فنون و آداب

الصوفيَّة في الشعر العربي بين التجربة والتأثّر

جواد العقاد

الصوفيَّة في الشعر العربي بين التجربة والتأثّر

جواد العقاد

ثمة علاقة وثيقة بين التصوف والأدب، فقد ارتبط التصوف منذ بروزه في الفكر الإسلامي بالأدب؛ كلاهما يسمو بالروح والوجدان، وإن الصوفيين لديهم مفردات ذات دلالات خاصة متعلقة بنظرتهم تُجَاه الكون وعلاقتهم مع الله، وهذا بدوره يُغني النص الأدبي إضافةً إلى الروحانية ونظرة الصوفية إلى الغيب، حتى أن أحاديثهم في غالبها قريبة إلى الأدب، بمعنى أنها مترفعةٌ عن لغة التواصل اليومي؛ نتيجة مضمونها الروحي والوجداني.

ومنذ تبلور التصوف، في نهاية القرن الثالث الهجري، كمذهب ديني فلسفي يسمو بالروح والوجدان، بما فيه من اصطلاحات وعبارات لها دلالتها الخاصة في الفكر الصوفي، على ما يبدو كان للشعر نصيب الأسد في الأدب الصوفي، وقد برع شعراء الصوفية في التعبير عن تجاربهم الروحية والوجدانية مع خالقهم، هذه التجارب التي أثرَتْ مواهبهم؛ ولهذا النص الشعري الصوفي على درجة عالية من الشاعرية؛ نتيجة لتقارب التصوّف والأدب. ولا أستطيع الجزم بغلبة الشعر الصوفي على النثر الصوفي كمًّا، ولا يهم التغليب، لكن لا يُمكن إنكار الأثر الغلاب للشعر الصوفي في الثقافة العربية، فقد لاقى شهرة واسعة وترك أثرًا عظيمًا؛ لاهتمام الباحثين به منذ وقت مبكر، إضافة إلى القالب الموسيقي الجميل الذي حوى مضامين مهمة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا كان أثر الصوفية في الشعر أكثر شيوعًا منه في النثر؟
الجواب لابد إلا أن يكون في محورين:
أولًا: لأن الشعر الصوفي أصبح فنًا شعريًا مستقلًا له خصائصه الفنية والموضوعية في العصر الذهبي للأدب العربي بعامة وللشعر بخاصة، العصر العباسي، حيثُ بلغ الشعر العربي أوجه؛ نتيجة الانفتاح الثقافي على الحضارات الأجنبية وما تبع ذلك من عوامل لسنا في خضم الحديث عنها، بمعنى أن غلبة الأدب كانت للشعر في العصر الذي تبلور فيه التصوف.
ثانيًا: ثمة تقارب بين استخدام الصوفية للغة وبين اللغة الشعرية، فالعبارة الصوفية قائمة على الإيحاء، لهذا نرى الشاعر الصوفي النفّري يقول: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”. ولذلك فإن اللغة الصوفية أقرب إلى الشعر الذي يُبنى على الإيجاز؛ أي جمع معانٍ كثيرة في ألفاظ قليلة، مما يكون سببًا في إيحاء الشعر والبعد عن السرد ولغة النثر. ويمكننا القول بأن شاعرية اللغة الصوفية أدت إلى اقتراب الكتابات النثرية للصوفيين من الشعر، ما دفع بعضُ الباحثين إلى الربط تراثيًا بين هذه الكتابات والنصوص الشعرية الحديثة التي عُرفت باسم “قصيدة النثر” وربما نستطيع تسمية بعض هذه الكتابات “نثر مشعور” أو “شعر منثور” فلو كانت معروفة هذه المصطلحات في زمن أدباء الصوفية، لصنفوا كتاباتهم بها.
نستنتج مما تقدم أن الأدب الصوفي وإن كان نثرًا، نجد فيه صبغة شعرية دائمًا. وقد عبَّر الصوفيون عن أفكارهم وتجاربهم بنصوص نثرية إبداعية تلامس روح الشعر، ومنها على سبيل المثال: كتاب المواقف للنفري، مناجيات الحلاج، رسائل الرومي والتبريزي.
وقد كان الشعر الصوفي في عصوره الأولى ينبع من تجارب ذاتية يخوضها الشاعر مع ربه، وهذا جليّ في أشعارهم حيث يبدو للمتلقي أن الشاعر متشبع بالتجربة الروحانية، وشعره ليس مجرد تأثرٍ أو إعجاب بالفكر الصوفي كما هو شائع في الشعر المعاصر.
ومن النماذج الشعرية لشعراء صوفية:
أُقْتُلُوني يا ثقاتـــي إنّ في قتـْلي حياتــــي
ومماتـي في حياتـي وحياتي في مماتـي
أنّ عنـدي محْو ذاتـي من أجّل المكرمـات
و بقائـي في صفاتـي من قبيح السّيّئــات
سَئِمَتْ نفسـي حياتـي في الرسوم الباليـات
فاقتلونـي واحرقونـي بعظامـي الفانيــات
ثم مـرّوا برفاتـــي في القبور الدارسـات
تجدوا سـرّ حبيبــي في طوايا الباقيــات( الحلاج).

 

________________________________________

*نقلًا عن صحيفة “اليمامة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى