الدراسات والبحوث

ماذا وراء تجدُّد الجدل بين الأشاعرة حول “الشيخ الأكبر”؟

بسام ناصر

ماذا وراء تجدُّد الجدل بين الأشاعرة حول “الشيخ الأكبر”؟

بسام ناصر

محيي الدين بن عربي (560هـ ـ 638هـ) أحد المتصوفة الكبار، الملقب في أوساط الصوفية بـ”الشيخ الأكبر”، وتنسب إليه الطريقة الأكبرية، وهو صاحب “فصوص الحكم” و”الفتوحات المكية”، وقد اختلف الناس فيه قديما وحديثا، بين مادح له ومشيد بفهمه ومدافع عن طريقته، وبين طاعن في ديانته وذام له، ومتكلم فيه.

ففي الوقت الذي يدافع فيه مريدوه ومحبوه عنه، ويبرئون ساحته مما نُسب إليه من عقيدة (وحدة الوجود) بمعناها الباطل، ومقولة (الحلول والاتحاد)، واصفين الطاعنين فيه بعدم فهم كلامه وفق المصطلحات الخاصة بالقوم، وأن بعض المقولات القلقة أُقحمت على كتبه، لا يتردد منتقدوه في الطعن في اعتقاده، ونسبته إلى الضلال والكفر، وهو ما صنفت فيه كتب، ككتاب (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) لبرهان الدين البقاعي، وغيره.

وقد دافع عن الشيخ محيي الدين بن عربي، علماء وفقهاء كبار قديما وحديثا، منهم الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي الذي قال فيه، إن “الذي أثرناه عن أكابر مشايخنا العلماء الحكماء الذين يُستسقى بهم الغيب، وعليهم المعوّل، وإليهم المرجع في تحرير الأحكام، وبيان الأحوال والمعارف والمقامات، أن الشيخ محيي الدين بن عربي من أولياء الله العارفين ومن العلماء العاملين، وقد اتفقوا على أنه كان من أعلم أهل زمانه، بحيث أنه كان في كل فن متبوعا لا تابعا، وأنه في التحقيق والكشف والكلام على الفرق والجمع بحر لا يجارى..”.

ولفت الإمام السيوطي إلى أن للسادة الصوفية، وابن عربي أحدهم، كلاما مشكلا، لا يفهم إلا وفق مصطلحاتهم الخاصة بهم، المخالفة للمعاني المتعارف عليها عند الفقهاء، فقال: “والقول الفصل عندي في ابن عربي طريقة لا يرضاها فرقة أهل العصر ممن يعتقده، ولا ممن ينكر عليه، وهي اعتقاد ولايته، ويحرم النظر في كتبه، فقد نُقل عنه أنه قال “نحن قوم يحرم النظر في كتبنا”، وذلك أن الصوفية تواطأوا على ألفاظ اصطلحوا عليها وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها بين الفقهاء”.

ذلك الجدل حول أفكار (الشيخ الأكبر) معروف مشهور في تاريخ المذاهب العقائدية، وتاريخ التصوف الإسلامي ومساراته، لكن هذا الجدل تجدد في الآونة الأخيرة حول تلك الأفكار، والذي كان لعقود سابقة دائرا بين السلفية وأتباع الطريقة الأكبرية (أتباع الشيخ ابن عربي)، ليتجاوز ذلك هذه الأيام إلى أوساط أشعرية، بدأت تحذر من أفكار ابن عربي، وتبين خطورة مقولاته على الفهم الصحيح للدين.

الدكتور سعيد فودة، المتكلم الأشعري الأردني المعروف، يتزعم اتجاها داخل المذهب الأشعري، يرى ضرورة التنبيه على انحراف أفكار الشيخ محيي الدين بن عربي، ومخالفتها الصريحة للمقررات العقائدية والشرعية الثابتة عند أهل السنة والجماعة، فاعتنى بهذا الجانب هو ومجموعة من تلاميذه عناية خاصة، بالتأليف والكتابة والحديث، ما يثير أسئلة حول دوافع تلك التوجهات لفودة وتلاميذه الرامية إلى التحذير من أفكار ابن عربي، وبيان خطورة مقولاته، وتأثيراتها الفاسدة والسلبية على العقائد الصحيحة لأهل السنة والجماعة.

في هذا الإطار لفت الباحث الليبي المتخصص في العلوم الشرعية، والمدرس في جامعة روتردام الإسلامية بهولندا، جلال الجهاني، إلى أن “الجدل حول أفكار الشيخ محيي الدين بن عربي ليس جديدا” منبها على أن “ثمة تغيرات خطيرة وكبيرة في العالم الإسلامي، تدور حول تقديم تفسيرات ومفاهيم جديدة للدين، ومفهوم جديد للعلاقات بين أصحاب الديانات المختلفة، والديانة الإبراهيمية التي يجري الترويج لها هذه الأيام، يستفيد أصحابها في طرحها وصياغتها من أفكار ابن عربي ومقولاته.

 

                 جلال الجهاني، باحث ليبي متخصص في العلوم الشرعية

وأضاف: “من تلك الأفكار التي كتبها الشيخ ابن عربي، وأتباعه مثل الشيخ عبد الكريم الجيلي، والشيخ عبد الغني النابلسي، تصريحهم بأن الكفار في كفرهم عابدون لله حق العبادة، لأنهم مستسلمون لما قضى الله به عليهم من الكفر، فدافعوا عن هذا وأوّل بعضهم هذه الحقائق بأنها لا تخالف المعلوم من الدين بالضرورة من أن دين الإسلام حق وغيره من الأديان باطل، وبالتالي قالوا بنجاة كل موحد وإن لم يؤمن بالرسالة، وعذر الكافر عن اجتهاد ونظر”.

وأوضح الجهاني في حديثه لـعربي21 أن جوهر الجدل بشأن الشيخ ابن عربي يدور حول أفكاره المتعلقة بالوجود والكون يكمن في جهتين؛ الأولى: مدى توافق أفكاره مع دلالات النصوص الشرعية بحسب طرق الفهم الأصولية الصحيحة المعتبرة، والجهة الثانية: إن كانت تتوافق مع عقائد أهل السنة والجماعة، التي عليها السادة الأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم، أم هي شيء آخر؟.. والتي من أبرزها طبيعة العلاقة بين الله وخلقه”.

وأرجع ذلك إلى “مصادر المعرفة التي هي عند أهل السنة الكتاب والسنة (النقل)، وأحكام العقل، لكن أتباع الشيخ ابن عربي قرروا مصدرا آخر للمعرفة ألا وهو الكشف، الذي يمكن أن يكشف عن حقائق تخالف ما يفهمه علماء الرسوم (حسب مصطلحاتهم والذي يعنون به فقهاء الشريعة والظاهر، وليسوا من أهل الطريقة والحقيقة)، ويدعي (الصوفية) أن لهم مصطلحات خاصة بهم، ويزعم بعض أصحاب ابن عربي وتابعيه أنه لا يمكن أن يفهمها إلا من سار على طريقتهم، وفق منهجهم، وتدرج في الأحوال والمقامات حتى تظهر له حقيقة تلك المصطلحات والمفردات”.

وأردف: “ما يدور حوله النقاش واضح ظاهر، فمن مسائل العقائد الأصلية ما ذهب إليه الشيخ محيي الدين بن عربي وأتباعه من انقلاب عذاب الآخرة إلى عذوبة، بمعنى أن عذاب النار، الذي هو ألم سينقلب بعد أن يتجلى الله عليها باسمه الرحمن إلى لذة باطنة وظاهرة، وهذا القول ثابت عن ابن عربي، وقد ألف مؤخرا الشيخ سعيد فودة، والشيخ عثمان النابلسي كتابا أثبتا فيه أن هذا هو مذهب الجماعة الأكبرية، أتباع ابن عربي”.

وأكدّ الجهاني أن “ترويج أفكار ابن عربي والاستناد إليها في تقديم مفاهيم جديدة للدين، هو ما دفع مجموعة من أهل السنة، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم كبيرهم الشيخ سعيد فودة، الذي يسير على منهج أهل الكلام، وينصر مذهب أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية ومن وافق طريقتهم، لبيان خطورة هذه الأفكار، ومدى مخالفتها لعقائد أهل السنة، وهو ما حمل أتباع ابن عربي على مهاجمة الشيخ وتلاميذه على وسائل التواصل الاجتماعي، ورميهم بعدم فهم كلامه فهما صحيحا، وأنهم لم يصلوا بذوقهم وكشفهم إلى معرفة الحقيقة”.

من جهته قال الباحث والمدون الفلسطيني، المهتم بالتصوف والطرق الصوفية، أبو هاشم بكر: “من أهم القضايا المثارة حول الشيخ الأكبر هي كلامه في التوحيد الوجودي، الذي سماه غيره بوحدة الوجود، رغم أنه لم يذكر عبارة (وحدة الوجود) في مؤلفاته ولو مرة واحدة! فهو الذي أعربها إعراب النحو وتكلم بتفاصيلها ولم يسبقه أحد في ذلك، ولم يأتِ مثله بعده”.

 

 

                  أبو هاشم بكر، مدون فلسطيني وباحث في التصوف

وواصل: “وعند حديثنا عن التوحيد الوجودي علينا أن نضع في اعتبارنا عدة نقاط من أبرزها: يجب التفريق بين مراد الشيخ الأكبر في كلامه عن التوحيد الوجودي الذي يدور حول التفريق بين الظاهر والمظاهر، وبين نظرية وحدة الوجود المادية الأفلاطونية التي تبناها بعض الفلاسفة المعاصرين”.

وتابع: “ويجب كذلك أن نضع في الاعتبار أن الشيخ الأكبر من أرباب المواجد والأذواق، وعالم بمقامات السير والعروج الروحيين وليس مجرد فيلسوف يتكلم بلسان الفلسفة الوجودية، كما أن الشيخ الأكبر من الراسخين في علوم الظاهر والباطن، وإمام مشهود له بتقدمه وأهليته للإمامة”.

وردا على سؤال عربي21” بشأن المقصود بالتوحيد الوجودي الذي أراده الشيخ ابن عربي، أوضح أبو هاشم أن مراده “ليس هو التوحيد الشهودي الذي يحاول البعض دمجهما في مراد الشيخ عند كلامه عن التوحيد الوجودي، وأنه لا بد عند الحديث عن التوحيد الوجودي وفهم مراد الشيخ أن نفهم تماما التنزلات الثلاث التي أقرها وشرحها وفصلها.. وهي مرتبة الأحدية ومرتبة الواحدية، ومرتبة شهود الحق في قلب الولي، ولا يحلم أحد يريد فهم مراد الشيخ عن التوحيد الوجودي بدون فهم هذه المراتب كما قررها وشرحها”.

أما عن دوافع تجدد الجدل هذه الأيام حول أفكار ابن عربي، فذكر المدون أبو هاشم أنها “غير منحصرة في إجابة واحدة، فحب الظهور والانتفاخ قد يكون أحد الأسباب، وقد يكون الدافع هو النية الحسنة لأجل الدفاع عن عقيدة السواد الأعظم لكنها مفتقرة للتربية الربانية، وانعدام المعرفة الواسعة باصطلاحات أهل التصوف”.

وتابع: “وقد يكون بسبب كلام المخالفين والخصوم الكثير في المصنفات المعاصرة ومواقع التواصل الاجتماعي، فظن البعض أن في نقد كلام الشيخ الأكبر صيانة وقطعا للطريق على هؤلاء، وقد يكون الدافع بسبب كثرة كتابات أهل الاستشراق حول وحدة الوجود وانتشار المفاهيم الخاطئة حولها بين المتصوفة ما دفع بعضهم إلى مهمة الدفاع أو النقد البناء”.

ولاحظ أبو هاشم في الفترة الأخيرة أن “تيارا محسوبا على الأشاعرة المعاصرين يريد هدم الشيخ الأكبر وعلومه بالكلية ظنا منه أن هذا الفكر يهدد سلامة المعتقد عند السواد، وأنه فكر لا يتقاطع مع معتقد أهل الحق، ويظن هذا التيار أنه مؤهل لهذا الأمر رغم أنه معروف عنه عدم أهليته في علوم الباطن والمواجيد والأذواق عند أهل الطريق، وجهله التام بمصطلحاتهم”.

بدوره نبَّه الباحث اللبناني، المتخصص في الفقه المقارن، والباحث في التصوف، عبد الخالق زكريا الجيلاني، إلى “أبرز القضايا التي دار حولها جدل كبير بشأن فكر الشيخ محيي الدين بن عربي، ألا وهي مسألة القول بوحدة الوجود، أو نسبة القول إليه بالباطل والزور ما يسمى بالحلول والاتحاد، التي لا تخفى على مسلم عادي” متسائلا: “فكيف يقول بها إمام من أعظم أئمة الإسلام، مع أنه قد سطر عقيدته وأثبتها في كتبه، لينفي هذا الزيف والإفك المفترى، ولتكون حجة له في صدق إيمانه، وحجة على خصومه في افترائهم وتجنيهم عليه..”، وفق عبارته.

 

    عبد الخالق زكريا الجيلاني، باحث لبناني متخصص في الفقه المقارن، ومهتم بالتصوف

وعن الجدل الدائر حول أفكار الشيخ ابن عربي في أوساط الأشاعرة، أوضح الجيلاني لـعربي21 “أنهم ليسوا كل الأشاعرة، بل هم مجموعات جدد ينسبون أنفسهم إلى الأشاعرة، ويعشقون حب الظهور الذي قصم الظهور، ويريدون أن يظهروا بأنهم علماء محققون أذكياء وغيورون على الدين، وقد أساءوا بذلك إلى أنفسهم، بسبب جهلهم بعلم ليس لهم به علم، وخوضهم في أمور الغيب والمكاشفات التي جاء به الشرع، ولم يذوقوا شيئا منها أو يعرفوا شيئا عنها”.

وأضاف: “وبهذا تعلم أن موقف الأشاعرة من الشيخ الأكبر ابن عربي لا يمثله المخالفون المناهضون له، بل أجلتهم وجمهور أكابرهم ممن أوَّل ما نسب إليه وبين ما افتري عليه، وأوضح الحجة في معنى ما استنكروه من مسألة وحدة الوجود، التي لا يستشكل معناها، الذي بينه أرباب الأحوال والعقائد والكرامات، إلا من حرمه الله من أنوار أولياء الله عز وجل، ومن علومهم اللدنية، التي لا يمكن للعقل الكشف عنها، لأنها من أمور الغيب التي لا تدرك بالعقل المجرد”.

وأرجع الجيلاني دوافع هذا الجدل إلى “حب الظهور والغرور” مبديا تخوفه “من ارتباط هذه الجماعات بجهات مشبوهة وسفارات غربية لإثارة القلاقل والفتن في أوساط المسلمين، وإشغالهم بقضايا لا تزيدهم إلا تمزقا وفرقة واختلافا، وتقطع كل أواصر المودة والقربى بين المسلمين”، على حد قوله.

وأبدى تحفظه على ما قام به الداعية المصري المعروف، الدكتور عبد الله رشدي، مؤخرا من انتقاده الشديد والقاسي للشيخ الصوفي المشهور أحمد البدوي، ذاكرا أنه “أقل ضررا وشرا من جماعة (الفودية.. نسبة إلى الدكتور سعيد فودة)، لأنه اعترض على ما لم يفهمه وظن أنه يدافع عن التصوف والأولياء..”.

يشار إلى أن الجدل العقائدي بين مختلف الاتجاهات العقائدية، عادة ما يكون حادا، ولا يسلم من حدته وشراسته حتى أتباع الاتجاه العقائدي والمذهبي الواحد، لما استقر في أذهان أتباع تلك الاتجاهات من أن ما يتبنونه من عقائد ومقولات دينية هو الحق، الذي يجب اعتقاده وتبنيه، وما غير ذلك من العقائد والمقولات يقع في دائرة الضلال والابتداع والزندقة، وهو ما يجب التحذير منه، والتنبيه على مخاطره ومفاسده.

____________________________________

*نقلًا عن موقع “عربي 21”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى