الدراسات والبحوث

المؤرخ العربي الكبير د. إبراهيم بيضون

حين تقترن مهمّة المؤرّخ بالشجاعة من أجل التأريخ

المؤرخ العربي الكبير د. إبراهيم بيضون

حين تقترن مهمّة المؤرّخ بالشجاعة من أجل التأريخ

إدريس هاني

يثيرني أكثر في محاولة د. إبراهيم بيضون، اختياره تحليل وقائع المنعطفات الصعبة في التّاريخ الإسلامي، مزاوجا بين الجانب السّردي للأحداث وتحليل الوقائع، في خطّة نقدية قلّما اضطلع بها المؤرخون المحدثون. لعلّ أهم مايميز هذه المحاولة، إعادة قراءة الفصول المهمة والتّأسيسية في التاريخ، التاريخ السياسي والاجتماعي والجغرافي أيضا، دون أن نغفل تاريخ التأريخ العربي نفسه، باعتبار أنّ د. بيضون عالج تلك المعضلة من خلال الوقوف عند إشكالية الكتابة التاريخية من جهة، وأيضا نبذ الطرائق التقليدية للتاريخ العام من خلال ممارسة التأريخ للهوامش.

الحقل الذي يشتغل فيه صديقنا د. إبراهيبم بيضون، ينتمي لأخطر الحقول المعرفية، إنّه التأريخ الذي تكسرت فيه كلّ المُثل الموضوعية، حيث الذّاتي هناك قابل للانفكاك. وهناك تكمن قوة المؤرخ الواقعي، حيث أفضل عبارة الواقعي على الموضوعي، لأنّ الموضوعية المطلقة في مجال الكتابة التاريخية غير واقعية. المؤرخ الواقعي يحرص على تحليل الوقائع التاريخية بحذر علمي، يجتهد وُسعه في الإقناع عبر الوثيقة وتحقيقها وجودة تأويلها. كتب الأب د. لويس بوزيه اليسوعي عام 1981 مشيرا إلى ما يميز أطروحة د. بيضون، وهو إتقان هذا الأخير لعرض العلاقة المعقدة في التطور التاريخي لهذه المرحلة، يقصد القرن الهجري الأول، بين ما يسميه “الواقع والرمز”، أي بين قُدسية الرموز الدينية والعرقية والجغرافية والسياسية وبين واقع الأحداث الفعلية المتغلّبة، ملفتا إلى استمرار هذه الرموز حتى بعد اندثار المجتمع الذي نشأت فيه.

أثارتني نصوص المؤرخ العربي د. براهيم بيضون، لأنّها أيضا راقتني من ناحيتين:

الناحية الأولى ، كونه اهتمّ بما كان موضوع اهتمامي، كيف نُنصف تاريخ التيارات والقوى التي أساء إليها التّاريخ العام.

الناحية الثانية، أسلوبه الذي يعيدنا إلى النصوص الكبرى لعصر التنوير العربي، طه حسين تحديدا. وهذا ليس غريبا على مؤرخ شاعر أيضا ومن منبت عائلة شاعرة.

من الناحية الأولى، اهتم د. إبراهيم بيضون بهذه المفاصل التاريخية، كما غامر في تحليل أحداث القرنالهجري الأول. وقد تناول موضوع العلاقة بين الأنصار والرسول وما أسماه بإشكالية الهجرة والمعارضة في الدولة الإسلامية الأولى، كما عالج حركة التوابين، وتاريخ الفاطميين، وتناول ما كان ملتبسا في التاريخ الإسلامي، نظير حكاية عبد الله بن سبأ والسبئيين، مما عزّز القراءة المناهضة لفكرة ودور السبئية في التشغيب خلال الفتنة الكبرى.

أنتمي للقبيلة نفسها لمؤرّخي التراث الآخر، وهذا ما شكّل همّا جدّيا أثناء تناولي لمحنة التراث الآخر، في مجال الكتابة التاريخية وصولا إلى الكلام والحكمة وأصول التشريع،  كما تناولت في موارد مختلفة حكاية ابن سبأ المزعومة، كما تناولت تاريخ الفاطميين المفترى عليه، لأنّه تاريخ أُسيئ إليه في التاريخ العام، كما سبق وأشار برنار لويس حين كان مؤرّخا يحترم مهنته، وقد سبق وشكرته في موضوع هذا الإنصاف، وإن كنت لم أتردد في نقد مواقفه وكتاباته المتأخرة المعادية والعنصرية وذات الأهداف الإمبريالية. ومن باب أنّ الشيء بالشيء يذكر، فلقد ألهمني الوفاء للمضي في إعادة التأريخ للفاطميين، الصديق الراحل الأمير د. عارف تامر.

أختبر شجاعة المؤرخ في نبذه أحكام التاريخ العام، وكان د. إبراهيم بيضون قد تناول موضوعا مهما حول علاقة الدولة الإسلامية والفتوح في نهاية القرن الهجري الأول مع بلاد الخزر، وهو موضوع يفتح أفقا لمقاربات وقراءات مفيدة، قد نقوم بها يوما.

كتب الصديق الراحل رشدي فكار حول بلاء الوجود في ديار الإسلام، وجاءت فصول الكتاب الذي أهدانيه قبل ربع قرن مفعمة بما يمكن أن نسميه تراجيديا تاريخ فتنة مستدامة في ديار الإسلام، لكنه قدم قراءة سردية وجدانية وليست تحليلية. لكن في مثل هذه المحاولات التي قام بها مؤرّخ اللاّمفكر فيه، نقف على تحليل واقعي للأحداث. فلقد تحوّل التاريخ منذ قرون إلى ممارسة مقدّسة ودينية، ليس من باب تقديس الحقيقة الواقعية، بل من حيث أنّ التّاريخ تحوّل من صناعة معرفية إلى خطاب تتقاطع عنده الشرعيات السياسية، وتقوم على أساسه الأنساق والنظم المعرفية. ليس السياسي وحده الذي يخشى من المؤرخ – يرى العروي أن السياسي يخشى من المؤرخ لأنه يذكر ويتذكر- بل الكل بات يخشى من المؤرخ، حتّى العقائديون. كتب المؤرخ المغربي الراحل د. إبراهيم حركات حول العقيدة والتاريخ، وكان قد جمعني به نقاش جميل في وقت مبكّر، حول هذه القضية، لا سيما حول طرائق المؤرخين ومناهجهم، وتناولت يومها إشكالية التاريخ الآخر، وحكاية عبد الله بن سبأ، وكان متفهّما لجانب مما قدمته ومتحفظا من جانب آخر. سيكون ذلك دافعا لمواصلة الكتابة التاريخية، حيث وجدت نصوصا داعمة لهذا الميل، منذ طه حسين وصولا إلى د. هشام جعيط  ود. إبراهيم بيضون الخ. مؤرخ التراث الآخر هو مثال للمثقف الإكليري عند بندا، المؤرخ الذي يحمل مهمّة إعادة المهمّش إلى مركز الأحداث، المؤرخ المنصف والمتضامن، وهو بهذا سيجد في مواجهته نمطا آخر من المؤرخين، الذين هم حقّا حرّاس معبد التاريخ العام، غير الآبه بأنين المستضعفين في تاريخ كتبه الغالبون المتغلبون. أدركت منذ الصبا عدم الفكاك بين موقف اليوم وموقف الأمس، فمن تنكر للمستضعفين في التاريخ لن ينصفهم في الحاضر أو المستقبل.

وُلد صديقنا د. إبراهيم بيضون عام 1941، بقضاء بنت جبيل بجنوب لبنان، نال دكتوراه السلك الثالث بجامعة غرينوبل بفرنسا حول: العراق في العهد المرواني، النزعة إلى التمرد، تحت إشراف البروفسور بلينجني(Blingny)، لينجز بعدها أطروحة بجامعة القديس يوسف عام 1981 بإشراف المؤرخ اللبناني الكبير نيقولا زيادة، حول الحجاز والدولة الإسلامية: دراسة في إشكالية العلاقة مع السلطة المركزية في القرن الهجري الأوّل. وكان د. إبراهيم بيضون قد شغل منصب رئيس قسم التاريخ بالجامعة اللبنانية، بالإضافة إلى مناصب أخرى كأمين عام اتحاد الكتاب اللبنانيين، ونائب رئيس اللجنة الوطنية للتربية والعلوم والثقافة (الأونيسكو) سابقا.

ملأ الدنيا وشغل أهل الاختصاص بمنجزاته في مجال الكتابة التّاريخية، فقد كان ولا يزال مجتهدا محقّقا مُقنعا في محاولاته على صعيد المحتوى والخطاب، حريص أبعد مدى على الاحتفاض بالقدر الممكن بموضوعية المحقق، على الرغم من أنّ الموضوعية في الكتابة التاريخية تثير مشكلة مضاعفة حدّ الاستحالة أيضا. من هنا لزوم إعادة قراءة التاريخ باستمرار.

وحسب علمي، أنّه اقتُرح للإشراف على أطروحة المؤرخ المغربي الكبير، الصديق الراحل إبراهيم حركات، في جامعة القديس يوسف. وهذا في حدّ ذاته يعزز مكانة د. إبراهيم بيضون في سجلّ المؤرخين الرواد في الوطن العربي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى