فنون و آداب

كشف المكنون في شعر التصوُّف باللسان العربي

محمود مليان

كشف المكنون في شعر التصوُّف باللسان العربي

محمود مليان

(أستاذ محاضر في جامعة ليون-فرنسا) 

المقدمة :

علم التصوف علم ليس يعرفه إلا / أخــــو فطنــــة بالحــــق معــــروف

وليـس يعرفـه من ليـس يشـهده / وكيف يشهد ضوء الشمسِ مكفوف؟الجنيد1

1- المعلم والفتى:

1«كل إناء بما فيه يرشح» وشاعرنا ينبذ جودا فجاءت دعوته عامة لكل فطن بصير يريد أن يشهد الشمس ويلج نعيم مآدب التصوف، فيأنس ويطرب، يسيح ويشرب، يتفرج ويتأمل، يحلق فيتيه… ثم يفرح. والجنيد لاتخفى عنه آداب الضيافة، فها هو بلطف وكياسة، يأخذ بيد المريدين ليطوف بهم، هامسا طورا ومنشدا طورا : إن المعرفة لا تكون إلا بالتعلم. وما أحذقه في الإغراء وإثارة الرغبة بالثناء على الطريقة، شأنه شأن شيوخ القرن الثالث والرابع الهجري في إلقاء الدروس وإسداء النصح للصحب من الفتيان، بعطف يسلك سبيل التدرج في التفسير نثرا ثم في التبليغ بالأهازيج الفردية والجماعية شعرا ونظما، وهو رأس مدرسة بغداد الصوفية.

2اخترنا بلاغة الشعر، إذ فيه متعة الأذن ولذة الفكر ونشوة القلب وطرب النفس وحركة الكيان بسحر البيان، وفيه تمتزج الأنفس وتتبلل الأجسام وتلتقي الأعين وتتناغم الإشارات مع إيقاع الأوزان، ينقش في الحافظة ويجري على اللسان، فيصبح الدهر منشدا.

3فلا غرو إذن أن نعرض عينة من المختار على بعض الأخيار في ندوة عالمية التأمت بجامعة «جان مولان» ليون 3 – فرنسا من يوم الخميس الرابع عشر إلى يوم السبت السادس عشر من سبتمبر – أيلول 2006. كان عنوانها «الشيوخ والتلاميذ في التصوف وذلك في القرنين الثالث والرابع الهجري أي التاسع والعاشر الميلادي». كانت المداخلات بالفرنسية والإنجليزية، وليس من الصواب أن يكون اللسان العربي مغيبا ونحن أتينا للحديث عن مذهب «الروحانيات» الذي يقول عن نفسه إنه تحقق الحبيب الذي أنزل الذكر بلسان عربي مبين ويعتصم بالكتاب والسنة ويتخذ من سيد المرسلين إماما وقدوة. آنذاك كانت العبادة والمناجاة والإنشاد والتعليم بلغة الضاد، إلا أني ما رأيت بأسا في ترجمة بعض الأبيات إلى الفرنسية استجابة لطلب بعض المحا ضرين.

4مداخلتنا لا تعرض للشعر الصوفي بالفارسية والتركية حيث ترجم بعض منه إلى اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية بل قصدنا عين الشعر التي انفجرت من أحشاء جزيرة العرب وفاضت على الدنيا. ولأرض الرافدين حظ كبير في تأسيس هذه المدرسة الجديدة في الأدب والفكر، وذلك عندما اشتدت الصراعات السياسية والمذهبية والفلسفية وتعددت الثقافات والعلوم. وكان الشعر لغة المحاكم الأدبية من تقولات ومرافعات ومداخلات وشطحات ومسرحيات… وكان مذهب التصوف طرفا فيها. هدفنا هنا هو أن نتبين في المجهر بعضا من صدفاته ودرره وبحاره من نظرة أدبية لا غير.

5يعتقد البعض أن المتصوفين يعيشون في السحاب لا على الأرض، كلا وكلا، إنهم واقعيون، كانوا يستلهمون الماضي للاستفادة من تجاربه ويستشعرون الحاضر لتجاوز عيوبه وأخطائه وجهالاته، ويستشفون المستقبل.

6ومذهبهم لم يخلق من العدم، ولم يكن منزويا في دويرات بأبواب موصدة، بل بالعكس كان متفاعلا مع مجتمعه، ساعيا إلى الإبداع بالفكر واللسان واليد، والإصلاح لا يقوم إلا بالتعليم والتربية الحسنة.

7وقبلهم دعا عبد الله بن المقفع «في الأدب الكبير» و«الأدب الصغير» إلى سلوك سبيل المعرفة في التعامل مع المجتمع وإلى الاعتبار والتمتع بذاك الأثر الجليل «كليلة ودمنة».

8وقبلهم أيضا دعا إخوان الصفاء وخلان الوفاء في «الرسائل» إلى نشر الثقافة الإيجابية لتهذيب النفوس ونشر العلوم النظرية والتطبيقية كالطب والهندسة والطبيعيات، وكانوا يطلبون طريق «السعادة في الدنيا والآخرة».

9وكإخوان الصفاء، كان الصوفية يؤثرون تربية الفتيان المريدين على تربية الشيوخ، إذ العلم في الصغر كالنقش في الحجر، فأهل الكهف فتية آمنوا بربهم ويحيى أوتي الحكم صبيا.

10والفتى في نظرهم ليس ذاك الفتى القتيل (طرفة) ولا «الفتى السيّدا» (صخر أخو الخنساء)، إنما الفتى هو الذي يتربى على العفة والطهر ويتدرب على الصبر ويعمد إلى تهذيب الفكر، وهو الفتوة ونبل الأخلاق. إن الشغل الشاغل للمعلم هو ألا يسلك فتاه سبيل بعض الزهاد الذين قاموا بالكبائر ثم تابوا وتزهدوا، أليس الوقاية خير من العلاج ؟

11أملنا هو محاولة النفاذ إلى مناجمه لتتبع خيوطه الذهبية المترابطة والمتشابكة مع أحجار كريمة قديمة. ومفتاح السمسم في الكشف عن بعض اللمع سهل ممتنع. والولوج إليه يبدأ بالتعلم انطلاقا من اللغة.

2- ما الهوى ؟

12«قل إن كنتم تحبون الله فاتبِعوني يُحببكمُ اللهُ وَ يَغفِر لكم ذنوبَكم وَ اللهُ غَفور رحيم» الآية 31 آل عمران 3.

13«حب الله» لفظتان اثنتان تشكلان مركز الثقل في مذهب الصوفية، فيهما كتبت وتكتب المؤلفات نثرا وشعرا. والحب لفظة مجردة ولكنها كلم. مستقرها القلب عند شعوب الدنيا، وتأنيسا، الحب هو قلب الحياة وحياة القلب وقال بعضهم الحب لا يموت2… والحي القيوم يحب من يحبه.

14وفي العربية، تسعة وتسعون لفظة تمثل درجات وأنواع الحب من المحبة إلى الجنون والفناء المادي والبقاء الروحي… وهو الكون كله : زهرة، نرجس، غزال، لؤلؤة، بلبل، ثريا، روح… ما من أحد إلا وتكلم فيه على هواه.

15أنشد الجنيد :

نون الهوى من الهوان مسروقة فصريع كل هوًى صريع هوان3

16أصل الهوى من الهوان والجذر هوي أصله هون. حصل فيه إبدال. ألا ترى أننا نقول هوى يهوي بمعنى وقع، ومنه الهاوية. وفي الفرنسية نقول «وقع في الهوى» tomber amoureux أي أحب وهام. فالهوى هون قد يؤدي إلى الصرع. ولعل في البيت تعريض allusion بمسلم بن الوليد الملقب بصريع الغواني4. هناك جناس بين هوان وغوان. إذا عوضنا كلمة هوان بغوان يصير بيت الجنيد :

نون الهوى من الهوان مسروقة / فصريع كل هوًى صريع غوان

3- المراجع الأم :

17نذكر ثلاثة مراجع نراها الأساس في هذا المقال وهي ليست حصرا إذ بغيتنا التسهيل والإفادة بالإشارة في أسفل الصفحات :

181- كتاب «اللمع» لأبي نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي الملقب بطاووس الفقراء، المتوفى في رجب سنة 378/988. حققه وقدم له وخرج أحاديثه: الدكتور عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، ط. دار الكتب الحديثة بمصر ومكتبة المثنى، بغداد. 1380/1920. لجنة التراث الصوفي. أقدم موسوعة صوفية وهو الكتاب الأم في تاريخ التصوف الإسلامي.

192- «قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد» للشيخ أبي طالب المكي محمد بن علي المتوفى ببغداد سنة 386/996.

203- «الرّسالة القشيريّة في علم التصوف» لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري (376-465/987-1073). نيسابور، وعليها هوامش من شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 1367/1957.

21قال مسلم بن الوليد : [الطويل]

نبــارز أبطــال الــوغــى فنبيــدهــم / ويقتلنا في السلم لحظ الكواعب

وليست سيوف الهند تفني نفوسنا / ولكن سهام فوقت في الحواجب

تعدد المعاني في ندرة المباني :

1- نشيد الجنيد :

22أنشد في حالة5 :

23وتحققتـك في سـرّي فناجاك لساني / فاجتمعنا لمعان وافترقنا لمعاني

24إن يكن غيّبك التعظيم عن لحظ عياني / فلقد صيّرك الوجد من الأحشاء داني

Je T’ai vu vraiment dans mon secret

Et, ma langue T’a imploré

Nous nous sommes réunis pour des sens

Et nous nous sommes séparés pour des sens

Si l’exaltation T’a éloigné de mon regard

L’extase T’a rendu proche de mes entrailles

25من يقطع البيت الأول مثلا يجد فيه 4 تفعيلات سداسية في الصدر و4 في العجز :

26فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ×2.

27نحن نعلم أن بحر الرمل له ستة أجزاء6 والبيت هنا يتكون من ثمانية أجزاء. أراد الجنيد مخالفة العادة التي تسمح بحذف العروض والضرب (مجزوء) وليس العكس.

28الاتساع في البيت، خلافا لشعراء الحب، يفضل الجنيد لفظتي الجمع والفرق على الوصل والبين. يقينا أبصرك قلبي فناجاك لسان حالي، ولسان الحال أبين من لسان المقال «فاجتمعنا لمعان وافترقنا لمعاني»، لفظة «معاني» مكررة مرتين وهي جمع ونكرة أي تفيد الكثرة والتنوع دون تحديد وهي مقرونة بفعلين متضادين اِجتمعنا وافترقنا، إذن اللفظة من الأضداد وهذه تورية طريفة une périphrase originale والتصريح يضطرنا إلى التصور، الاجتماع مطلق أي اجتماعات والافتراق مطلق أي افتراقات، وذلك يعني أن هناك حالات الجمع وحالات الفرق.حالات الجمع تفيد القرب والسكر والوجد والمشاهدة والرحمة والمغفرة… وحالات الفرق تفيد الصحو والعبادات والنصح وعمل المعروف… إن هذه المفردات وإن كانت في نفس الخط البياني للأخلاق إلا أنها ليست متطابقة، هي متماثلة فالقرب لا يعني الاتصال والبعد لا يعني الانفصال، فالبعيد حقيقة هو قريب في القلب والقريب حقيقة هو بعيد بالتصور لأنه ممتنع، هذا البديع الكلامي جعل الحلاج يقول : [الطويل]

29فقلت أخلائي هي الشمس نورها / قريب ولكن في تناولها بعد7.

C’est du soleil ! Mes chers amis

Sa lumière est proche mais Il est inaccessible

30وتاه الصوفية في تفسير معاني الجمع والتفرقة، فلا غرو أن يفترقوا والمطلق لا يحد، ثم أليس القلب مخزن الأسرار والذكريات ؟ وقد نصح امرؤ القيس بكتم الأسرار :

إذا المـرء لم يخـزن عليـه لسـانه / فليس على شيء سواه بخزان8

Si l’homme ne garde pas sa langue, / Alors il ne peut rien garder

31أليس من الفضول المشط أن نتحسس ونتجسس خبايا الجنيد ؟ وهو الصادق الأمين الحافظ لأحواله في خلواته مع معبوده :

طـوارق أنـوار تلـوج إذا بـدت / فتظهر كتمانا وتخبر عن جمع

Lorsqu’ils se dévoilent, les éclats de lumière pénètrent !

Secrètement, ils se manifestent, Sur une réunion, ils informent !

32هذا بديع فريد طريف، يجري فيه الطباق oppositions جريا وتسري فيه المفارقات رقيقة contrastes subtils : طوارق الليل أنوار، تلوج [سويداء القلب]، تبدو [ليلا]، تظهر كتمانا (عن إفراد)، وهناك تعلق معنوي syllepse بين كتمان وتخبر، (عن جمع) أي صفاء الوجد فتقابله رحمة المحبوب وهي الأنوار، وإضمارا تغيب لتبدو أي تبين tabînu وهذا الفعل من الأضداد يفيد البعد والقرب في آن واحد، فالأنوار حاضرة غائبة. كل البيت أنوار تلج وتخرج. ما هي هذه الأنوار ؟ توفي الجنيد وحمل معه أسراره.

2- بين الجنيد والحلاج :

33لقب أبو القاسم الجنيد البغدادي بسيد المتصوفين «وكان أحد شيوخ الحلاج»9. رأيناه ينشد – في غير حالة – بيتين يمثلان مذهبه في تحقق محبوبه. ومما لفت انتباهنا هو أننا وجدنا هذا «التحقق» منسوبا إلى الحلاج في ديوانه ص. 164، ولكن على الشكل التالي : [من مجزوء الرمل]

قـد تحققتـك فيسر / ري فناجاك لساني

فاجتمعنــــا لمعــــان / وافتـــرقـنــــــــا لمعــــاني

إن يكن غيبك التعـ / ظيم عن لحظ عياني

فلقـد صيـــرك الوجـ / د من الأحشاء داني

34أشار محمد باسل عيون السود، صاحب ديوان الحلاج، أن الأبيات وردت في «تاريخ بغداد» 8/115 للخطيب البغدادي. أ عجبا أن يشدو الحلاج نشيد شيخه ؟ كلا، ولكن نحن لا نفهم كيف نسب اليه وبعرض يفضحه العي، والقشيري نسبها صراحة إلى الجنيد ص. 36.

35بحثنا يتناول المرحلة الأساس في الفكر الصوفي وتطوره، ويحاول أن يتتبع الطريقة التعليمية للشيوخ، وهذا يوجب علينا أن نرجع ما لقيصر لقيصر.

36ذكر الأستاذ «روجي ديلادريار» أن الحلاج قد انفصل عن مدرسة الجنيد ليوسع فيها، فمثلا أنشد تحققه حبيبه في الصفحة 163 من الديوان [من مجزوء الرمل]

يا حبيبي أنت سؤلي / قد تراني في مكاني

نـورك المـبـهــر حقــا / لـعـيـانـي لـعـيـانـي

وتحققتــك فاصـنـع / كل ما شئت بشاني

أنـا فـي الحـب قتيل / ومع الأحباب فاني

37عجز البيت الثاني «لعياني لعياني» له معان ومعان فبعد أن كان نور الحبيب يزور القلب عند سواد الليل ويتخفى صباحا (الجنيد)، فها هو أصبح باهرا حقا وفي كل مكان :

بقلبي وروحي والضمير وخاطري / و تـرداد أنفاسـي وعقـد لسـاني10

38فالعيان عين على عين : عين القلب، عين الروح، عين الضمير، عين الخاطر، عين النفس وحتى عين اللسان المعقود وأيضا أم العين. فحبيب الحلاج ليس كمثله حبيب، إنه يتجلى ظاهرا وباطنا، وفي هذا المعنى قال الحكيم الفيلسوف ابن سينا (369/980-428/1037)

و بقيت لا شيئا أعاينه إلا حسبت بأنه ربي11

39المعاينة والعيان مصدر عاين أي العين في العين «أنت تراني في مكاني» وأنا أراك ظاهرا باطنا.

3- الشبلي12 والصبر :

40حبس الشبلي في المارستان وقد كبل أو كلب، فزاره بعض أصدقائه وسألوه عن الصبر فتجلى شعرا :

عبرات خططن في الخد سطرا / قد قراها من ليس يحسن يقرا

إن صوت المحب من ألم الشو / ق وخوف الفراق يـورث ضـرا

صابر الصبر فاستغاث به الصـبر / فصاح المحب بالصبر: صبرا13

41وتفاجئنا المفارقات ! فالعبرات – ماء العين الزائل – انقلبن مدادا يكتب في الخد سطرا. في العين نون، والنون الدواة. والعين حاسة الرؤية انقلبت ﻋينا جارية، والخد انقلب رقعة. الخد والرقعة شيء أحد. «سيماهم في وجوههم من أثر السجود». الآية 29 م الفتح 48.

42أليس هذا شيء غير معهود ؟ فالخط والسطر انقلبا آية لها قراءات.اعتقد عُظم الناس أن الدموع التي تنهمر كالمطر هي عنوان أشجان هيجتها ذكرى حبيب… كانت الأيام معه سعيدة ! والدموع هي أيضا لوعة وجزع على فقد عزيز، والخنساء قد جفت مآقيها وكادت تقتل نفسها على صخر أخيها، أما الحسن بن هانئ فيرى الدمع فاضحا للعاشق وقت الرحيل.

43ولكن كل هذه الدموع الغزيرة مذمومة في رأي الشبلي. قراءة «عبرات خططن في الخد سطرا» بالفعل «قرا» وبالهمزة المخففة في الماضي يدل على فهم الجاهليين ومن اتبع سننهم. أما هو فيقترح الأمر : اقرأ العبرات هي «صوت المحب من ألم الشوق وخوف الفراق». كان الصوت هجسا خفيا نابعا من القلب، جادت له العين بمائها فتجلى رسما مبينا، وإضمارا elliptiquement غاض ضياء العين هدية للقلب المنتشي بالأنوار. يا لها من كرامة ! الصوت هنا ثلاثة أنواع : خفي وصوت استغاثة وصوت آمر (صاح بالصبر). إنه صوت على صوت لقد استحال صوت الألم والخوف متعة بنعيم الحبيب.

44البيت الثالث ما هو إلا تعلق معنوي syllepse بالبيتين الأولين : تجلد القلب ففاز بالرحمة :

صابر الصبر فاستغاث به الصـ / بر فصاح المحب بالصبر : صبرا

45جمع الشبلي الجذر صبر خمس مرات في بيت واحد. خمسة كأصابع اليد وكأركان خمسة وكصلوات خمس. الصبر المشخص خمس مرات فيصبح البيت بأجمعه صبرا تاما أي عين الصبر، صبر على صبر كنور على نور.

46أحد محدثينا هاله هذا العدد من التكرار فقال إنها فذلكة، ونحن لا نخال الشبلي هازلا وهو في الأغلال. «إنه لقول فصل وما هو بالهزل» 13 و14 الطارق 86 ولهتك الحجاب نعوض الصبر بنفس، لأن الصبر هو مجاهدة النفس ومحاسبتها :

صابر النفس فاستغاثت به النـ / ـفس فصاح المحب بالنفس : صبرا

47والنفس هي أيضا العين: قال بشار بن برد (96/714-168/784): [الطويل-الديوان]

48وليس الذي يجري من العين ماؤها / و لكنها نفس تذوب فتقطر

Ce qui coule de mes yeux, ce n’est pas de l’eau

Mais c’est une âme qui fond et coule goûte à goûte

49إذا عوضنا النفس بالعين يصبح البيت :

صا بر العين فاستغاثت به العيـ / ن فصاح المحب بالعين : صبرا

50والعين الدم (اللسان ج 4، ص 238). موت لحياة جديدة. إن ذكر مفردة مرتين أو أكثر في البيت أو البيتين للدلالة على تعدد معانيها polysémie لفن معروف إلا أنه شاع أكثر في عصر البديع الذي وضعه ابن المعتز ويسمى هذا الفن توليدا أو إغراقا وسماه الجاحظ المذهب الكلامي. والآن نقترح ترجمة للأبيات الثلاثة :

Des larmes tracèrent sur la joue une ligne

Lues par celui qui ne sait pas lire

Ce sont les stigmates des cris de l’amant

Les souffrances de la passion

Les angoisses de l’abandon

Le duel entre l’amant et lui-même

Le cri de secours avant la mort

Le cri de victoire du patient

4- الموت هجرا أم قربا ؟

51اشتهر بنو عذرة بالحب العفيف حتى قال بعضهم «نحن من قوم إذا أحبوا ماتوا». مات جميل بن معمر حبا وماتت صاحبته بثينة حزنا وغما، وماتت ليلى الأخيلية عندما ناداها حبيبها عتبة بن حميّر من وراء صفائح القبر ودفنت إلى جنبه. وشهداء الغرام والوله كثر، وقيل إن عروة بن حزام العذري – صاحب عفراء- هو أول عاشق مات بالهجر من المخضرمين وفيه قال المجنون14 :

عجبت لعروة العذري أمسى / أحاديثا لقوم بعد قوم

وعــروة مات موتا مســتريحـا / وها أنا ذا أموت كل يوم

52أخذ الشبلي فكرة الموت حبا عن شعراء الغزل وأراد أن يتميز عنهم بالدعوة إلى مدرسته، فبعد أن كان الهجر موتا والوصل إحياء والهوى عذابا، أصبحت الشهادة في كلتي الحالتين قدرا محتوما ؛ البين قاتل شوقا والوصل قاتل خوف الفراق وهكذا الفناء ليس عذابا بل عذرا أي مغفرة ورحمة :

عبرات خططن في الخد سطرا / قد قراها من ليس يحسن يقرا

إن موت المحب من ألم الشو / ق وخوف الفراق يورث عذرا

Des larmes tracèrent sur la joue une ligne

Lues par celui qui ne sait pas lire

C’est le calvaire de la passion

Et, la crainte de l’abandon

C’est l’amant martyre

Le signe de sa sincérité

53وللتعبير عن هذه الفكرة اكتفى بأن رجع إلى الأبيات الثلاثة المذكورة آنفا والتي أنشدها في مقام الصبر، ولكنه جعل تضمينا في البيت الثاني إذ عوض «صوت» بـ «موت» (جناس نطقا وكتابة allitération phonétique et graphique) و«ضرا» بـ «عذرا» وهكذا تتولد المعاني الكثيرة من نفس المباني القليلة في انسجام تام.

5- العين والقلب L’œil et le cœur

5-1- هل النور من الأضداد La lumière est-elle antonyme ?

أ- الليل الحزين :

54لدغت فاطم امرأ القيس (500-540) بتدللها فصعق وغاص في ليل طويل من الهموم، وهل من منام ؟ بات يرعى النجوم، بلا أمل ! إلى أين الهروب ؟ فصبحه ظلام :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي / بصبح وما الإصباح منك بأمثل

Ô Nuit longue, dégage !

Quoique le matin n’est pas mieux que toi !

ب- الليل السعيد :

55أما أبو العلاء البصير (363/973-449/1058) فقد جعل ظلمته سعادة :

ليلتي هذه عروس من الزنج / عليها قلائد من جمان

Ma Nuit, celle-ci, est une fiancée noire

Portant des colliers de Perles

56هل تفقد العين وظيفتها ؟ للجواب على هذا السؤال، نقترح مقارنة بين الليل عند امرئ القيس وعند أبي العلاء :

امرؤ القيس له حاسة الرؤية / أبو العلاء الأعمى

– النجوم والصبح ظلام / – الليل عروس والنجوم قلائد من جمان

– انقلب النور ظلاما / – انقلب الظلام نورا

– المبصر استحال أعمى / – الأعمى استحال بصيرا

الاستقراء :

57النور والظلام من الأضداد. فقدت العين وظيفتها وهي التمييز بين الألوان، وبالتالي فقدت حركتها فأصبحت جامدة ميتة، وقام مقامها القلب (والقلب لغة هو العكس والضد al-qalb :l’inversement, le renversement : le contraire ) وهو مبصر لا ينام، حي ينبض، يحزن ويفرح كما يشاء، وبالرغم من أنه محجوب في الأحشاء فهو يقلب حقائق الأشياء : Le cœur renverse les réalités. والليل حقيقي وتخيلي، والنور ظاهر وخفي.

58- نور العين (النور الظاهر) :

ترى النور ظلاما ← خلط confusion←عمى cécité

59- عين القلب (النور الخفي) :

تثقب الظلام لترى النور، ليس هناك خلط pas de confusion←إبصار vue.

5-2- هل النوم حلال أم حرام ؟

60أنشد الشبلي مع حلقته15

عجبا للمحب كيف ينام / كل نوم على المحب حرام

C’est étonnant ! L’amant doit-il dormir ?

Tout sommeil pour l’amant est illicite.

61النوم في صدر البيت «ينام» هو النوم الحلال Le sommeil licite «هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون» الآية 67 ك.

62سورة يونس 10. العين مغمضة للراحة والسكينة. أما النوم في عجز البيت فهو النوم الحرام Le sommeil illicite لأنه غفلة inattention عن المحبوب، وواجب العاشق أن يكون غيورا vigilant. سهر القلب السعيد L’éveil du cœur heureux. إنه الليل الروحاني !

63عن أبي علي الدقاق قال شاه الكرماني16

رأيت سرور قلبي في منامي / فأحببت التنعس والمناما

Dans mon sommeil, j’ai vu le bonheur de mon cœur.

Alors, j’ai aimé l’assoupissement et le sommeil.

6- الخمرة الحلال أم الخمرة الحرام ؟

64الكل يعرف أن الأدب العربي تميز عن غيره من الآداب بموضوع الخمرة وما يثيره دائما من خلافات مذهبية وحتى سياسية وافترقت الآراء حول شاربها فكفره البعض بأن وضه في الدرك الأسفل ووضعه الآخر في المنزلة بين المنزلتين، في حين غض عنه الطرف آخرون ودعوا له بالهداية وبقيت فرقة بلا رأي لمعان وأرجأت الأمر إلى يوم الحساب.

65رقت الخمرة وراقت وعشقت، واقترن سحرها بسحر المرأة، وهي عنوان الكرم واللذة عند طرفة والأعشى، ثم جاء أبو نواس فأصبحت ماء العنب ماء الحياة وجعل من الراح دررا وأنوارا، فتنة وإغراء.

66وانبهر رواد الصوفية بروعة التصاوير في الشعر الخمري حتى أن الشيوخ وفتيانهم لا يتورعون من إنشاد شعر المجون ولكن لينزعوا عنه الطابع المادي ويلبسوه الصبغة الروحانية، وتلك طريقتهم التعليمية في الدعوة إلى مذهبهم إذ غايتهم هي قلع المريدين من التفكير في غير الخالق.

67وفي الحق، وجدت الصوفية نفسها يتيمة – في أول عهدها – فاضطرت إلى أن تقتات من ذلك الإرث المتألق، فوضع الشبلي يده على صنعة غيره – الحسن بن هانئ – ثم حرف الكلم أو الكلام عن مواضعه، فالخمرة المعتقة في الدنان والمحرمة تصبح الشوق الروحاني، يتجلى الحبيب في عجائب خلقه المسكرة. إنها الخمرة الحلال التي وعد بها المحبوب عبده «[…] وأنهار من خمر لذة للشاربين» الآية 15 سورة محمد 47.

68قد يأخذ عليه البعض هذه السرقة المفضوحة، وقد يجد له البعض الآخر عذرا ويعتبره مولدا لأنه أضفى على الكلمات معاني جديدة وعميقة فازداد الخيال حدة، والصور أصبحت أكثر روعة وأناقة. كان هذا الإبداع من تطعيم ثم أينع شهبا منها ابن الفارض 576/1181 – 632/1234 :

شربنا على ذكر الحبيب مدامة / سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم

صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى / و نور ولا نار وروح ولا جسم

(تاريخ الأدب العربي – حنا الفاخوري)

69بين أبي نواس (ت 199/814) وأبي بكر الشبلي (ت 334/946)

70انتشى أبو نواس فأنشد : (الديوان – البسيط)

لا تبـك ليلى ولا تطـرب إلـى هنــد / و اشرب على الورد من حمراء كالورد

كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها / أجدته حمرتها في العين والخد

فالخمـــــر ياقوتـــــة والكأس لـؤلــؤة / مـن كــف جاريـة ممشوقـة القـد

تسقيك من عينها خمرا ومن يدها / خمرا، فما لك من سكرين من بد

لي نشـــــوتان وللندمـــــان واحـــدة / شيء خصصت به من بينهم وحدي

Ne pleure pas le souvenir de Laylâ, Oublie le chagrin d’amour de Hind

Et, bois à la santé des Roses d’un rouge comme des roses

Lorsqu’elle descend dans la gorge,

La coupe donne sa couleur à l’œil et à la joue

Le vin est un Rubis, La coupe est une Perle

De la main d’une servante élancée

Elle vous verse du vin de ses yeux et de sa main

Vous êtes nécessairement doublement ivre

J’ai deux sensations alors que les commensaux n’en ont qu’une

Ce privilège est réservé uniquement à moi

71طار هذا الشعر في الأجواء ووصل إلى الأسماع في كل الأصقاع وسحر شيعة هذا المذهب وأيضا خوارجه وأصبح مثلا سائرا في المجون إلى يوم الناس هذا، فلا غرو إذن أن يعجب الشبلي وهو الشاعر النابغة، ففي حالات أنشد صحبة فتيانه :

فأســــــــكر القــــــــــوم دور كأس / وكـــــان ســـــكري مـــــن المديـــــر

لي ســـكرتان وللندمــــان واحــدة / شيء خصصت به من بينهم وحدي.

سكران سكر هوى وسكر مدامة / فمتى يفيق فتى به سكران ؟ 17

Les gens sont ivres de la coupe qui fait le tour

Mais, mon ivresse était du Serveur

En fait, j’ai deux ivresses alors que les commensaux n’en ont qu’une

Ce privilège est réservé uniquement à moi

Deux ivresses : Ivresse de la passion et ivresse du vin

Alors quand est-ce l’éveil d’un brave jeune homme doublement ivre ?

72يا له من صراع بين المدارس الأدبية والفكرية ! استعمل أبو نواس أسلوب التعريض l’allusion في ثورته على الشعراء الذين يبكون من ذكرى حبيب ورسم درس (هند، ليلى، خولة، فاطم، أسماء…)، ودعا إلى الهيام والتلذذ بالخمرة الحبيبة، فهي الياقوتة الحقيقية واللؤلؤة الحقيقية، في حانوت صحبة فتية كالسيوف تسقيهم جارية حوراء.

73واستعمل الشبلي نفس السلاح فعرض بأبي نواس وفتيانه الماجنين الذين يسكرون بماء العنب، تديرها لهم قينة ممشوقة القد. أما هو – الفتى ذو الأخلاق الكريمة – فيفوز بسكر الشوق وسكر الحبيب الأوحد.

74ويمكننا أن نترجم هذه الفكرة ببيتين من نظمنا فنقول :

قالوا : وما الحب إلا للحبيب الأول / قلت : فكيف نسوا إضافة الآخر ؟

يقولون : لا تهلك أسى وتجمل / قلت : خلاصي في فنائي بالقلب الصابر

إعجاب الشبلي بإبداع اِبن المعتز

75ذكر القشيري في رسالته ص 35 : «وقف رجل على حلقة الشبلي فسأله هل تظهر آثار صحة الوجود على الواجدين فقال نعم نور يزهر مقارنا لنيران الاشتياق فتلوح على الهياكل كل آثارها كما قال ابن المعتز :

وأمطر الكأس ماء من أبارقهـا / فأنبت الدر في أرض من الذهب

وسبح القوم لما أن رأوا عجبا / نورا من الماء في نار من العنب

ســلافة ورثتها عاد عن إرم / كانت ذخيرة كسرى عن أب فأب18

De ses éclairs, il a plu sur la coupe

L’eau a fait pousser les perles dans une terre d’or

Les gens glorifient le Généreux à la vue des merveilles

Une lumière de l’eau dans un feu de raisin

Boisson ancienne que Âd a héritée de Iram

Elle était la provision de Kisrâ léguée de père en fils

76قلت :19

خليلي، فيما عشتما،هل رأيتما / أروع من خيال الخليفة القتيل ؟

77والشبلي، استغاث به إذ انعقد لسانه أمام السحر الجميل، وتبهرنا هذه القطعة بطوارقها وأباريقها فنحار في وصفها، فالأباريق، الواحد إبريق، لفظ فارسي معرب («الصحاح»، للجوهري، «المزهر» للسيوطي)، هو وعاء بعروة للخمر، قدح، الجمع أقداح.

Ibrîq, mot d’origine persane, un récipient avec anse, broc, cruche.

78وهذه الأقداح التي تمطر لا يحدها الخيال في العظم وكذلك هذه الكأس عجيبة لم ير مثلها في البلاد، وبما أنها خمرة معتقة (سلافة) فالأباريق هنا عبارة عن د نان عظيمة وعندها يمكن أن نترجم صدر البيت الأول :

De ses fûts, il a plu sur la coupe

79والأباريق إذا بحثنا عنها في المعجم نجدها في الجذر برق أي لمع وتلألأ، وبرق السحاب الجمع بروق، وفي «الصحاح» الإبريق : السيف الشديد البريق، فكأن هناك توافق أو تقارب في النطق والمعنى بين لسان كسرى (الأباريق التي تفيض خمرة مشعشعة) ولسان العرب (البروق التي هي كالسيوف اللامعة ليلا) وبالتالي تكون الخمرة هنا «نورا من الماء» يسقي نيران الاشتياق «في نار من العنب».

Le vin ici est une « lumière de l’eau » irriguant les feux de la passion.

80رقت أباريق كسرى وراقت ماء إرم وعاد فتشابها وتشاكل الأمر فكأنما أباريق ولا ماء وكأنما ماء ولا أباريق، كذا تتولد الأنوار وتنعكس على هياكل تتلظى وجدا. أنزل الجواد من السماء رزقا وأمطر من أباريقه ماء مسكرة جزاء للمتقين.

81هذه الأبيات تمثل عصر امتزاج الثقافات وانتقال الأفكار والعقائد مما أنتج حضارة عربية إسلامية وتذكرنا بصنعة أبي نواس في وصف الخمرة المادية :فلو مزجت بها نورا لمازجها / حتى تولــد أنــوار وأضــواء20

وكأن أقداح الزجاج إذا جرت / وسط الظلام كواكب الجوزاء21

مصونة حجبوها في مخدرها / عن العيون لكسرى صاحب التاج22

الخاتمة :

انفصال أم تواصل ؟

82قلنا في مقدمنا إن هدفنا في هذا المقام ليس عرض الأفكار الظاهرة للصوفية فقد كتبت حولهم الكتب المفيدة والقيمة بل كان سعينا هو الإبانة عما وراء نصوصهم الشعرية، والصدفة هامة وبفضلها تحفظ اللؤلؤة.

83وإنه لمن الخسارة أن يعمد بعض محدثينا أحيانا إلى الحديث عن الصوفية وكأنهم نزلوا من السماء فلا يضعهم في سياق تطور تاريخي للأدب والفكر والمجتمع ولا يبحث في مراجعهم الثقافية؛ بمن تأثروا؟ ماذا أخذوا عن المتقدمين ؟ ماذا أضافوا ؟ ما هي المعلومات التي نحتلبها من دراسة أشعارهم؟ ما هي مآخذهم ؟ ما هي مكانتهم في عصرنا ؟… وهذا لا يتوفر إلا بثقافة عامة وإلمام بالتاريخ والأدب قديما وحديثا…

84اقترحنا بعضا من الترجمة على استحياء، لأن فيها كلم للجمال، كيف ندخل مفتاحا في قفل ممتنع ؟ هل نترجم البيت كما يظهر من الخارج خصوصا إذا كان المهندس قد احتال بلباقة و«شطارة» للتعمية ؟ كيف نترجم التعريض والكلم الفائض من كلمة واحدة إن لم نقل من حرف واحد ؟ فمثلا كيف نترجم القطعة الشعرية التالية للحلاج ؟

[البسيط] / قافية السين

والله ما طلعت شمس ولا غربت / إلا وحبك مقرون بأنفاسي

ولا جلست إلى قــوم أحدثهــم / إلا وأنت حديثي بين جلاسي

ولا ذكــرتك محزونــا ولا فرحــا / إلا وأنت بقلبي بين وسواسي

ولا هممت بشرب الماء من عطش / إلا رأيت خيالا منك في الكاس

ولو قــدرت على الإتيــان جئتكــم / سعيا على الوجه أو مشيا على الراس

ويا فتــى الحـي إن غنيت لي طربـا / فغنني واسفا من قلبك القاسي

ما لي وللناس كم يلحونني سفها / ديني لنفسي ودين الناس للناس

85هذا قصيد «سبعي»، أبياته سبعة، والرقم رمزي كالسماوات السبع وكأيام الأسبوع وكأطراف المصلي السبعة التي تلامس الأرض عند السجود، ذللا للمعبود (القدمان واليدان والركبتان والرأس). والمصلي هو وحدة حاوية لأجزاء مترابطة وفي تناغم تام. إذا انفصلت الأجزاء بطلت الوحدة وانعدمت الصلوة. كذا الأبيات السبعة تتكون من وحدة تامة، والترجمة التي تقطع مفاصلها لقضم جزء وترك آخر ترجمة حرام.

86القافية سينية ولمعان وقع اختيارها وربما من أبرزها الإرجاع إلى سورة الناس «السينية» ذات الآيات السبع وهي إرجاع لمجموع آي القرآن. لا يسعنا المجال هنا أن نقرأ هذه السبعية، يكفي أن نشير فقط إلى بعض الملاحظات :

  • 23. « Hallâj, Poèmes mystiques » Calligraphie, traduction de l’arabe et présentation par Sami-Ali Sin (…)

Dieu en témoigne ! Qu’aucun soleil ne se lève ni se couche

Sans que Ton amour soit uni à mes souffles

88هذه ترجمة جيدة من حيث أنها نقلت المفردات العربية إلى مثيلاتها بالفرنسية، وبأمانة لفكر الحلاج. والمترجم وفى بما نوى «الترجمة فقط»، وهو مشكور. ولكنها لاتؤدي مقاصد الشاعر، في البيت تعريض بالخنساء :

يذكرني طلوع الشمس صخرا / و أذكره لكل غروب شمس24

Le lever du soleil me rappelle sakhr

Et, je me rappelle de lui à chaque coucher du soleil

89إذا قارنا المطلعين نرى أنهما يفصحان عن الحب الصادق والخالص؛ الحلاج نحو محبوبه «الله» والخنساء نحو الفتى أخيها.

90صدر البيت : مدح للشمس الطالعة وذم لصخر تحت الصفائح، فتغمرها مسحة من الكآبة والوحشة.

91عجز البيت : مدح لصخر (تذكر مآثره) وهجاء للشمس الغاربة، والباكية تطرب فخرا بأخيها. وفي البيت مقابلة بين الصدر والعجز.

92ويأتي الحلاج ليتخذ موقفا مناقضا، فحبيبه شاهد على حبه والبيت من أوله إلى آخره ذكر له أي مدح وليس ذكرى، وذم للشمس سواء طلعت أو غربت، لأن الله فوقها ومن أغراض البيت، هجاء للخنساء التي لا تحسن الذكر، فهي تبكي ذكرى فان ولا تسبح للباقي وهذا حرام في رأيه.

93ومن أغراض المطلع أيضا هو التعريض بأبي نواس صاحب السينية السداسية كسورة الفلق ذات آيات ست إذ في مطلعها عشق دائم للذة المادية. ماذا نستقرئ ؟ في البيت تضمين مضاعف، ضرب عصفورين بحجر واحد، هو إدانة لمدرسة الخنساء (الرثاء l’élégie) – حب سام بين أخت وأخيها – وإدانة لمدرسة أبي نواس الخمرية la poésie bachique – عشق للمجون – ودعوة إلى الحب الروحاني l’amour spirituel.

94هل يبدو هذا السجال في الترجمة ؟ طبعا لا. ولكنه يبدو في النسخة الأصلية التي نسخت – بمعنى نقلت وما مسحت – بيت الخنساء وبيت أبي نواس. إن الإشراقات تبدو في الترابط النصي، والترجمة تصور الغمد وليس السيف. الترجمة صنعة والنقد صنعة أخرى.

95البيت السادس في سينية الحلاج هو إرجاع لقصيدة كاملة لأبي نواس بعنوان «دع عنك لومي»، وفيها نقد لاذع لإبراهيم النظام وهو رأس من رؤساء المعتزلة وكان قد لامه على شرب الخمر. هذا البيت لوحده جمع سجالا بين مذاهب ثلاثة في موضوع مرتكب الكبائر : مذهب المعتزلة ومذهب السنة ومذهب الصوفية. لقد قال أبو عثمان الجاحظ : «البلاغة الإيجاز». أليس هذا البيت عنوان البلاغة ؟

96يتوجه الحلاج إلى أبي نواس ويدعوه بفتى الحي هجاء له. يقول له «إن غنيت [الخمرة] طربا فغنني واسفا» بمعنى آسفا، حصل إبدال بين الألف والواو، أي ينصحه بأن يغني أسفه وتوبته وعندها يصبح فتى كريما فرحمة الغفور واسعة حتى ولو كان قلبه قاسيا…

97البيت السابع في سينية الحلاج هو نقل للبيت الثاني في سينية أبي نواس. العجز : «ديني لنفسي ودين الناس للناس» هو إرجاع للآية «لكم دينكم ولي ديني» سورة الكافرون. وشاءت الأقدار أن يسجن أبو نواس من طرف هارون الرشيد من أجل دينه، وأن يصلب ويحرق الحلاج من أجل دينه… قال أبو نواس:

إني عشقت وهل في العشق من باس / ما مر مثل الهوى شيء على راسي

ما لي وللناس، كم يلحونني سفها ديني لنفسي ودين الناس للناس

مـا للعـداة، إذا ما زرت مالكتي / كأن أوجههم تطلى بأنقاس

اللــه يعلــم مــا تركــي زيارتكــم / إلا مخافة أعدائي وحراسي

ولـو قدرت على الإتيان جئتكم / سعيا على الوجه أو مشيا على الراس

وقـد قرأت كتابا في صحـائفكـم / لا يرحم الناس إلا راحم الناس

98لا نستطيع أن نسترسل في التلذذ بالنصين (النسخة الأصلية والنسخة المولدة عنها)، فالإمساك ينزعنا عنهما نزعا، والوداع صعب، فآخر كلمة نقولها فيهما هو أن الضمير في بيت الحلاج هو للمفرد «أنا وأنت» لا وجود لغيرك مدح.

99ونحن استعملنا في خطابنا ضمير الجمع «نحن» تحقيرا لنا أمام الأحد

100كيف نرى هذا الإبداع في أيامنا هذه ؟ لقد وضعه حنا الفاخوري في باب أدب الاستقرار والجمود25. شيء غريب من طرف باحث قضى قصارى جهوده في خدمة الأدب والثقافة. نحن لا ننكر عليه موقفه. إنه فقط لا يتفاعل مع هذا الإبداع وها هو الأستاذ سعيد يقطين يعلن أمورا جدية وخطيرة، من بينها مسألة غياب البعد التفاعلي بين المبدع (الإنجاز performance) والمتلقي (الكفاءة compétence) في عصرنا. ومن هنا يبدأ خطر الانقطاع rupture وعدم الاستمرار.

101وفي الأيام السعيدة، كان هناك تفاعل بين القصيدة وجمهورها «فالشاعر يرتجل، والجمهور يعبر عن تجاوبه واستحسانه، وقد يستعيد البيت، أو يسبق الشاعر إلى القافية. كما أن الشاعر قد يطلب من يجيزه، فيكمل أحد الحضور بقية البيت، وقد يشترك شاعران في قصيدة يتناوبان في إبداع أبياتها…»26 والآن كيف تسير عربات العربية إذا لم تكن مترابطة وتجرها قاطرة .

أمـا الخيـام فإنهـا كخيامهـم / و أرى نساء الحي غير نسائنا27

 

NOTES

1 . «طبقات الأولياء» ص 126.

«قوت القلوب» ص 109.

أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري، شيخ وقته. كان خزازا يتجر في الحرير وكان أبوه يبيع قوارير الزجاج. توفي سنة 297هـ/910م.

2 . مسرحية «أهل الكهف» لتوفيق الحكيم : جميل بثينة، ليلى الأخيلية وغيرهم كثر.

3 . «طبقات الأولياء» ص 129. «الرسالة القشيرية» ص 72.

4 . ولد ونشأ بالكوفة (130/747ـ 208/823). «الشعر والشعراء». ابن قتيبة، ج 2، ص808.

5 . «اللمع» ص 84.

6 . «العمدة» لابن رشيق ص 304.

«المتوسط الكافي في علمي العروض والقوافي» موسى بن محمد بن الملياني الأحمدي نويرات، ط 3، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1983.

7 . «ديوان الحلاج» (244/858-309/922) ومعه أخبار الحلاج وكتاب الطواسين، وضع حواشيه وعلق عليه محمد باسل عيون السود، ط. 2 دار الكتب العلمية، بيروت 1409/2002، ص 176.

8 . «الديوان»، دار الجيل بيروت 1409/1989 ص 87.

9 . KÂLÂBÂDHÎ, Traité de soufisme, Les Maîtres et les Étapes, traduit de l’arabe et présenté par Roger Deladrière, Sinbad, Actes Sud, 1996-2005, ISBN 2-7427-4946-2, p.208.

10 . الديوان ص 159.

11 . «دراسات في الفكر العربي – الإسلامي» لابن سينا، تأليف أرثور سعدييف – تعريب د. توفيق سلوم، دار الفارابي،بيروت، لبنان 1987، ص 5.

12 . «الرسالة القشيرية» ص 32.

«أبو بكر الشبلي (دلف بن جهدر) هو بلا شك، المتصوف الذي ذكر أكثر بعد الجنيد 77 مرة من طرف السراج لحكمه وأشعاره عاش ببغداد حيث ولد سنة 247/861 وتوفي سنة 334/944 بعد أن شغل مهاما إدارية، اِعتنق الحياة الروحانية عن خير النساج…» KÂLÂBÂDHÎ…, Roger Deladrière

13 . «اللمع» ص 77.

14 . «العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده» لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني الأسدي (390/1000-456/1063 أو 1064) ط 2، السعادة بمصر، شوال 1374هـ يونية 1959 ص78.

عروة المتوفى نحو 30/649 «المتوسط الكافي» ص 170.

مجون ليلى هو عبد الله بن عبيد الله بن أحمد، من بني عامر، المتوفى سنة 130/748 نفس المصدر.

15 . «الرسالة القشيرية» ص 176.

16 . نفس المرجع السابق.

17 . «الرسالة القشيرية» ص 38، «طبقات الأولياء» البيت الثاني فقط، ص 206.

18 . (249/863-296/908) هو عبد الله بن محمد المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسي، أبو العباس : الشاعر المبدع، خليفة يوم وليلة، قبض عليه وقتل.

ولد في بغداد وقيل في سامرّا، عاش حياة الترف واللهو، يسمع الغناء ويشرب الخمر. له ديوان شعر، ومن كتبه : «البديع» و«كتاب طبقات الشعراء» انظر «تاريخ الأدب العربي» لحنا الفاخوري.

عاد قبيلة وهم قوم هود، وإرم هم آباؤهم الأول : «ألم تر كيف فعل ربك بعاد (7) إرم ذات العماد (8)» سورة الفجر مكية 89، و(كسرى هو لقب ملوك الفرس.)

19 . التزم صاحب المعرة بما لا يلزم إعجازا ونظمنا لا يلتزم بما يلزم لمعان.

20 . الديوان – دار صادر، ص 7.

21 . نفس المرجع، ص 17.

22 . نفس المرجع، ص 136.

23 . « Hallâj, Poèmes mystiques » Calligraphie, traduction de l’arabe et présentation par Sami-Ali Sindbad, Actes Sud 1985, p.57.

24 . «الديوان»

25 . «تاريخ الأدب العربي». حنا الفاخوري.

26 . «من النص إلى النص المترابط، مدخل إلى جماليات الإبداع التفاعلي». سعيد يقطين. المركز الثقافي العربي. ط 1، 2005 ص 217. ISBN : 9953-68-037-X

27 . المجنون «الرّسالة القشيرية» ص 2. «قوت القلوب» ص 171.

___________________

نقلًا عن موقع ” open edition”.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى