فنون و آداب

التصــــوُّف وحــــــالاته في القصــــيدة الحديثة

التصــــوُّف وحــــــالاته في القصــــيدة الحديثة

 

إذا كان قاموس الزهد في الكتابة العربية، ظلَّ واحداً في الشعر العربي، منذ نشأته في صدر العصر العباسي، حتى أيامنا هذه، مفرداتٍ وأبنيةً، وظهر هذا الثبات، في صورة ثبات آخر، حيث الأفكار والصور والمعاني، وتسلسلت مكونات الزهد في الشعر، إلى الشعر الصوفي، حتى بات من العسير أحيانا، التفريق بينهما في القصيدة العربية، واستمرت هذه الحال في القصيدة العربية المعاصرة، إذ حاول غير واحد من شعرائها، البحث عن جدٍّ صوفي لها، ويمكننا أن نذكر أسماء كثيرة من شعراء القصيدة العربية الحديثة، اقتربوا من النص الصوفي وابتعدوا عن أصواته، يتقدمهم الشيخ محي الدين بن عربي والنفَّري وأبو يزيد البسطامي.

غير أن اقتراب الشاعر من النص الصوفي، يكون مستمراً حيناً، كما هي الحال في تجربة محمد عفيفي مطر، ومرحلياً حيناً، كما في تجربة عبد الوهاب البياتي، وقد تدخل مكونات التصوف، خصوصا على صعيدي اللغة والرمز، في نسيج تجارب الشعراء كما هي الحال في تجارب صلاح عبد الصبور وأحمد الطريبق وعبد الكريم الناعم.

ولأنني سأتوقف عند تجربة الناعم في الاقتراب من النص الصوفي، ينبغي أن أشير إلى أنه جعل من الزهد مرقاة إلى إحساس صوفي، واختار من القاموس الصوفي، ما يتلاءم وتجربته ومتغيراتها، بل ما يتلاءم وموقعه من الحياة.

إن القصيدة العربية الحديثة، في كل محاولاتها للاقتراب من التجربة الصوفية، لم تتجاوز في هذا الاقتراب، محاولة توظيف التراث الصوفي، بصفحتيه الروحية والفلسفية، وما رافقهما من أحداث، وما شهدتا من منعطفات وأنتجتا من رموز، لتحقيق إضافة ما إلى القصيدة الحديثة.

وكان التعامل مع التجربة الصوفية، مثلما كان التعامل مع الأسطورة والتاريخ، أي إن الشاعر المعاصر، وهو يستعير مفردات التجربة الصوفية، غير ملزم بأهداف المتصوفة ونزعاتهم ومقولاتهم، في معرفة الذات الإلهية وتطهير الذات والتقدم الروحي، وحين تظهر في قاموسه مفردات صوفية، فهي لا تكرر المعنى الصوفي، بقدر ما تذهب إلى معنى تتوهج فيه القصيدة، ولا تفرض على الشاعر الحديث أن يكون من أهل الحقيقة في مواجهة أهل الشريعة، وإن مفردات مثل المجاهدة والإشراق والكشف والغناء والمشاهدة، التي انتقلت إلى القصيدة الحديثة من مظان النثر الصوفي، ليست سوى محاولة من الشاعر العربي الحديث لتنويع مصادره اللغوية والإنفتاح بقاموسه إلى أقصى ما يستطيع الوصول إليه، ومثل هذه الصوفية ببعديها الرمزي واللغوي، نجدها عند شعراء عالميين، منهم الشاعر الروسي بوريس باسترناك، مثلاً.

إن ظهور مكونات التصوف في القصيدة العربية الحديثة، وقد جاء بدوافع فنية، تغتني أحياناً، بمؤثرات موضوعية، منها تكوين ثقافي مؤسس على معرفة فلسفية، كما هو محمد عفيفي مطر، ومنها نزعة زهد تغتني بمعرفة صوفية، كما هو عبد الكريم الناعم، الذي يفصح عن توجهه هذا، بالقول: الرغبة في المطارحة والبوح، البوح بالمشاعر أو بالمعارف ، ومن ثم فهو يدرك الفرق بين شهوة الكلام والبوح .

ويتميز الناعم، كون مصادره الصوفية، تذهب بعيداً في التنوع بحثاً عن الجمال، إذ يقول: ليس في عالمنا من يمثل الجمال كله، بل ثمة تجليات للجمال، فلنكن مع الجميل الذي لا ينفصل عن الخير والحق .

فهو في قصيدة بوابة من مجموعة من سكر الطين ، ليس بعيداً عن الشعراء الصوفيين الفرس: يا صاحب الحان/ إذ كنت تعلم إن خمرتك تبكي/ فلماذا تصب كل هذا الخمر في جام روحي؟!/ سيدي، علامتي البكاء حين تزقزق العصافير على شجرة قلبي/ فلا تقطع الشرب عنّي/ منكَ الشراب/ ومني البكاء .

ولعل الناعم، أقرب إلى التفرد بين شعراء القصيدة الحديثة، في إفادته من نصوص أدب الدعاء، التي نهلت هي الأخرى من النثر الصوفي، كما في قصائد: على أبواب القصيدة الأخيرة : يالله أغثني/ قطرة ماء/ حتى صوتي جفّ..تشقّق/ فهو يلوب، ينوس/ تدلى مثل قطاةٍ ظمأى أذهلها عمقُ الصحراء/ يالله أغثني .

وإذا كان عبد الكريم الناعم، لم يغب عن تجربته الشعرية، على امتدادها، المؤثر الصوفي، فإن هذا المؤثر كان أكثر وضوحاً ونضجاً في مجموعتة مائدة الفحم لغةً وتمثلاً، كأن طول علاقته بآثار الصوفيين، جعله قريباً من حال التصوف، يعينه على هذا القرب، استعداد وسلوك وتجربة حياة.

يقول: على بابك السرمديّ أُنيخ ركابي/ وحيداً/ لقد ذهب الأهل والصحب/ لم يبق غيري وغيرك/ أنت على شاهق من غموض التجلي .

ويقول: الشفة التي بها أقول..لاإله إلا الله/ بها أقبل العقيق ضافياً على مدارج الشفاة/ فيا مُدلِّة الغصون باخضرارها/ ويا مفتِّق الوعود بابتكارها/ فكان نصفهُ للعشق صافياً/ ونصفهُ الآخر للصلاة .

ولأن عبد الكريم، تتجلى صوفيته في نصه الشعري فقط، مثل معظم الشعراء المحدثين الذين أفادوا من التجربة الصوفية، غير أن هذه التجربة، تدفع به إلى أفق أوسع، شاعراً وإنساناً.

 

________________________________

*نقلًا عن موقع ” صحفي “.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى