ما قد ملكه مفاتيح السماء وجعله الوارث الأوحد للجنة. ومن ثم فإن صاحب هذا التدين يتوسل إلى أغراضه بما يتاح من أسباب. بغض النظر عن قيمتها الأخلاقية”، وهذا على عكس قيم ومبادئ الدين التي ترفض الغرور في النفس الإنسانية وتعده افتراء وكذبا ﴿وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون﴾ آل عمران 24.

فاعتقاد الإنسان بأحقية دينه وملته أو مذهبه، لا يخول له عفاف حق ممارسة التعالي على الغير والاستهانة به وانتهاك حقوقه والإساءة له، لذا ينبغي التمييز بين الاعتقاد بعلو المبادئ والقيم الإلهية وبين الاعتقاد بعلو الذات وقداسة النفس، والاختلافات المذهبية والقبلية والعرقية والدينية لا تبرر بأي شكل من الأشكال مفهوم الاستعلاء والتعدي على حقوق الآخرين.

إن القناعات الدينية كلها محل احترام وتقدير، والاختلاف في الفكر والانتماء لا يقود إلى إقصاء وإلغاء الآخر، خاصة وأننا مأمورون دينيا باحترام الآخرين وممارسة العدل تجاههم والإحسان إليهم طبقا لقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾ المائدة 8. والعدل يفوق التسامح، فهو ينطوي على موقف إيجابي تجاه الغير في تعددية خلاقة، ثم إن التوجيهات الإسلامية تؤكد على ضرورة تعامل الإنسان مع الآخرين وفق مقتضيات العدالة ﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾ فصلت 34.

فالكراهية لا توفر الاستقرار الاجتماعي، والإكراه يقود إلى المزيد من الغلو، ولا يقود إلى تغيير حقائق انتماءات المجتمع، لكن التعامل الإيجابي مع الآخرين هو الكفيل بامتصاص الأحقاد النفسية واستيعاب أسباب تعصبهم، فتتحول من جراء التعامل الأخلاقي إلى معرفة متبادلة قائمة على الاحترام العميق ونبذ كل أشكال العنف، ومن ثم فإن التنوع الاجتماعي والفكري والمذهبي حقيقة إنسانية وتاريخية، ونحن بحاجة إلى رؤية حضارية جديدة للتعامل مع هذه الحقيقة، بما يؤدي إلى توظيف هذا التنوع في سياق إثراء مفهوم وحدة الأمة الإسلامية وتعميق خيار التعارف الإنساني مع أمم وشعوب العالم على قاعدة المبادئ والقيم المشتركة.

إن الله تعالى عندما أقر مبدأ التعارف في قوله تعالى:﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ الحجرات 13، أراد سبحانه وتعالى ترسيخ مبدأ الحوار كخيار وبعد استراتيجي إسلامي -إذا صح التعبير- فقال ‘‘لتعارفوا’’ أي لتتحاوروا وليفهم بعضكم بعضا في الفكر والدين والثقافة والتشريع والنظم والأعراف والعادات، من خلال التزام منهج الحوار، بدءا من أصغر الدوائر الفكرية والمجتمعية إلى أعلاها في مستوى التعارف وبناء أواصر العلاقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الشعوب المختلفة الأديان والمذاهب والملل والنحل.

وبذلك نخلص إلى أن التعارف “فعل معرفي وسلوك فكري حضاري متنوع، يقوم على أساس معيار الحقيقة ومقياسها العام كهدف شامل يغني مسيرة الإنسان التاريخية والثقافية والحضارية، من خلال عمق انفتاحها على الإنتاجات الفكرية وتفاعلها مع التجارب الحضارية الأخرى”.

 خاتمة: المقاصد العامة للحوار

إن أي حوار بصرف النظر عن طبيعة الأطراف المتحاورة، ينبغي تحقيق مقاصد وأهداف عامة وهي:

    • أولاً: التعارف: وهو تلك المعرفة الأولية العامة بالطرف المحاور.
    • ثانياً: التفاهم والتواصل والتعايش: بحيث يؤدي الحوار إلى فهم كل طرف وجهة نظر الطرف الآخر واحترام وجهة نظره تلك مهما كانت مخالفة أو موافقة، هذا الاحترام الذي يبني جسرا للتواصل والتعايش في ظل الاختلاف ويقطع دابر الفرقة والتدابر والتنافر.
    • ثالثاً: التنسيق: وهي مرحلة متقدمة نسبيا في درب الحوار، بما هو عمل مشترك تتضافر فيه الجهود من إنجاز مهام يتضح من خلال الحوار أنها مهام مشتركة ومتفق عليها بين الطرفين المتحاورين أو الأطراف المتحاورة.
  • رابعاً: التوحد والانسجام: وهو الهدف الأسمى للحوار حيث يتعين الخروج من الخلاف إلى التوحيد والانسجام في الرؤى والتنزيلات أو التطبيقات العملية لها، ومعلوم ما في ذلك من توفير للجهد وربح للوقت ودعم للقوة والتنمية في مواجهة الضعف والتخلف.

*نقلًا عن مجلة ” حكمة “.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى