العلم والمعرفة من منظار عرفاني -دراسة مقارنة فی حقیقتهما وموقعیّتهما في العرفان الإسلامي-
د. الشیخ فادي ناصر
العلم والمعرفة من منظار عرفاني -دراسة مقارنة فی حقیقتهما وموقعیّتهما في العرفان الإسلامي-
د. الشیخ فادي ناصر
خلاصة المقالة:
اختُلِفَ فی تحدید المعرفة وتعدّدت بذلک معانیها، ولکنْ اتُّفقِ على أنّها تدلّ على معنى أساس هو: الإدراک المطلق من أیّ قید، وکذلک حصل الاختلاف على العلم. والعرفاء کغیرهم من روّاد المعرفة أَولوا اهتمامًا خاصًّا بموضوع المعرفة والعلم أیضًا، ولکنّ السؤال الذی یُطرح هو سبب اعتماد العرفاء على کلمة “المعرفة”؛ بدل “العلم” فی مُسمَّى هذا العلم وعنوانه. فالعرفان استقى اسمه من المعرفة، والمعرفة من الإدراک والعلم. واختلف العرفاء فی بیان الفرق بین المعرفة والعلم، ولکنْ اتّفقوا على أنّ المعرفة، وإنْ کانت من العلم، ولکنّها أخصّ منه. فالمعرفة عند العارف علمٌ بعین الشیء مفصَّلٌ عمّا سواه، وأمّا العلم؛ فالعلم به مجملٌ ومفصّلٌ. ومعنى معرفته مفصّلٌ؛ أی ممیَّزٌ عمّا سواه، أو متمیّزٌ عن غیره. فتکون النسبة بینهما العموم والخصوص المطلق، فکلّ معرفة هی علم، ولیس کلّ علم معرفة. وإنّما بعض العلم معرفة، فعلم الله -تعالى- لیس معرفة، ولذا لا یُسمّى الله -تعالى- عارفًا؛ وإنّما یُسمّى عالمًا.
والمعرفة لا تحصل بالأصل من دون العلم، والعارف إنّما یعرف بحکم من أحکام العلم، وصفة من صفاته، فیکون القدر الحاصل من المعرفة بالعلم؛ إنّما حصل بالعلم لا بغیره.
وفی المحصّلة، کلّ ما یصل إلیه المرء بالمعرفة سوف یکون للعلم فیه نصیبٌ حتمًا. فالتوحید -مثلاً- الذی یقع من خلال المعرفة هو -أیضًا- من نصیب العلم. والعالم إنّما یصبح موحِّدًا من جهة المعرفة، ومن حیث هو عارف. ولهذا غدا توحید العالم أعلى شأناً ومنزلة من توحید العارف.
کلمات مفتاحیّة:
العلم، المعرفة، العالم، العارف، التصوّف، العرفان النظریّ، العرفان العملیّ، البرهان، السیر والسلوک، الکشف، الشهود، الهندسة الوجودیّة.
مقدّمة:
قد یتبادر إلى الذهن أنّ مصطلحي العلم والمعرفة هما مصطلح واحد، وأنّهما على حدّ سواء عند العارف، خصوصاً وأنّ العارف یأخذ اسمه من المعرفة؛ کما هو ظاهر ومعروف. ولکنّ التـأمّل فی النصوص العرفانیّة، والتدقیق فی مسائل علم العرفان على نحو أعمق یکشف عن أنّ مفردة العلم مغایرة للمعرفة عند العارف. وهذا التغایر لیس على مستوى الشکل والمعنى فحسب؛ بل على مستوى المضمون والجوهر أیضًا، مع ما یترتّب على هذا الاختلاف من آثار معرفیّة وسلوکیّة غایة فی الأهمّیّة، یمکن أن تؤثّر على أصل الرؤیة والمنهج العرفانیّ على اختلاف مشاربه ومنابعه ومدارسه. ولذا؛ لا یعتبر التدقیق والتأمّل فی حقیقة الاختلاف وتفصیله بین العلم والمعرفة من وجهة نظر العارف ترفًا فکریًّا، أو استفاضة معرفیّة لا طائل منها ولا حاجة، خصوصًا وأنّ بعض العرفاء یصلون إلى نتائج مغایرة تمامًا لما یمکن أن نظنّه على مستوى قیمة المعرفة وأفضلیّتها على مقام العلم.
هذه الرؤیة التی تصرِّح بشکل واضح، کما یقول محیی الدین بن عربی، والقونویّ، وحیدر الآملیّ، بأنّ العرفاء إنّما یصلون إلى مقامهم العرفانیّ الشامخ لکونهم علماء بالدرجة الأولى، لا العکس، وبالتالی یجعل توحید العالم أعلى وأشمخ من توحید العارف، مع أنّهم من أعمدة المدرسة العرفانیّة الأصیلة فی الإسلام.
وتأتی هذه المقالة لتقدِّم دراسة مقارنة بین العلم والمعرفة؛ مبیّنة حقیقتهما وموقعیّتهما فی العرفان الإسلامیّ. ولأجل هذا الغرض لا بدّ من بیان المنطلقات العقلیّة والفطریّة للمعرفة، ثمّ بیان معانیها، ثمّ بحث العلم والمعرفة عند العرفاء، والخلوص إلى أنّ المعرفة سرّ العلم عند العارف، وإلى شرافة توحید العالم على توحید العارف.
أولًا: المنطلقات العقلیّة والفطریّة للمعرفة:
الإنسان کائنٌ عاقلٌ ومفکّرٌ، یدرک بوجوده الذهنی الأمور الخارجیّة المنفصلة عنه إدراکًا حقیقیًّا وواقعیّاً، لا وهمیًّا واعتباریًّا، فتترتّب علیه الآثار الواقعیّة فی الخارج. هذا النشاط الفکریّ الّذی یتفرّد به الإنسان، والّذی ولد معه ورافقه عبر الأزمنة والعصور، دفعه مع الوقت لیتأمّل أکثر فأکثر، ویبحث فی خصائص هذه القدرة الفریدة الّتی بواسطتها استطاع أن یعرف الموجودات الخارجیّة من حوله، وتمکّن من الاستفادة منها وتسخیرها والحکم علیها. وما زاد من سعی الإنسان لمعرفة خصائص هذه القدرة هو وقوعه فی الأخطاء، وعدم الاهتداء دائمًا إلى الواقع الصحیح، فبدأ بطرح الأسئلة حول حقیقة هذه القوّة المفکّرة والعاقلة، وحول الوجود الذهنیّ الّذی من خلاله یدرک ویعرف ویمیّز ویحکم، وحول العناصر الّتی تتألّف منها، والّتی تمکنّه من أداء دورها بشکل سلیم، والموازین الصحیحة الّتی تمنعها من الانحراف عن جادة المعرفة الواقعیّة. ومن لوازم البحث حول هذه القوة العاقلة والمفکّرة عند الإنسان، کان لا بدّ من البحث -أیضاً- حول نتائج هذا النشاط الذهنی المتمیّز وما یتولّد عنه؛ وهو ما یُسمّى بـ “المعرفة”.
وعلیه، یمکن القول: إنّ الحراک العقلیّ والفکریّ عند الإنسان قد دفعه على مرّ التاریخ لیبحث عن هذه الأداة المعرفیّة وما ینتج عنها من معارف وعلوم. ثم توسّع البحث لاحقًا وأخذ النقاش یدور حول أدوات المعرفة الإنسانیّة الأخرى، لیسأل أکثر عن طبیعة هذه الأدوات، لیعرف ما إذا کانت محصورة بهذه القوّة العاقلة أم إنّ ثمّة أدواتٍ لها أبعادٌ أخرى. ومن ثمّ انسحب السؤال مجدّدًا حول النتاج المعرفی لهذه الأدوات المعرفیّة، لیسأل -أیضًا- عن طبیعتها وحدودها وقدرتها على کشف الواقع ومعرفة الحقیقة.
إذًا، فالإنسان بطبعه وأصل خلقته ووجدانه الذاتیّ یمیل على الدوام إلى البحث عن المعرفة والحقیقة. وحبّه للعلم حبٌّ جبلّیّ نابع من أصل خلقته وهندسته الوجودیّة؛ فقولنا “إنسان” یعنی کائن ومخلوق باحث عن المعرفة؛ لا بل محبّ ومتعطّش للعلم والمعرفة. وهذا أمرٌ بدیهیٌّ یدرکه کلّ إنسان ویمارسه عن وعی أو عن غیر وعی، وما هذا التطوّر البشریّ المذهل فی کافّة المجالات والحقول، منذ الإنسان الأوّل وإلى یومنا هذا، إلّا مؤشرٌ على هذا الحبّ والمیل والسعی الدؤوب عنده نحو تحصیل المعرفة والعلم أکثر فأکثر.
ویشرح الإمام الخمینی (قده) حقیقة هذه التوجّهات الإنسانیّة الفطریّة نحو العلم والمعرفة، فیقول: “یتَّضح هذا بالرجوع إلى فطرة الإنسان، حیث إنّ البشر یعشقون الکمال المطلق -کما ذکرنا سابقًا-، وینفرون من النقص. وحیث إنّ العلم متساوٍ مع الکمال المطلق، فالعشق للکمال عشق للعلم، وهکذا الجهل توأم للنقصان. مضافًا -أیضًا- إلى أنّ العلم بنفسه وبشکله العامّ، هو مورد تعلّق الفطرة، والجهل مورد نفورها؛ کما یظهر من الرجوع إلى فطرة البشر. غایة الأمر وجود اختلاف فی تشخیص العلوم، وهذا الاختلاف فی تشخیص العلوم هذا الاختلاف -أیضاً- من احتجاب الفطرة، وإلا فالعلم المطلق مورد عشق الفطرة وتعلّقها”[2].
فالإنسان بحسب الرؤیة العرفانیّة طالب للمعرفة بالفطرة وبأصل الخلقة الإنسانیّة، ولا یمکن بأیّ شکل من الأشکال سلب هذه الخاصّیّة عنه، إلا إذا وقعت الفطرة فی الاحتجاب، فعندئذ یسود الجهل؛ کما یقول الإمام الخمینی (قده): “إنّ العلم من لوازم الفطرة؛ بمعنى أنّ الفطرة إنْ لم تکنْ محجوبة، ولم تدخل فی حجاب الطبیعة، فستتوجّه إلى المعرفة المطلقة، وإذا احتجبت، فبمقدار احتجابها تتأخّر عن المعرفة، إلى أنْ تصل إلى مقام تکون فیه جهولة مطلقاً”[3].
ثانیًا: معانی المعرفة:
المعرفة؛ کما یُعرّفها الجرجانیّ فی تعریفاته، هی: “إدراک الشیء على ما هو علیه”[4]. وقد ذُکِرت لها -أیضًا- معانٍ واستعمالاتٌ عدیدة تعود بمجملها إلى الإدراک؛ سواء أکان إدارکًا مطلقًا أم مقیّدًا. فقد تطلق المعرفة ویراد منها العلم؛ أی الإدراک مطلقًا؛ تصوّرًا کان أم تصدیقًا. وقد تُطلَق ویُراد منها الإدراک البسیط؛ سواء أکان تصوّرًا للماهیّة أم تصدیقًا لها. وبهذا المعنى یصبح متعلّق المعرفة هو الأمر البسیط الواحد، ومتعلّق العلم هو المرکّب المتعدّد. وقد تُستخدَم المعرفة -أیضًا- بمعنى الإدراک الجزئیّ؛ سواء أکان مفهومًا جزئیًّا أم حکمًا جزئیًّا، والإدراک الکلّیّ؛ سواء أکان أیضًا مفهومًا کلّیًّا أم حکمًا وتصدیقًا کلیَّیْن.
ومن معانی المعرفة واستخداماتها -أیضًا- الإدراک الأخیر من الإدراکَیْن لشیء واحد، إذا تخلّل بینهما عدم، بأنْ أدرک أوّلًا، ثمّ ذهل عنه، ثمّ أدرک ثانیًا. ومن معانیها -أیضًا- الإدراک الّذی یلی الجهل، ویعبّر عنه بالإدراک المسبوق بالعدم. ومن معانیها -أیضًا- العلم الّذی لا یقبل الشک؛ وهو المعنى المستخدم عند المتصوّفة. ومن معانی المعرفة المستخدَمة؛ الإدراک الحاصل بواسطة الحواس. وتُستعمَل -أیضًا- بمعنى الذکر والتذکّر المقابل للغفلة، والعلم المطابق للواقع، والعلم الحاصل من الاستدلال والبرهان، والعلم الحاصل من الکشف والشهود. وتُستعمَل بمعنى الظهور؛ أی ظهور الشیء للنفس، وغیرها من المعانی والاستخدامات الّتی ذکرت للمعرفة[5].
وهذا التنوّع والاختلاف فی معانی المعرفة یرجع إلى الاختلاف فی استعمالاتها. لذا، یعتبر صاحب کشّاف اصطلاحات الفنون أنّ الاستعمال، ولیس الوضع، هو السبب فی تعدّد معانی المعرفة، وأنّ المعنى الأساس للمعرفة هو: الإدراک المطلق المجرّد من أیّ قید، حیث قال: “اعلم أنّ الجمهور على أنّ المعتبَر فی المعرفة التعیین عند الاستعمال دون الوضع، فعرّفوا المعرفة بما وُضع لیُستعمل فی شیء بعینه؛ أی متلبَّس بعینه؛ أی فی شیء معیّن من حیث إنّه معیّن”[6].
وذکر -أیضًا- أنّ التعبیرات کلّها الّتی تذکر على أساس أنّها تعریف للمعرفة؛ إنّما هی من قبیل شرح الاسم، أو تعیین لبعض مصادیق المعرفة الّتی یتناولها أحد العلوم؛ حیث قال: “ولیست المعرفة موضوعة لواحد منها؛ وإلّا لکانت فی غیره مجازًا، ولا لکلّ واحد منها؛ وإلّا لکانت مشترکة موضوعة أوضاعًا بعدد الأفراد. وأیضًا لا قدرة على وضعها لأمور متعیّنة لا یمکن ضبطها وملاحظتها حین الوضع، فوجب أن تکون موضوعة لمفهوم کلّیّ شامل لجمیع الأفراد، ویکون الغرض من وضعها له استعمالها فی أفراده المعیّنة دونه، فما سوى العلم معارف استعمالیّة لا وضعیّة، فالشیء المذکور فی التعریف أعمّ ممّا وضع اللفظ المستعمل فیه له”[7].
ثالثًا: المعرفة والعلم عند العرفاء:
وبالعودة إلى المعرفة الّتی هی موضوع علم المعرفة، فقد تُؤخذ بأیّ معنى من المعانی المذکورة؛ وذلک تابع للتعیین والاستعمال. ولکنْ لمّا کانت دراسة مسائل المعرفة غیر مختصّة بنوع خاصّ منها، کان من الأفضل أنْ یکون المقصود هو المعنى الأعمّ المساویَ لمطلق العلم. وبناءً علیه، یمکن أنْ نعرّف علم المعرفة بأنّه؛ “ذلک العلم الّذی یبحث حول معارف الإنسان، ویقیّم ألوانها، ویعیّن الملاک لتمییز الصحیح من الخطأ منها”[8]. وأما فی علم العرفان، فالعرفان لیس مجرّد سلوک عملیّ یعتمد على المجاهدات الروحیّة والعبادات، والبرامج المعنویّة الخاصّة من أجل الوصول إلى المعرفة بالحقّ -تعالى-، بل العرفان أطروحة علمیّة ومعرفیّة کاملة أیضًا؛ فهو سلوکٌ فردیٌّ واجتماعیٌّ ورؤیة معرفیّة فی آن.
والعرفاء کغیرهم من روّاد المعرفة، یسعون بدورهم إلى تکوین رؤیة معرفیّة خاصّة بهم حول الوجود والکون والإنسان، وبالتّالی تقدیم أطروحة لحلّ المعضلات والمشکلات العلمیّة الّتی تعانی منها الإنسانیّة، وتعترض طریقها نحو اکتشاف هویّة الوجود والعالم، ومعرفة علّة الخلق الحقیقیّة والتامّة، وأهداف هذه العلّة وصفاتها، وبالتالی الوصول إلى برّ الأمان والطمأنینة على المستویَیْن العقلیّ والقلبیّ معًا.
لقد أوْلى العرفاء اهتمامًا خاصًّا بالعلم والمعرفة، وهذا ظاهرٌ للعیان فی کتبهم العرفانیّة، خصوصًا النظریّة منها. فإذا عدنا إلى أمّهات کتب العرفان النظریّ، وجدناها قد أفردت بحوثًا مستقلّة حول العلم والمعرفة، وهذا إنْ دلّ على شیء فهو یدلّ على محوریّتهما وأهمّیّتهما الفائقة فی بنیان المدرسة العرفانیّة. وهنا ندخل لنسأل بشکل مباشر عن مسألة مُهمّة فی طریق بحثنا حول المعرفة العرفانیّة؛ وهی قیمة المعرفة فی مدرسة العرفان النظریّ. ومعنى البحث عن قیمة المعرفة هو البحث عن اعتبارها أو عدم اعتبارها من الناحیتَیْن النظریّة والعملیّة.
أمّا البحث عن قیمتها النظریّة؛ فبمعنى کاشفیّتها عن الواقع، وأنّها لیست خیالاتٍ وأوهامًا کاذبة من قبل العقل والنفس، وبالتّالی یصحّ الاعتقاد بها والتعویل علیها؛ ما یفتح الباب على مصراعَیْه أمام البحث النظریّ العلمیّ، وأمام عملیّة التعلّم والتعلیم. وأمّا البحث عن قیمتها العملیّة؛ فبمعنى کشفها عن الحسن والقبح، وترتیب الأثر العملیّ علیها، وبالتالی تشیید صرح القوانین والنظم العملیّة الفردیّة والاجتماعیّة.
وعند الحدیث عن المنظومة المعرفیّة لعلم العرفان النظریّ، ثمّة سؤالٌ یُطرَح حول سبب الاعتماد على کلمة “المعرفة” بدل “العلم” فی مُسمّى هذا العلم وعنوانه؛ فالعرفان استقى اسمه من المعرفة، والمعرفة من الإدراک والعلم. فالعرفان فی اللّغة یُطلق على العلم؛ کما أشار أرباب اللّغة، فقالوا: “العرفان” مشتقٌّ من مادّة “عرف”، فهو و”المعرفة” بمعنى واحد، ومعناه العلم. ویقول “الفیروزآبادی” فی “القاموس المحیط”: “عرفه، یعرفه معرفة، وعرفانًا، وعرفةً وعِرِفّانًا، بکسرتیْن مشدّدة الفاء: عَلِمَه، فهو عارف…”[9]. وقال “ابن منظور” فی معنى کلمة “عرف” أنّ “العرفان: العلم”[10].
هذا عند علماء اللغة، وأمّا العرفاء، فقد تحدّثوا فی کتبهم عن العلم والمعرفة ضمن العدید من المواضیع وتحت عناوین مختلفة، ومیّز کثیرٌ من المحقّقین بین المعرفة والعلم، على الرغم من وجود تقارب کبیر بینهما من حیث المعنى، فاتّفقوا أحیانًا، واختلفوا أخرى فی بیان الفارق بینهما، وإنْ کان الجمیع قد أجمع على أنّ المعرفة من العلم، وأنّها أخصّ منه. وبناءً على هذا التمییز، اختلفت مکانة کلٍّ من “المعرفة” و”العلم”، ومنزلتهما عند العرفاء. ففی الوقت نفسه الّذی نجد فیه من یفاضل المعرفة على العلم، نلاحظ فئة أخرى منهم تفاضل العلم على المعرفة، وتعتبره أشرف رتبة، فأُطلِق لفظ العارِف على کلّ من یطلب هذا النوع الخاصّ من العلم، ویتحقّق به، ولم یُطلَق علیه اسم العالِم.
وفی الإجمال، فالعلم الّذی یختصّ به العارف مشتقٌّ من المعرفة لا العلم، والعرفاء خصّوا أنفسهم بنعت المعرفة، ونسبوا العلم إلى ما عداهم من الناس. وقد وقع الاختلاف اللّفظیّ فی بیان الفرق بین العلم والمعرفة، وهما عند اللّغویّین غیرهما عند المتصوّفة والعرفاء.
ومن المهمّ -هنا- أن ندقّق لنفهم إنْ کان هنالک مائزٌ وفارقٌ بین العلم والمعرفة فی مدرسة العرفان النظریّ، ولنسأل عن معنى المعرفة والعلم بالمنظور النظریّ للعرفان، وعن حقیقة الفرق بینهما؟ وهل یختلف رأی العارف عن اللّغویّ والنحویّ فی هذا الشأن؟ وما هو مصدر کلٍّ من العلم والمعرفة فی حال تمایزهما عن بعضهما؟ وهل أحدهما أعلى منزلة وأشرف رتبة من الآخر؟ أم إنّ الاختلاف بینهما مجرّد اختلاف شکلیّ ولفظیّ؟
وفی ما یلی سوف نذکر نبذة من أقوال العرفاء بشأن العلم والمعرفة، والفوارق الأساسیّة بینهما، وقد اقتصرنا على بعضهم؛ منعًا للإطالة والإسهاب.
- المعرفة عند محیی الدّین بن عربی:
تحدّث محیی الدّین بن عربی فی العدید من کتبه، عن حقیقة العلم والمعرفة والعلاقة بینهما، خصوصًا فی کتاب “الفتوحات المکّیّة”، وکتاب “مواقع النجوم ومطالع أهلّة الأسرار والعلوم”، حیث بیّن مکانة کلٍّ من العلم والمعرفة ومنزلتهما، وذهب إلى وجود فوارق جوهریّة عدّة بینهما؛ منها: أنّ المعرفة من أسماء العلم، ولکنّها تختصّ بالأحدیّة، والأحدیّة من أشرف صفات الواحد، بینما یتعلّق العلم بالأحدیّة أحیانًا، وبغیرها أحیانًا أخرى.
فالمعرفة متعلّقها الحقیقیّ والأساس هو الوحدة والأحادیّة، وأمّا العلم فمتعلّقه یشمل الأحدیّة وغیرها، ولذا کانت المعرفة أخصّ من العلم، کما قال فی الفتوحات المکّیّة: “وخصّه (الشارع) باسم “عرفة” لشرف لفظة المعرفة الّتی هی العلم؛ لأنّ المعرفة فی اللّسان الّذی بعث به نبیّنا (ص) تتعدّى إلى مفعول واحد: فلها الأحدیّة. فهی اسم شریف سمّى الله به العلم. فکانت المعرفة علمًا بالأحدیّة. والعلم قد یکون تعلّقه بالأحدیّة وغیرها؛ بخلاف لفظ المعرفة”[11].
ونراه فی موضع آخر من الکتاب، وخلال ذکره لمقام المعرفة، یصف المعرفة بأنّها نعتٌ إلهیٌّ لیس للفظها عین فی الأسماء الإلهیّة، وأنّها “أحدیّة المکانة”، ولا تطلب غیر الواحد والتوحید؛ کما قال: “اعلم أنّ المعرفة نعتٌ إلهیٌّ، لا عین لها فی الأسماء الإلهیّة من لفظها، وهی أحدیّة المکانة، لا تطلب إلّا الواحد”[12].
وکمثالٍ على هذا الفارق والمائز بین العلم والمعرفة، إدراکنا لقضیّة “زید قائم”. حیث یمکن أن یتصوّر الموضوع والمحمول فی هذه القضیّة على نحوَیْن: الأوّل ندرک فیه “زیدًا” لوحده و”قائمًا” لوحده، والثانی ندرک النسبة بین زید وقائم؛ أی نسبة القیام. فتعلّق العلم بزید والقیام کلٌّ على حدة هو غیر تعلّقه بنسبة القیام إلى زید. ویُسمّى الأوّل عند ابن عربی “معرفة” لتعلّقه بأمر شخصیّ وواحد، والثانی “علمًا” لتعلّقه بأمر نسبیّ، مضافًا إلى الأمر الشخصیّ[13].
کما میّز ابن عربیّ -أیضًا- بین العلم والمعرفة، فجعل مقام المعرفة ربّانیًّا، ومقام العلم إلهیًّا. وإذا حصل تداخل أو خلط بینهما، فالنزاع والاختلاف لفظیٌّ لا أکثر. فالقائل بمقام المعرفة إذا سُئِلَ عنه، أجاب بما یجیب به المخالف فی مقام العلم، فوقع الخلاف فی التسمیة لا فی المعنى. واستدلّ على ذلک بالعدید من الشواهد القرآنیّة، فقال فی معرض استدلاله: “وعمدتنا[14] قول الله تعالى: {وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْیُنَهُمْ تَفِیضُ من الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا من الْحَقِّ}[15]، فسمّاهم عارفین وما سمّاهم علماء. ثمّ ذکر ذکرهم، فقال: {یَقُولُونَ رَبَّنا}، ولم یقولوا إلهنا آمَنَّا، ولم یقولوا علمنا، ولا شاهدنا، فأقرّوا بالاتّباع: {فَاکْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِینَ}، وما قالوا نحن من الشاهدین، وقالوا: {وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا من الْحَقِّ وَنَطْمَعُ}، ولم یقولوا ونقطع {أَنْ یُدْخِلَنا رَبُّنا} ولم یقولوا إلهنا، {مع القوم}، ولم یقولوا مع عبادک الصالحین؛ کما قال الأنبیاء. فقال الله لهذه الطائفة الّتی تکون صفتهم هذه: ﴿فَأَثابَهُمُ الله بِما قالُوا جَنَّاتٍ﴾[16]، محلّ شهوات النفوس فأنزلناهم حیث أنزلهم الله”[17].
ویطلق ابن عربی -مثله مثل سائر العرفاء- على العلم الخاصّ بأهل العرفان اسم “المعرفة”، ویعدّها طریقًا واضحة وممهّدة للکشف، ویؤکّد أنّ هذا النوع من العلم لا یرقى إلیه شکّ ولا شبهة. ویسلم دلیله من القدح وصاحبه من الحیرة. ویحصل بفعل العمل والتقوى والسیر والسلوک. وهو طریق صحیح وواضح ومحلّ ثقة واطمئنان، على عکس طریق الفکر الّتی لا یسلم من الخطأ؛ کما یقول: “المعرفة عند القوم محجّة، فکلّ علم لا یحصل إلّا عن عمل وتقوى وسلوک فهو معرفة؛ لأنّه عن کشف محقّق لا یدخله الشبه، بخلاف العلم الحاصل عن النظر الفکریّ، لا یسلم أبدًا من دخول الشبه علیه، والحیرة فیه، والقدح فی الأمر الموصل إلیه”[18].
- المعرفة عند الکاشانی:
یشرح الکاشانی -فی شرحه لکتاب “منازل السائرین”- معنى المعرفة والعلم من منظوره المعرفیّ والعرفانیّ، ویمیّز بینهما على أساس إدراک الشیء من خلال ذاته، وإدراکه من خلال أمر زائد على ذاته، فیقول فی تعریف المعرفة إنّها إدراک الشیء من خلال الإحاطة بعینه وذاته، لا بصورة زائدة علیه تتوسّط بینه وبین العلم به. وأمّا العلم فهو إدراک الشیء من خلال صورة زائدة علیه، لا بنفس ذاته؛ فالمعرفة عنده حالة جزئیّة إنْ صحّ التعبیر، یدرک الإنسان بواسطتها أمرًا واحدًا متعیّنًا بذاته، فیتّحد کلا طرفَیْ الإدراک فی المقام -أی المدرِک والمدرَک- اتّحادًا اندماجیًّا، فیدرک بشکل أحادیّ وشخصیّ، بخلاف العلم الّذی هو إدراک بتوسّط وسائط مختلفة، وبالتّالی فإنّ جهة الأحادیّة والشخصیّة غیر متحقّقة فیها.
قال الکاشانی: “المعرفة إحاطةٌ بعین الشیء؛ کما هو؛ أی إدراک لحقیقة الشیء بذاته وصفاته على ما هو علیه بعینه، لا بصورة زائدة مثله. هذا إدراک العرفان، واحترز عن إدراک العلم بقوله: بعین الشیء، فإنّ العلم إدراک الشیء بصورة زائدة مثله فی ذات المدرِک، کما رسمه الحکماء بأنّه حصول صورة الشیء فی النفس. فالمعرفة اتّحاد العارف بالمعروف، بکونهما شیئًا واحدًا، أو کون ذات المعروف فی العارف، فلا تعرف الشیء إلّا بما فیک منه أو بما فیه منک، فالمعرفة ذوقٌ، والعلم حجابٌ”[19].
- المعرفة عند حیدر الآملی:
یرى الآملی أنّ السبب فی تمایز العلم عن المعرفة مرجعه إلى أنّ المعرفة لا تحصل إلّا بالعلم؛ لأنّ صاحب المعرفة إذا أراد أن یعرف أمرًا ما؛ فإنّما یعرفه بحکم من أحکام العلم وصفة من صفاته، فیکون القدر الحاصل من المعرفة إنّما حصل بالعلم لا بغیره[20]، فالمعرفة تُطلَق على معنیَیْن؛ کلّ واحد منهما نوعٌ من العلم، والعلم جنسٌ لهما؛ أحدهما العلم بأمر باطن یستدلّ علیه بأمر ظاهر، وثانیهما العلم بأمر کان مشهورًا ومعروفًا لدیک فی السابق. کما إذا رأیت شخصًا کنت قد رأیتَه من قبل، فعلمتَ أنّه هو نفسه ذلک الشخص الّذی عرفته سابقًا. فهو نوع من التذکّر لمعرفة سابقة منسیّة أو مغفول عنها.
یقول الآملی: “وقد عبَّر عن الفرق بین العلم والمعرفة، وبین العالم والعارف، بعضُ العارفین بعبارة لطیفة؛ وهی قوله: المعرفة أخصّ من العلم؛ لأنّها تطلق على معنیین کلّ منهما نوع من العلم: أحدهما: العلم بأمر باطن یستدلّ علیه بأثر ظاهر، کما إذا توسّمتَ شخصًا فعلمت باطن أمره بعلامة ظاهرة منه. ومن ذلک ما خوطب به رسول الثقلَیْن علیه أفضل الصلوات فی قوله تعالى: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِیماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فی لَحْنِ الْقَوْلِ}[21]. وثانیهما: العلم بمشهود سبق به عهد، کما إذا رأیت شخصًا کنتَ رأیتَه قبل ذلک بمدّة، فعلمت أنّه ذلک المعهود فقلت: عرفته بعد کذا سنة عهدته. فالمعروف على المعنى الأوّل غائب، والمعروف على المعنى الثانی شاهد”[22].
فالمعنى الأوّل للمعرفة یشیر إلى الجنبة الباطنیّة للإدراک، والّتی یُستدلّ علیها من خلال الجنبة الظاهریّة. والمعنى الثانی یشیر إلى التذکّر بعد النسیان والغفلة، وهذا ما یحدث بعد حصول الیقظة عند الإنسان. وبناءً على هذا الفهم، سُمِّی العارف عارفًا؛ لأنّه عرف ربّه بعد نسیان وغفلة عنه، لا بعد جهل به.
فالمعرفة فی العرفان هی نوعٌ من الرجوع والیقظة والتذکّر، لحقیقة ثابتة، ولعلم سابق بعد الغفلة عنه، أو غیبته عن الذهن. وهذا العلم عندهم هو التوحید الّذی فطر الإنسان علیه؛ کما ورد فی تفسیر الإمام الصّادق (ع) لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلى}[23]، قلت: “معاینة کان هذا؟ قال: نعم، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف، وسیذکرونه، ولولا ذلک لم یدرِ أحد من خالقه ورازقه، فمنهم من أقرّ بلسانه فی الذرّ ولم یؤمن بقلبه، فقال الله: {فَما کانُوا لِیُؤْمِنُوا بِما کَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}”[24].
وبهذا یتّضح أنّ تلک المعرفة الأولى الحقّة المعبّر عنها بالعلم البسیط، لیست من نتاج الإنسان وإبداعه، وإنّما هی فیض وعطاء إلهیّ خالص. لذا قال الإمام الصّادق (ع): “ولولا ذلک لم یدر أحد من خالقه ورازقه”، فهی معرفة مخلوقة مودعة فی قلب الإنسان. وعلیه، تکون المعرفة بالمعنى الثانی هی تذکّر العلم السابق بعد غیبته عن الذهن، أو لنَقُل هی إدراک الشیء ثانیًا بعد توسّط نسیانه؛ فالمعرفة هی تجلّی العلم السابق بالخروج من عالم الغفلة، والدخول فی عالم الیقظة. فیکون محصّل المعرفة هو حصول الیقظة بعد الغفلة والنسیان.
رابعًا: المعرفة سرّ العلم عند العارف:
بعد جملة الآراء الّتی أوردناها حول أقوال العرفاء بشأن المعرفة والعلم، یمکن أنْ نستنتج بشکل واضح أنّ عمدة الفرق بینهما، مع أنّ کلیهما من أنواع الإدراک، أنّ أحدهما أخصّ من الآخر. فالمعرفة أخصّ من العلم، مع أنّ کلیهما من أفراد الإدراک ومصادیقه. والمعرفة علمٌ بعین الشیء مفصّلٌ عمّا سواه، وأمّا العلم، فالعلم به مجملٌ ومفصّلٌ. ومعنى أنّ معرفته مفصّلٌ؛ هو أنّه ممیَّزٌ عمّا سواه، أو متمیّزٌ عن غیره، فتکون النسبة بینهما العموم والخصوص المطلق، فکلّ معرفة هی علم، ولیس کلّ علم معرفة. وإنّما بعض العلم معرفة، فعلم الله -تعالى- لیس معرفة، ولذا لا یُسمّى الله -تعالى- عارفًا؛ وإنّما یُسمّى عالمًا.
فالمعرفة لأنّها علم بالجزئیّات، والعلم هو إحاطة بالجزئیّات والکلّیّات، ولأنّ المعرفة -أیضًا- هی تذکّر علم سابق بعد نسیانه والغفلة عنه، والعلم بأمر باطن یستدلّ به على أمر ظاهر. ولأنّ المعرفة هی فی الحقیقة علم بالأحدیّة والتوحید، وما یتعلّق بهذه المعرفة التوحیدیّة من مسائل، ویتفرّع عنها من لوازم؛ من العلم بالحقائق والأسماء الإلهیّة، والعلم بتجلّی الحقّ فی الأشیاء، والعلم بالخطاب الإلهیّ لعباده بلغة الشرائع، والعلم بالکمال والنقص فی الوجود، والعلم بحقیقة النفس الإنسانیّة، وبأمراضها وعللها، وکیفیّة مداواتها، وغیرها من المعارف والعلوم المرتبطة بالنظرة التوحیدیّة للوجود والعالم الّتی یعتقد بها العارف، ویؤمن بها، ویسعى إلى مشاهدتها والاستدلال علیها، وترسیخ قواعدها وأسسها فی فکره وعقله وقلبه وسرّه، والتی تُدرَک عند العارف من خلال ما یُسمّى عنده بالمعرفة، وهی التی یکون موضوعها هو التوحید ولوازم التوحید؛ فلهذه الأسباب وغیرها کانت المعرفة عند العارف بمثابة “سرّ العلم”، ومراده بسرّ العلم؛ أی أسرار المعرفة بالتوحید؛ کما یصرّح القونویّ: “وسرّ العلم هو معرفة وحدته فی مرتبة الغیب، فیطّلع المشاهد -الموصوف بالعلم بعد المشاهدة بنور ربّه- على العلم ومرتبة وحدته بصفة وحدة -أیضًا-؛ کما مرّ، فیدرک بهذا التجلّی النوریّ العلمیّ من الحقائق المجرّدة ما شاء الحقّ -سبحانه- أن یریَه منها ممّا هی فی مرتبته أو تحت حیطته”[25]. وهذا لیس تقلیلًا من شأن العلم؛ على العکس؛ فالمعرفة لا تحصل بالأصل من دون العلم، والعارف “إنّما یعرف بحکم من أحکام العلم، وصفة من صفاته، حکمًا آخر أو صفة أخرى من أحکام العلم -أیضًا- وصفاته، فیکون القدر الحاصل من المعرفة بالعلم إنّما حصل به -أی بالعلم- لا بغیره”[26]؛ وإنّما هو من باب إعطاء کلّ ذی حقّ حقّه، ومجاله المعرفیّ إنْ صحّ التعبیر، ولکون العلم أعمّ من المعرفة؛ کما بینّا.
وفی المحصّلة، فکلّ ما یصل إلیه المرء بالمعرفة سوف یکون للعلم فیه نصیبٌ حتمًا، فالتوحید الذی یقع من خلال المعرفة هو -أیضًا- من نصیب العلم، فالعالم إذا أصبح موحّدًا؛ إنّما یصبح موحِّدًا من جهة المعرفة، ومن حیث هو عارف؛ کما یقول ابن عربی:” واعلم أنّ العارفین هم الموحِّدون، والعلماء وإنْ کانوا موحِّدین فمن حیث هم عارفون، إلّا أنّ لهم -أی العلماء- علم النسب، فهم یعلمون علم أحدیّة الکثرة وأحدیّة التمییز، ولیس هذا لغیرهم”[27].
فالعارف هو صاحب المعرفة، والمعرفة فی المدرسة العرفانیّة هی صفة من عرف الحقّ بأسمائه وصفاته، فوحَّده وصار فانیًا فیه. وهذه الحال هی الّتی تُسمّى “معرفة”؛ کما یقول القشیری فی رسالته: “المعرفة على لسان العلماء هی العلم، فکلّ علم معرفة، وکلّ معرفة علم، وکلّ عالم بالله -تعالى- عارف، وکلّ عارف عالم. وعند هؤلاء القوم -العرفاء والصوفیة- المعرفة صفة من عرف الحقّ -سبحانه- بأسمائه وصفاته، ثمّ طال بالباب وقوفه، ودام بالقلب اعتکافه، فحظی من الله -تعالى- بجمیل إقباله، وصدّق الله -تعالى- فی جمیع أحواله، وانقطعت عنه هواجس نفسه، ولم یُصغِ بقلبه إلى خاطر یدعوه إلى غیره، فإذا صار من الخلق أجنبیًّا، ومن آفاق نفسه بریًّا، ومن المساکنات والملاحظات نقیًّا، ودامت فی السرّ مع الله -تعالى- مناجاته، وحقّ فی کلّ لحظة إلیه رجوعه، وصار محدّثًا من قبل الحقّ -سبحانه- بتعریف أسراره فی ما یجریه من تصاریف أقداره، یُسمّى عند ذلک عارفًا، وتُسمّى حالته معرفة”[28].
إذًا، ففی مدرسة العرفان النظریّ لا تصحّ المعرفة إلّا بالتوحید[29]؛ فالمعرفة فی العرفان هی نحو خاصّ من العلم الّذی یُوصِل إلى المعرفة التوحیدیّة بالحقّ تعالى. والعلم -هنا- هو نور من أنوار الله تعالى، یقذفه فی قلب من أراد من عباده. قال الله -تعالى-: {أَوَ مَنْ کانَ مَیْتًا فَأَحْیَیْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا یَمْشی بِهِ فِی النَّاسِ کَمَنْ مَثَلُهُ فِی الظُّلُماتِ لَیْسَ بِخارِجٍ مِنْها}[30]. وهو معنى قائم بنفس العبد، یطّلع من خلاله على حقائق الأشیاء، وهو للبصیرة کنور الشمس للبصر؛ بل أتمّ وأشرف.
فهذا النحو من العلم فی المدرسة العرفانیّة هو عین النور الّذی لا یدرک شیء إلّا به، ولا یوجد أمر من دونه، ولشدّة ظهوره لا یمکن تعریفه؛ إذ من شروط المعرِّف أن یکون أجلى من المعرَّف وسابقًا علیه، وما ثمّة ما هو أجلى من العلم ولا سابق علیه إلّا غیب الذات، الّتی لا یحیط بها علم أحد غیر الحق تعالى. وحصول هذا النور، الّذی هو المعرفة بالتوحید، لا یحصل للإنسان إلّا من خلال العود والرجوع إلى الله تعالى. “ولهذا أمر تعالى عباده أن یقولوا: {رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا}[31]، وقال فی جوابه لهم: {قِیلَ ارْجِعُوا وَراءَکُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}[32]، لیعرفوا أنّ حصول هذا النور موقوفٌ على عودهم ورجوعهم إلى ما ورائهم، الّذی هو المبدأ الحقیقیّ والمعاد الأصلیّ”[33]. وهذا النور الهدف الأساس منه معرفة الحقّ ورؤیته على مستوى التوحید. وهو، وإنْ لم یکن عند بعضهم على نوع واحد ومرتبة واحدة، تبقى خصوصیّته أنّه یُری الحقّ ویوصل إلیه مباشرة. ففی “قلب المؤمن ثلاثة أنوار: نور المعرفة، ونور العقل، ونور العلم. فنور المعرفة؛ کالشمس، ونور العقل؛ کالقمر، ونور العلم؛ کالکوکب. فنور المعرفة یستر الهوى، ونور العقل یستر الشهوة، ونور العلم یستر الجهل. فبنور المعرفة یرى الحقّ، وبنور العقل یقبل الحقّ، وبنور العلم یعمل بالحقّ”[34].
خامسًا: شرافة توحید العالم على توحید العارف:
فی النظرة الأوّلیّة، عندما نتفحّص الواقع من حولنا، نلاحظ بشکل لافت تقدّم مقام العارف على مقام العالم فی أذهان الناس وعقولهم، فأکثرهم یعتقد أنّ العارف أعلى مقامًا وأشرف رتبة من العالم. وهذه الرؤیة، وهذا الفهم، سائدٌ حتّى فی أوساط البیئة العلمیّة والفکریّة، ولیس عند عوام الناس فقط. والسؤال الّذی یَطرح نفسه بعد بیان الفوارق الأساسیّة بین العلم والمعرفة: هل هذه الرؤیة السائدة صحیحة أم إنّ فیها نقصًا ما ینبغی تدارکه؛ کی لا نقع فی المحذور؟ ومرادنا بالمحذور -هنا- تقدیم الفاضل على المفضول، وبالتّالی ضیاع الأولویّات، وتشویه المسار المنهجیّ والهدفیّ لطریق العلم والتعلّم، والّذی یوصل إلى المعرفة الواقعیّة التی یریدها الله حقًّا ولا یرید سواها.
فالدخول فی إرداة الله -تعالى- ومعاینة ما یریده حقًّا لیس بالأمر السهل أو البسیط؛ بل یحتاج إلى بصیرة خاصّة، ومعرفة دقیقة بالتشریع الإلهیّ، وبغایات التشریع ومقاصده الحقیقیّة، وهذا لا یتیسّر إلّا لمن طوى کشحًا عن نفسه، وفَنِیَ بالکامل فی إرادة ربّه، فلا یعاین ولا یشاهد إلّا ذاته المقدّسة وأسماءه وصفاته، فلا یرى إلّا حقًّا، وإذا رأى خلقًا؛ فإنّما یراه من حیث هو تجلٍّ ومظهر للحقّ، ولا یراه مستقلًّا بنفسه، ولا بنحو منقطع عن ربّه.
ومن هنا، وبعد بیان الفوارق الأساسیّة بین العلم والمعرفة، ندخل لنبحث أکثر فی عمق المسألة، لکی نعرف أیّ نوع من نوعَیْ الإدراک أعلى شأنًا ومنزلة من الآخر من وجهة نظر الرؤیة المنهجیّة العرفانیّة نفسها. ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال، سوف نعتمد بالدرجة الأولى على القرآن الکریم، من جهة؛ لتعذّر تناول جمیع المصادر؛ منعًا للإطالة، ومن جهة أخرى لکون القرآن هو المصدر الأوّل الّذی إذا استدلّ به وتکشّفت بواسطته الحقائق، أصبح کلّ ما عداه ثانویًّا وهامشیًّا.
ومن خلال تتبّعنا للآیات الکریمة الورادة فی القرآن الکریم، نلاحظ أنّ الله -تعالى- قد فرّق بین العارفین والعلماء بما وصفهم به، ومیّز بعضهم عن بعض. فالعلم صفة الله -تعالى- فی القرآن، والمعرفة لیست صفته. فیقال فی الحقّ إنّه عالم ولا یقال فیه عارف. وقد أثنى الله -تعالى- بالعلم على من اختصّه من عباده أکثر ممّا أثنى به على العارفین، ومدح من قامت بهم صفة العلم ووصف بها عباده؛ کما وصف بها نفسه فی أکثر من موضع من الکتاب العزیز؛ کقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِکَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزیزُ الْحَکیمُ}[35]، فأخبر -تعالى- أنّ العلماء هم الموحِّدون حقیقة، والتوحید أشرف مقام ینتهی إلیه الإنسان، ولیس وراءه مقام.
وقال جلّ ثناؤه فی صاحب موسى (ع): {آتَیْناهُ رَحْمَةً من عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ من لَدُنَّا عِلْمًا}[36]، ولم یقل عرّفناه. وما صدر من لدنه کان علمًا لا معرفة، وهو صادر من مقام الرحمة أیضًا. والعالم؛ کما یقول الله -تعالى- صاحب خشیة: {إِنَّما یَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ}[37]، وهو عند الله -أیضًا- صاحب الفهم بآیات الله وتفاصیلها؛ لقوله: {وَما یَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُون}[38]، وقوله -تعالى-: {وَالرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْم}[39].
فالعالم هو ذو المعرفة الراسخة الثابتة، الّذی لا تزیله الشبهات، ولا تزلزله الشکوک؛ لتحقُّقِه بما شاهد من الحقائق بالعلم. والعلماء هم الذین علموا بحقائق الأمور قبل وجودها، وأخبروا بها قبل حصول أعیانها؛ کما قال -تعالى-: {أَوَ لَمْ یَکُنْ لَهُمْ آیَةً أَنْ یَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنی إِسْرائیلَ}[40].
والعلم هو الصفة الشریفة الّتی أخبر الله -تعالى- نبیّه محمّدًا (ص) بالزیادة منها، فقال -تعالى-: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنی عِلْمًا}[41]، ولم یقل له ذلک فی غیرها من الصفات. وعندما شاء الله -تعالى- أنْ یربّیَ الإنسان الکامل بعلمه الخاصّ المسمّى بعلم الأسماء والصفات الإلهیّة قال -تعالى-: {وَعَلَّم آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها}[42]، ولم یقل عرّف. ولصفة العالم شرفٌ کبیر وعظیم، حیث إنّ الله -تعالى- مدح بها أهل خاصّته من أنبیائه، ثمّ منّ -سبحانه تعالى- على العلماء ولم یزل مانًّا، بأنْ جعلهم ورثة الأنبیاء (عله)؛ کما روی عن النبی الأکرم محمّد (ص) أنّه قال: “العلماء ورثة الأنبیاء”[43]، ولم یقلْ: العرفاء ورثة الأنبیاء (عله).
هذه الشواهد من الآیات والروایات وغیرها -أیضًا- تکشف عن علوّ مکانة العلم وشرافته، بل ویذهب ابن عربی فی کتاب “الفتوحات المکّیّة” وکتاب “مواقع النجوم” إلى اعتبار المعرفة أقلّ رتبة من العلم، وأنّ مقام العارف أدنى من مقام العالم، فهو یرى أنّ العارف فی سیره المعنویّ والمعرفیّ یبقى لدیه نوع من الاثنینیّة الخفیّة، ولا یصل إلى التوحید الخالص والمجرّد عن کلّ تعیّن نفسیّ إلّا إذا کان متحقّقًا بمقام العلم الحقیقیّ، فیصبح بالتالی عالمًا حقیقیًّا. ویستدلّ على ذلک بالعدید من الشواهد القرآنیّة، مستنتجًا منها بقاء شیء من محوریّة النفس وأحوالها عند العارف الموحِّد، بخلاف العالم الموحِّد الّذی یصفه بالصدِّیق، ویعتبر توحیده أعلى مقامًا من توحید العارف.
ویستشهد ابن عربی بآیة من القرآن الکریم نزلت فی حقّ من تحقّقوا بمقام المعرفة؛ أی معرفة الحقّ، وهی قوله -تعالى-: {وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْیُنَهُمْ تَفِیضُ من الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا من الْحَقِّ}[44]، ولم یقل: علموا، فوصفهم الله -تعالى- بوصف المعرفة؛ وفیه إشارة واضحة إلى أنّ المخاطَبین فی هذه الآیة هم أهل المعرفة لا العلم. وتظهر الآیة -بحسب رأی ابن عربی- أنّ الله -تعالى- لم یسمِّ عارفًا إلّا من کان له حظّه من الأحوال: البکاء، ومن المقامات: الإیمان بالسماع لا بالأعیان، ومن الأعمال: الرغبة إلیه -سبحانه- والطمع فی اللحوق بالصالحین، وأنْ یکتب مع الشاهدین وطلب الثواب؛ کما فی قوله -تعالى-: {رَبَّنا آمَنَّا فَاکْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدین * وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ یُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحین * فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْری مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدینَ فیها وَذلِکَ جَزاءُ الْمُحْسِنین}[45]. وطلب هذه الأحوال والمقامات والأعمال عند أهل التوحید ینافی التوحید الحقیقیّ الصرف، ویتعارض مع مقام الفناء الوجودیّ والنفسیّ التامّ فی الحقّ؛ فأحوال النفس؛ کالبکاء، وطلب الثواب، والطمع فی أنْ یکون المرء مع الشهداء والصالحین؛ کلّها مقامات أدنى من مقام الصدّیقین الّذی یکون عنوانه التحقّق بالشیء، لا مجرّد الإیمان به، وترک الرغبة، وطلب العوض والأجر على العمل، وعدم الطمع بأیّ شیء سوى وجه الله الکریم وذاته المقدّسة. وقد ورد ترتیبهم فی القرآن الکریم بعد النبیّین مباشرة؛ کما فی قوله -تعالى-: {فَأُولئِکَ مَعَ الَّذینَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ وَالصِّدِّیقینَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحینَ وَحَسُنَ أُولئِکَ رَفیقًا}[46].
وأمّا الشهداء الذین طلب أهل المعرفة أن یلحقوا بهم: {رَبَّنا آمَنَّا فَاکْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدین}[47]، فهم أقلّ درجة من مقام الصدّیقین؛ لأنّهم یطلبون العوض عن أعمالهم. وهذا یُعدّ من السیّئات عند الصدّیقین على قاعدة: “حسنات الأبرار سیّئات المقرّبین”[48]، کما یقول ابن عربی: “ثمّ لتعلم أنّ الشهداء الذین رغب العارف أن یلحق بهم، هم العاملون على الأجرة وتحصیل الثواب، وأنّ الله -عزّ وجل- قد برّأ الصدّیقین من الأعواض وطلب الثواب، إذ لم یقم بنفوسهم ذلک؛ لعلمهم أنّ أفعالهم لیست لهم أنْ یطلبوا عوضًا، بل هم العبید على الحقیقة والأجراء مجازًا. قال -عزّ وجل-: {وَالَّذینَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِکَ هُمُ الصِّدِّیقُون}[49]، ولم یذکر لهم عوضًا عن عملهم إذ لم یقم لهم به خاطر أصلًا لتبرئتهم من الدعوى. ثمّ قال: {وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُم}[50]، وهم الرجال الذین رغب العارف أن یلحق بهم، ویرسم فی دیوانهم، وقد جعلهم -تعالى- فی حضرة الربوبیّة، ولم یشترط فی إیمان الصدّیقین السماع؛ کما فعل بالعارفین، حکمة منه -سبحانه- أن نتعلّم الأدب”[51]. ویصل ابن عربی فی تقدیمه لمقام العلم على المعرفة إلى وصف العارف بوصف غریب، ولکنّه بالغ الدلالة على عمق الفکرة التی یرید أنْ یکشف اللّثام عنها، والّتی یُعدّ اکتشافها لطفًا إلهیًّا خاصًّا به، فیصف العارف الموحِّد بأنّه ساحة شهوة، ولکنّها نوعٌ من الشهوة المحمودة. وأمّا العالم الموحِّد فهو منزّه عن هذه الشهوة لفنائه التامّ فی الحقّ وذهوله بالکامل عن نفسه. قال: “ثمّ انظر بعین البصیرة أدب رسول الله (ص) أین جعل العارف؛ حیث جعله الحقّ، فقال: “من عرف نفسه عرف ربه”، ولم یقل علم. فلم ینزله عن حضرة الربوبیّة، ولا عن حضرة نفسه الّتی هی صاحبة الجنّة. کما قال: {وَفیها ما تَشْتَهیهِ الْأَنْفُس}[52]، فالعارف صاحب الشهوة المحمودة، تربیه بین یدیّ العالم الصدّیق”[53]، فالعالم عند ابن عربی إلهیّ والعارف ربّانیّ.
وعلوّ درجة العلم عند ابن عربی لا یعنی سقوط المعرفة عن مقامها الشامخ، وهی الّتی ارتبطت على الدوام بأشرف الموضوعات والغایات، من التوحید بشکل أساس، إلى معرفة الحقّ والتحقّق بأسمائه وصفاته ومشاهدة تجلّیاته، وغیرها من الموضوعات العرفانیّة الّتی لا نجد لها حیّزًا ووجودًا سوى فی مدرسة المعرفة العرفانیّة؛ بل یشیر ابن عربی إلى مسألة مُهمّة ولافتة جدًّا عندما یفرّق بین توحید العالم وتوحید العارف، فیعتبر مقام التوحید وإنْ کان هدفًا أساسًا للعارف، لکنّه فی الحقیقة لنْ یصل إلى أعلى درجات التوحید الحقیقیّ إلّا من بوابة العالم المتألّه، الّذی یرى أنّ علامته الأساس هی أنّه یرى الوحدة فی عین الکثرة، والکثرة فی عین الوحدة؛ أی یرى المجمل والمفصّل والکلّیّ والجزئیّ معًا. لیکون العالم الموحِّد؛ عارفًا فی نهایة المطاف، ولیس کلّ عارف موحِّدًا؛ عالمًا. وإذا تحقّق عارف ما من هذا المقام التوحیدیّ الشامخ، فجمع بین الوحدة والکثرة، فهو قد تمکّن من ذلک من حیث هو عالم لا من حیث هو عارف؛ کما یقول ابن عربی: “اعلم أنّ العارفین هم الموحِّدون والعلماء، وإنْ کانوا -العلماء- موحِّدین فمن حیث هم عارفون، إلّا أنّ لهم -أی العلماء- علم النسب، فهم یعلمون علم أحدیّة الکثرة وأحدیّة التمییز، ولیس هذا لغیرهم. وبتوحید العلماء، وحّد الله نفسه، إذ عرف خلقه بذلک. ولمّا أراد الله -سبحانه- أن یصف نفسه لنا بما وصف به العارفین من حیث هم عارفون، جاء بالعلم، والمراد به -أی بالعلم- المعرفة، حتّى لا یکون لإطلاق المعرفة علیه -تعالى- حکم فی الظاهر، فقال: {لا تَعْلَمُونَهُمُ الله یَعْلَمُهُمْ}[54]. فالعلم -هنا- بمعنى المعرفة لا غیر، فالعارف لا یرى إلا حقًّا وخلقًا، والعالم یرى حقًّا وخلقًا فی خلق، فیرى ثلاثة؛ لأنّ الله وتر یحبّ الوتر، فهو مع الله على ما یحبّه الله مع الکثرة؛ کما ورد أنّ لله تسعة وتسعین اسمًا، مئةً إلّا واحدًا. فإنّ الله وتر یحبّ الوتر فما تسمّى إلّا بالواحد الکثیر لا بالواحد الأحد”[55].
وأمّا عن سبب تقدیم بعضهم فی عرفهم العامّیّ وحتّى العلمیّ -أحیانًا- للمعرفة على العلم، وفی استخدام عنوان العارف على الموحِّد ولیس العالم، فهو یرجع إلى أمرَیْن أساسیْن:
- الغیرة:
فالعرفاء غلبت علیهم الغیرة على طریق الله، لمّا شاعت صفة العلم، وأطلقت على طائفة من العلماء المنکبّین على الدنیا وشهواتها، والمتورِّط بعضهم فی الشبهات، بل المحرّمات -أحیانًا- باتّباعهم للأهواء وسلاطین الجور والحکّام، فغدوا بعیدین کلّ البعد عن صفات العالم الأساسیّة، لیس لدیهم منها إلّا صورتها وشکلها الخارجیّ، فناقضت أفعالهم أقوالهم، وعمّروا بذلک دنیاهم، وخرّبوا آخرتهم. فلمّا رأى العرفاء “أنّ المقام العالی الّذی حصل لهم ولساداتهم، کان أولى باسم العلم وصاحبه بالعلم؛ کما سمّاه الحقّ، فأدرکتهم الغیرة أن یشارکهم البطّال فی اسم واحد، فلا یتمیّز المقام، ولا یقدرون على إزالته من البطال لإشاعته فی الناس، فلا یتمکّن لهم ذلک، فأدّاهم الأمر إلى تسمیة المقام معرفة، وصاحبه عارفًا؛ إذ العلم والمعرفة فی الحدّ والحقیقة على السواء، ففرّقوا بین المقامَیْن بهذا القدر، فاجتمعا والحمد لله فی المعنى، واختلفا فی اللفظ”[56].
- الجهل بمقام العلم:
فالجهل بحقیقة مقام العلم وعظمته وعلوّ شأنه عند الله تعالى، کان سببًا أساسًا لتقدیم المعرفة على العلم عند بعضهم، متمسّکین بمقولة إنّ العلم هو الحجاب الأکبر. ولکنْ لابن عربی تفسیر آخر لهذه المقولة، فیوافق علیها، ولکنّه یعدّها حجابًا یحجب القلب عن الغفلة، والجهل عن أضداده، مستغربًا فی المحصّلة النهائیّة من هذه الرؤیة غیر المنصفة لمقام العلم والعلماء، متسائلًا: “فلأیّ شیء یا قوم ننتقل من اسم سمّانا الله -تعالى- به ونبیّه إلى غیره، ونرجّحه علیه ونقول فیه عارف وغیر ذلک، والله ما ذاک إلّا من المخالفة الّتی فی طبع النفس، حتّى لا نوافق الله -تعالى- فی ما سمّاها به، ورضیت أن تقول فیه عارف، ولا تقول عالم. نعوذ بالله من حرمان المخالفة”[57].
خاتمة:
بناءً على ما تقدَّم، نستنتج أنّ العلم والمعرفة عند العرفاء یمثّلان محتویین مختلفین؛ أحدهما أعلى شأنًا وأرفع منزلة من الآخر. وإنْ کان مصطلح العارف یمکن أنْ یُوهم أنّ المعرفة ستجعله متقدِّمًا على العلم، ولکنْ عند التحقیق والتبصّر بکلمات أعلام علم العرفان النظریّ والعملیّ سنکتشف أنّ الواقع مختلفٌ تمامًا عمّا هو سائد فی الأذهان، وفی الأوساط العلمیّة أیضًا. وعمدة دلیل العارف فی تقدّم العلم على المعرفة، بل وجعل توحید العالم أرفع مقامًا من توحید العارف؛ هو: القرآن الکریم، حیث یعطینا النظر فی آیاته والتأمّل فی محتویاتها -ولاسیّما الآیات التی تتحدّث عن العلم والمعرفة، واتّصاف الحقّ -تعالى- بالعالم دون العارف، واتّصاف أولیائه بهذین الوصفین-، فهمًا مختلفًا ومباینًا لما یمکن أنْ نتصوّره للوهلة الأولى. وکذلک الأمر بالنسبة إلى الروایات الشریفة الواردة فی العلم والمعرفة؛ بحیث تکشف الشواهد من الآیات والروایات عن علوّ مکانة العلم وشرافته. بل ویذهب ابن عربی إلى اعتبار المعرفة أقلّ رتبة من العلم، وأنّ مقام العارف أدنى من مقام العالم؛ فهو یرى أنّ العارف فی سیره المعنویّ والمعرفیّ یبقى لدیه نوع من الاثنینیّة الخفیّة، ولا یصل إلى التوحید الخالص والمجرّد عن کلّ تعیّن نفسی؛ إلّا إذا کان متحقّقًا بمقام العلم الحقیقیّ، فیصبح بالتالی عالمًا وعارفًا حقیقیًّا. ویستدلّ على ذلک بالعدید من الشواهد القرآنیّة، مستنتجًا منها بقاء شیء من محوریّة النفس وأحوالها عند العارف الموحِّد؛ بخلاف العالم الموحِّد الّذی یصفه بالصدِّیق، ویعتبر توحید العالم أعلى مقامًا من توحید العارف؛ بل إنّ صیرورة العارف عارفاً غیر ممکنة ما لم یکن عالماً.
الهوامش:
[1] *باحث فی الفکر الإسلامیّ، وأستاذ فی جامعة المصطفى (ص) العالمیّة، من لبنان.
[2] الخمینی، روح الله: جنود العقل والجهل، تعریب: أحمد الفهری، ط1، بیروت، مؤسّسة الأعلمی للمطبوعات، 1422ق/2001م، ص257.
[3] م.ن، ص258.
[4] الجرجانیّ، علیّ بن محمّد: معجم التعریفات، تحقیق: محمد صدّیق المنشاوی، لا ط، القاهرة، دار الفضیلة، لا ت، ص185.
[5] التهانوی، محمد علی: موسوعة کشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقدیم وإشراف: رفیق عجم، تحقیق: علی دحروج، ترجمة: جورج زیناتی، ط1، بیروت، مکتبة لبنان، 1996م، ج2، ص1583.
[6] م.ن، ص1586.
[7] م.ن، ص1587.
[8] الیزدی، محمد تقی مصباح: المنهج الجدید فی تعلیم الفلسفة، ترجمة: محمد الخاقانی، لا ط، بیروت، دار التعارف، 1411ه.ق/ 1990م، ج1، ص141.
[9] الفیروزآبادی، مجد الدین: القاموس المحیط، تحقیق: أنس الشامی؛ کریا أحمد، لا ط، القاهرة، درا الحدیث، 1429هـ.ق/ 2008م، ص1076.
[10] ابن منظور، محمد: لسان العرب، ط3، بیروت، دار الفکر للطباعة والنشر، 1414هـ.ق، ج9، ص236.
[11] ابن عربی، محی الدین: الفتوحات المکیّة، لا ط، بیروت، دار صادر، لا ت، ج1، ص636.
[12] م.ن، ص297.
[13] م.ن، ص636.
[14] فی أنّ مقام المعرفة ربّانیّ، ومقام العلم إلهیّ.
[15] سورة المائدة، الآیة 83.
[16] سورة المائدة، الآیة 85.
[17] ابن عربی، الفتوحات المکّیّة، م.س، ج2، ص318-319.
[18] م.ن، ص297.
[19] الکاشانی، عبد الرزاق: شرح منازل السائرین، تحقیق: محسن بیدارفر، ط3، قم المقدّسة، منشورات بیدار، 1385هـ.ش/ 1427ق، ص762.
[20] انظر: القونوی، صدر الدین: إعجاز البیان فی تفسیر أمّ القرآن، تقدیم وتصحیح: جلال الدین الآشتیانی، ط1، قم المقدّسة، مؤسّسة بوستان کتاب، 1423هـ.ق/ 1381هـ.ش، ص50.
[21] سورة محمد، الآیة 30.
[22] الآملی، حیدر: المقدّمات من کتاب نصّ النصوص، ط1، بیروت، مؤسّسة التاریخ العربی، 1426هـ.ق/ 2005م، ص269.
[23] سورة الأعراف، الآیة 172.
[24] المجلسیّ، محمد باقر: بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار (عله)، ط2، بیروت، دار إحیاء التراث العربی، 1403هـ.ق، ج5، ص237.
[25] القونوی، إعجاز البیان فی تفسیر أمّ القرآن، م.س، ص54.
[26] م.ن، ص50.
[27] ابن عربی، الفتوحات المکّیّة، م.س، ج4، ص55.
[28] القشیریّ، أبو القاسم: الرسالة القشیریّة، تعلیق: خلیل المنصور، لا ط، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1422هـ.ق/ 2001م، ص342.
[29] الآملی، حیدر: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، تصحیح وتقدیم: هنری کربان؛ عثمان یحی، ط2، طهران، شرکت انتشارات علمی وفرهنگى، 1368هـ.ش، ص582.
[30] سورة الأنعام، الآیة 122.
[31] سورة التحریم، الآیة 8.
[32] سورة الحدید، الآیة 13.
[33] الآملی، جامع الأسرار ومنبع الأنوار، م.س، ص580.
[34] م.ن، ص584.
[35] سورة آل عمران، الآیة 18.
[36] سورة الکهف، الآیة 65.
[37] سورة فاطر، الآیة 28.
[38] سورة العنکبوت، الآیة 43.
[39] سورة آل عمران، الآیة 7.
[40] سورة الشعراء، الآیة 197.
[41] سورة طه، الآیة 114.
[42] سورة البقرة، الآیة 31.