الذكر والسماع الصوفي في موريتانيا
أحمد ولد جدو
تُعتبر جلسات الذكر جزءاً أساسياً من سلوك التربية عند المتصوفة في موريتانيا، لا سيما التجانيين منهم، وتتفاوت درجات انخراط المريدين فيها، فمنهم من يعتبر الذكر ومجالسه جزءاً من أسلوب حياته اليومي ومنهم من هو من أهل المواسم.
أحمدا ولد حماد هو أحد الذاكرين المنحدرين من وسط صوفي، ويقول لرصيف22: “جذبني للذكر والسماع الصوفي كوني ابن حضرة صوفية، إذ وُلدت وتربيت في أجواء السماع والذكر ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم”، مضيفاً “لا أرى أن هناك جلسات منظمة بل يكون الأمر تلقائياً، فالذكر ليس له حدود أو وقت لأن كل وقت مناسب له، أما مواسم الذكر فيُعتبر من أهمها موسم المولد النبوي وموسم رمضان”.
لا تختلف قصة باي سيسي نياس عن قصة حماد. هو أيضاً ابن الحضرة الصوفية، فجده الشيخ إبراهيم نياس (1900-1975) كان يُعتبر أحد أهم مشايخ الطريقة الصوفية في غرب إفريقيا، وهو جد أيضاً لزميله أحمدا من ناحية الأم.
الشيخ إبراهيم نياس
يحكي نياس قصته مع الذكر والسماع الصوفي، فيقول: “أنا مترعرع في شنقيط، وكان والدي متعلقاً بأن نسلك طريق الوالدين والأجداد، فأحب أن نذهب إلى البوادي لنتعلم فن الحياة، وجئت مع والدتي وهي ذات أصل يمني إلى موريتانيا عام 1998، وعندها أرسلني والدي الشيخ محمد نذير إلى الشيخ منه ولد عبدي الذي تعهد برعايتي، ووفر لي مُدرساً للقرآن، فحفظته”.
ويضيف: “والدي كان مادحاً للرسول عليه الصلاة والسلام وكذلك جدي الشيخ إبراهيم نياس كان مادحاً وذاكراً، وكان يقول فلتجعل حفظ كتابك الكريم كرامتي إلى لقائك العظيم، وقد طبق ذلك وقام بإرسال أولاده كلهم إلى موريتانيا لأجل ذلك الغرض، كما أرسلني والدي إلى موريتانيا”.
يواصل نياس سرد حكايته قائلاً: “حفظت القرآن عام 2003، وذهبت إلى قرية معطى مولانا في موريتانيا وذلك باختيار الأستاذ منه ولد عبدي، وكان فيها الجو الصوفي الذي يشبه ما في مدينة كولخ، مدينة الشيخ إبراهيم، فكنت أسمع دوماً الذكر هناك”.
رابطة منشدين من جنسيات مختلفة
“وجدت بيئة صالحة للدراسة وشباب من أقاربي هناك، كنا نذهب معاً إلى حلقات الذكر، فانخرطت في الإنشاد والذكر والسماع الصوفي. ومع مرور الأيام والأحداث، اقترح علينا الشيخ الحاج المشري إنشاء رابطة للمنشدين وسميناها رابطة حسان بن ثابت للمديح النبوي، وكنا فيها من جنسيات متنوعة”، يقول نياس.
ويتابع: “كنا نشارك في مهرجانات محلية وأصبح لنا أناشيد خاصة مثل نشيد حب طه التي كتب كلماتها لمرابط ولد الدياه، إلى أن تفرقنا إذ كان في الفرقة نيجيريون رجعوا إلى بلادهم وكذلك فرنسيون وإسبان”.
باي سيسي نياس
ويواصل فيقول: “أصبح كل منا له جماعته الخاصة ونجتمع في احتفال اسم رسول الله وأحياناً في المولد العالمي في مدينة الشيخ إبراهيم نياس، كولخ، كما شاركت أنا في مهرجانات للسماع الصوفي خارج موريتانيا، وهكذا يمكنني القول باختصار إن السماع الصوفي هو شغلي الشاغل”.
وقرية معطى مولانا التي ذكرها نياس، هي قرية في الجنوب الموريتاني فيها محظرة (مدرسة دينية) شهيرة تُدرّس القرآن والعربية والعلوم الشرعية، يقصدها أوروبيون وأجانب من جنسيات متعددة إلى جانب الموريتانيين، وهي أحد مراكز التصوف في موريتانيا.
بدوره، ينتمي المنشد والذاكر عبد الله ولد جدو لوسط صوفي، ويقول لرصيف22: “أنا مولود من أسرة صوفية، ونشأت على التصوف، ولله الحمد، فتجربتي مع من هم في هذا العالم أنهم يعاملون الله وحده الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، والذكر عندهم بالسماعة والصوت تلك نعمة أخصهم الله بها لأنها من القلب إلى القلب، وهم يؤدون حقها بارك الله فيهم وعليهم، والأنشطة هي عبارة عن ذكر ومذاكرة ودعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن”.
سفر إلى عوالم التصوف
للشيخ ولد الطالب قصة تختلف عن حكاية أحمدا وباي وعبد الله، فهو قدم من بيئة مختلفة.
عن رحلته نحو عالم التصوف والسماع والذكر، يقول الطالب: “أنا من منطقة الشرق الموريتاني، وأنحدر من أسرة علم وأسرة مدارس، فأهلي يدرسون القرآن ويخرجون حفاظه، والمنطقة التي أنحدر منها منطقة تصوف، لكن الطريقة القادرية هي التي تتواجد هناك”.
بدأت قصة الطالب مع الذكر والسماع وتحديداً على الطريقة التجانية، كما يُخبر، في بدايات تسعينيات القرن الماضي، حيث كان يدرس في المعهد السعودي في نواكشوط، عندما قرر السفر نحو إفريقيا، لكن في تلك الفترة كان هناك فتور في العلاقة بين موريتانيا والسنغال وكانت الحدود مغلقة.
الشيخ ولد الطالب
“علمت وقتها أن سيارات ستذهب من عند أسرة أهل أنحوي، وهي أسرة تصوف، في نواكشوط إلى هناك، فقررت التوجه إليهم لطلب الذهاب معهم وكان ذلك السبب للتعرف عليهم، وكانت تلك الرحلة هي طريقي للتصوف، وخصوصاً الطريقة التجانية”.
“قلت لوزير رأى اجتماع الناس عند الشيخ عبد الله أنياس، وتعجب من تنوع المستويات والأعراق، إن الطريق إذا كان معبداً ترى عليه كل أنواع السيارات”، هكذا تحدث الشيخ الصوفي الحاج المشري عن جلسات الذكر الموريتانية… فماذا يقول ذاكرون عن تلك الجلسات وقصص دخولهم إليها؟
يواصل الطالب حكايته، فيضيف: “ذهبت إليهم لكن مخططي تغير، إذ لم تنطلق العائلة في ذلك اليوم، بل زارها أحد أبناء الشيخ إبراهيم نياس، وكانت تلك مناسبة لأتعرف على أجواء جديدة، ثم فتحت الحدود بين موريتانيا والسنغال، وحدث وأخذت في تلك الفترة الطريقة التجانية على أهل أنحوي، ومكثت مع الشيخ محمدو وقضيت معه فترة عجيبة مرافقاً له في السفر إلى السنغال والسعودية والمغرب، وبعدها حصلت على إقامة في السعودية وأصبحت أتنقل بينها وبين موريتانيا”.
“كان ذلك عام 1996، وكانت علاقتي مع أهل أنحوي البداية لممارسة الذكر والمديح، حيث كنت في الحضرة وكنت من الذاكرين”، كما يختم الطالب قصته.
“الذكر أعظم باب أنت داخله“
يعتقد الشيخ الحاج المشري أن “التراث الصوفي كثير منه مشترك ومتشابه كالطرق المشهورة في بلادنا، القادرية والشاذلية والتجانية. وهنالك تناسب كبير بين تلك الطرق، لا سيما الشاذلية والتجانية منها، ما جعل عالماً مثل الحسن بن كوهن الفاسي يعد الشيخ أحمد التجاني من مجددي الطريقة الشاذلية، مع أن التجانية يقدمها مؤسسها على أنها محمدية، وكثير من السماع الصوفي المعروف عند غيرها لا يوجد فيها. والتركيز فيها على ذكر الله سراً وجهراً وعلى تلاوة القرآن”.
“طبيعة ذكري هي المدائح النبوية، والذكر بالاسم المفرد وأحياناً باسم الجلالة الكامل، لا إله إلا الله أو الله الله فهذه هي الصيغ التي أذكر بها الحق سبحانه وتعالى”، يقول الشيخ ولد لمرابط ويضيف “أما حول طبيعة الذكر بالنسبة للطريقة التجانية فهناك قسمين من التجانية: من هو تجاني لكن لم يصحب الشيخ إبراهيم أو أصحاب الشيخ إبراهيم، لكن تضمهم جميعاً التجانية”.
ويوضح ولد لمرابط قائلاً: “بالنسبة لأصحاب الشيخ إبراهيم (التجانية الإبراهيمية)، فيتميزون عن البقية بهذه الجلسات والحلقات التي تتميز بذكر الاسم المفرد الله الله والمدائح ومن يحب أن يذكر وحده يفعلها ومن يحب في جماعة فيفعلها”.
ويخلص ولد لمرابط إلى أن “التصوف بصفة عامة مشرب وذوق بالإضافة إلى شهود، فذلك الذوق يمكن أن يوصلك إلى شهود، وذلك الشهود هو الذي يسمح لك بالتعبير بالصيغة المناسبة، وهي صيغ مختلفة للتعبير عن ذلك الوجدان والشهود الذي يجد الإنسان في حاضرته هو وفي داخله ووجدانه الداخلي”.
أما باي سيسي، فيعلق بأن السماع لديه على النمط المشرقي وأحياناً النمط الموريتاني الشعبي، حسب الجمهور، إذ أن “لكل جمهور نسقاً موسيقياً معيناً”.
بموازاة ذلك، يتحدث ولد جدو عن ” مميزات الذكر الصوفي”، وهي برأيه “الذكر بالاسم المفرد الذي يقطع من الشك إلى اليقين، من الذكر بلا إله إلا الله إلى إثبات الواحدانية للاسم المفرد الذي هو المقصد، الله، الله، الله، حيث قيل لموسى عليه السلام في قوله تعالى في الآية، يا موسي إني أنا الله”، مضيفاً “سماع هذا النوع يحيي القلوب ويعتبر هو الوقود لهم، ولذلك لا بد من الحضور له أو سماعه لإشعاع ذلك النور، وهو نور اليقين بالله”.
الذاكر يسمو على العرق
يعتقد الذاكر أنه وقت ذكره وسماعه يحلق في عوالم الحب الإلهي، وبالتالي يسمو على التفاصيل الأخرى، لأنه “يفنى في محبوبه”.
ويقول ولد حماد: “نحن نجتمع لله تبارك وتعالى وتجمعنا تشارك فيه كل الأجناس من بيض وسود، ومن شتى الأعراق وشتى الدول وليس فيه أي تمييز، كما يحضر أشخاص لا ينتسبون للطريقة التجانية، فهو مجلس لله ولا يمكن أن يمنع منه أي كان”.
___________________
*نقلًا عن موقع ” رصيف 22 “- بتصرُّف.