الدراسات والبحوث

التصوُّف الفلسفي.. ما حقيقته وكيف تسرَّب إلى التداول الإسلامي؟

بسام ناصر

التصوُّف الفلسفي.. ما حقيقته وكيف تسرَّب إلى التداول الإسلامي؟

بسام ناصر

يُعدُّ التصوف من الموضوعات الإشكالية التي دار حولها جدل واسع منذ ظهوره في عصور مبكرة من التاريخ الإسلامي، بين من رآه ترجمة حقيقية لمصطلح “التزكية” القرآني، ومقام “الإحسان” النبوي، وبين من عده وافدا غريبا، أُقحم على التداول الإسلامي، ووفد على المسلمين من ثقافات أخرى، سادت فيها عقائد وثنية، وأفكار منحرفة وضالة.
وعلى مدار التاريخ الإسلامي وُجدت مدارس سنية إسلامية، ضبطت مسار التصوف بضوابط الشريعة، وهو ما يُعرف بـ”التصوف السني”، من أبرزهم أبو القاسم القشيري، والجنيد بن محمد البغدادي، وعبد القادر الجيلاني، وأبو حامد الغزالي، ولهم كلمات تؤكد انضباط تصوفهم بالكتاب والسنة، كما قال الجنيد: “علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب ويحفظ الحديث ولم يتفقه، لا يُقتدى به“.
وفي تأكيد اقتفاء أثر الرسول عليه الصلاة والسلام والسير على سنته، قال الجنيد: “الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه”. وقد أثنى العالم المتفنن تقي الدين بن تيمية المعروف بنقده الصارم للمنحرفين عن الشريعة على الجنيد بقوله: “فمن سلك مسلك الجنيد من أهل التصوف والمعرفة، كان قد اهتدى ونجا وسعد“.
لكن ذلك التصوف العملي السلوكي الذي يُعنى بمجاهدة النفس، والاجتهاد في السلوك إلى الله تعالى، والزهد في الدنيا، ولزوم طريق الاستقامة، والمواظبة على العبادات والذكر والأوراد، داخله في عصور لاحقة ما أُطلق عليه “التصوف الفلسفي”، الذي أقحم الفلسفة على التصوف، وأدخل عليه مفاهيم غامضة ومنحرفة، كوحدة الوجود، والحلول والاتحاد.
في الحديث عن تاريخية “التصوف الفلسفي”، يُذكر أن أول من تكلم به هو شهاب الدين السهروردي (549 ـ 586 هـ) المقتول بتهمة الزندقة، وهو أول من دمج الفلسفة بالتصوف، وعُرف بأفكاره الشاذة والغريبة، كقوله بوحدة الوجود، والحلول والاتحاد، وهو ما حمل الفقهاء على اتهامه بالزندقة، وقد أصدر صلاح الدين الأيوبي أمرا بقتله، وقد تم قتله بالفعل عام 586هـ.
يُشار إلى أن سجالا ساخنا تشهده مواقع التواصل الاجتماعي منذ أسابيع، وما زال محتدما حول التصوف الفلسفي بانحرافاته العقدية المتعددة، فثمة اتجاه داخل المدرسة الأشعرية ينتقد بشدة تأثر بعض الاتجاهات والشخصيات الصوفية، كابن عربي وابن الفارض بالتصوف الفلسفي، وإدخالهم لمصطلحات ومفاهيم قلقة وشائكة متولدة من رحم التصوف الفلسفي، من أبرز شخصيات ذلك الاتجاه، المنظر والمتكلم الأشعري الأردني سعيد فودة وتلاميذه، والمحقق التونسي نزار حمادي.
انتقد الباحث والمحقق التونسي، نزار حمادي في أحد منشوراته تلبس التصوف الفلسفي بالتصوف السني، محذرا من ذلك ومطالبا بضرورة “تنقية كل من التصوف السني والكلام السني من الفلسفات الباطلة التي التبست بهما، ولا شك أن هذه التنقية هي وظيفة الراسخين في العلم، وهو من أعظم الواجبات عليهم“.
وتابع: “ومن هنا، يظهر حجم العبث الكبير الذي يقوم به بعض الناس من إلقاء التصوف الفلسفي من حيث يشعرون أو لا يشعرون على عامة الناس، ظانين أنه تصوف سني، وهذا عين وضع السم في الدسم، والمصيبة أنهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، وأنهم ينشرون التصوف السني، والحال خلاف ذلك“.
وعن المخرج من تلك الفتنة، قال: “ولا مخرج من هذه الفتنة العظيمة إلا باتباع طريق الجادّة في التصوف التي سطرها الإمام زروق وقبله الغزالي في تصوف المعاملة، ونبذ ذكر الكلام الموهم المبهم الملتبس المشكوك أصلا في سُنِّيته، وترك الإغراب على الناس بشقاشق تضرهم ولا تنفعهم لا في دينهم ولا في دنياهم“.
ويتولى في الجهة المقابلة شيوخ وطلبة علم من داخل المدرسة الأشعرية، الدفاع عن شخصيات صوفية معروفة متهمة بتلبسها بالتصوف الصوفي، وإشاعة مقولاته وأفكاره في أوساط أهل السنة، من أبرز نشطائهم على مواقع التواصل الاجتماعي، الباحث اللبناني المتخصص في علم الكلام والمذهب الأشعري، عبد الناصر حدارة، والمدون السوري، الباحث في التصوف، محمد ياسر ياسر، وهما يصران على أن التصوف الفلسفي دخيل على التصوف السني، ويلحان على ضرورة فهم كلام ابن عربي وغيره، وفق مصطلحات الصوفية وإشاراتهم الخاصة بهم.
تلك الإشكالات والاعتراضات على مصطلح “التصوف الفلسفي”، تثير تساؤلات حول حقيقة المفهوم، ومتى وكيف تسرب إلى مجال التداول الإسلامي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى