الدراسات والبحوث

التصوف الإسلامي في إسبانيا بين الماضي والحاضر

التصوف الإسلامي في إسبانيا بين الماضي والحاضر

 

تنامت أعداد المسلمين في إسبانيا خلال الآونة الأخيرة؛ ويُعزى ذلك إلى تنامي حالات اعتناق الإسبان للإسلام، على الرغم من وجود بعض المضايقات التي يتعرض لها المسلمون هناك، وتزايُد حالات “الإسلاموفوبيا” التي تُغذّيها بعض وسائل الإعلام المختلفة من خلال بثّها لصورةٍ مغايرة لحقيقة الإسلام ولمبادئه السمحة؛ وذلك وَفْقًا للدراسة الديموغرافية الصادرة عن اتحاد الجمعيات الإسلامية في إسبانيا لعام 2017، والتي أكدت وجود أكثرَ من مليوني مسلم بالأراضي الإسبانية. ومع تَنامي تلك الأعداد، تعددت المذاهب الفقهية بين مالكي وشافعي وحنفي وحنبلي في سائر المُدن الإسبانية، كما تعددت مشاربهم في التزام منهج معين من مناهج الإسلام؛ سعيًا إلى تحقيق الامتثال الكامل لتعاليمه، ومن بين هؤلاء من اتخذ المنهجَ الصوفي طريقًا له.
ويُعَدّ المذهب الصوفي من أكثرِ المذاهب شيوعًا في شبه الجزيرة الأيبيرية، وبطبيعة الحال في إسبانيا، ويكثر شيوعه على وجه الخصوص في منطقة “أندلوثيا” في الجنوب، وذلك بعد المذهب السُّنّي الذي يأتي في المقدمة، يليهما: المذهب الشيعي، ثم البهائية التي وجدت لها أتباعًا ومريدين في هذه المنطقة.
ومن المعروف أن الصوفية لها جذورها التاريخية التي ترجع إلى القرون الأولى للمسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية، وامتدت حتى يومنا هذا في شتّى المدن الإسبانية؛ حيث وجد التصوف طريقه إلى الأندلس منذ القرن الثامن الميلادي، وذلك تحت تأثير الاتصال بحركة ‏التصوف في بلاد الإسلام، سواء عَبْرَ الشمال الإفريقي أو عن طريق الصِّلات المباشرة مع الشرق ‏الإسلامي، إذ كانت حركة العلماء لا تنقطع، فكان هناك من يغادر الشام للإقامة في الأندلس، ‏وكذلك كان علماء الأندلس يقصدون أراضيَ الحجاز لأداء فريضة الحج فيلتقون بالمتصوفة في ‏مكةَ والمدينة، ويذهبون للتباحث مع علماءَ ومتصوِّفةٍ في العراق وبلاد الشام، وبلاد فارس أيضًا.
ففي مدينة قُرطبة الإسبانية؛ نبغ أحد المتصوفة الكبار، وهو أبو عبد الله محمد بن مسرّة الجبلي، وهو مفكر ومتصوف وفيلسوف أندلسي ‏استطاع أن يستقطب العديد من الأتباع والموالين لمذهبه الصوفي، وكثُر في زمانه المتصوفة الذين ‏انشغلوا بالآخرة وزهدوا في الدنيا وكرّسوا حياتهم للعبادة والصوم.‏
‏ومع بدايات القرن العاشر الميلادي انتشرت الحركة الصوفية بشكلٍ كبيرٍ في الأندلس؛ حيث كانت مدرسة  “ابن العريف” من أولى المدارس الصوفية التي أُسست في بلاد الأندلس على يد ‏ابن العريف أحمد بن محمد بن موسى الصنهاجي الأندلسي أحد علماء هذه الفترة البارزين، والذي وُلد في “ألمرية”-العاصمة الروحية لجميع صوفية الأندلس- في عام 1088، وتُوفي في “مَرّاكُش” ‏عام 1141، وقد استقطبت هذه المدرسة العديد من التلاميذ المحبّين الذين تأثّروا ‏وأثّروا في العديد من العلماء اللاحقين، والذي كان من بينهم: “ابن مدين” المولود عام 1116 ‏وتوفي عام 1198، والذي حقّق العديد من الدراسات الصوفية؛ كما قام بالتنظير حول الصوفية ‏الشرقية والمغربية والأندلسية. وبطبيعة الحال أثّر في العديد من تلاميذه الذي كان من أبرزهم: “محيي الدين ابن ‏عربي”، المولود في مدينة مرسية سنة 1165 والمتوفَّى بدمشق عام 1240.
وكان “ابن عربي” من المتصوفة ‏البارزين في هذا العصر، كما كان فيلسوفًا وشاعرًا، حتى أُطلق عليه “محيي الدين”؛ ‏نظرًا لإنتاجه الأدبي والعلمي الغزير،‏ ويُعَدّ “ابن عربي” واحدًا من كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مَرّ العصور، وتَبِعه العديد من العلماء الصوفيين خلال حِقْبَة الأندلس بشبه الجزيرة الأيبيرية مثل: “عبد الحق بن سبعين”، وهو فيلسوفٌ متصوف أندلسي ‏توفي في عام 1270، والذي كان من بين تلاميذه: “الششطري”، من أبرز الشعراء المتصوفة الذين ‏وصل إنتاجهم الأدبي إلينا بفضل التراث الشعبي المغربي. ‏
وبذلك ازدهر التصوف في الأندلس مع بدايات القرن الثالث عشر الميلادي، وأصبح “محيي الدين بن عربي” واحدًا من رءوس الصوفية؛ حتى لُقِّب بالشيخ الأكبر، كما كان “عبد الحق بن إبراهيم بن محمد” المرسي الأندلسي الصوفي، المعروف “بابن سبعين”، ‏من أشهر متصوفة غرناطة في ذلك الوقت، وقد عُرف أتباعه ومريدوه بــ”السبعينية”؛ ‏ فقد ذاع ‏صيت “ابن سبعين” في أوروبا كلها عن طريق إسبانيا حتى وصل إلى مسامع البابا فذكره قائلًا: “إنه ليس بين المسلمين ‏اليوم أعلم بالله منه”، ولما أراد فردريك الثاني مَلِك صقلية استيضاح بعض المسائل الفلسفية، ‏انتدب “ابن سبعين” للرد عليها، ومن هنا ذاع صيته بعدما أجاب على هذه الأسئلة الفلسفية التي طرحها عليه المَلِك.
‏ومع حلول القرن الرابعَ عشرَ؛ برز “لسان الدين بن الخطيب”، الشاعر والكاتب والفقيه المالكي والمؤرخ والفيلسوف والطبيب والسياسي، وُلد بالأندلس، وتحديدًا في غرناطة، في مطلع القرن الثامن ‏الهجرى، والرابعَ عشرَ الميلادي، ونظرًا لشيوع المتصوفة في زمنه ‏بالأندلس، كتبَ كتابه: “روضة التعريف بالحب الشريف”، وقدّمه لسلطانه “أبي عبد الله محمد بن يوسف” المُلَقَّب بـ “الغنيّ بالله”، ثامنِ ملوك بني الأحمر بغرناطة (755-792)، وموضوع الكتاب هو الحب الإلهي في أوسعِ معانيه، واستكثَر من الشِّعر، واجتلبَ الكثيرَ من الحكايات.
أما في يومنا هذا؛ فنجد العديد من الجمعيات والجاليات الإسلامية الصوفية في العديد من المدن الإسبانية، كما تكثُر الطرق الصوفية مثل: الطريقة النقشبندية، في حين يصعُب الوصول إلى  بيانات دقيقة حول تلك الجاليات، حتى إن اتحاد الجمعيات الإسلامية في إسبانيا في  تقريره السنوي حول الدراسة الديموغرافية للمسلمين في إسبانيا، لا يذكر سوى أن هناك مجموعاتٍ صوفيةً صغيرة ضمن مجموعة الجاليات المسلمة في المدن الإسبانية المختلفة.
وفي هذا السياق، أشار “فيرناندوا بيدال فيرنانديث”، في كتابه “الأقليات الدينية في بلنسية”؛ إلى أنه من الصعب رسْم خريطة توَضِّح معالم الصوفية في إسبانيا في الوقت الحاليّ، أو التمكن من عمل إحصائية أو مقارنات بين المدارس الصوفية المختلفة، وتُعَدّ الجمعية الصوفية بمدينة مرسية هي الأشهر، والتي أُسّست خِصّيصى لنشر مذهب “ابن عربي”، ‏الشيخ الأكبر، مؤسس الطريقة النقشبندية.
وبذلك تُعَدّ النقشبندية ‏هي الأشهر والأكثر انتشارًا في إسبانيا، ويقع مقرها الرئيس في مدينة “أوخيبا” بغرناطة عاصمة “البوخارّا” الغرناطية، التي تُعدّ أرضَ “الموريسكيين” ومهدهم، وبها أكثرُ من ستة آلاف مواطن من أكثرَ من 68 جنسيةً أجنبية مختلفة، وتُقَدَّر أعداد الصوفية النقشبندية ‏بحوالَي 1200، وللطريقة النقشبندية العديد من المراكز الإسلامية في المدن الإسبانية التالية: (أليكانتى، برشلونة، ‏كاثيريث، قرطبة، أورخيبا، غرناطة، مدريد، مرسية، إشبيلية) ولديهم العديد من المنصات ‏الإعلامية عَبْرَ شبكة الإنترنت، ينشرون من خلالها الأنشطة والفعاليات، فضلًا عن عددٍ كبير من ‏الإصدارات باللغة الإسبانية حول هذه الطريقة.‏
وتأتي الطريقة “التيجانية” الصوفية في المرتبة الثانية من حيثُ الأعدادُ والمُتابعِين، والشيخ “التيجاني” هو شيخ هذه الطريقة وزعيمها الروحي، أَسّس هذه المدرسة خلال القرن الثامنَ عشرَ بالجزائر، ووفَدَ إليه العديد من الناس لتَلَقّي العلم على  يديه في خَلْوَته بمنطقة الصحراء، ومن أشهرِ الكتب في هذه الطريقة: كتاب “جواهر المعاني في فَيْض الشيخ سيدي أحمد التيجاني”، الذي عرّف التصوفَ فيه على أنه:‏ «امتثال الأمر واجتناب النهي في الظاهر والباطن، من حيثُ يرضى لا من حيثُ ترضى».
أما الطريقة “المريدية”؛ فتأتي في المرتبة الثالثة من حيثُ الانتشارُ بين المتصوفة الإسبان في الوقت الحاضر، وتُعرَف بأنها طريقة صوفية إسلامية تجديدية، تقوم على الإيمان والإسلام والإحسان، وتدعو إلى إخلاص الإرادة لله وتجريدها ممّا سواه.
كما تُعقَد من حينٍ لآخَرَ مجموعةٌ من الأنشطة التعريفية بالطرق الصوفية؛ كان من بينها: استضافة مدينة “مليلية” الدورةَ الثانية حول المذهب الصوفي تحت عنوان: “طريق الصوفية”،  ألقى خلالها “عبد الرحمن بورَّس” ‏Abderrahmán Borrás‏ ‏كلمةً حول “مكانة الصوفية في الإسلام”، كما اشتملت هذه الدورة على عددٍ من الكلمات التي ‏ألقاها المشاركون من عِدّةِ مدنٍ إسبانية أخرى، مثل: إمام مسجد إشبيلية، وإمام المسجد الكبير بغرناطة، وغيرهما؛ ‏للتعريف بالمنهج الصوفي ومكانته في الإسلام، وأكّد المنظمون أن الصوفية هي قلب الإسلام وشفاء ‏للقلب الذي يعاني من صعوبات الحياة وتقلُّباتها، كما أكدوا ضرورة التعريف بالإسلام ومذاهبه ‏المعتدلة.
‏وقد كشف مرصد الأزهر مؤخرًا عن اتجاه الغرب -وتحديدًا إسبانيا- إلى ‏الاستعانة بالتصوف في مواجهة الإرهاب وتصحيح صورة الإسلام، فضلًا عن الاهتمام ‏بالتصوُّف والجوانب المهمة التي تُبْرِز هذا الجانب؛ نظرًا لتغليبه للجانب الروحي وسَيْرِه في مسالك ‏الزهد والسمو بالنفس، وهو ما يُمَثِّل جانبًا مضيئًا يجذب أنظار الدارسين، خاصّةً المستشرقين ‏والمستعربين من كل الثقافات.‏
ويشير “المرصد” إلى أن اهتمام الباحثين الإسبان بالتصوف الإسلامي يُعَدّ مؤشرًا على أن الجانب ‏الروحي لا يزال يجذب المتخصصين في الدراسات الإسلامية والمستعربين وغيرهم، كما أنه من ‏الواضح أن تغليب هذا الجانب يساعد كثيرًا على إبراز صورة الإسلام الحقيقية، التي ترتقي بالرُّوح، ‏وتحثّ العقل على التدبر والتعمق في أسرار الوحي القرآني، ومن ثمّ تَنْأى بالنفس عن الكراهية ‏والتنازع والتعصب، وغيرها من صفاتٍ ممقوتة، لم تأتِ الرسالات السماوية بشيءٍ منها، بل نبذتْها ‏ونَهَتْ عن اقترافها.‏

____________________

*نقلًا عن موقع الأزهر الشريف (.(azhar. eg

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى