التصوُّف والفلسفة
ابن عربي وصدر الدين الشيرازي*
في ثقافة توحيدية لحياة متدبِّرة وتأمُّليَّة؛ فإنَّ التحدي العقلي الأساسي أمام المؤمن المفكِّر والمجتهد هو مواجهة السؤال: كيف أعرف الله؟ ويتبعه سؤال آخر: كيف أعرف ما الذي يعنيه «الله»([1])؟ عالج الفلاسفة في العصر الكلاسيكي هذين السؤالين بطرح أربعة طرائق ممكنة لتحقق وفهم واستدماج وزرع حقيقة وواقع الوحي [في نفس المتلقي]([2]). وقد عالج المتصوِّف والمتكلِّم السُّنِّي أبو حامد الغزالي هذه الطرق الأربعة في «المنقذ من الضلال»([3])، وهي على التوالي: تقليد الأئمة المعصومين (مثلما نجد عند الشيعة)؛ اتِّباع السُّنن النبوية؛ الأخذ بالنظر العقلي؛ والذوق الصادق. وبذلك، يكون السؤال الأول هو: كيفية الوصول إلى الحق واليقين. والطريق الذي سأتناوله في هذا الفصل؛ هو طريق النظر العقلي. رفض الغزالي النظر العقلي الفلسفي لفشله في اتِّباع «الحق المنزل» الموحَى به([4])، وأعلى من شأن التجربة الصوفية، والسبب في ذلك في نظره يعود إلى أن العقل طريق غير مباشر للحق عن طريق البراهين العقلية، في حين أن تجربة الذوق الصوفية مباشرة وتصل إلى الحق بذاته، وتمثِّل طريقاً وسطاً بين النظر والعمل([5]). وللذوق أفضلية أخرى؛ وهي أنه مصطلح قريب من المعاني القرآنية، وصار شائعاً لوصف خبرات الصوفية. وهكذا نرى كيف اندلعت المواجهة بين العقل والذوق الصوفي في الإسلام منذ وقت مبكر([6]).
وعلى الرغم من ذلك، ينصبُّ اهتمامي على محاولات التوفيق بين العقل والتجربة الصوفية في التراث الفلسفي الإيراني المتأخر، واستعادة هذا التراث لحس فلسفي دمجَ الخطاب العقلي بالتجربة الصوفية الحدسية. والسؤال الثاني ذو الأولوية الأنطولوجية هو: تشخيص الحاجة إلى الحقيقة، والاعتراف بجهل الإنسان و«مرض» النفس البشرية والعقل البشري الخاليين من الحق واليقين، واللذين تضلُّهما الأهواء والبِدَع. وهذا هو الموضوع الثاني الذي أريد تناوُلَه في هذا الفصل، والمتمثل في الكشف عن منهج للبحث عن الحقيقة يتصف بأنه يعالج أمراض النفس والعقل هذه ويخلِّصهما من الضلالات. وهدف هذا الفصل هو شرح العلاقة بين التصوف والفلسفة في التراث الإسلامي المتأخر، بالتركيز على العلاقة المثيرة بين الفكر الصوفي للأندلسي محيي الدين بن عربي (ت 638هـ/ 1240م)؛ «المتصوف العقلاني» الأهم في الإسلام عن جدارة، والتراث الفلسفي الإشراقي لإيران، والذي يمثِّله صدر الدين (الملا صدرا) الشيرازي (ت 1050هـ/ 1640م)؛ الفيلسوف المتصوف الإيراني عن جدارة.
سأعالج التصوف والفلسفة في التاريخ اللاحق للفلسفة الإسلامية في سياق النموذج الفكري للأفلاطونية المحدثة. عرَفَ تراث الأفلاطونية المحدثة في أواخر العصر القديم طرائق عديدة للوصول إلى الحقيقة، بما فيها الطريق الصوفي العقلي؛ القادر على توظيف لغة فلسفية وبرهانية في إيصال خبراته التي تفوق العقل والبرهان واللغة، وذات المضمون المتجاوِز للعقل نفسه، والذي لا يقدر العقل على استيعابه. وتمَّ النظر إلى الفلسفة في هذا التراث بوصفها «طريقة حياة»، وسبيلاً للخلاص. وحدث الأمر نفسه في الإسلام، إذ ظهرت فيه تيارات في التعليم والتفكير والخبرة الذوقية اعتقدت في إمكان تقديم تقريب عقلي لما لا يمكن التعبير عنه بالعقل بالكامل، ونظرت إلى هذا البحث على أنه «تحقيق» [للخبرة الصوفية في نفس العارف] على نحو خلاصي([7]). وأقصد بذلك تحديداً الصيغ الإسلامية المتأخرة من الأفلاطونية المحدثة المرتبطة بيامبليخوس (ت 325) والدمشقي (ت 538)([8])؛ الذي كان آخر رئيس للأكاديمية الأفلاطونية في أثينا. لقد اتَّبع المفكرون المسلمون فلاسفة الأفلاطونية المحدثة السابقين عليهم في تأكيدهم ذي النكهة الفيثاغورية على «الرياضات الروحية» والشعائر الباطنية وضرورتها للبحث الفلسفي([9])، وهو منهج في تحصيل الحكمة والكمال الأخلاقي والخلاص([10]).
ودائماً ما يُقال (ولا يزال!) إن نقد الغزالي وإدانته للأرسطية ذات التوجه الأفلاطوني المحدث Neoplatonized Aristotelianism (والتي كان هي «الفلسفة» في نظره)، أدى إلى العزوف عن البحث الفلسفي في الإسلام. لكن الذي أدت إليه هذه الإدانة في الحقيقة هو تحوُّل في النظرة إلى الفلسفة وإلى سياق البحث الفلسفي: إذ تم امتصاص الفلسفة في اللاهوت الفلسفي الدقيق؛ أي: علم الكلام الفلسفي في العصر الإسلامي المتأخر، وفي الشرق الإسلامي تم استيعاب الفلسفة والتوفيق بينها وبين الحدس والعرفان الصوفي؛ ما أضاف إليها لغة مكَّنَتها من التعبير عن الخبرة الصوفية وتسهيل التعبير عن لغتها الدينية والخلاصية. ولم تكن الفلسفة الإسلامية، المتَّسقة مع سابقتها في العصر القديم المتأخر، مجرد بحث نظري، بل بالأحرى ممارسة عملية جمعت بين العناصر العقلانية والفائقة للعقل([11]). وكانت الفلسفة أو «الحكمة» كما أطلقوا عليها؛ قد وفَّرت لهم لغة عُليا على درجة كبيرة من التجريد، مكَّنتهم من شرح وتحليل خبرات الوعي الخالص التي كانت المجال الأثير والخاص للمتصوف. وقد أثَّر هذا التَّحوُّل على نظرة التصوف لذاته وتنظيره لِمَا يُقدِّمه من خبرات؛ فارضاً على المتصوفين عقلنة خبراتهم الصوفية والتدليل عليها ونقلها للآخرين. ولم يكن هدف الفلسفة مجرَّد تقديم معالجة لهذه الخبرة الصوفية، بل تقديم منهج (أفلاطوني) لهذه المعالجة؛ أي: ممارسة وأخلاقيات يمكنها أن تكشف كيفية محاكاة العارف لمثال الخير.
ابن عربي والملا صدرا
يعد الشيخ محيي الدين بن عربي من أشهر المتصوفة الإسلاميين في العصر الوسيط([12]). ولُد لعائلة نبيلة في مدينة مرسية، وتحوَّل إلى حياة التأمل الروحي مبكراً وسعى للتعلُّم من الصوفية. ودفعَه إعجابه بأقطاب الصوفية وأنبياء القرآن للسفر والمزج بين رؤاه الروحية ورحلاته في «رحلة إلى الحق»؛ وهذا ما تؤكده إحدى الروايات عن تطوره الروحي. واستقر أخيراً بدمشق، وصار كاتباً شهيراً محاطاً بالكثير من التلاميذ، ومات هناك في 638 هـ/ 1240م. وأهم أعماله «فصوص الحكم» و«الفتوحات المكية»، اللذان انتشرا على نطاق واسع وخلقَا تراثاً من الشروح في شرق العالم الإسلامي، خاصة في إيران([13]). وقد وصف ابن عربي نفسه على أنه واحد من الصوفية الـمُحَقَّقين [أي: الذين حققوا أنفسهم بالتصوف]، بعد إدراكه للحق اليقين وانكشفت له الأسرار الإلهية وانطبعت في نفسه، وخَبَر الحق (الفتوحات المكية، المجلد الثالث، ص34). وقد عدَّ نفسه فوق أغلب الصوفية وازدرى الفلاسفة([14])، وأَرْجَعَ أفضليَّته إلى تميُّزِه ببصيرة عقلية. ورغم أنه لم ينظر لنفسه على أنه فيلسوف، إلا أن بعض الذين لم يفهموا فكره اعتبروه كذلك، وطوَّرت مدرسته تفسيراً فلسفياً لفكره الصوفي([15]). والذي قدَّمه بوضوح هو ممارسة عرفانية يمكنها أن تقود السالك إلى أن يخبر الحق. وقد ذهب إلى أن هذه الخبرة لا يمكن التعبير عنها باللغة، لكنه عاد لشرح حالاتها؛ معبِّراً بذلك عن المراوحة بين النفي والإيجاب، وهو موقف كلاسيكي من متصوِّف عقلي. ورغم أن الكثيرين ذهبوا إلى أن ابن عربي فيلسوف أفلاطوني محدث، تُشكِّل أعماله فلسفة صوفية أو ثيوصوفيا (وهي الكلمة التي أُسِيء استخدامها كثيراً)، إلا أننا لا نجد لديه مذهباً أو منهجاً فلسفياً في معالجته للمعرفة العقلية أو الخبرة الصوفية([16]). والأحرى أن نصفه كما وصف ميرلان Merlan الأفلاطونيين المحدثين المتأخرين؛ على أنه «متصوِّف مُتعقِّل» rationalizing mystic([17]): إن الله الذي يَخْبُرَه المرء في التصوف العقلي ليس فوق الوجود، بل هو مطابق للفكر وللوجود الذي يفكِّر في ذاته؛ وهناك شفافية مطلقة وانكشاف كامل بين العارف والمعروف والمعرفة ذاتها([18]). وهكذا تكون الخبرة الصوفية، ورغم كونها متجاوزة للتصوُّرات العقلية، قابلة للإيصال ومتاحة لأن تُقَدَّم في خطاب عقلي.
ويتمثل إحدى الخصائص الأساسية في المنهج الإشراقي في دمجه الممارسة الروحية في عملية البحث عن الحكمة، وهو باعتباره محاولة فلسفية لإصلاح السينوية، كان دائماً ما يُشدِّد على الخطاب العقلي، وفي مذهبها الأنطولوجي؛ كانت النزعة الإشراقية تفضِّل التنويعات والتعدُّد الميتافيزيقي، وكانت في كل ذلك مختلفة عن النزعة الواحدية لمدرسة ابن عربي. وبذلك نجد في مذهب الملا صدرا توسُّطاً بين مطالب الفلسفة والتصوف، وبين الواقعية الواحدية والتعدُّدية الميتافيزيقية. وُلد صدر الدين محمَّد، الذي عُرِف لاحقاً بصدر الدين، في عائلة نبيلة من شيراز، وكان شخصية فكرية كبيرة في إيران الصفوية، وذروة التراث الإشراقي الذي حمل على تحويله على نحو جذري. درس في أصفهان عاصمة الشاه عباس، واعتزل للكتابة والتدريس، في قُم أولاً، ثم في شيراز موطنه الأصلي. توفي سنة 1050هـ/ 1640م، عند عودته من الحج؛ وكانت هي حجَّته السابعة التي قام بها سيراً على قدميه. وكان مفسِّراً حاذقاً للقرآن وللنصوص الفلسفية للمدرستين السينوية والإشراقية، كما تأثر بعمق بالفكر الصوفي لابن عربي، وهو ما نجده بوضوح في عمله الأساسي «الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة»، المعروف باسم «الأسفار الأربعة»([19]). وكان لمنهجه الفلسفي والتأويلي في الوصول إلى الحقيقة وتحقيقها أثر بالغ في الفلسفة الإسلامية المتأخرة؛ وخاصة في «مدرسة الملا صدرا»، وصار التراث الفلسفي المهيمن في شرق العالم الإسلامي (انظر الفصل التاسع عشر من هذا الكتاب). ولأنه اهتم بالتوفيق بين العقل والخبرة الصوفية؛ فمن الممكن وصفه بأنه «فيلسوف متصوِّف»؛ أي: مُفكِّر طوَّر مذهباً ومنهجاً وطريقة في المحاجَّة الفلسفية مؤسَّسة على رؤية صوفية للعالم. والملمَح الأبرز لعمله هو استخدام الخبرة الصوفية كوسيلة لفهم الحقيقة وتأسيسها. ودائماً ما كان الملا صدرا يثني على ابن عربي باعتباره عالماً روحياً وصل إلى الحقائق العليا، في حين نظر إلى ابن سينا على أنه مجرد فيلسوف عقلي لم يصل إلى مرتبة الحكيم (الأسفار، المجلد التاسع، ص108).
التصوف و/ أو الفلسفة
أدرك التراث الفلسفي في العصر القديم المتأخر الطبيعة الخلاصية والعملية للتَّفلسُف. في هذا التراث كانت الفلسفة توفِّر معالجة للنفس وخلاصها وعودتها للواحد (أو المبدأ الأول أو العلة الأولى) والتحرُّر من البدن من خلال المجاهدة الروحية ضدَّ الاعتقادات الضالة وأهواء الدنيا. وهكذا كانت الفلسفة في هذا التراث علاجاً للنفس، وفنَّاً في التعامل مع النفس المريضة بالدنيا، يُطهِّر اعتقاداتها وانفعالاتها، وهو تصور مألوف للفلسفة في العصر الهلينستي لدى الأفلاطونية المحدثة([20]).
لكن لغرضنا في هذا الفصل، فإن هذا التصور للفلسفة باعتبارها فنَّاً لعلاج النفس من خلال حجج عقلية تستهدف احتياجات خاصة لنفس مريضة ليس كافياً. ذلك لأن ممارسة الفلسفة كبحث عقلي يجب أن تتوافق مع الفلسفة باعتبارها طريقة حياة وتكريساً لنمط خاص من السلوك. وهذا يتطلَّب قواعد سلوكية معيَّنة ورياضات روحية. وتتوزع هذه الممارسات على ثلاثة أنماط: ممارسات بدنية تتضمن امتناعاً عن أطعمة معيَّنة وإماتة لملذَّات البدن، وممارسات روحية مثل التأمل، وممارسات عقلية مثل الحوار والتعلُّم([21]). ويمكن للحوار والتعلم أن يكونا علاجيَّين في حد ذاتهما؛ لِمَا يكشفان عن اعتقادات ضالَّة وعزل متطلبات الأهواء([22]). والتدريبات الروحية مقتربة بشدة من المدرسة الفلسفية الهندية (الدرشانا) وممارستها لليوجا حالياً، حيث يعتقد أغلب ممارسيها أنها مجرَّد رياضة بدنية، غير منتبهين للعنصر الروحي في هذه الرياضة والبحث الفلسفي المصاحب لها([23]).
وبذلك، فإن الفلسفةَ في هذه الرؤية الشمولية رياضةٌ للنفس، تُخَلِّصها من تشتُّتها من جرَّاء الاعتقادات الباطلة والأهواء الضارة. والجدير بالملاحظة هنا أن الرواقيين قد صاغوا مصطلحاً يعبِّر عن القيادة الفلسفية للنفس وتدبيرها، وهو prosokhē([24])، وحمل التراث الصوفي الذي ورثه ابن عربي والملا صدرا نظرية متطوِّرة في مجاهدة النفس لتجنُّب الخطيئة والإغواءات والاعتقادات الباطلة. وكان مطلوباً من السالكين أن يكونوا على درجة عالية من اليقظة والحذر من أهواء نفوسهم. وتطلَّب ذلك نظاماً يومياً، فكان على الصوفي عند أول النهار أن يواعد نفسه على مقاومة إغواءات البدن ويتجنَّب كل ما يُشتِّته عن تأمل الحق. والملاحظة المستمرة للنفس أثناء اليوم تسمَّى «مراقبة». وقبل النوم أو في أوقات الراحة؛ على الصوفي أن يراجع نفسه على أفعاله البدنية والذهنية، وهو ما يُسمَّى «المحاسبة».
وقد ظهر لدى الصوفية التشديد الأفلاطوني على «التألُّه» كما فُهِم في التراث العربي([25])؛ أي: «أن يصير المرء مثل الإله بقدر استطاعته» homoiôsis theôi kata to dunaton anthrôpoi، باعتباره الهدف الأسمى للتفلسف، وكما ظهر لدى التراث الإيراني اللاحق عندما اقترب من الأفلاطونية المحدثة المتأثرة بالفيثاغورية. ففي محاورة «ثياتيتوس» لأفلاطون؛ يقول سقراط:
إن الشرور هي السائدة في طبيعتنا الفانية وفي المحيطِين بنا، وهذا ما يحتِّم علينا الفكاك منها بأسرع ما نستطيع. والفكاك هو في أن نكون مثل الإله قدر طاقتنا، وأن نكون مثله هو أن نكون عُدولاً وقدسيين وحكماء([26]).
وبذلك تكون الفلسفة طريقاً للخلاص، وممارسة تطهريَّة تنقذ الإنسان من شرور الحياة اليومية، وتتمسك بوعد تحقيق القداسة عبر محاكاة الإله الذي هو مثال الخير([27]). والكمال الفلسفي لدى الملا صدرا يؤدي إلى انتظام المجتمع وخلاص الفرد (الأسفار، المجلد الأول، ص21). وتتمثَّل هذه المحاكاة الإلهية في الحديث المشهور لدى الصوفية الذي يطلب من الناس التشبُّه بالله: «تخلَّقوا بأخلاق الله([28])»*. والعلاقة بين هذا القول وفكرة «التألُّه» يشرحها ابن عربي قائلاً: إن المقصودين به هم الصوفية (الفتوحات المكيَّة، المجلد الثاني، ص72، 126، 267). وغاية التألُّه هي القداسة؛ أي: الصفة التي تلحق بالحياة الخيرة الفاضلة العادلة، المليئة بالفضائل الأخلاقية والحكمة، وهي حالة من رؤية الأشياء على حقيقتها([29]). والتشبُّه بالإله والذوبان في الواحد هو عودة النفس العاقلة إلى مبدعها الأول، وهي عودة خلاصية وأخلاق عملية في وقت واحد([30]). ويضمن التأله عند ابن عربي أن يصير كائناً مخالطاً لله، وخليفته الأحق على الأرض، والقادر على الفضيلة الإلهية([31]). ويستطيع مثل هذا السالك أن يتحصَّل على الكمال، الذي هو من صفات الله، وذلك بممارسة الفضيلة الأخلاقية (الفتوحات، المجلد الثاني، ص72، 126، 241). لكنَّ للأمر حدوداً حاسمة: فلا يستطيع الإنسان ادِّعاء الألوهية لنفسه؛ لأن ابن عربي يقول: إن المخلوق لا يستقلُّ بنفسه (الفتوحات، المجلد الثاني، ص224)، وكل المخلوقات مفتقرة إلى الله (مستشهِداً بالقرآن)·.
ويمكننا التعرُّف على هذه التيمة الأفلاطونية [التألُّه] من تعريف الملا صدرا للفلسفة في «الأسفار الأربعة» (المجلد الأول، ص20):
اِعلَمْ أن الفلسفة استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليها، والحكم بوجودها تحقيقاً بالبراهين لا أخذاً بالظن والتقليد، بقدر الوسع الإنساني. وإن شئت قلت [إنها] نظم العالم نظماً عقلياً حسب الطاقة البشرية، ليحصل التشبُّه بالباري تعالى.
يحوي هذا التعريف سبعة عناصر متضمنة فيه يجب الكشف عنها. أولاً: الفلسفة هي ممارسة تحوليَّة تهدف كمال النفس. ويَنْتُج عن كمال النفس تَشَبُّهها بالباري. ثانياً: الفلسفة هي التعقُّل البرهاني لحقائق الموجودات «على ما هي عليه»؛ ما يدل على أن الاهتمام الأساسي في الفلسفة هو قضية الوجود. ثالثاً: يُمارس الخطاب الفلسفي بإقامة الحجج والبراهين، وهي أقيِسَة أرسطية. رابعاً: يمكن للمرء التحصُّل بها على معرفة صادقة بالوجود؛ ما يعني أن الفلسفة ليست ترديداً للحجج الكلامية ولا يمكن أن تكون مجرَّد تخمين [ظن]. خامساً: ترجع حدود العقل الإنساني إلى قصور اللغة وتعالي الله عن المعرفة الإنسانية. سادساً: يؤدي النظر الفلسفي إلى ترتيب عقلي للكون، والتعرف عليه باعتباره التَّجلِّي الكوني الأكبر للواحد، وهو مذهب ميتافيزيقي مركزي في الفكر الصوفي [الفلسفي]. فَلِأنَّ الله عقل خالق ذو إرادة (وهي فكرة حاضرة في محاورة تيمايوس لأفلاطون)([32])؛ فإن عودة الإنسان إلى الله واتحاده معه يبدأ بمعرفة هذا النظام العقلي في المخلوقات. وسابعاً وأخيراً: نشهد عودة إلى موضوع «التألُّه»([33]). وكما في محاورة «ثياتيتوس» لأفلاطون، فإن الحكمة هي غاية «التألُّه»؛ ويعلو بها الحكيم على العامَّة. وممارسته للفلسفة مضافاً إليها المجاهدات الروحية([34])؛ تجعله يتحصَّل على صفات الكرم والمزاج الطيِّب والحكم الصائب والذوق وخبرة الكشف الروحي [عن الحقائق العالية] (الأسفار الأربعة، المجلد السادس، ص6 – 7).
اعترف التراث السينوي بالحاجة إلى الجمع بين النظر العقلي والحدس الروحي؛ الذي وصفه ابن سينا نفسه بأنه «الحكمة المتعالية»، والذي استخدمه الملا صدرا ومدرسته ومِن قبلهم ابن عربي للتعبير عن طريقتهم في التَّفلسُف([35]). وكانت طريقة التأمُّل حاضرة في الفكر الإسلامي قبل أن تحصل على ملامح صوفية لدى ابن عربي. فقد وصف داود القيصري، الشارح الحاذق لأعمال ابن عربي، «الحكمة المتعالية» بأنها الطريقة الـمُثلى في البحث، وأسلوب غير نظري في التَّفلسُف يمكنه الوصول إلى المعرفة بالله([36]). ورغم ذلك؛ يصرُّ الملا صدرا على أن التفلسف الحق هو الجمع بين البحث والحدس (الأسفار الأربعة، المجلد السادس ص5 – 8)، والفيلسوف الحق هو الذي يستطيع المزج بين جهده العقلي وهِبة الحدس الصوفي التي تأتيه من أعلى للتحصل على العلم اللَدُنّي([37]). والخبرة الصوفية هي أساس الفلسفة، والبحث الفلسفي هو وسيلة لإضفاء المعنى على هذه الخبرة (الأسفار الأربعة، المجلد التاسع، ص108)([38]). وفي «الأسفار الأربعة» (المجلد الثالث، ص326) يقول الملا صدرا إن حُججه مُقامة على أساس الخبرة المباشرة والإلهام القلبي، وليس على الاتِّباع الأعمى للشرع دون دليل أو برهان أو استدلال منطقي. والمكاشفة وحدها ليست كافية كطريق للحق دون برهان، مثلما أن البحث دون مكاشفة يخطئ طريق الحق.
وقد سبق لابن عربي أن استهان بإمكان الفكر المجرد والبحث النظري فهم الحقيقة (الفتوحات المكيَّة، المجلد الثاني، ص382، 389). فالفكر منفرداً لا يمكنه الوصول إلى الله، بل يُشَكِّل حجاباً، ذلك لأن تعبير المرء عن فكره يؤدي إلى انفراده بالوجود؛ ما يُعيقه عن فهم وحدة الوجود (الفتوحات المكية، المجلد الثاني ص85). فالنظر العقلي منفرداً يعمي الإنسان، في حين أن التأمل والكشف يتجاوزان النظر العقلي ومن ثم يعجزان عن تحقيق التوافق على الحق (الفتوحات المكية، المجلد الثالث، ص82). لكن على الإنسان أن يجرِّب عقله؛ لأنه هبة من الله، وقد أمر الله في القرآن باستخدامه (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص318، الثالث، ص436، 250). بل إن ابن عربي يُثني على أفلاطون باعتباره «حكيماً» ذا ذوق صوفي، وليس مجرد «فيلسوف» (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص523). فالحكمة الحقة هي ثمرة الكشف، وهي تعبير عن الحكمة النبوية([39]). كما يذكر في موضع آخر معرفة النفس بالواحد في العالم المعقول، وهي الفكرة التي ترجع إلى تاسوعات أفلوطين Enneads, IV.8.1؛ التي تُرجمت إلى العربية تحت عنوان «أثولوجيا أرسطوطاليس» (انظر الفصل الثاني من كتابنا هذا). ورغم ذلك؛ فيبدو أن ابن عربي والتراث الإشراقي كانا على علم بأن هذه الفكرة أفلاطونية [رغم وجودها في كتاب منسوب لأرسطو].
وفي الخلاصة: إن الفلسفة مبحث نظري وممارسة روحية [في الوقت نفسه]. وهي باعتبارها نمطاً أخلاقياً في الحياة في هذا العالم؛ لا يمكنها إغفال الكمال الأخلاقي والممارسة السلوكية. وتقدِّم الفلسفة مثالاً للحياة الفاضلة فقط إذا عمل المرء على تنمية أخلاقه. يقول الملا صدرا:
مَن عرف نفسه؛ عرف العالم، ومَن عرف العالم؛ صار في حكم المشاهد لله تعالى… ويعرف بمعرفه روحه العالم الروحاني وبقائها، وبمعرفة جسده العالم الجسداني ودثورها وفنائها، فيعرف خسَّة الفانيات الداثرات، وشرف الباقيات الصالحات([40]).
وقد شدَّد التراث الصوفي كذلك على أهمية الرياضة الروحية باعتبارها طريقة في كشف العالم بالحدس. ولذلك نرى ابن عربي والملا صدرا يضعان تراتباً روحياً يختلف باختلاف درجة قبول الحقيقة لدى الناس. ففي كتاب الملا صدرا «إيقاظ النائمين»، المتأثِّر فيه بعمق بابن عربي ومصطلحاته، يناقش خمسة أصناف من البشر في ترتيب قدرتهم على تعقُّل الواقع:
فالطبقة الأولى: أصحاب المكاشفة، وهم الذين يعرفون الحق بترك الالتفات إلى ذواتهم… فيشاهدون آياته. والثانية: أفاضل الحكماء، وهم الذين يدركونه على الوجه العقلي الصرف، وفي حال تعقُّلاتهم لأحوال المبدأ والمعاد يمثِّل أوهامهم وخيالاتهم صوراً تناسب تلك العقليات على ألطف وجه وأشرفه، لكنهم يعرفون أنهما فوق هذه الصور الوهمية والخيالية. والثالثة: عامَّة أهل الإيمان، وهم يعجزون عن تلك المرتبة، وغاية أمرهم تصورات وهمية… والرابعة: أهل التسليم، وهم يعجزون عن الأمور الوهمية دون الخيالية… وخامس على تمثاله الذي صوره النقَّاش([41]).
وتكشف لغة الملا صدرا هنا عن خليط من التعابير المتنوعة في وصفها لمراتب المعرفة والإدراك، ولمراتب نعمة تعقُّل الحق وكشفه؛ داخل إطار أوسع من البحث عن اليقين الذي هو معرفة الله حقَّ معرفته وهو الإيمان.
الأنطولوجيا: درجات وحدة الوجود
يقال دائماً: إن النظرية المركزية في التصوف العقلي لمدرسة ابن عربي هي نظرية وحدة الوجود: فهي التي تكمن تحت أفكار هذا النوع من التصوف؛ الأنطولوجية والإبستيمولوجية والخلاصية([42]). ويعبِّر هذا المذهب عن رغبة في خبرة الوجود ككل. إن سعي المتصوِّف هو نحو اكتشاف الله ومعرفته باعتباره «حقيقة الحقائق»، وفي سعيه هذا «يجد» أن وحدانيته تشمل الوجود كله. يقول ابن عربي في عمله الأساسي «الفتوحات المكية» في الباب 237، (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص537 – 538):
وجود الحقِّ عينُ وجودِ وجدي
فإني بالوجودِ فَنَيتُ عنه
وحُكمُ الوَجْدِ أفني الكلَّ عني
ولا يُدرَى لِعَين الوَجْدِ كُنْهُ
ووجدانُ الوجود بكل وَجْهٍ
بحالٍ أو بلا حالٍ فَمِنْهُ
اعلم أن الوجود عند القوم وجدان الحق في الوجد، يقولون: إذا كنت صاحب وجد ولم يكن في تلك الحال الحق مشهوداً لك وشهوده هو الذي يفنيك عن شهودك وعن شهودك الحاضرين؛ فلستَ بصاحب وجد؛ إذ لم تكن صاحب وجود للحق فيه. واعلم أن وجود الحق في الوجد ما هو معلوم، فإن الوجد مصادفة ولا يدري بما تقع المصادفة، وقد يجيء بأمر آخر…
وبما أن الوجود وما يوجد في حالة الخبرة الخالصة [الوجد] هو الشيء نفسه (والذي تعبِّر عنه كلمة واحدة بالعربية هي «وجد»)، فالله وحده هو الأحق باسم الوجود. ويُشدِّد ابن عربي (الفتوحات المكية، المجلد الأول، ص328، الثالث، ص566) على أن الوجود الحق هو نفسه الذي يتعرَّف عليه «الوجد». ومنهج الوصول يجب أن يكون تلك الحالة الصوفية، وهو ما يتأكَّد بربط الخبرة الصوفية بنظام الصوفية في جلسات «السماع». والسماع الحق يتضمَّن الوجد، والوجد الحق يلتزم بالسماع، مثلما يسمع المؤمنون كلمات الله في حالة الوجد (الفتوحات المكية، الباب 172، المجلد الثاني، ص366). وهكذا، فإن الحدس الصوفي والتعقل يتبعان اعتبار معنى الوحي، من خلال القرآن والطبيعة معاً. والملمح الأساسي لمنهج ابن عربي هو العثور على أصل قرآني لعقلنته للخبرة الصوفية، فلغته في هذا الشأن قرآنية تماماً، وهو يستشهد بسورة النور، الآية 24.
لكن يظهر هنا سؤالان: بأي معنى يكون الله متماهياً مع الوجود؟ وهل يتبع ذلك أنه لا شيء آخر يوجد (بما فيه الصوفي الذي يَخْبُر هذا الوجود)؟ والإجابة واحدة، وهي أن الله مُتماهٍ مع الوجود طالما كان هذا هو الوجود الخالص، اللامشروط، اللامُكَيَّف [الذي بدون كيفيات]، والمستور. فهو المتفرِّد بمثل هذا الوجود([43]). لكن لا يعني هذا أن الموجودات المتعددة زائفة، بل يعني أنها شهود على وجود الله وانبثاقات إلهية منه. والموجودات المفردة في العالم هي، بتعبيرات ابن عربي التي استعارها من ابن سينا، مُحْدَثات ممكنة الوجود ليس لها وجود من ذاتها، بل وجودها من جود واجب الوجود، إذ تأخذ وجودها منه. وهي بالتالي تجلِّيات لوجود الله، ومتمايزة عن بعضها لتنوعها بين المحسوس والمعقول، ولدرجة استعدادها للكشف عن الله وأحقيَّتها كي تكون مرآة عاكسة لوجوده (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص160).
إن لمذهب وحدة الوجود pantheism، أو الواحدية *monism أصداء عديدة على مذهبين آخرين: اللاهوت الصوفي الإشراقي (وما يتبعه من نزعة شك [تجاه حقيقة الموجودات المحسوسة، إذ يتم النظر إليها على أنها زائفة])، ومذهب الخلاص. ففي المذهب الأول؛ يؤدِّي النظر إلى خبرتنا بتعدد الأشياء على أنها زائفة، ولا تؤدي إلى انكشاف حقيقة الوجود إلى مشكلة في اللغة. فإذا كان الله وحده هو الأحق باسم الوجود؛ فلا يمكننا الاعتماد على أي موجود آخر للتعبير عن وجوده. وبذلك فبالنسبة إلينا نحن البشر؛ يصير الوجود في ذاته بغير معنى؛ لأننا نعجز عن إدراكه [بما لدينا من خبرة عن الموجودات]، ولا يمكننا معرفة ما هو الوجود الحقيقي. فوجودنا هو «ليس – وجود» (الفتوحات المكية، المجلد الثالث، ص362). وفي المذهب الثاني، الخلاصي، فإن القول بوجود واحد فقط لله يؤدي إلى حالة من الفقر الوجودي ومن جهل المرء بوجوده وشكِّه فيه وفقره في الوجود تجاه الوجود الحق لله([44])، وهو ما يضعه في حالة بائسة، حيث إذا قال: «أنا أوجد»؛ فسوف يؤدي به ذلك إلى القول: «لست على يقين من وجودي». أما الملا صدرا، فهو بعد أن يقبل نظرية وحدة الوجود بتحفُّظات (كما سنرى تباعاً)؛ يتعامل مع هذه الحالة من الفقر الوجودي في معالجته لواجب الوجود بغيره، وهو يستخدم مصطلح «الإمكان الفقري». وهو يتبع فيه تراث ابن عربي الذي ينظر إلى كل الموجودات على أنها مُفتقِرة إلى الله، ولاحقة في وجودها بغيرها (أي: إن وجودها إضافي)، وعلى أن وجودها بالسلب لا بالإيجاب([45]). ويستشهد ابن عربي بالآية: ﱡﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠﱠ (فاطر 15)، ليدلل على نظريته في فقر كل ما هو سوى الله في الوجود. وعلاوة على ذلك؛ فبمجرَّد ما أن يدرك المرء أن هناك وجوداً واحداً فقط وهو غاية كل وجود آخر؛ حتى يدرك أن كلَّاً من الإنسان والعالم ما هو إلا مرآة عاكسة لهذا الوجود. هذا التواضع الناتج عن إدراك فقر الوجود؛ هو القيد الأخلاقي الوحيد على الحماسة والفخر اللذين يمكن أن ينتجا عن فكرة «التَّألُّه» (الفتوحات المكية، المجلد الأول، ص196).
وعلى الرغم من أننا نتكلم هنا عن الواحدية؛ إلا أن وحدة الوجود لا تدل على فناء الإنسان والعالَم في الله والاتحاد الكامل معه. فالأنماط الثلاثة من الوجود ليست شخصاً واحداً، وهو ما أساء الملا صدرا فهمَه وأطلق عليه «وحدة الوجود الشخصية»([46]). تُمَيِّز مدرستا ابن عربي والملا صدرا بين الوجود الذي لا ينطبق بالحقيقة إلا على الله، و«الموجود»، وهو ما ينطبق على باقي الموجودات طالما كانت كاشفة عن وجود الله وانبثاقات منه. والله هو «الموجود» طالما كشف لنا عن نفسه، لكنه هو «الوجود» طالما كان غير معروف لنا وغيباً عنَّا. وهناك وحدة في الوجود، لكن الموجودات ليست واحدة. وتصوُّراتنا البشرية هي التي تساعدنا في التعرُّف على الوجود الإلهي؛ لأنَّ وعينا بذاتنا هو أساس الدليل الكوزمولوجي على وجود الله([47]). إن الحدوث صفة أساسية للعالم (الفتوحات المكية، المجلد الثالث، 275، 443؛ الأسفار الأربعة، المجلد الثاني، ص318 وما بعدها). وهكذا يعبر عنه ابن عربي في لغة فلسفية (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص69)، قائلاً: إن الوجود الملحق بالأشياء المخلوقة هو الوجود الثانوي المشتق من الوجود الحق؛ لأن المحدثات لا تحوز على الوجود بذاتها، بل بغيرها. لكن وفي الوقت نفسه فإن المحدثات تجلِّيات للوجود الحق.
إننا نحوز على وجودنا منه، وحدوث وجودنا هو أساس الإبستيمولوجيا والأنطولوجيا في هذا التراث الصوفي.
وحتى الآن تعرَّفنا على التمييز بين الوجود المطلق الذي هو الأفضلية المنفردة للواحد، والوجود النسبي المشتق الذي هو نمط وجود المحدثات. وإذا عالجنا هذا التمييز في إطار التمييز السينوي بين الوجود والماهيَّة في الموجودات الحادثة (لا في واجب الوجود الذي لا ينطبق عليه هذا التمييز)؛ فهو لا ينطبق في حالتي ابن عربي والملا صدرا على الماهية، نظراً لتشديد الأخير على «أصالة الوجود». وبالنظر إلى التراث السينوي اللاحق؛ فإن السؤال المسيطر عليه هو؛ ما إذا كانت الأولوية للوجود على الماهيَّة أم العكس (انظر الفصل السادس من هذا الكتاب). وبما أن ابن عربي والملا صدرا ينظران إلى الماهيَّات على أنها اعتبارات عقليَّة فينا لا تشير بذاتها إلى واقع قائم؛ فإن الوجود سيكون لديهما هو ما له الأولوية والواقع الحقيقي (الأسفار العقلية، المجلد الأول، ص61 – 63).
وهكذا يكون الوجود الإلهي هو الأصل، والوجود الظاهري هو مجال ظهور الوجود الإلهي. وهذا ما يتمثَّل في نظرية المستويات الثلاثة لانكشاف الوجود، والتي تعبِّر عن العلاقة بين الله والكون. وينظر الملا صدرا إلى هذه النظرية على أنها تفسير صوفي لنظريته الميتافيزيقية في الوجود الواحد: «تشكيك الوجود». وفيما وراء المستويات الثلاثة من الوجود؛ هناك الماهيَّة الخفيَّة التي هي «الذات، غيب الغيوب»، وهي الوجود الخالص الذي يقف وراء الوجود الظاهري. والله باعتباره الوجود المطلق؛ غير معروف بالمرة (الفتوحات المكية، المجلد الأول، ص118). لكن هذه المستويات الثلاثة تشكِّل أساساً لنظرية إيجابية في الخطاب اللاهوتي، طالما تمَّ ربطها بالصفات الإلهية. والذي يقابل المستوى الأول هو الصفات الذاتية، التي تشير إلى ماهيَّة الله التي ليس فيها ازدواجٌ بين ذاته وصفاته (الأحدية)، حيث تفيض الماهيَّة الإلهية على الصفات من خلال «الفيض الأقدس». ويتمثَّل المستويان الثاني والثالث في صفات خارجية بالنسبة لماهيَّة الله، فالمستوى الثاني يتمثَّل في تجليات الله من حيث هو سميع بصير متكلِّم مُريد. وهذا المستوى يعبِّر عن «الواحدية»؛ وهي بداية الغيريَّة والثنائية [لأن الواحد يقابله واحد آخَر، وهذه هي الغيرية، والواحد والواحد الآخر هما الثنائية]. والمستوى الثالث والأخير هو فيض الصفات من خلال الفيض الأقدس، وظهور الأمر الإلهي بالخلق وانبعاث نَفَس الرحمن لبعث الحياة. وفي هذا المستوى الثالث فقط يصير الله في علاقة مع العالم، وفيه كذلك يُفَسَّر ظهور العالَم للوجود.
و «نَفَس الرحمن»([48]) هو العملية التي ينكشف بها الوجود وتحصل بها الأشياء على وجودها وفق درجة استعدادها لاستقبال فيض الوجود([49]). وعن هذا النَّفَس الرحماني يصدر الكون ويستمرُّ في بقائه (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص123)، وهو الوجود المنبسط والفائض، وهو متماهٍ مع العماء السابق على وجود العالم، والهباء الذي هو المادة الأولى والعنصر الأول الذي تكلَّم عنه فلاسفة ما قبل سقراط (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص431 0 2، 310، 390؛ الأسفار الأربعة، المجلد الثاني، ص329، 331). والمادة الأولى هي القوام الأول غير المسبوق والسبب اللامشروط لكل ما ندركه في عالمنا الظاهري([50]). والنَّفَس هو الجانب الظاهري والثانوي للوجود الإلهي، وهو الواقع الذي يخلق به الخلق (الحق المخلوق به)([51]) (الأسفار الأربعة، المجلد الثاني، ص328). وهو مطابق لحقيقة الحقائق التي تمنح الوجود لكل مستوى في الكون (الفتوحات، المجلد الثاني، ص432، الرابع ص311). وهو في ذاته معروف على أنه «الحقيقة الكلية» (الفتوحات المكية، المجلد الأول، ص119، الثالث ص199). وهذا المستوى من الوجود المنكشف هو مصدر وجود العالم، وتنوُّع أسمائه يعكس تعدُّد محاولات تفسير نشأة العالم وطبيعة المادة التي خُلِق منها. ومن حيث مبدأه؛ فهو جوهر سلبي منفعل، قوة كامنة تتطلَّب الوجود الإلهي لتفعيلها، أما بالنسبة لموضوعها؛ فهي التي تخلق. وهي باعتبارها وسيطاً؛ فهي تربط الوجود الإلهي بموجودات هذا العالم، في حين تحافظ على تمييز أنطولوجي بين الاثنين. ويصف الملا صدرا مستقبلي النَّفَس الإلهي ومواضع هذا الاستقبال (الأسفار الأربعة، المجلد الثاني، ص328) بأسلوب لا يذكرنا بمدرسة ابن عربي وحسب، بل بالمدرسة الإشراقية أيضاً: وهي «هياكل الممكنات» و«ألواح الماهيات». إن نَفَسَ الرحمن هو الذي يهب الوجود لموجودات هذا العالم. ويبدو أن الملا صدرا يريد تعديل مذهبه الواحدي مع الاحتفاظ بالصلة مع المستويات الثلاثة من الوجود، بادئاً بالواحد، هابطاً منه إلى مستوى التجلي الأول، ومنه إلى المستوى الثاني ثم الثالث الذي هو كائنات هذا العالم. وإذا كنا أمام مذهب سينوي؛ فإن عمل النفس الإلهي سوف تتولَّاه الماهيَّات قبل أن تتحقق في هذا العالم، لكن تشديد الملا صدرا على عدم واقعية الماهيَّات؛ ألزمه افتراض نوع من الوجود وجده في مفهوم ابن عربي عن «نَفَس الرحمن».
لكن تبقى أمامنا إشكالية واقعية أشياء هذا العالم، فليس لها وجود من ذاتها، لكن من الممكن معالجتها باعتبارها موجودات عبر إدراكها من خلال الكليَّات. يقول ابن عربي في «فصوص الحكم»:
ومعلوم أن هذه الأمور الكليَّة، وإن كانت معقولة، فإنها معدومة العين موجودة الحُكم، كما هي محكوم عليها إذا نُسِبت إلى الموجود العيني. فتقبل الحُكم في الأعيان الموجودة، ولا تقبل التفصيل ولا التجزيء، فإن ذلك محال عليها؛ فإنها بذاتها في كل موصوف بها كالإنسانية في كل شخص من هذا النوع الخاص؛ لم تتفصَّل ولم تتعدَّد بتعدُّد الأشخاص ولا بَرِحَت العقول (فصوص الحكم، الجزء الأول، ص52 – 53).
إن الوجود الظاهري طالما كان متعدداً ومتصوراً بالعقل فهو ليس الوجود الحقيقي، بل هو يحصل على وجوده من الوجود الحقيقي. وهذه لازمة عن فكرة أن الماهيات لا توجد بذاتها في الواقع العيني، بل هي مجرد مقاصد ذهنية وتصورات عقلية. وبذلك فعلى العكس مما يتوقعه المرء، فإن التمييز بين الواجب والممكن [الوجود الحق والوجود الظاهري] ليس انعكاساً للتمييز السينوي بين الوجود والماهية، ذلك لأن هذا التمييز الأخير قُرِيءَ في التراث الفلسفي اللاحق باعتباره تمييزاً اعتبارياً عقلياً خالصاً. يقول ابن عربي في «إنشاء الدوائر»، تخليداً لهذه القراءة الرشديَّة لنظرية ابن سينا:
فاعلم أن الوجود والعدم ليسا بشيء زائد على الموجود والمعدوم، لكن هو نفس الموجود والمعدوم؛ لكن الوهم يتخيَّل أن الوجود والعدم صفتان راجعتان إلى الموجود والمعدوم… فالوجود والعدم عبارتان عن إثبات عين الشيء أو نفيه…([52])
فالواقعي والذي يجده المرء أمامه؛ يوجد. وبالتالي فالوجود ليس عَرَضاً ولا مجرَّد صفة لكيانٍ ما. وكذلك الملا صدرا؛ فهو لا يأخذ بالتمييز السينوي [بين الوجود والماهيَّة]، لكنه يأخذ من ابن عربي أهميَّة الواقع التأسيسي للوجود، وهو مفهوم «أصالة الوجود» الذي تعرَّفنا عليه أعلاه، في مقابل الرفض الإشراقي للوجود (الذي عبَّر عنه السهروردي؛ انظر الفصل العاشر)، باعتباره مجرَّد تصوُّر ليس له فيما هو واقعي([53]). وينظر الملا صدرا إلى مقولة الوجود على أنها إذا طُبِّقت على العالم وعلى ما دون الله؛ فلها معنى فقط؛ لأنها تحوي في داخلها درجات كثيرة من المدلولات، وهو المفهوم الذي شرحَه في فكرته عن «مراتب الموجودية» (الأسفار العقلية، المجلد الأول، ص ص37 – 38). وفي حين يظل الله هو أساس الوجود باعتباره الواقع الأقصى النهائي، فإن كل ما يوجد يكشف عن الوجود في مراتب من الظهور، متمايزة وفق منطق من الاشتداد. وكما يقول الملا صدرا:
إن للموجودات مراتب في الموجودية، وللوجود نشآت متفاوتة، بعضها أتمُّ وأشرف وبعضها أنقص وأخسُّ، كالنشأة الإلهية والعقلية والنفسية والطبيعية.
وهكذا فالملا صدرا لا ينحصر بين الواحدية والتعددية، بل بالأحرى يسعى للهروب من النماذج التي قدَّمها ابن عربي بمحاولته إحداث تركيب منهما مُقَام على مفهوم «مراتب اشتداد الوجود» داخل واقع وجودي واحد. وتعني الاشتدادات المختلفة درجات مختلفة من المضمون في خبرتنا بالأشياء، تقابل درجات أكبر أو أقلَّ من ظهور الوجود.
الإبستيمولوجيا: طريق النفي والنزعة الشَّكِّيَّة الواقعية
تتمثل إحدى نتائج النزعة الواحدية والفقر الوجودي للذات في إعلاء فكرة جهل المرء، والمميِّزة لفكرة النفي في التراث الأفلاطوني. ففي هذا التراث؛ هناك نوعان من المعرفة: النظر العقلي والمعرفة الذاتية (الحدس)، لكنهما ليسا متناقضَين بالضرورة. وبالمثل، في فكر ابن عربي، يقابل الذوق والكشف من جهة؛ النظر والعقل من جهة أخرى، والمعرفة اليقينية تميِّز الجانب الأول، والمعرفة الاحتمالية تميِّز الجانب الثاني (الفتوحات المكية، المجلد الأول، ص319). لكن لدى الملا صدرا يتكامل الجانبان كما رأينا في بحثنا في تعريفه للبحث عن الحقيقة.
ويستشهد ابن عربي بالمقولة السُّقراطية: «اِعرِفْ نفسَك» ويربطها بالوعي بالذات (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص84، المجلد الثالث، ص22). وبالمثل، فإن المعرفة الحقَّة هي اعتراف بالجهل (الفتوحات المكية، المجلد الأول، ص728). يقول ابن عربي (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص552):
فإن العقلاء من أهل النظر يتخيَّلون أنهم علماء بما أعطاهم النظر والحس والعقل، وهم في مقام التقليد لهم، وما مِن قوة إلا ولها غلط عَلِموه، ومع هذا؛ غالطوا أنفسهم وفرَّقوا بين ما يغلط فيه الحس والعقل والفكر؛ وبين ما لا يغلط فيه، وما يُدريهم لعلَّ الذي جعلوه غلطاً يكون صحيحاً.
وسبب آخر يجعل معرفة الواقع غير يقينية؛ هو أنها يمكن أن تكون لامتناهية [ومعرفة اللامتناهي محالة]، وهي متناهية؛ لأنها تقوم على علاقات لامتناهية بين الأشياء، ويعني هذا أن معرفتنا بالأشياء يجب أن تشمل لاتناهي علاقاتها، وهذا محال (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص671).
ونجد عند الملا صدرا كذلك أن الوجود والموجودات عصيَّة على الإدراك. وهذا ما يمثِّل نتيجة نقائضية للنظرية الفلسفية الوسيطية القائلة: إن الوجود مفهوم مباشر ينشأ في العقل مباشرة – فهو المفهوم الأكثر شيوعاً والأكثر مباشرة، لكنه في الوقت نفسه عصيٌّ على الاستيعاب لغموض حقيقته وخفائه (الأسفار الأربعة، المجلد الأول، ص260). يقول الملا صدرا:
الواحد المحض هو علَّة الأشياء، كلا وليس بشيء من الأشياء، بل هو بدء الشيء وليس هو الأشياء، بل الأشياء كلها فيه وليس هو في شيء من الأشياء؛ وذلك لأن الأشياء كلها انبجست منه، وبه ثباتها وقوامها وإليه مرجعها (الأسفار الأربعة، المجلد السابع، ص272)*
هذه الطبيعة النقائضية للعلاقة بين الوجود وما يصدر عنه من موجودات؛ تأتي بإشكالية، فإذا كان الوجود عصيَّاً على المعرفة ومباشراً في الوقت نفسه؛ فكيف للمرء أن يتيقَّن من معرفته؟ بالنسبة للملا صدرا؛ فإن سعي المرء لإدراك موجودٍ ما بالعقل يؤدِّي إلى تشييئه وتحويله لكيان ذهني ماهوي [وهو يرفض استقلال الماهيات ووجودها الواقعي]. والموجود بهذه الصفة لن يبقى وجوداً عينيَّاً، بل ماهية في العقل وحده (الأسفار الأربعة، المجلد الأول، ص37). وبالتالي لا يمكن للمرء معرفة الموجودات بالعقل.
نتيجة أخرى لهذا التوصيف للمعرفة وللمذهب الواحدي؛ هي أن المعرفة بالقلب تهيمن وتطغى على المعرفة بالعقل أو التَّعقُّل، لدى ابن عربي؛ فالقلب وحده هو الذي يمكنه إدراك الواقع، حسب قول النبي: [استفتِ قلبَك]· (الفتوحات المكية، المجلد الثالث، ص129، 250). هذه المقابلة توازي المقابلة بين المعرفة العقلية بقيودها العديدة والعرفان القلبي؛ الذي هو هبة من الله وانكشاف للقلب؛ أي: إنه نوع من المجاهدة الروحية لدى الأتقياء، ويؤدي إلى اليقين بطريق صوفي (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص316).
مذهب الخلاص: سيكولوجيا علاجية
تتمثَّل البؤرة الفلسفية لابن عربي والملا صدرا في مفهوم الوجود وواقعه المطلق، ويتسلسل مذهباهُما من البحث فيه بهذه الصفة. وهو ما يدفعنا لفحص طبيعته وأصله وغايته النهائية. فالنفس [لديهما] في حاجة لفهم بدايتها وغايتها الأنطولوجية. كانت الفكرة الموجهة للأفلاطونية المحدثة هي أن العالم المادي ليس هو المكان الطبيعي للنفس، إذ يجب عليها العودة إلى أصلها ومبدئها، الواحد الحق وأصل وجودها، وبذلك تتخلَّص من المادة وقيودها وابتذالها. وما يطهِّر النفس ويحول كيانها ويهديها للخلاص هو الفلسفة باعتبارها ممارسة تجمع بين النظر العقلي والخبرة الصوفية بالواحد. وهذا هو الإطار الذي عملت فيه الفلسفة الإسلامية المتأخرة لإحداث هداية خلاصية للنفس. وبذلك مثَّلَت الفلسفة الإسلامية في عصرها المتأخر استمراراً متواصلاً مع تراث الأفلاطونية المحدثة في العصر القديم المتأخر.
إن نفساً طاهرة متخلِّصة من المادة؛ هي التي تهتدي لطريق الخلاص، وهي النفس التي تطهَّرت من قيود البدن الذي يُشتِّتها من الداخل. هذه النفس هي وحدة خالصة تمتلك العديد من الوظائف والمـَلَكات، وهي أيضاً تعبير سيكولوجي عن ميتافيزيقا المذهب الواحدي وطبقات الواقع الظاهري في فكر الملا صدرا. وفي حين يمكن للنفس الانجذاب لوجهات عديدة برغباتها ومعتقداتها وملكاتها؛ فإن تعليمها بالفلسفة الصوفية يهدف إلى استعادتها لطريق خلاصها ووضع نظام شامل لها من أجل هذه الغاية. والفلسفة [الصوفية] بذلك هي نظام في التدبير يهدف خلق نوع معيَّن من النفس [الطاهرة النقية المطمئنَّة].
والذي يقود النفس لخلاصها هو نوعان من الممارسات والأفكار. الأول: هو الحُبُّ (eros، في التراث الأفلاطوني)([54]). والثاني: هو تبني مبادئ أخلاقية ومعايير سلوكية خاصة لهذا الهدف([55])، مدعَّمة بالشوق للعودة إلى الواحد الحق والالتذاذ بحضوره. وكما رأينا؛ فإن ممارسة التصوف والبحث عن خبرة [عرفانية] مباشرة بالوجود؛ هي طريق الانفلات من العالَم ومن ثم الخلاص منه والخلاص للنفس. والفلسفة باعتبارها نظراً عقلياً وممارسة صوفية عند الملا صدرا؛ هي الطريق لهذا الخلاص. وهكذا كانت نتيجة اتصال التراث الفلسفي المتأخر في الإسلام بالتصوف هي استعادة العناصر الخلاصية في تراث الأفلاطونية المحدثة، فقد كانت هذه العناصر هي الأكثر قابلية للتوفيق مع النظرة الدينية، تلك النظرة التي سعت لفهم طبيعة الوجود بإيجاد معنى للوجود البشري، وطريق للخلاص في الدنيا والهناء في الآخرة.
([1]) كان البحث عن معنى الوحي وما يأتي به من نصوص محل اهتمام تأويلي مركزي للصوفية والفلاسفة المسلمين على السواء. وقد ظهرت أنواع مستقرة من التأويلات الصوفية والفلسفية للقرآن والأحاديث النبوية، وكتب ابن عربي وصدر الدين الشيرازي الكثير منها تعبيراً عن خبراتهما الصوفية والفلسفية. وحول محاولة الفلاسفة بوجه عام لإضفاء معنى على واقعة الوحي، انظر J. E. Gracia, How can we Know what God Means? (London: 2002); W. Alston, Divine Nature and Human Language: Essays in Philosophical Theology (Ithaca, NY: 1989); and R. Swinburne, Revelation: From Metaphor to Analogy (Oxford: 1992).
([2]) إن كلمتَي truth وreality تعبر عنهما كلمة عربية واحدة هي «حقيقة» والتي تعني كليهما معاً، وقد لعب الفلاسفة والصوفية المسلمين كثيراً على هذه الظاهرة في ازدواج معنى الكلمة.
([3]) الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق فريد جبر، بيروت، 1959، ص16 – 40؛ cf. E. Ormsby, “The Taste of Truth: The Structure of Experience in al- Ghazali’s al-Munqidh min al-d. alal,” in W. Hallaq and D. Little (eds.) ,Islamic Studies Presented to Charles J. Adams (Leiden: 1991), 133–4.
([4]) [الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق جميل صليبا وكامل عياد، دار الأندلس، بيروت، 1967، ص74 – 78].
([5]) [المرجع السابق، ص100 – 109].
([6]) O. Leaman, “Philosophy versus Mysticism: An Islamic Controversy,” in M. McGhee (ed.), Philosophy, Religion and the Spiritual Life (Cambridge: 1992), 177–87; W. Chittick, “Mysticism versus Philosophy in Earlier Islamic Philosophy,” Religious Studies 17 (1981), 87–104.
([7]) وغني عن البيان التفصيلي ما أدين به لكل من بيير هادو Pierre Hadot وأندري – جان فولك Andr´e-Jean Voelke (وبدرجة ما مارثا نوسباوم Martha Nussbaum)، من أجل تعريفي بالفلسفة باعتبارها علاجاً للنفس وممارسة موجهة لخلاصها، لكن من أجل معالجة تفصيلية لهذا الاتجاه يمكن الرجوع إلى: P. Hadot, Philosophy as a Way of Life, trans. M. Chase (Oxford: 1995) , esp. 49–70, 81–125, 264–75, and What is Ancient Philosophy? trans. M. Chase (Cambridge, MA: 2002), esp. 15–21, 55–233
[لكتاب بيير هادو ترجمة عربية حديثة: الفلسفة طريقة حياة: التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو، ترجمة عادل مصطفى، دار رؤية، القاهرة، 2019. (المترجم)].([8]) S. Rappe, Reading Neoplatonism: Non-discursive Thinking in the Texts of Plotinus, Proclus, and Damascius (Cambridge: 2000); H. D. Saffrey, Le n´eoplatonisme apr`es Plotin II (Paris: 2000), 129–41; D. Taormina, Jamblique: critique de Plotin et Porphyre (Paris: 1999), esp. 133ff.
([9]) والنصوص ذات الدلالة في هذا السياق هي كتاب يامبليخوس عن الحياة الفيثاغورية Iamblichus, On the Pythagorean Life، وشرحه على الأقوال الذهبية لفيثاغورس، والذي كان متاحاً في ترجمة عربية قديمة. انظر H. Daiber (ed.),Neuplatonische Pythagorica in arabischem Gewande: der Kommentar des Iamblichus zu den Carmina Aurea: ein verlorener griechischer Text in arabischer Überlieferung (Amsterdam: 1995).
([10]) انظر Walbridge [155].. والحقيقة أن هذا توجه أفلاطوني واضح في الفلسفة، وهكذا نظر إليه مفكرو الإسلام، الذين أطلقوا على أفلاطون «أفلاطون الإلهي». لمعالجة هذا التوجه باعتباره يهدف من خلال أسس ميتافيزيقية إلى الحكمة العملية والسعادة الأخلاقية، انظر J.M. Rist, Real Ethics: Rethinking the Foundations of Morality (Cambridge: 2002), esp. chs. 1 and 2; ولقراءة مختلفة للنصوص الأفلاطونية، انظر J. Annas, Platonic Ethics, Old and New (Ithaca, NY: 2000).
([11]) Hadot, What is Ancient Philosophy? 81
([12]) من أفضل السير الذاتية عنه: C. Addas, Quest for the Red Sulphur: The Life of Ibn ‘Arabi, trans. P. Kingsley (Cambridge: 1993)
([13]) ابن عربي، فصوص الحكم، تحقيق أبو العلا عفيفي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1946؛ الفتوحات المكية، 4 مجلدات، القاهرة (بدون تاريخ).
([14]) هاجم ابن عربي الفلاسفة مثله مثل الغزالي لآرائهم الهرطقية. انظر، ابن عربي، الفتوحات المكية، المجلد الثالث، ص420، 536.
([15]) حول هذا الاتهام بتشويه فكره ناحية الفلسفة، انظر Alexander Knysh, Ibn ‘Arabi in the Later Islamic Tradition: The Making of a Polemical Image in Medieval Islam(Albany, NY: 1999), 113–17.
([17]) يناسب هذا التعبير ابن عربي على نحو خاص، نظراً لعشقه للتعبيرات التي تحمل كلمات متناقضة. انظر H. Corbin, Creative Imagination in the Sufism of Ibn ‘Arabi, trans. R. Manheim (Princeton, NJ: 1969), 205–15.
([18]) Philip Merlan, Monopsychism, Mysticism, Metaconsciousness: Problems of the Soul in the Neoaristotelian and Neoplatonic Traditions (The Hague: 1963), 20–1.
([19]) صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، تحقيق رضا لطفي، الطبعة الثالثة، 9 مجلدات، بيروت، 1981؛ طبعة أخرى مع شروح، نشر حسن زادة آملي، طهران، 1995
([20]) R. Sorabji, Emotion and Peace of Mind (Oxford: 2000), 17–19; Hadot, Philosophy as a Way of Life, 87–90
([21]) Hadot, what is Ancient Philosophy? 6
([22]) Sorabji, Emotion and Peace of Mind, 159–60
([23]) قدم هذا المثال المعاكس ريتشارد سورابجي: R. Sorabji, Emotion and Peace of Mind, 159 – 160.
([24]) Sorabji, Emotion and Peace of Mind, 13; Hadot, Philosophy as aWay of Life, 84
([25]) Annas, Platonic Ethics, ch. 3; D. Sedley, “The Idea of Godlikeness,” inG. Fine (ed.), Plato, II: Ethics, Politics, Religion and the Spiritual Life (Oxford: 1999), 309–28, and J. Domanski, La philosophie: théorie ou manière de vivre? (Paris: 1996), 5–9
([26]) Plato, Theaetetus, 176a6–b3, trans. Sedley, “The Idea of Godlikeness,” 312.
([28]) ذكره الملا صدرا، الأسفار الأربعة، المجلد الأول، ص21، وابن عربي، فصوص الحكم، ص55
* هذا الحديث موضوع، وهو مشهور لدى الصوفية وحدها، وقال عنه ابن حجر «مجهول»، وقال عنه الذهبي «لا يُعرَف»، ووصفه ابن القيم بأنه «باطل».
([29]) Hadot, What is Ancient Philosophy? 69
([30]) Sedley, “The Idea of Godlikeness,” 320
([31]) ابن عربي، الفتوحات المكية، المجلد الأول، ص118، المجلد الثاني، ص187. ورغم ذلك فبدلاً من استخدام ابن عربي كلمة «التألُّه» بوضوح؛ فقد فضَّل الحديث عن الحصول على الفضيلة الإلهية، لأن كلمة «التأله» لن تكون مقبولة في مجتمع توحيدي في جوهره.
- “وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ”، هود 123
([32]) اقترح والبريدج هذه الصلة مع أفلاطون في Walbridge [155], 90–1.
([33]) الملا صدرا، الأسفار الأربعة، المجلد الثالث، ص446.
([34]) المرجع السابق، المجلد الأول، ص22. شدَّد التراث الإشراقي على تكامل النظر العقلي والمجاهدة الروحية، والمثال على ذلك هو السهروردي في «حكمة الإشراق».
([35]) استخدم ابن سينا مصطلح «الحكمة المتعالية» في «الإشارات والتنبيهات»، تحقيق محمود شهابي، طهران، 1996، المجلد الثالث ص399 في مناقشته لمسألة العقول المفارقة. وعلَّق شارحه نصير الدين الطوسي (ت 1274) قائلاً: إن هذا المنهج في التفلسُف يجمع بين البحث [النظر العقلي] والكشف [العرفاني] والذوق [الصوفي]؛ انظر المجلد الثالث ص401؛ كما شدَّد بهمنيار تلميذ ابن سينا على أهمية التأمل باعتباره تعقُّلاً من نوع أرقى من النوع النظري، انظر بهمنيار بن المرزبان، التحصيل، تحقيق وتعليق سيِّد مرتضى مطهري، طهران، 1996، ص816
([36]) جلال الدين آشتياني، شرح مقدمة قيصري بر فصوص الحكم، قم: دفتر تبليغات إسلامي، 1370 [1992]، ص280
([37]) صدر الدين الشيرازي، مفاتيح الغيب، مع تعليقات للمولى علي النوري، صحَّحه وقدَّم له محمد خواجي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرينكي، طهران، 1984، ص41
([38]) يصرح ابن عربي بأن «الفتوحات المكية» قائم على الخبرة الصوفية والكشف الإلهي، انظر الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص389، 432
([39]) يؤكد ابن عربي على عدم أهمية العقل بتشديده على ذكر القرآن لأمِّيَّة النبي، وبذلك تكون الحكمة هبة نبوية وثمرة الكشف الداخلي (الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص595، 644).
([40]) صدر الدين الشيرازي، أسرار الآيات، تحقيق محمد خواجي، طهران، 1360هـ، ص132
([41]) صدر الدين الشيرازي، إيقاظ النائمين، نشر حسن مؤيدي، طهران، 1982، ص69
([42]) لم يستخدم ابن عربي هذا المصطلح، لكنه حاضر في الشروحات على أعماله، خاصة على «فصوص الحكم»، وأولها التي وضعها ابن زوجته صدر الدين القونوي (ت 1274). انظر Chittick [160], 3.
([43]) إن تفرد الله بالوجود هو ما يفسر لنا حاجته لأن يخلق موجودات تعرفه، وهي الفكرة التي تعبر عنها مدرسة وحدة الوجود الإسلامية باستشهادها بقول مأثور للنبي في حديث قدسي عن الله إذ يقول عن نفسه: «كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أُعرَف فخلقت الخلق فبه عرفوني»؛ وبذلك يكون الحب هو دافع الخلق. (انظر الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص232؛ و«كتاب الأوراد الأسبوعية»، إسطنبول 1299 هـ؛ الترجمة الإنجليزية: P. Beneito and S. Hirtenstein وThe Seven Days of the Heart (Oxford: 2000), 115، حيث يدعو الله أن يكشف له عن «وحدة وجوده».
* ينظر المؤلف إلى مذهب وحدة الوجود على أنه مذهب واحدي؛ لأنه يضم الإله والعالم في وحدة واحدة غير منفصلة ولا ثنائية، في مقابل الرؤية الثنائية التي تنظر إلى الإله على أنه كيان روحي مفارق لعالم مادي، وبذلك نكون أمام ثنائية بين الروحي والمادي، أما مذهب وحدة الوجود؛ فلا يعترف بالثنائية ومن ثم فهو بهذه الجهة واحدي.
([44]) هذه الحالة من الفقر الوجودي تؤكدها خبرة الصوفية بأن الإنسان لا يمتلك وجوداً ولا يسيطر عليه، وأنه كلما سعى لمعرفة وجوده أو وجود أشياء العالم؛ لا يجد سوى الله (كما في الآية: الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ. النور 39). انظر ابن عربي، الفتوحات المكية، الباب 328 حول «الحضرة المحمَّدية»، المجلد الثالث، ص105
([45]) انظر عبد الرزاق الكاشاني، معجم اصطلاحات الصوفية، تحقيق عبد العال شاهين، دار المنار، القاهرة، 1992، ص48
([46]) صدر الدين الشيرازي، الأسفار الأربعة، المجلد الأول، ص ص68 – 69. [لم يذكر الشيرازي أن هذا رأياً خاطئاً لابن عربي ولم يذكر ابن عربي في هذا السياق، وإن كان معنى كلامه يشير إلى مذهب الحلَّاج. (المترجم)].
([47]) يقول ابن عربي: «الله موجود ونحن موجودون؛ فلولا معرفتنا بوجودنا ما عرفنا معنى الوجود حتى نقول إن الباري موجود؛ وكذلك لمَّا خلق فينا صفة العلم أثبتنا له العلم وأنه عالِم، وكذا الحياة بحياتنا…»، التدبيرات الإلهية، Kleinere Schriften des Ibn ‘Arabi, ed. J.Nyberg (Leiden: 1919), 208. [ابن عربي، التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية، تحقيق عاصم ابراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2003، ص97. (المترجم)].
([48]) ابن عربي، الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص60، 426 – 7، المجلد الثالث، ص77، 150، 354، 420، 444. لمناقشة الأصول الأنباذوقلية المنحولة لهذه الفكرة، انظر D. de Smet, Empedocles arabus: une lecture néoplatonicienne tardive (Brussels: 1998).
([49]) ابن عربي، فصوص الحكم، الجزء الأول، ص112، 219، الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص394، 426. «نَفَس الرحمن» هو إشارة إلى النفخة التي خلق الله بها آدم: ﱡﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃﱠ الحجر 29
([50]) ابن عربي، التدبيرات الإلهية، ص122 – 123.
([51]) كان ابن برجان المتصوف الأندلسي (455 / 1063م – 536 / 1142م) هو أول من استخدم هذا التعبير حسب ابن عربي، الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص60، 140
([52]) ابن عربي، إنشاء الدوائر، Kleinere Schriften des Ibn ‘Arabi, ed. J.Nyberg, p. 6 – 7.
([53]) [السهروردي، حكمة الإشراق، في «مجموعة مصنفات شيخ إشراق»، بتصحيح ومقدمة هنري كربين، طهران 1373هـ، ص ص15 – 16 (فقرة 9 – 10). المترجم].
* أخطأ المؤلف في هذا الاستشهاد، فهو ليس للملا صدرا بل لأفلوطين في التاسوعات، والمنحولة على أرسطو تحت اسم «أثولوجيا أرسطوطاليس»، والملا صدر يبدأه بذكر المصدر: «تأييد سماعي: قال مفيد المشائين [أرسطو] في “أثولوجيا” في عاشر ميامره…»، ثم يورد الاستشهاد السابق. لم ينتبه المؤلف لهذه العبارة ونسب النص إلى الملا صدرا، وهو منشور في، عبد الرحمن بدوي، أفلوطين عند العرب، ص134. إن استشهاد الملا صدرا بنص من «أثولوجيا أرسطوطاليس» يدلنا على مبلغ تأثير هذا الكتاب في الفكر الإسلامي، من الكندي في القرن الثالث الهجري إلى الملا صدرا في القرن الحادي عشر الهجري. لقد أثرت تاسوعات أفلوطين على الفكر الإسلامي لثمانية قرون!
- رواه الإمام أحمد (17545)، حديث حسن حسب النووي والمنذري والشوكاني، والألباني في «صحيح الترغيب» (1734).
([54]) See Rist, Real Ethics, 95ff.