الكشف والشهود في علم العرفان
الكشف والشهود في علم العرفان
عندما يتقدّم العارف في مسير السير والسلوك، تشرق الأنوار الإلهية في قلبه وقواه الإدراكية، وتفتح له أبواب المشاهدات والكشوفات، فيصل إلى مستوى أعلى من الإدراك، ويرى حقائق لم تكن قد انكشفت له من قبل.
ترافق الكشوفات السالك طوال حركته السلوكية، وتتفاوت باختلاف قربه وبعده من المقصد، وباختلاف استعداده الروحي.
تعريف الكشف:
يتحدّث القيصري في شرحه على فصوص الحكم حول معنى الكشف، فيقول: “اعلم أنّ الكشف لغةً رفع الحجاب. يقال: كشفت المرأة وجهها, أي رفعت نقابها. واصطلاحاً هو الاطّلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية”1.
ويفهم من خلال هذا التعريف:
1- أنّ الكشف نوع من الإدراك والعلم.
2- أنّ الكشف هو من الإدراكات والعلوم الشهودية والحضورية.
3- أنّ الكشف عن الحقائق يحصل من خلال إزاحة الحجب من أمام السالك.
أقسام المكاشفات:
قسّم القيصري المكاشفات نوعين: صوري ومعنوي. ثمّ شرح أشكال كلّ واحد من النوعين:
1- الكشف الصوري:
“وهو ما يحصل في عالم المثال عن طريق الحواس الخمس…”2. ولتوضيح المقصود، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العرفاء يقسّمون العوالم إلى ثلاثة، هي: عالم المادة، عالم المثال، وعالم التجرّد. وأنّ للإنسان أيضاً مراتب ثلاث: الحسّ والمثال، والتجرّد، حيث يمكنه بواسطتها إدراك موجودات العالم والتعاطي معها. وعالم المثال هو عالم يتوسّط عالم المادّة وعالم التجرّد التام، والأحلام والمنامات التي يراها الإنسان أثناء نومه هي درجة متدنّية منه.
العرفاء يعتقدون أنّ للإنسان، وبالإضافة إلى حواسه الخمس الظاهرية: الباصرة، الذائقة، الشامة، اللامسة، وحاسة السماع، حواساً خمساً باطنيةً أخرى بموازاتها، هي باطن هذه الحواس الظاهرية، بل وتكون الباطنية أساس الظاهرية ومنشأها. فإذا أدرك الإنسان بالحواس الظاهرية، كانت معرفته محصورة بعالم المادّة، وإذا ادرك بالحواس الباطنية، أمكنه الاطّلاع على ما هو فوق عالم المادّة. والإنسان السالك، ونتيجة جهوده في طريق الوصول إلى القرب الإلهي، يدرك بحواسه الباطنية، الحقائق الموجودة في عالم المثال.
وهذا الكشف الصوري أو المثالي قد يحصل في اليقظة، وقد يحصل في النوم. وفي كلّ الأحوال، فهو متعلّق بالحواس الخمسة, أي الباصرة، الذائقة، الشامة، اللامسة، وحاسة السماع، ولكن على المستوى الباطني لا الظاهري. وفيما يأتي نذكر نموذجاً واحداً لذلك. عن الإمام الصادق عليه السلام: “… مازلت أكرر آيات القرآن حتى بلغت إلى حال كأنّني سمعت مشافهة ممّن أنزلها على المكاشفة والعيان، فلم تعمّ القوة البشرية بمكاشفة الجلالة الإلهية…”3.
2- الكشف المعنوي:
الكشف المعنوي عبارة عن: “ظهور المعاني الغيبية والحقائق العينية”4، وهو كشف بعيد عن عالم المادّة والحواس, إذ تُكْشف الحجب بأكملها، فيرى السالك حقائق من ذاك العالم المجرّد. وللكشف المعنوي مراتب نذكرها على نحو التعداد فقط، وهي:
أ- الكشف الحدسي.
ب- الكشف القدسي.
ج- الكشف الإلهامي.
د- الكشف الوحي.
هـ- الكشف السرّي.
و- الكشف الخفي والأخفى.
دور المكاشفات في السلوك:
الكشف من العنايات الإلهية الخاصّة للسالكين، والمكاشفات تحمل للسالك بشائر وتحذيرات فيطّلع من خلالها على مقامه، ويدرك نقائصه، فيبادر إلى إزاحتها للوصول إلى الأعلى. ويحمل الكشف فوائد عديدة، من أبرزها:
1- يتمكّن السالك بواسطتها من الاطّلاع على نقائصه، ويعرف مقامه ومنزلته.
2- يجعل الكشف السالك يستأنس بما هو فيه, فيجتهد ويجدّ في السلوك.
3- الكشف يساعد السالك في الوصول إلى بعض المقامات التي لا يمكن له الوصول إليها إلا به5.
طرق نفوذ الخطأ إلى المكاشفات:
المعرفة الشهودية، كما المعارف الأخرى، لا تخلو من الاشتباهات والاشكالات أحياناً. فالوصول إلى المعرفة الشهودية الصحيحة يتطلّب مقدمات، يؤدّي فقدانها إلى وقوع الخلل والاشتباه في المكاشفات. والمقدّمات عبارة عن تهذيب الباطن، وتوجّه النفس، واشتغالها بالأمور التي توصل إلى المعرفة الصحيحة، وابتعادها عن الدنيا وتعلّقاتها، والالتزام الدقيق بأحكام الشريعة، كذلك صحّة السير والسلوك…
وقد ذكر العرفاء مجموعة من العوامل التي تؤدّي إلى انحراف المكاشفات، من أبرزها:
1- ضعف الجسم بسبب الأمور الطبيعية، كالمرض…
2- السير والسلوك بناءً على اعتقادات باطلة وغير صحيحة.
3- الابتعاد عن الشريعة.
4- عدم تطهير الباطن بشكل كامل من الرذائل والصفات الباطلة6.
معايير صحّة المكاشفات:
إذا كان الخطأ والخلل يدخل إلى مكاشفات السالك، فهو بحاجة إلى معايير وقوانين يتمكّن بواستطها من تميز الخطأ والصواب فيها. في هذا الإطار تحدّث العرفاء عن معيارين أساسيين، أحدهما عام والآخر خاص.
1- المعيار العام:
يندرج تحت عنوان المعيار العام أمور، منها: القرآن الكريم والروايات الواردة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام. فما دامت المكاشفات لا تخالف النصّ القرآني الصريح، ولم تأتِ الأخبار والروايات بما يناقضها ويطعن فيها، فهي صحيحة7.
ومن جملة الأمور الأخرى التي ذكرها العرفاء في هذا العنوان: البرهان الصحيح، حيث أوصى بعض العرفاء بإتقانه، لأنّ المكاشفات العرفانية يجب أن لا تخالف العقل، ويجب أن يتمكّن السالك من الإتيان ببرهان ودليل عليها، حتّى أنّ بعضاً منهم اعتبر المعارف اليقينية النظرية بمثابة علم المنطق بالنسبة للحكمة والفلسفة8.
2- المعيار الخاص:
يعتقد العرفاء أنّ السالك، وبسب الحالات الروحية التي يعيشها، يتمكّن بنفسه من معرفة مدى صحّة وصدق مكاشفاته. يقول القيصري في هذا الخصوص: “… ومنها ما هو خاص، وهو ما يتعلّق بحال كل منهم الفايض عليه من الاسم الحاكم والصفة الغالبة عليه…”9.
هوامش:
- شرح القيصري، ص 107.
2- شرح فصوص الحكم، ص 107.
3- ابن طاووس، فلاح السائل، مكتبة أهل البيت، ص 107 ـ 108، نقلاً عن “الأربعون حديثاً” للإمام الخميني قدس سره ص 436.
4- شرح فصوص الحكم، ص 110.
5- المصدر نفسه، ص 242.
6- المصدر نفسه، ص 244.
7- شرح فصوص الحكم، ص 101.
8- راجع: تركه، صائن الدين علي، تمهيد القواعد، مقدمة وتصحيح جلال الدين الآشتياني، انجمن حكمت وفلسفه إيران، 1355هـ.ش، ص 273.
9- شرح فصوص الحكم، ص 101.
*المصدر: * كتاب “علم العرفان”، نشر “جمعية المعارف الإسلامية الثقافية”.