الدراسات والبحوث

معنى الميتافيزيقا

د. سعيد توفيق

معنى الميتافيزيقا

د. سعيد توفيق

الوعي هو دائمًا وعي بالمفاهيم والتصورات الأساسية التي نفهم من خلالها العالم؛ ولذلك فإن الوعي بالمفاهيم هو أمارة على مدى حضور الثقافة في وعي الناس والشعوب، وحينما يغيب هذا الوعي، فإن هذا يكون أمارةً على تردي حال الثقافة في تلك الشعوب. وغالبًا ما نجد في العوالم المعتلة ثقافيًّا أن هذه المفاهيم تبدو مشوشة ومختلطة، أما في العوالم الأكثر تخلفًا، فإن هذه المفاهيم لا تبدو مشوشة ومختلطة فحسب، بل تبدو بلا معنى، ومغايرة تمامًا لمعناها الأصلي.

هناك أمثلة لا حصر لها على سوء فهم المفاهيم الأساسية في الثقافة الراهنة، ولكني أريد التوقف في هذا المقال عند كلمة «الميتافيزيقا» التي يُساء فهمها في ثقافتنا العربية، ليس فقط على مستوى رجل الشارع، وإنما أيضًا على مستوى خريجي الجامعات، وربما على مستوى خريجي أقسام الفلسفة في جامعاتنا العليلة.

القول الشائع عن الميتافيزيقا الذي وقر في أذهان الناس هو أنها بحث «فيما وراء الطبيعة»، وهذا النوع من البحث يُنظر إليه باعتباره بحثًا في الغيبيات!! وحتى حينما ننتقل من مستوى الناس العاديين إلى مستوى خريجي الجامعات -بمن فيهم خريجو الفلسفة- فإن هؤلاء المتعلمين أو الذين من المفترض أنهم نالوا قسطًا من المعرفة، سوف يقولون لك: إن الميتافيزيقا هي البحث فيما بعد أو فيما وراء الطبيعة!! ومثل هؤلاء المتعلمين الذين لم يتعلموا شيئا حقيقيّا لا يختلفون عن عوام الناس؛ لأن كلًا منهما يؤكد على أن الميتافيزيقا هي بحث «فيما بعد» أو «فيما وراء»، وأن موضع هذا البحث يظل غيبيّا، فلا يمكن الإحاطة به أو الولوج إليه! ولكن هذا النوع من الفهم والتفكير هو برهان أكيد على انحطاط الفكر، وهو ما نشاهده حينما نجد أن بعض الكتب التي تحمل عنوان الميتافيزيقا تصور أغلفتها كائنات خرافية للتعبير عن هذا العالم الآخر الغيبي الذي يتحكم في عالمنا الواقعي!! ويمكن إيضاح ما أود قوله فيما يلي:

كلمة الميتافيزيقا تُنسَب عادة إلى أرسطو، باعتبار أن بعض كتاباته التي وصلت إلينا، قد حملت عنوان «الميتافيزيقا» metaphysics؛ ولكننا حينما نتأمل حقيقة الأمر نجد أن أرسطو لم يضع هذا العنوان: ذلك أن أرسطو قد كتب عن الحيوان وعن النبات وعن السماء، وإجمالًا عن الطبيعة؛ ولكنه بعد ذلك ترك لنا كتابات لا تتعلق بالطبيعة، وإنما بالمبادئ الأولى التي تقوم عليها الطبيعة. وقد قام أحد شرَّاح أرسطو الكبار -وهو أندرونيقوس الروديسي- بجمع كتاباته بهدف حفظها، فوجد أن أرسطو قد وضع عنوانًا لبعض هذه الكتابات التي تتعلق بالطبيعة، ولكنه وجد بعد ذلك كتابات أخرى لأرسطو بالغة الأهمية، لم يضع لها عنوانًا، فضمها إلى الكتابات السابقة تحت عنوان «ما بعد الطبيعة» meta-ta- phusica، وكلمة «ما بعد» هنا لا تعني سوى «الكتابات التي تلي الكتابات في الطبيعة»!! وإذن فإن كلمة «ما بعد» هنا ليست لها أية دلالة حقيقية على موضوع البحث في الميتافيزيقا، لأن البحث في الميتافيزيقا ليس بأية حال بحثًا «فيما بعد» أو «فيما فوق» الطبيعة، بل هو بحث في المبادئ أو الأصول أو التساؤلات التي تسبق أي بحث في الطبيعة. ولذلك، فربما كان من الأكثر لياقة أن نصف البحث الميتافيزيقي بأنه بحث «فيما قبل الطبيعة»!! وعلى هذا فإننا يمكن أن نعرِّف الميتافيزيقا -على الأقل بمعناها الأرسطي- بأنها «ما قبل الطبيعة»: فالطبيعة تنطوي على قوانين تحكم المادة والأشياء والكائنات الحيوية، ولكن الميتافيزيقا تسأل عن حقيقة المادة والأشياء وعن معنى الحياة ذاتها، بل عن معنى الطبيعة ذاتها في النهاية.

ما ذكرته هو مجرد مثال تبسيطي إيضاحي. ذلك أن هَيدجر – الذي يعد من أعظم الفلاسفة في القرن العشرين- قد انتقد مسار الميتافيزيقا الغربية التقليدية كما تأسست منذ عصر أرسطو، ورأى أن هذه الميتافيزيقا كانت تقدم نفسها لنا دائمًا باعتبارها بحثًا في الوجود، في حين أنها ظلت دائمًا بحثًا في المبادئ التي تحكم الموجود لا الوجود. ولكن بصرف النظر عن هذه المسألة الخلافية التي لا يمكن أن يفهم عمقها إلا المتخصصون أو العارفون بفلسفة هيدجر في الوجود- أقول: بصرف النظر عن هذه المسائل الخلافية الدقيقة والعويصة في الوقت ذاته (التي يمكن أن نتعرف عليها في كتابات وترجمات المفكر المغربي عبد السلام بن عبد العالي)؛ فإن الحقيقة التي يجب أن نضعها نصب أعيننا هي أن الميتافيزيقا ليست أبدًا بحثًا فيما بعد أو فيما وراء الحياة، وإنما هي بحث في الوجود ذاته، وفي الحياة ذاتها التي نعيشها. ولهذا السبب نفسه؛ فإننا نجد أن التيارات الميتافيزيقية الكبرى في الفلسفة كانت تيارات في فلسفة الحياة والوجود، ومن ذلك على سبيل المثال: فلسفات هيجل وشوبنهاور وبرجسون وسارتر، وغيرهم كثير. أما العظيم كانط، فكان يحاول تقنين السؤال أو البحث في الميتافيزيقا بحيث لا يند عما لا يمكن معرفته، أي ما يند عن العقل؛ فما يند عن العقل، ومن ثم عما يمكن معرفته في هذه الحياة أو الوجود، هو أمر يند عن البحث الميتافيزيقي المشروع، ومن ثم عن البحث الفلسفي ذاته. وربما يليق في هذا الصدد أن أذكر أن آخر فصل في المجلد الثاني من كتاب شوبنهاور الخالد والرئيس الذي قمت بترجمته مؤخرًا (وهي الترجمة التي أوشكت على الظهور)، قد جاء بعنوان «ما فوق الفلسفة» epiphilosophy، وهو فصل قصير أراد به أن يذكرنا أن مجمل فلسفته في الميتافيزيقا أو في إرادة الحياة والوجود، هي فلسفة لا يمكن أن تتجاوز هذه الحياة والوجود إلى ما وراءهما، وهذا يعني في النهاية أن الميتافيزيقا ليست بأية حال بحثًا في «الما وراء» أو «الما بعد». ولعل طلبة الفلسفة، فضلًا عن جمهور القراء، يجدون شيئًا مفيدًا في مقالي هذا.

أما القول بأن الميتافيزيقا يمكن تجاوزها، فهو قول لا يمكن قبوله إلا إذا كنا نعني به تجاوز أساليب البحث التقليدي في الميتافيزيقا، وليس تجاوز الميتافيزيقا ذاتها، وإلا كنا بذلك نسعى إلى تجاوز الفلسفة ذاتها، وتلك هي المشكلة الكبرى.

_______________________________________

*نقلًا عن موقع ” عُمان “.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى